رواية هل الضربه القاضية الفصل الأول والثاني والثالث والرابع والخامس والسادس بقلم نهال عبدالواحد حصريه وجديده على مدونة أفكارنا

 رواية هل الضربه القاضية الفصل الأول والثاني والثالث والرابع والخامس والسادس بقلم نهال عبدالواحد حصريه وجديده على مدونة أفكارنا 


رواية هل الضربه القاضية الفصل الأول والثاني والثالث والرابع والخامس والسادس بقلم نهال عبدالواحد حصريه وجديده على مدونة أفكارنا 


من طبيعة الإنسان البشري التغير والمرونة تبعًا للمواقف والأحداث، وذلك التغير يجب أن يكون بعيدًا عن القيم و الرواسخ الثابتة. 


لكن ماذا لو قرر شخصٌ ما الجمود دون التغير أو المرونة؟!

بل وتشبث بآراءه وأفكاره لدرجة تكاد تحوله لصخرة صماء من الحجارة، حتى الحجارة قد يتفجر منها الأنهار أو ينابيع الماء، أو أحيانًا تخر من مكانها ساقطة. 


نسيت أن أعرفكم عليّ، أنا رياض...  لا تتعجبوا من الإسم فاسمي رياض رياض نصّار وبذلك تكون الأمور قد اتضحت؛ قد سُميت على اسم أبي. 


في الخامسة والثلاثين من عمري، حاصلًا على شهادة بكالوريوس التجارة، لكني بالطبع لا أعمل بشهادتي الجامعية مثلي مثل غيري، رغم أني مكثتُ الكثير من الأعوام في تلك الجامعة، لم يكن عبثًا في الحقيقة!


فكنت أعمل جانب دراستي، في الحقيقة أنا أعمل منذ أن كنت في المرحلة الاعدادية، وكان معي ابنيّ عمي طارق وهو يكبرني ببضع أعوام وإيهاب وهو من عمري أكبره بعدة أشهر.


لم يكن حال عائلتنا سيئ كما تتوقعون؛ إنما كان أبي -رحمه الله- يوصيني من صغري أن أكون رجلًا والرجل يعمل ويأكل من عمل يده.


وكنا الثلاثي أنا وإيهاب وطارق قد بدأنا في عملنا معًا، حقيقةً لم  نترك شيئًا إلا وعملنا به. 


بدأنا ببيع التين الشوكي على ناصية الطريق في الإجازة الصيفية، كنا نذهب ثلاثتنا فنشتري أقفاص التين الشوكي من بائع الجملة ثم نجلس ونقشر تلك الثمرات ونبيعها بالواحدة، ثم نقسّم ذلك الربح القليل على ثلاثتنا. 


بعدها عملنا في محلات الفول و(الفلافل)  كنا نقطّع الخضروات ونفتّح الخبز ونعده للسندوتشات. 


ثم عملنا في إحدى ورش الميكانيكا لكننا لم نصمد كثيرًا، عملنا لدي أحد داهني الطلاء  وقد أعجبتني تلك المهنة لكنها أفسدت ملابسي ببقع الطلاء وقد أزعج ذلك أمي كثيرًا في غسل الملابس.


ثم بعدها عملنا في أحد مطابخ الفنادق في جليّ الصحون، وكان أجمل ما فيها أن وجودنا داخل المطبخ سمح لنا بتناول كل ما لذ وطاب مجانًا!


إلى أن ذهبنا ذات يوم إلى بورسعيد وكنتُ قد اشتريتُ بنطالاً من الجينز حديثًا وقد لاحظت الفارق في ثمنه، وكان الفارق أكبر عند محلات الجملة خاصةً إن اشتريتُ طاقم كامل ولمعت الفكرة في رؤوسنا. 


اتفقنا وجمّعنا كل ما معنا، سافرنا واشترينا طاقمًا كاملًا وبدأنا رحلة البحث بين المحلات  ونحن نعرض ما معنا ليبتاعوه، حقيقةً بحثنا كثيرًا وتعبنا أكثر ليقتنع بنا أصحاب المحلات، حتى إننا كدنا نيأس وظننا أننا سنتحمل ثمن تلك البنطالات. 


لكن حمدًا لله بدأت عجلة الأمور تدور وتعرّفنا على أكثر من صاحب محل، صارت بيننا صداقة وأصبحنا نفهم في أنواع وخامات البنطالات وأيهم الأكثر رواجًا تبعًا لكل وسط وكل منطقة. 


وأصبحنا نسافر إلى بورسعيد والقنطرة بشكل شبه دائم، صارت لنا تعاملاتنا وحساباتنا مع التجار وأيضًا أثمان خاصة نشتري بها. 


كبرت حجم شراءاتنا وصرنا نتاجر في كميات، حتى تحسنت الأحوال، و أخيرًا صار لدينا محلنا الخاص وأطلقنا عليه (نصّار)  فهو اسم العائلة. 


تحسنت الأحوال أكثر وتزوج ابن عمي طارق من أختي الصغري رباب ورُزقا بعليّ وعالية، ثم بعدها صار لدينا محل آخر وكبر وذاع صيت اسم (نصّار).


ورغم تحسن الظروف لكن رفضت أمي أن نترك بيتنا لنذهب إلى بيتٍ جديد أفضل في منطقةٍ أرقى؛ فهي تريد العيش وسط ذكريات أبي -رحمه الله- وبالتالي لازلتُ أعيش معها في نفس المنطقة. 


بدأت تدور إسطوانات من نوعٍ آخر، قد نسيت أن أخبركم أني لم أتزوج أو أخطب قط، بل لا أرغب في ذلك إطلاقًا، أحب الحرية وعاشقًا لحياة العزوبية. 


بالطبع ذلك الحديث لا يعجب أمي على الإطلاق؛ فهي تريد أن تزوّجني وترى أبنائي، لكني لا أريد يا أمي أن أرى أحدًا، يكفيني ما آراه من أصدقائي المتزوجين وحجم معاناتهم مما أستمع من حكاياتهم ومشاكلهم مع زوجاتهم ، وكيف تتحكم كل واحدة منهن في زوجها وتمنعه من الخروج بمفرده وتُحدث المشاجرات إن جلسنا في أحد المقاهي ليلًا بعد الانتهاء من العمل والتأخر بعض الشيء، أو مثلًا اتفقنا للذهاب إلى رحلة رجالية معًا.


لا تفهموني خطأ، أنا لست بشابٍ عابثٍ ولا مستهتر، لكني أحب العزوبية وأكره القيود، أيضًا لست عدوًا للمرأة بل أتعرف على الكثيرات سواء على أرض الواقع أو من خلال مواقع التواصل الاجتماعي، لكني أحافظ على وجود حدود بيننا حتى لا أتورط مع أيهن وأجد نفسي بين عشيةٍ وضحاها أرتكب في حقي ذلك الذنب البشع وأضطر و أتزوج إحداهن. 


لا أنكر أني أقضي وقتًا لطيفًا معهن بالطبع دون ابتذال ولا عبث بمشاعرهن فأنا لديّ أختي حبيبتي ولا أريد أن أرتكب ذنبًا تؤخذ به أختي. 


لكن غالبًا بمجرد أن أتعرف على إحداهن حتى يظهر أمامها فتى أحلامها وتظل تحكي و تشركني معها كل المراحل حتى تتم الخطبة بسلامٍ وأمان فتختفي من حياتي لأن ذلك الخاطب يغير عليها وتخشى غضبه  وتنتهي مثل غيرها. 


أما إيهاب أيضًا لازال مثلي لم يخطب أو يرتبط ولا تزال أمه تلح عليه في ذلك الأمر، بل و تتفق هي وأمي لتورطنا لنقابل إحداهن، لكني سرعان ما أهرب خاصةً من حفلات الأعراس المختلفة تظل أمي وزوجة عمي تلحان علينا لنذهب وتظل كل منهما تبحث عن كل الفتيات الموجودات بالحفل وتعرضهن علينا واحدةً بعد الأخرى. 


كم أشفق عليهن! خاصةً عندما أرى انبهارهن بي في عيونهن وأضطر للفرار والهروب من المكان بأكمله قبل التورط. 


لكن إيهاب يختلف عني في هذا الأمر؛ فهو لديه استعداد للتعرف على أي فتاة وخطبتها، وأحيانًا أخرى يجاريني!


لكني علي موقفي، فلتحيا العزوبية!

تحيا الحرية !


وقد اعتدت في يومٍ ما كل عام أن نذهب أنا وإيهاب إلى محلٍ فخم ونتناول فيه وجبة غالية كنوعٍ من الاحتفال بمرور عام جديد على عزوبيتنا.


كما نقول نحن المصريون «اللي معاه قرشه محيره، يجيب حمام ويطيره!»


وقد رشّح إيهاب محلًا بعينه لنذهب فيه اليوم ونحتفل بعزوبيتنا كان يسمى (Smile)، حقيقةً لم أسمع بذلك الإسم من قبل.


المهم ذهبنا معًا لذلك المحل، صففتُ سيارتي واتجهتُ بصحبته داخل ذلك المطعم، بالفعل كان المكان راقيًا وفخمًا لا أعتقد تواجد غير عليّة القوم وطبقة كريمة المجتمع كما يُقال.


المكان هادئ ومنقسم لأركان مختلفة، منها ما هو ملائمًا للعائلات، و آخر ربما يكون ملائمًا للقاءات العمل، وطاولات صغيرة تناسبنا نحن الشباب أو حتى لو شخص بمفرده وأيضًا مناسبًا للعشاق فأرى بضع أزواجًا منهم منتشرون حولنا.


الإضاءة هادئة والحوائط مزينة بتابلوهات راقية وقناديل فخمة، وصوت الموسيقي والأغاني الراقية يملأ المكان.


اتخذنا إحدى الطاولات وجلسنا عليه، بعد قليل جاءتنا فتاة جميلة، حسنة المظهر لها شعر أسود تجمعه لأعلى مرتدية تنورة قصيرة فوق الركبة من اللون الأسود وفوقها قميصٍ أبيض ورابطة عنق سوداء، لم أتبين من لون عينيها لكنها داكنة وترسم فوق عينيها بذلك المحدد. 


وقفت الفتاة بوجهها الباش تبتسم بهدوء وهي تضع أمامنا دفترين لنختار منهما قائمة الأطعمة أو المشروبات. 


بالفعل أخذته منها وبدأت أتصفح، لكني سمعتُ صوت شهقتها فجأة فرفعتُ بصري نحوها فوجدتها واجمة فارغة فاها، عيناها جاحظة تركز على شيءٍ ما، فالتفت لحيث تركز بناظريها...

(الفصل الثاني)


بقلم نهال عبدالواحد 


بينما كنتُ أتصفح قائمة المأكولات والمشروبات إذ سمعتُ فجأة صوت شهقتها فرفعتُ بصري نحوها لأجدها واجمة جاحظة عينيها على شيءٍ ما، فالتفتُّ تلقائيًا إلى حيث تنظر بناظريها. 


رأيتُ طاولة بالقرب منا بها شاب جالسًا ونادلة أخرى ممسكة بصينية في يدها وتضع الأطباق باليد الأخرى. 


مرتدية نفس الزي لكن شتان بين الاثنتين، فتلك الفتاة تبدو أكثر جاذبية وجمالًا؛ بشرتها شديدة البياض تبدو شقراء أو شهباء؛ فلون شعرها يميل للإصفرار أو ربما للإحمرار، لا أدري لا أتبين ذلك ربما بفعل الإضاءة!


و رغم ضآلة حجمها إلا أن لجسدها منحنيات أنثوية جذابة وساقيها شديدتا البياض مصبوبتان بحرفية مضبوطة، خاصةً مع تلك الوقفة الفاتنة بذلك الحذاء الأسود ذات الكعب العالي.


بينما كانت تلك النادلة الفاتنة تضع أطباق الطعام لذلك الشاب الذي يبدو من هيئته أنه ينتمي لإحدى العائلات الثرية إذ وجدته فجأة يحرك إحدى يديه لأسفل الطاولة متلمسًا فخذ تلك الفتاة بقذارة شهوانية. 


فجحظت عيناي أنا الآخر واشتعلتُ غضبًا من قذارته وبهيميته المسيطرة عليه، لكن ماذا عنها؟!

هي فقط تقدم إليه وجبته! دون أي ردة فعل!

كيف هذا؟! ماذا يعني هذا؟!


فالتفتُّ ناحية إيهاب في لمحة فوجدته يبدو مستمتعًا بعبثٍ وكأنه يشاهد فيلمًا ممتعًا!


عدتُ ببصري سريعًا نحوها قبل أن أكمل ثانية أخرى وأزداد غضبًا وحنقًا من تبلدها ولامبالاتها! أليس هذا جسدك؟! كيف تسمحين بذلك؟! أم أنك فتاة....... 


لكن فجأة!


وجدتُ الفتاة وقد أنهت ما تقدمه ولازال ذلك الوقح متلمسًا فخذها بشهوانية فاعتدلت واقفة وفي نفس اللحظة أمسكت بتلابيبه وسددت إليه لكماتٍ متتالية فجأة! تفاجأتُ وصُدمتُ من ردة فعلها السريعة تلك، لقد صرخ ذلك الوقح وامتلأ وجهه بالدماء لا أدري من أنفه أم فمه!


بدأ الجميع ينتبه لما يحدث ويتجمهر، وجدت نفسي أقترب مع الآخرين، وذلك الوغد يصيح في فزعٍ وغضبٍ حارق: فين المدير؟ فين صاحب المكان ده؟


وسرعان ما جاء شخص لم أنتبه لملامحه بعد؛ فقد كنت أركز بنظري عليها، لكن سرعان ما انتبهت إليه لما تحدث: كفاية يا حبيبة، إيه اللي حصل لكل ده؟! سيبي الجيست. 


لفظ الأخيرة وهو يجذب ساعديها لتترك ذلك الوقح و كان يبدو عليه المجاهدة في ذلك. 


وانتهز ذلك الوقح تلك الفرصة ونهض واقفًا وصاح بغضبٍ غير مبرر: إحنا جايين هنا نتهزأ ولا إيه! مش عارفين أنا مين؟! ده أنا هقدم فيكِ بلاغ يا زبالة يا بنت *....


فقاطعته الفتاة بصياحها محاولة أن تنقض عليه مجددًا: قدم اللي اتقدمه يا روح أمك يا أزبل خلق الله! وأنا هقول على قذارتك ولا فاكر إني هخاف من أشكالك!


ثم التفتت إلى المدير الذي لازال يفصل بينها وبينه قائلة: يا فندم الحيوان ده مد إيده عليّ، أنا ما ضربتوش م الباب للطاق. 


فقال مدافعًا بالباطل عن نفسه: هتستعبطي أنا ضربتك ولا مديت إيدي عليكِ!


فقالت بوجهٍ جامد ومحتقن للغاية: لا ما ضربتنيش، عملت اللي أقذر من كده! 


فأجاب بسرعة: كدابة!


وهنا لم أتمالك نفسي وتدخلتُ بغضبٍ شديد وقال: لا مش كدابة واحنا شوفناك، واللي عملته فيك شوية جدًا، قدمي بلاغ يا آنسة وأنا معاكِ هاجي واشهد ضد البأف ده. 


فانتبه ذلك المدير فجأة والتفت إليّ ثم صاح في مفاجأة لم يتوقعها كلانا: رياض نصّار! 


فأجبته بنفس المفاجأة: مصطفى الخولي!


تعانقنا بلهفة وسرور، انقلب الموقف فجأة من قمة الغضب لقمة السعادة. 


فقلتُ مشاكسًا: بأه طلعت إنت المدير!


- شوفت بأه! أمال فين ضلّك؟


فجاءه صوت إيهاب المقبل عليه وعانقه هو الآخر بسرور، ثم انتبه ثلاثتنا أن الموقف لم ينتهي بعد، فهمستُ لمصطفى: الواد ده زبالة وحيوان وأنا شايفه بيتحرش بيها. 


فنظر لى مصطفى نظرة ذات مغزى، ثم التفت لذلك الوقح وقال: بص يا حضرة ده مكان محترم وما ينفعش فيه الحركات الزبالة دي، الحركات دي ليها أماكن تانية خالص غير هنا، البنت من حقها تقدم بلاغ وزي ما سيادتك عارف إن بلاغات التحرش مش بتحتاج لشهود يعني إتهامها ليك كفاية. 


فأجاب في غضب باطل يخفي به حرجه: والضرب والإهانة دي!


فأسرع مصطفى قائلًا: ده قصاد ده يا أستاذ، وياريت تتفضل تكمل قعدتك في مكان تاني. 


ثم التفت للمتجمهرين حوله قائلًا بدبلوماسية: اتفضلوا حضراتكم مفيش حاجة، سوء تفاهم واتفض. 


فالتفت مرة أخرى للوقح وقال بتوعد رافعًا سبابته في وجهه: المكان ده مكان محترم، ياريت ما تعتبش هنا تاني. 


فاضطر ذلك الوقح المغادرة فورًا فقد قُذفت جبهته بجميع أنواع القذائف، وانصرف المتجمهرون عائدين لأماكنهم، أشار مصطفى لنا لنعود لمكاننا، بينما اقتربت الفتاة الأولى من قرينتها الثانية. 


فبعد مغادرة ذلك الوقح بدأت تخور قواها فجأة وجلست على كرسي كان خلفها وتفاجأنا ببكاءها وتبدّل الحال عكسيًا، فأين تلك الشرسة التي كانت هنا منذ لحظات تدافع عن حقها باستماتة؟!


أعطاها مصطفى كوبًا من الماء لتهدأ وأشار لزميلتها لتصحبها داخل المطبخ؛ فيكفي اليوم فضائح. 


عدنا لطاولتنا وأنا أرى تلك الشرسة وهي تتحول فجأة لقطة وديعة تبكي بحرارة، لقد تألمت من أجلها، لكن موقف مصطفى قد أعجبني كثيرًا كم هو رجل شهم !


جلس مصطفى معنا على نفس الطاولة وقال بسعادة غامرة: والله زمان! إيه أخباركم؟ فين أراضيكم دلوقتي؟


فأجابه إيهاب: اتوسعنا في شغل الملابس وبأه عندنا محلين الحمد لله، نصّار، لو سمعت عنه!


فضيق مصطفى عينيه كأنه يتذكر شيئًا ما وقال: أعتقد إني سمعت اسمهم قبل كده. 


فأخرج إيهاب بطاقة صغيرة من جيبه وقال وهو يعطيها لمصطفى: ده الكارت بتاعنا فيه تليفوناتنا وفروع المحل، ده رقمي وده رقم رياض وده رقم طارق أخويا، ماهو شغال معانا. 


فمد مصطفى يده مبتسمًا ويقرأ بعينيه المكتوب وقال بمزحة: مثلث الرعب!

ثم قهقه ضاحكًا. 


في الحقيقة كنتُ مشغولًا بتلك الفتاة وكأني صرتُ مغيبًا للحظات أبحث بعينيّ عن الفتاتين، ثم فجأة انتبهت لحديثهما ونظرتُ لمصطفى الممسك بيده البطاقة الخاصة بفروع المحل فلمحتُ خاتم الزواج في يده. 


رفعتُ حاجبيّ بدهشة ثم قلتُ: إنت اتجوزت!


فحرّك مصطفى يده لينظر نحو خاتم زواجه مبتسمًا ثم قال: آه وعندي محمد الصغير قرب يكمل سنة، اتجوزت دينا، مش فاكرها؟ اللي كانت دفعتنا في الكلية. 


فضيق رياض عينيه محاولًا تذكرها فاركًا بسبابته وإبهامه لحيته الخفيفة ثم قال: آه! دينا اللي كانت في سنة أولي واحنا في سنة تالتة وكملت ولحقتنا!


فضحك ثلاثتنا.


أما حبيبة داخل مطبخ المطعم، استرجعت الموقف مجددًا محدثة نفسها داخل عقلها، لقد كان الموقف صعبًا ومفزعًا بكل المقاييس، فتصرف ذلك الوقح أزعجني وأثار غضبي كثيرًا، لكني لا أدري لماذا تحولت حالتي فجأة! شعرت وكأن قدماي لا تحملاني فجلستُ أبكي بحرقة، كان السيد مصطفى مدير المكان لطيفًا كعادته معنا مثل زوجته السيدة دينا أيضًا تعاملنا برفق، جاءتني هاجر زميلتي الأخرى. 


حقيقةً هي ليست زميلتي فحسب، هي ابنة خالتي، رفيقة دربي، صديقتي وكل شيءٍ في حياتي، كلانا ليس لديها إلا الأخرى، لازلت تربت عليّ برفق وضمتني إليها لتخفف من روعي خاصةً بعد أن التفت حولنا باقيات من زميلاتنا لكنهن سرعان ما انصرفن لتكملن أعمالهن.


لكني لا أدري لماذا تذكرت وجه ذلك الوسيم الذي تدخل مدافعًا عني!


هو حقًا وسيم، عندما وقف جواري كان أطول مني بكثير، رغم أنه ليس عريضًا لكنه يمتلك جسدًا رياضيًا بعض الشيء؛ فقد ظهرت عضلات ذراعيه وصدره من تلك الكنزة الضيقة التي كان يرتديها، له لحية خفيفة وشعر قصير مصفف بحرفية وأناقة، صراحةً هيئته بالكامل أنيقة وجذابة وقد تمكنت من شم رائحة عطره الرجولي المميزة. 


ما هذا الهراء الذي أتحدث به؟!

فكل من يأتون هنا لهم من الأناقة والجاذبية، يكفي فعليّ الذهاب لأكمل عملي. 


كان الثلاثة أصدقاء إيهاب، رياض ومصطفى يتبادلون الحديث المرح في جلسة صداقة حميمية ثم لمح مصطفى هاجر وحبيبة تخرجان من المطبخ لتكملا عملهما فأشار لهما وهو يوجه حديثه لصديقيه: إستنوا بأه هطلبلكم عشا على مزاجي. 


فاقتربت الفتاتان فقال مصطفي ناظرًا لهاجر: معلش يا هاجر روحي إنت لمي أطباق الترابيزة دي، تعالي خدي الطلبات يا حبيبة. 


فاقتربت حبيبة وهي تخرج من جيبيها مفكرة صغيرة لتدوين الطلبات وقلمًا لتكتب ما يملى عليها، فسألها مصطفى بجدية: بآيتي أحسن يا بيبو!


فأومأت حبيبة برأسها مرددة: تمام يا مستر. 


وبدأ يملي عليها بطلبات العشاء.


أما رياض فمنذ أن التفت مصطفى نحو الفتاتين يناديهما وعيناه التفتت معه حتى وقفت تلك الجميلة جوار الطاولة لتكتب الطلبات، شرد محملقًا فيها محدّثًا نفسه، بدت ملامحها أكثر وضوحًا لي، فهي جميلة حقًا رغم عيناها المتورمتين، أنفها الأحمر وشفتيها الكرزتين المرتعشتين من حينٍ لآخر من أثر البكاء، لكنها تضغط عليهما لتحكم السيطرة على تلك الإرتعاشة فظهرت غمازتان ما أجملهما!


لازلتُ تائهًا أتأمل تفاصيلها وملامح وجهها، فعيناها تبدو فاتحة بندقية اللون ربما تميل للصفرة قليلًا كم أود لو اقترب لأتبين بدقة ماهية لونهما، فحينًا أشعرهما تميلان للإصفرار وتارة أخرى تميلان للإحمرار، مثل هذه الأهداب الرائعة الطويلة المحاطة بتلك العينين، وأيضًا لا أدري درجة لونهما أتميلان للإصفرار أم الإحمرار، يبدو قد أصابني الجنون!

وما الفائدة مما أفعله الآن وانشغالي بمثل تلك التفاهات؟!


فغضضت بصري عنها لكني سرعان ما سمعت إحدى شهقاتها من أثر البكاء فرفعت عيني إليها مسرعًا، لاحظت أنها تكتب بيدها اليسري مثلي تمام، ما هذه المصادفة العجيبة؟


وأخيرًا قد انتهت فقرة الطلبات، مع الأسف!


أما حبيبة عندما وقف يملي عليها السيد مصطفى طلبات تلك الطاولة، كانت لاتزال تذكر ذلك الموقف فتتمالك نفسها لألا تبكي مجددًا، صحيح أن السيد مصطفى مدير لطيف وخلوق لكن هذا لا يمنع في أن بإمكانه توبيخها.


لكنها شعرت بثمة عينين تحملقان فيها، سألت نفسها لا أدري لماذا يتفحصني ويلاحقني بعينيه هكذا؟! أم ربما هي مجرد أوهام!


انتهت حبيبة وغادرت المكان ولازال رياض يتابعها بعينيه ثم عاد برأسه قليلًا كأنه يفكر في أمرٍ ما ثم وجّه بنظره وحديثه لمصطفى: جديدة حكاية الجرسونات البنات دي!


فابتسم مجيبًا: فكرة دينا يا سيدي. 


فتدخل إيهاب ببعض الخبث قائلًا: ونعم الأفكار! 


ثم قهقه هو ومصطفى بعكس رياض الذي استكمل بجدية: طب ليه اليونيفورم بتاعهم مقندل كده؟ ضيق وقصير؟!


فتابع إيهاب بضحك: وإنت زعلان ليه يا فقري؟!


فأجابه رياض بحنق: ما انت شايف اللي بيحصل والأمر ما يسلمش، ليه ما يلبسوش مثلًا بنطلونات وشميز أو فيست طويل وليجن بدل الجيب القصير دي؟!


فضحك إيهاب وقال بخبث: يا ابن اللعيبة، بترسم علي بيزنس ولا إيه!


فتسآل مصطفى ببعض الدهشة: بيزنس إيه! مش انتوا شغالين في الرجالي!


فأجابه إيهاب بموضوعية: بس هنفتح فرع جديد وهنجرب فيه الشغل الحريمي. 


فتابع مصطفي: صراحة الحريمي سوقه أحسن كتير، الستات ما بتبطلش شرا، إسألوني أنا! دينا رايحة جاية تشتري في هدوم وفي الآخر نيجي ننزل ألاقيها بتقول ما عنديش لبس أنزل بإيه! ده شافوني بيه، ده مش مناسب للخروجة دي، ده بيطخني، وده ماليش مزاج ألبسه.... غلب أسود بعيد عنك!


فضحك الثلاثة فتابع رياض بتأكيد: أمال أنا مقاطع الجواز ومقدس للعزوبية ليه؟ المهم إيه رأيك في الفكرة؟


أجاب مصطفى بجدية: ده إنت جاي لبيزنس بأه!


فقال نافيًا: لا والله! دي الفكرة لسه جايالي. 


فأجابه: عمومًا الموضوع ده محتاج قعدة مع دينا لأنها شريكتي، هتفق معاها وأبلغك ولو كده تظبطنا. 


فابتسم رياض بانتصار وقال: اتفقوا انتوا بس وأنا هظبطكم آخر ظبطة. 


وأكمل الثلاثة جلسة الصداقة الحميمية والتي لا تخلو من المزح والضحك حتى جاء العشاء فتركهما ليتناولا عشاءهما بحرية وأعطى أوامره بعدم محاسبتهما فهما اليوم في ضيافة صاحب المحل. 


كان رياض يبدو شاردًا ومشغولًا طوال الوقت بينما إيهاب يشاكسه من حينٍ لآخر قائلًا: يا ابن الجنية!


مشيرًا لفكرته في تغيير زي النادلات.


(الفصل الثالث)

بقلم نهال عبدالواحد 


دقت الساعة الحادية عشر وكانت الفتاتان متجهتين خارج المحل بعد انتهاء فترة عملهما، وقد بدلتا ملابسهما لبنطال من الجينز وكنزة ملونة وحذاء أرضي مريح.


سارتا بمحاذاة المحل حتى وصلتا إلى الطريق العام فركبتا إحدى سيارات الأجرة. 


كانت هاجر لازالت تحكي مع حبيبة وتمزح معها لتنسيها ذلك الموقف السخيف، لكن بعد فترة لاحظت شرودها مع اقتضاب ملامحها والتماع عينيها منذرة بتسلل دمعة.


كانت حبيبة شاردة تنظر إلى اللاشيء... 


لكنها ترى صورة أمها عندما كانت لاتزال طفلة وتذهب معها إلى عملها...


طفلة بريئة فائقة الجمال وملامحها تميل إلى الشركسية؛ بسبب أصول عائلية، جالسة على أحد المقاعد في إحدى الحضانات الأهلية ممسكة بيدها (سندوتش) من الخبز البلدي متأملة الأطفال من حولها يلعبون بالأراجيح والألعاب المختلفة، منهم من يمسك بيده أكياس الحلوي بأشكالٍ وأنواعٍ مختلفة، فنظرت نحوهم تدقق النظر لما في أيديهم ثم تنظر أرضاً وتقضم قضمة صغيرة من طعامها، تنظر إلى ملابسها القديمة ثم ترفع عينيها وتنظر نحو ملابسهم الجميلة وأحذيتهم الرائعة، ثم تنهض مقررة فجأة أن تلعب معهم بالأراجيح وما أن اقتربت منهم...


حتى ينكمش طفل تلو الآخر نافرين منها جميعًا؛ فهيئتها مختلفة عنهم وملابسها غيرهم حتى ملامحها بدت لهم غريبة.


كانت تلح على كل طفل منهم ليقبل مشاركتها في اللعب معهم ولا تفهم سر نفورهم؛ لكن سرعان ما تسمع أصواتهم المتداخلة ليشتكوا لمعلمتهم : يا ميس يا ميس! حبيبة بنت الدادة جاية تلعب معانا!


وكأنه جرم اقترفته تلك البريئة أن ترغب في اللعب!


فتفاجأت بصياح تلك المعلمة التي لا تستحق لقبها وزادت الطين بلة وهي تنادي بملئ صوتها : يا هناء! تعالي هنا! 


فأجد أمي مهرولة نحوها وهي تنزل أكمامها المرفوعة ماسحة يديها في عباءتها القديمة تعدّل من هيئتها وهيئة حجابها، ثم تقف خاضعة أمامها قائلة بصوتٍ مرتعش: نعم يا ميس، خير!


فتسرع مهاجمة بقولها: أنا كام مرة أقولك ما تجبيش بنتك هنا. 


فتقول أمي وهي تحاول تمالك نفسها لألا تبكي: يا ميس هسيبها فين بس؟ 


فتجيب بوقاحة: يبقي تقعديها جنبك زي أختك ما بتعمل مع بتها، الولاد بيروحوا يحكوا لأهاليهم والأهالي بتيجي تتخانق مش عايزين بنتك دي -وتشير نحوي بمهانة- تحتك بولادهم. 


فتقول أمي وقد بدأ صوتها يختلط بالبكاء: والله البت نضيفة وزي الفل! بحميها كل يوم وشعرها نضيف، دي في الآخر عيلة وعايزة تلعب. 


فتصيح فيها فتفزعنا معًا: إنتِ شغلتك هنا تنضفي وتمسحي وتودي الولاد الحمام، خلي بنتك جنبك يمكن تتعلم حاجة تنفع مستقبلها... 


ثم تدفعني في اتجاه أمي وهي تصيح في وجهي: غوري يلا عند أمك. 


فتمسك بي أمي قبل أن أقع أرضًا محاولة إخفاء دموعها عني ومسحها بطرف كمها، وتضمني في صدرها معانقة ومربتة، فتصيح تلك المسماة بالمعلمة: ابقي دلعيها ف بيتكم يا ماما! يلا من هنا مكانكم عند الحمامات! 


فتحملني أمي وتهرول بي بعيدًا عنها ثم نذهب ونجلس جوار الحمامات فأجد خالتي عايدة تخرج من أحد الحمامات وهي تمسك في يدها أحد الأطفال بعد أن قامت بغسل يديه ووجهه وأنفه، ذهبت به إلى مكانه ثم عادت مسرعة لأمي، ربتُّ عليها وأنا أمسح بيدي الصغيرة دموعها ولا أفهم ماذا جري!


فأسمع خالتي تقول بصوتٍ حانٍ وهي تجلس على إحدي درجات السلم فتجئ إليها هاجر وتلتصق بحجر أمها: وبعدين يا هناء! هو كل يوم الموال ده!


فتجيب أمي ولازالت تبكي: مش عارفة شايلانا فوق رأسها وزاعقة ليه؟! هي البت أجرمت ولا أجرمت! طب تكلمني بالراحة، ليه تقلل منا كده؟! ما كلنا بني آدمين!


فتزم خالتي شفتيها وتقول بتنهيدة: ناس ما عندهاش رحمة، معلش يا ختي لينا رب اسمه الكريم. 


فأقول وأنا أبكي: إشمعنى هم يلعبوا بالمراجيح وأنا لأ! كنت هلعب مرة واحدة بس، والله ما كنتش هاخد م الحاجات اللي بياكلوها دي! أنا باكل الأكل اللي بتعمليهولي وبس، ليه تزعقلي كده وتزعقلك كمان؟! دي ست شريرة ووحشة... 


ابتسمت حبيبة بوجعٍ من سذاجتها في طفولتها وتتسلل تلك الدمعة الحارة فتمسحها سريعًا ثم تهمس في نفسها قائلة: الله يرحمك يا ماما ويا خالتي. 


أما رياض فبعد أن انتهى مع ابن عمه من عشاءهما وأكملا جلستهما مع صديقهما مصطفى ثم غادرا بعد وعد لتكرار اللقاءات وعودة العلاقات. 


كان رياض شاردًا طوال الوقت مجاهدًا نفسه ليظل على طبيعته معهما، عاد لبيته فسلّم على أمه نادية ثم استأذن ودخل حجرته فارتمى في فراشه بملابسه محملقًا في سقف حجرته متنهدًا بصوتٍ مسموع. 


بعد فترة نهض واقفًا وأبدل ملابسه فارتدى ملابس منزلية شبابية، فتح باب حجرته فوجد المكان مظلم بالخارج وهذا دليل علي ذهاب أمه للنوم فدخل حجرته مجددًا مغلقًا بابه، ارتمى في فراشه متململًا يجافيه النوم، تارةً يحك رأسه وتارةً يفرك ذقنه بإبهامه وسبابته، ثم ينهض جالسًا زافرًا محدثًا نفسه بحنق: يا خربيت كده!


ثم عاد بظهره للخلف فيعود لوسادته يتقلب على يمينه ثم يساره فتأفف، نهض قليلًا، وضع وسادتين خلف ظهره واتكأ عليهما، حملق في سقف حجرته وهو يحدث نفسه: حلو أوي كده! في إيه بأه! إيه الزهق ده! ما انا لازم أنام ورايا مشاوير بكرة!


ثم يتساءل مع نفسه: يا ترى إيه حكايتك يا ست حبيبة!


ثم تأفف ضاربًا وجهه بقبضة يده: ده إيه التفاهة اللي انت فيها دي! ما تتنيل وتتخمد. 


فيجذب وسادة ويرمي رأسه فوق الأخرى ثم يضعها فوق رأسه، وبعد فترة ينهض جالسًا من جديد متأففًا، فقرر الإمساك بهاتفه، عبث به ما بين مواقع التواصل الاجتماعي ذهابًا وإيابًا دون جديد، ثم فتح إحدى الألعاب وقرر أن يلعب.


لكنه قد شرد مسترجعًا كل ما حدث أمام عينيه، وفجأة انتبه للعبة فوجد نفسه وقد خسر فتأفف وقذف بهاتفه جانبًا، رمى رأسه على وسادته.... وبعد فترة يمسك بهاتفه ويعيد الكَرَّة. 


وضع رأسه على وسادته ثم نظر جانبه فوجدها جواره محملقة فيه ببندقيتيها فنهض متكئًا محملقًا بعينيها وهمس: نفسي أرسى على بر وأعرف لون عينيكِ إيه!


ضحكت فأشرق وجهها وتراقصت غمازتاها وقالت بدلال: وهو يفرق معاك يعني!


فابتسم قائلًا: هو أنا لو قولتلك إنك جميلة أوي هاخد خُطافية يُمنى!


فضحكت تومئ نافية، مد يده متلمسًا وجنتها برقة، رفع تلك الخصلات المتدلية على وجهها ثم أخذ نفسًا عميقًا، اقترب ناظرًا إلى كرزتيها ود تذوق شهدهما فأغمضت عينيها مستكينة موحية إليه بالتقدم نحوها... 


لكن فجأة فتح عينيه فلم يجد أحدًا! فنهض جالسًا فاركًا وجهه بحنق فقال لنفسه: ده طلع حلم

(الفصل الرابع)


بقلم : نهال عبدالواحد 


وصلت سيارة الأجرة فنزلت الفتاتان، سارتا بضع شوارع تبدو المنطقة عادية من الطبقة المتوسطة ليس المكان براقٍ ولا شديد العشوائية.


دخلتا إلى أحد محلات لشراء بعض مستلزمات البيت، ثم سارتا بضع شوارع أخرى حتى وصلتا إلى بيتٍ قديم، هو أقدم بيتٍ بالمنطقة وأقلها من حيث عدد الأدوار؛ فكل البيوت المجاورة قد تم هدمها واستبدالها بعماراتٍ مرتفعة. 


كانت الفتاتان تسكنان شقة بالدور الأرضي، فتحت إحداهما وولجت إلى الداخل تتحسس بيدها باحثة عن مفتاح الإضاءة ثم أنارته ودخلت الأخرى خلفها. 


كانت المدخل عبارة عن صالة صغيرة بها أريكة عربية، كرسيان جميعها مغطى بقطع قماشٍ ملونة قديمة، منضدة خشبية مغطاة بغطاء من البلاستيك وحولها أربعة كراسي خشبية، وإلى الجانب جهاز تلفاز قديم ومغطى؛ فلا وقت لتشغيله.


يبدو من هيئة الجدران قِدم طلائها من تلك البقع الصفراء المنتشرة على السقف والجدران وأيضًا بعض الشروخ والتصدعات. 


وضعت حبيبة الكيس الذي كانت تحمله على تلك المنضدة، خلعت حذاءها ثم جلست بإنهاك على الأريكة وقد مددت رجليها للأمام وتحرك أصابع قدميها مصدرة تأوهاتٍ ضعيفة، جلست هاجر جوارها تحرك أصابع قدميها هي الأخرى لكن بأنينٍ أعلى.


نظرت حبيبة أمامها لترى عدة صور شخصية معلقة أحدهم لأمها، أخرى لخالتها وغيرهما تجمعهن الأربعة لكن لازالت حبيبة وهاجر طفلتين في المرحلة الإعدادية، وأخرى لخالتها وزوج خالتها في عرسهما، فترحّمت عليهم جميعًا من داخلها. 


ثم عادت برأسها للخلف وأغمضت عينيها لتتذكر وكأن صوت أمها يناديها الآن....


- يا حبيبة! يا حبيبة! يا بت ردي عليّ!


كنتُ جالسة على نفس الأريكة وضامة ساقيّ إليّ وشاردة في ذلك الفيلم الذي أشاهده وعيناي تزرفان دمعًا.


بالطبع يجئ في أذهانكم أنه فيلمًا رومانسيًا! لكنه لم يكن إلا مشهدًا من فيلم الباب المفتوح وذلك الأب القاسي يضرب ابنته بالحذاء، هكذا هي صورة الأب التي لا أعرف غيرها أو بمعنى أدق أتخيلها؛ فأنا لم أعرف يومًا أي أب. 


جاءت أمي مرتدية جلبابًا بيتيًا دهسها الزمن، رابطة رأسها بوشاحٍ بيتي، وتصيح: يا بت مش بنادي عليكِ!


فانتبهت إليها فجأة ماسحة دموعي بطرف كمي واعتدلت في جلستي وأجبتُ بصوتٍ مختنق: نعم يا ماما. 


نظرت أمي بيني وبين شاشة التلفاز لترى ذلك المشهد القاسي، فتنهدتْ وأغمضتْ عينيها بضغطة ثم زفرت بشدة قائلة مغيّرةً لحالتها وللموقف بالكامل: قومي عشان تنزلي تجيبي حاجات من على أول الشارع. 


فنهضتُ وتحركتُ بضع خطواتٍ بتثاقلٍ نحوها ثم توقفتُ وسألتها: هو بابا كان بيضربك كده!


فأجابت ببعض الحسرة: أبوكِ عمره ما مد إيده عليّ، ولا حتى سمّعني كلمة تزعلني، أبوكِ كان راجل محترم مفيش زيه. 


فرفعتُ نبرة صوتي وقلتُ محتدة بقسوة وحنق: وهو الراجل المحترم يهج ويسيب بيته وبنته من سنين من غير ما يعرفوا إن كان حي ولا ميت! هو الراجل اللي مفيش زيه يسيبك تشتغلي دادة في الحضانات وتتعاملي أسوأ معاملة عشان نلاقي الضروري!


فتحدثت بكسرة: خلاص يا حبيبتي، ولاد الحلال دلوني على معاش السادات ده و..... 


فقاطعتها محتدة: وده هيكفي إيه ولا إيه! ده أنا داخلة على ثانوية عامة. 


فأجابتني بصوتٍ مختنق: معلش يا حبيبتي، مش هينفع تدخلي ثانوية عامة، إحنا مش حمل مصاريفها ولا مصاريف دروسها، خشي ثانوي فني وهو تاخدي الدبلوم واهي شهادة برضو، وهينفع تشتغلي بيها. 


فقلت بنبرة يائسة: يعني حتى أبسط حقوقي إني اتعلم واخش كلية..... 


- زيك زي بنت خالتك. 


فصحتُ باكية: طب هي ومش عايزة تذاكر، أنا ذنبي إيه!


فاحتضنت وجنتيّ برفق وقالت بصوتٍ حنون: مش ذنبك عارفة، بس ده نصيب وقدر، وما حدش بيهرب من قضاه.... آه.. 


وبدى عليها فجأة التألم ففزعتُ وأجلستها على أقرب كرسي قائلة بلهفة شديدة: مالك يا ماما! إنت تعبانة؟!


فضغطت على رأسها وقالت بتألم وتوجع: اطمني، تلاقي ضغطي عِلي ولا حاجة، هخش أنام، كملي الغسيل وخلي هاجر تروح تجيب الطلبات....


ثم أفاقت حبيبة من شرودها وهي تهمس لنفسها: كنتِ تعبانة ومخبية عليّ عشان معكيش تتعالجي. 


وفجأة صاحت فيها هاجر وهي تهز يديها أمام وجهها: إنتِ يا زفتة انت روحتي فين؟! بآلي ساعة عمالة أكلمك!


فتنهدت حبيبة واستدارت بوجهها نحوها وأجابت بتثاقل: نعم. 


فلكزتها هاجر قائلة: يا بت إنت باردة! ما تردي عليّ!


فقالت حبيبة بنفاذ صبر: طب قولي تاني عشان ما سمعتكيش. 


فقالت وهي تنهض من جلستها وتفك أزرار كنزتها: إيه رأيك أعمل سندوتشات جبنة تركي واسخنها ف الفرن عشان العشا!


فنهضت حبيبة واقفة واضعة يديها في خصرها وصاحت فيها: عشا! أمال اللي كلناه في المطعم ده إيه!


فأسرعت هاجر قائلة: دي وجبة الغدا. 


فزفرت الأخرى قائلة: واكلين الساعة تسعة يبقى غدا! عمومًا سميه بأي مسمى أنا مش جعانة، أنا هغسل شوية الغسيل دول وانشرهم واشرب كوباية لبن وخلاص. 


فتأففت هاجر وضربت بكفها على الآخر: يآدي اللبن! يا بت اتفطمي بأه. 


فزمت شفتيها وقالت بامتعاض: أنا محتاجة بروتين كتير وعمري ما هبوظ جسمي بالكوارث اللي عايزة تاكليها عل مسا دي، البطولة قربت ولازم أحافظ على جسمي. 


فتأففت هاجر ثانيًا: يآدي البطولة اللي هوساكِ! هتستفادي إيه ف الآخر؟! هه! مش كفاية مضيعة تعبك وشقاكِ عل التمرين والكلام الفاضي! 


فصاحت حبيبة بانفعال: التمرين يا حلوة مش كلام فاضي! ولو كنتِ سمعتي كلامي وواظبتي كان زمانك بآيتي معايا!


فقالت ببعض التهكم: طب ما إنتِ أخدتِ بطولات أد كده قبل كده، إشي بطولات الجمهورية وإشي بطولات إفريقيا، كنتِ عملتِ إيه؟ ولا إيه اللي اتغير؟! ما ادينا محلك سر ولا حد سمع عنك، يا حبيبتي البلد دي مش بتقدر غير لعيبة الكرة، عمرك سمعتِ عن أبطال في لعب تانية ومشاهير عادي كده زي حازم إمام ولا عصام الحضري؟!


فانفعلت قائلة: بس هيجي يوم وكل الأبطال دول يتقدروا صح! نفسي بجد ناخد وضعنا! نفسي الملاكمة النسائية تنتشر، وبعدين حتى من غير بطولة لازم كل واحدة تتعلم فايتنج عشان تدافع عن نفسها ضد الأشكال الزبالة اللي مالية الدنيا، وأدينا بطولنا ف الدنيا دي، لا أب ولا أخ ولا خال ولا عم ... حاجة هم!


فزفرت قائلة: يييي! يادي إسطوانة كل يوم! يا بنتي ارحميني ما بتزهقيش! بدل ما الواحدة منا تحوش قرشين و تبدأ تجيب لنفسها حاجات وتشيلها من شوارها يعني، بدل ما إنت مضيعاهم ع التمرين... 


فقاطعتها زافرة: ييييييي! ده إنت اللي ما بتزهقيش! شوار يعني جواز! يعنى أوافق إن راجل يتحكم فيّ ويذلني! هو في رجالة عدلة ف الزمن ده! بصي حواليكِ يا ماما! شوفي الجيران اللي بنسمع صوت خناءاتهم! اللي بيضرب مراته واللي لسانه طول كده! إنتِ فاكرة منى اللي اتجوزت من سنة وكانت ساكنة في البيت اللي جنبنا! جوزها الندل طردها م البيت بابنها على كتفها في انصاص الليالي وجت لأبوها مارضاش يفتحلها وفضلت قاعدة ع السلم لحد النهار ما طلع وراحت للمدعوء اللي متجوزاه تتذلله عشان يدخلها الشقة هي وابنها، طب هنروح بعيد ليه؟! الراجل اللي شايلة اسمه اللي سابني أنا وأمي وكان عمري شهور! سابنا من غير ما نعرفله طريق ولا عمره فكر يسأل عننا ولا يعرف عايشين إزاي! أمي كانت بتشتغل دادة عشان تلاقي تصرف، ولا تروح تمسح السلالم وتنفض لدي وتنضف لدي! ودي تزعقلها ودي تهينها! وف الآخر تعبت وجت على نفسها عشان مش حمل مصاريف دكتور ولا علاج! اسكتي يا هاجر اسكتي!


فربتت عليها وقالت بهدوء: يا حبيبة الله أعلم باللي حصل وأكيد...


فقاطعتها بصياح: إوعي تقوليلي معاه عذره ولا أي كلام حفظاه منك ولا منها الله يرحمها! مش قادرة أفهم إزاي اتحملت وفضلت على ذمته بالإسم؟! ده أنا لو منها أموت م الجوع ولا افضل على ذمته!


فضمتها وربتت عليها لتهدئ من روعها فهي تعلم أنها لن تغير فكرها ولن تتراجع عن رأيها في أبيها بل لم تسامحه أبدًا، فربتت حبيبة على يدها وتركتها، فتنهدت هاجر وقالت هامسة لنفسها: ربنا يهديكِ يا حبيبة يا بت خالتي ويعوض صبرك خير! 


ثم أكملت: وأنا كمان يارب!


وفي الصباح وكان رياض قد نهض من فراشه بعد ليل من النوم المتقطع، بدّل ملابسه، وقف أمام المرآة يصفف شعره بأناقة ليستعد للخروج ويحدّث نفسه في المرآة: وبعدين ف الورطة السودا دي! إيه يا رياض اتهبلت وبآيت مراهق!


ثم ضرب خديه ببعض الضربات بيديه وهو لازال يحدث نفسه في المرآة: فوق فوق! إيه اللي حصل لكل ده! عادي! هه عادي... 


فقاطعته أمه وهي تضرب كفيها ببعضهما وصاحت: اتهبلت يا رياض! بتكلم نفسك ف المراية! 


فانتبه إليها وقال: لا لا! ده أنا بس بفكر بصوت عالي. 


فزمت شفتيها وقالت: طب يلا عشان تفطر. 


فقال وهو يخرج من الحجرة مسرعًا ليهرب من الموقف: لا والله بجد! طب بسرعة بأه عشان ورايا مشاوير. 


وجلس رياض يتناول بضع لقيمات وهو شارد ثم قال لنفسه: لا والله ما هينفع كده!


وكان صوته مسموعًا، فانتبهت له أمه وقالت متعجبة: يووو! هو إيه أصله ده!


فتنحنح وقال: لا لا ولا حاجة. 


ثم نهض واقفًا، فنادته أمه: بقولك...


فالتفت إليها فأكملت: أنا رايحة عند رباب أختك انهاردة، أصلها عازمانا عل غدا. 


فابتسم قائلًا: وماله يا ست الكل براحتك وأنا هبقى آجي على معاد الغدا. 


وسار بضع خطوات فنادته مجددًا: بقولك.... 


فالتفت إليها قائلًا: اتفضلي يا ست الحبايب. 


فقالت وعيناها تزوغا باضطراب: ابقى جيب معاك زيارة حلوة لأختك. 


فضيق عينه محاولًا قراءة أمه وقال: وأنا من إمتى بروح لرباب وإيدي فاضية؟!


فربتت على كتفيه وهي تتصنع ضبط ياقة كنزته وقالت باضطرابٍ واضح أمامه: طب ابقى كمان غيّر الجاكيت الرصاصي ده، وإلبس الأبيض الجديد بتبقى فيه زي القمر. 


فرفع حاجبه وصاح: لا والله! هو في حد معزوم معانا ولا إيه يا ست الحبايب؟!


فتلعثمت وقالت: لا أبدًا.... 


ثم قالت: إلا بس واحدة جارتها إنم.... 


فقاطعها مسرعًا: والله كنت عارف يا نادية! عمالة تلفي وتدوري وأنا شامم ريحة عروسة ف الموضوع، طب مش جاي عل غدا وهاكل ف الشارع، حاجة تانية!


فقالت ببعض التوسل: يا بني الله يهديك عايزة أفرح بيك وأشوف عيالك قبل ما اموت!


فأمسك بيدي أمه وقبلهما ثم قال: بعد الشر عليكِ العمر الطويل ليكِ يا روح قلبي.


فقالت: طويل ولا قصير، مسيري هقابل وجه كريم، هسيبك بطولك يا ضنايا، وبعدين أنا باقولك شوفها واقعد معاها هو خد هيجوزهالك غصب. 


فقبل رأس أمه وقال وهو يتجه لباب الشقة: ريحي نفسك يا نادية مش هتجوز وعمري ما اعمل العاملة دي ف نفسي أبدًا، أسجن نفسي وأحكم على نفسي بالإعدام! مستحيل! يبقى وش واحد اصطبح واتمسى بيه كل يوم! وخناق وقرف وتحكم! لا آسف ما اعطلكمش. 


فقالت الأم بنبرة هادئة: يا حبيبي دي ما تتخيرش عن أختك. 


فضحك وقال: ما ده في حد ذاته يخليني أخلع وأقول يا فكيك. 


وقبل أن تزيد الأم بكلمة أخرى كان قد فتح الباب وألتفت ملقيًا قبلة لأمه في الهواء وانصرف.... 


فنظرت الأم بعينها لأعلى وقالت بنبرة دعاء: ربنا يهديك يا رياض يا ابن بطني ويفرحني بيك عن قريب يا إله السما!

(الفصل الخامس) و( الفصل السادس)

بقلم : نهال عبدالواحد 


مرت عدة أيام ولا جديد في حياة أحد سوى المزيد من شرود رياض والمزيد من انشغاله؛ فصارت تلك النادلة الفاتنة تشغل تفكيره بشكل مبالغ فيه، وباتت بطلة أحلامه الشبه يومية، فيستيقظ من نومه ويضرب نفسه يريد الانتباه وطرد صورتها من رأسه، بل زاد الحد معه وصار دائم الحديث مع نفسه خاصةً أمام المرآة!


يا إلهي! اخشى على نفسك يا رياض! أرى أنك على حافة الجنون، و بالطبع أنت مقتنع تمامًا أن كل شيء على ما يرام وأن تلك الأمور عادية وطبيعية جدًا؛ فهي ليست المرة الأولى التي أعرف فيها فتاة وإن كان الأمر قد بدأ يزيد عن حده نوعًا ما. 


لكن حتى يستقر تفكيري عليّ أن أتعرف عليها، وما الغريب في الأمر؟! فهي ليست أول فتاة أصادقها ولن تكون آخر فتاة، وستكون مجرد فترة وينتهي ذكراها من حياته كما انتهى ذكري غيرها....


هكذا يحدّث نفسه.


وذات يوم قرر الذهاب لذلك المحل الذي تعمل فيه، وصل إلى المحل وجلس إلى إحدى الطاولات وهو يتلفت حوله باحثًا عنها بعينيه ويتمنى من داخله أن تكون هي من تقوم بخدمته اليوم. 


وبالفعل، ما كانت إلا لحظات قليلة حتى جاءت حبيبة تقدم إليه قائمة المأكولات والمشروبات وعلى وجهها ابتسامة مصطنعة قائلة بهدوء: مساء الخير يا فندم. 


وضعت تلك القائمة وهمّت بالابتعاد لتعطيه فرصة بانتقاء طلبه بحرية، لكنها تفاجئت به ينادي عليها: إزيك يا حبيبة؟! أخبارك إيه!


فاستوقفها حديثه ووجمت قليلًا وهي تضيق عينيها تحاول تذكره؛ رغم أنها تشعر بألفة نحو تلك الملامح، فأجابت بصوت مملوء بالدهشة: حضرتك تعرفني!


فرفع عينيه إليها ثم قال بابتسامة: كنت هنا من كام يوم. 


فزمت شفتيها ورفعت كتفيها بعدم اكتراث وهمّت مجددًا بالانصراف فناداها قائلًا: واحد قهوة مظبوط من فضلك. 


فأومأت برأسها ثم أخذت تلك القائمة وانصرفت فتنهد وهو يتابعها بعينيه. 


كان رياض يطرق بأصابعه على الطاولة ويهز رجليه في حالة من التوتر التي لا يدرك لها أي مبرر، ثم وجد نفسه يتذكر تلك المنامات التي رآها فيها، وتلك اللحظة التي كلما همّ بتقبيلها استيقظ من نومه، فوجد نفسه يهز رأسه لينفض تلك المشاهد والأفكار من رأسه وهو يحدث نفسه.. 


- لا لا إهدى وبطّل هبل أبوس إيدك! ما ينفعش كده، شكلك اتسخط ولا رجعت مراهق! لا لا لا دي لو عرفت أنا بفكر ف إيه والله لترزعني كام بوكس...


ووجد نفسه يضع يده على خديه يطمئن على ملامحه أنها بخير، وإذ فجأة... 


وجد وجهًا محملقًا فيه وعينان رائعتان جاحظتين أمامه مباشرةً، بالطبع هي حبيبة، والتي لم يكف عقلها عن العصف الذهني ومخاطبة نفسها...


أنا شبه متأكدة أني قد رأيت هذا الوسيم من قبل، وأن تلك الملامح مألوفة لي، ثم بعد فترة عُدت إليه بطلبه، وما أن اقتربتُ حتى وجدته يتحدث إلى نفسه بصوت مسموع بل ويضرب نفسه ثم يتحسس ملامحه، حقيقةً لم أتبين ما يقول فوضعت طلبه على الطاولة واحتضنت تلك الصينية وانحنيت قليلًا للأمام؛ ربما أتمكن من سماع مايقول... 


وفجأة... إنتبه إليّ! يا إلهي! ما هذا الإحراج؟!


انتفض رياض عندما وجدها تحملق فيه بتعجب فانتفضت هي الأخرى على أثره وأخذت تلهث، ثم صاحت ببعض الحدة: في إيه!


ففتنحنح قائلًا وقد بدا عليه الإحراج: آسف مش قصدي. 


فقالت بتساءل ونبرة بها بعض السخرية: هو حضرتك بتكلم نفسك!


فأجابها بوجهٍ باشٍ وبعض التوتر: لا أبدًا، بس بفكر بصوت عالي. 


فاقتربت منحنية نحوه وتقول بنبرة تشبه المعلمات عندما تتحدث إلى طفل: بس كده غلط، الناس ممكن تفهمك حاجة تانية... 


ثم أخفضت صوتها وقالت بأسلوب مصطنع: هيقولوا عليك مجنون. 


قالت الأخيرة ووهي تشير بيدها حركة الجنون، ثم أغمضت عينيها وأومأت برأسها أن نعم بطريقة فكاهية، فنظر إليها رياض وانفجر ضاحكًا، فنظرت له رافعة حاجبيها باستخفاف ثم انصرفت وهي تهمهم: ربنا يشفي المجانين! بلاوي وبتتحدف علينا، أصحاب العقول في راحة!


كانت تهمهم هكذا وهي متجهة نحو المطبخ فرأتها هاجر فتبعتها وهي تسألها بتعجب: إيه يا بيبو إتهبلتي وبتكلمي نفسك!


فانتفضت حبيبة فجأة؛ فهي لا تتوقع أن يتحدث إليها أحد في تلك اللحظة، ثم قالت لها: فجعتيني يا زفتة!


فضحكت هاجر ونظرت إليها حبيبة فترة ثم ضحكت وقالت: أصل في زبون مجنون هنا وبيكلم نفسه. 


فقالت هاجر وهي تتلفت بعينيها في المكان: فين؟


فأشارت حبيبة نحو رياض لتتفاجأ به ينظر إليها بابتسامة رائعة فاستدارت بوجهها بسرعة، فنظرت هاجر نحوه ثم التفت لابنة خالتها قائلة: ده مستر رياض صاحب مستر مصطفى، معقول نستيه!


فقالت لها باندهاش: وعرفتِ منين يا شيخة الحارة؟!


- يا بت ده اللي شهد معاكِ أدام مستر مصطفى يوم ما ضربتِ الجيست، وبعد كده مستر مصطفى اكتشف إنه صاحبه هو وكان واحد تاني كان معاه. 


فتأففت منها حبيبة ثم قالت: طب تعالي نشوف شغلنا. 


مرت أيام أخرى، وقد قرر رياض السير خلفها ومعرفة كل شيء عنها، دون إبداء أي سبب مقنع !


وذات صباح استيقظت حبيبة، رتبت البيت ونظفته ثم بدلت ملابسها الرياضية ورفعت شعرها إلى الخلف في هيئة ذيل حصان، ثم حملت حقيبة كبيرة ووضعت داخلها طاقم رياضي آخر، ثم أحضرت حذاءها الرياضي وهمّت بالجلوس جوار باب الشقة لترتديه، فخرجت إليها هاجر متثائبة وممسدة على شعرها للخلف بتكاسل. 


- صباح الخير يا بيبو. 


- صباح النور، أنا روقت البيت، عليكِ إنت بأه تجهزي الأكل عبال ما آجي م التمرين. 


فشبكت ذراعيها أمام صدرها وأجابت معترضة: اللي يسمعك كده يحسب إني هطبخ ولا حاجة!


فنهضت حبيبة بعد أن ربطت حذاءها وقالت: طبيخ إيه بس! ما احنا بناكل ف الشغل. 


- طب فطرتي حاجة؟


- آه، شربت لبن وسلقت بيضتين وكلتهم م الساعة سبعة الصبح قبل ما أروق ولا أعمل حاجة ف الشقة. 


فقالت متأففة: ياادي اللبن والبيض!


- لا باقولك إيه ما..... 


وقطع حديثها صوت دق على الباب، فنظرت كلتاهما لبعضهما البعض وتوقفتا قليلًا مع بعض الفزغ، ثم اقتربتا كل منهما إلى الأخرى ممسكتا بيدي بعضهما البعض، ثم نظرتا لبعضهما بخوف. 


لكن لازال صوت الدق على الباب لم يتوقف، فتقدمت حبيبة ببعض التوتر وتتخفي في ظهرها هاجر تتشبث بملابسها.


فقالت حبيبة وهي تحرك كتفيها لتتركها هاجر: ما تسيبيني بأه! 


فهمست إليها هاجر بصوتٍ خافت: وانت بتترعشي ليه؟! إنت مش عاملة فيها الشحّات مبروك!


فحررت حبيبة نفسها من هاجر وفتحت الباب، ثم تراجعت الاثنتان للخلف بضع خطوات وعلى وجهيهما بعض الانزعاج. 


وكان رجلًا ستينيًّا غزا شعره الكثير من الشيب، ومعتدل الطول والقامة لكنه عابس الملامح. 


تقدم الرجل داخلًا وصاح مستنكرًا: إيه مفيش أهلًا وسهلًا ولا اتفضل!


فقالت حبيبة ببعض التحدي وهي تشبك ذراعيها أمام صدرها: خير يا حاج! إحنا دافعينلك الإيجار بالكامل وسايبينه في الحي.


فقال ببعض الحدة: وانتو بتسموا الملاليم دي إيجار!


فقالت متأففة: ما لناش فيه، الشقة دي متأجرة كده وإحنا مالنا!


فقال الرجل بحدة: متأجرة كده من سنين! الإيجار ده من أيام جدك الله يرحمه ما كان لسه عايش! يعني الزمن غير الزمن! وانتو قاعدين ومتبتين ف الشقة ومش عايزين لا تسيبوها ولا ترفعوا الإيجار. 


فقالت هاجر: ما يقدر القدرة إلا صاحب القدرة، وبعدين إحنا ما دفعناش الإيجار في الحي إلا لأنك رافع علينا قضية طرد. 


- عشان الشقة باسم جدكم، يعني مش من حقكم، إيه هتورثوني بالحيا ولا يكونش حق مكتسب! عمومًا إسمعي إنتِ وهي كويس اللي جاي أقوله! البيت ده الوحيد في المنطقة اللي لسه على قديمه، وكده كده البيت مهكع و آيل للسقوط، فأخيرًا جه مقاول وقرر يهده ويطلع مكانه عمارة زي باقي الناس ما عملت، وانتو لازم تسيبوا البيت ده. 


فصاحت حبيبة: نسيبه ونروح فين؟! ما إنت عارف يا حاج مالناش مكان تاني !


- وأنا مش فاتحها سبيل وكفاية بأه!


فقالت هاجر ببعض التفاهم: بس يا حاج المقاولين اللي بيهدوا البيوت دول ويطلعوا سكانها بيجيبولهم شقق تانية يقعدوا فيها لحد ما يخلصوا ويطلع بيها عمارة مش بيطردهم!


فقال بصوتٍ أشبه بالصياح: وأنا مش عايزكم! كفاية عليّ السنين دي كلها..


ثم رفع سبابته محذرًا كلتا الفتاتين: هديكم وقت عقبال ما تلاقوا فيه سكن تاني! وبكده أبقى عملت بأصلي يا حلوة منك ليها. 


ثم خرج وصفق خلفه الباب، فقالت هاجر بنبرة خائفة: طب والعمل!


فقالت حبيبة ببعض الثقة: ولا يقدر يعمل حاجة. 


- بس البيت فعلًا آيل للسقوط، ولو ما مشيناش هيقع فوق دماغنا. 


فاقتربت منها حبيبة مربتة على كتفيها وقالت بهدوء و نبرة حانية: إطمني ربك هيفرجها، ربنا ما يرضاش بالظلم أبدًا... 


ثم قالت غاضبة وهي تضرب كفًا بآخر: فوّر دمي ع الصبح إلهي يفوّر دمه!


ثم قالت بمكر: عارفة نفسي ف إيه!


فتأففت هاجر وقالت: خير!


حبيبة بنفس نبرة المكر: نفسي وأنا ف التمرين إنهاردة يقع تحت إيدي واحد وأدربه وأطلع عليه القديم والجديد، ما هو اللي بيجوا عايزيني أدرّبهم بيبقوا جايين يتسلوا، يستظرفوا، يتفرجوا على كابتن الملاكمة البنت، نفسي ف واحد إنهاردة وبدل ما أدرّبه .... أضربه... 


ثم ابتسمت بشيطنة بينما نظرت إليها هاجر في بلاهة، فاقتربت منها حبيبة وقبلت وجنتها ثم انصرفت، فتأوهت هاجر بنفاذ صبر وقالت: عوض عليّ يا رب بعوض الصابرين!


ثم ضربت كفًا بكف وهي تكاد تأكل بعضها بعضًا.


 (الفصل السادس)

بقلم نهال عبدالواحد 


وصلت حبيبة إلى مكان تدريبها ، تدربت بعدائية شديدة؛ أخرجت غضبها، طاقتها ومعاناتها في ذلك الكيس المعلّق فضربته بكل ما أوتيت من قوة. 


كانت تلكم الكيس وشريط حياتها وذكرياتها يمر أمامها، تري ما ترتيب هذه المرة؟

المئة! الألف! المليون!

حقيقةً لم يعد لديها طاقة للعد؛ فذكرياتها تلك ملازمة لها لا تتركها. 


معاناة أمها في العمل مع سوء المعاملة، معاناتها هي أيضًا والحرمان من الكثير؛ حُرمت من وجود أب، من حياة كريمة، أن تحلم و تتمنى حتى بأقل الأشياء، فكانت تضطر إلى الاستغناء عن الكثير حتى لا ترهق أمها أكثر من اللازم. 


أمها التي كدت وتعبت لتربيها وصارت لها الأب والأم...


الأب!


فتحدث نفسها وتعيد تساؤلاتها لماذا تركتنا؟ لماذا ذهبت واختفيت دون سؤال؟ ألم تشتاق لزوجتك يومًا؟ لقد كانت تحبك حتى آخر أيامها لدرجة تكاد تصيبني بالجنون؛ فأي حب هذا؟!

كيف استطاعت وتقبّلت أن تظل مكتوبة زوجةً لك رغم كل ما حدث؟! كيف استطاعت أن تتحدث عنك بكل خير دون حتى أن يمتعق وجهها؟!

أي حب هذا؟! اللعنة على الحب و على الرجال جميعًا!


حتى أحلامي ورغبتي في إتمام تعليمي وأصبح فتاة جامعية -وهي رغبة مشروعة- لكني حُرمت منها، لم أحققها إلا بعد تحقيقي لتلك البطولات واكتسابي لبعض الأموال فأنفقتها في التحاقي بإحدى الجامعات المفتوحة لأحصل على شهادة أعلى، أي شهادة، لكن أحلامي كانت غير ذلك. 


بطولاتي!

لعبت تلك اللعبة بالصدفة البحتة؛ كنا فتاتين وحيدتين بعد وفاة أمي بمرضها اللعين ومن بعدها وفاة خالتي، وكان قد توفي زوج خالتي منذ زمن، فهاجر أيضًا قد حُرمت من الأب في سنٍ مبكرة، ربما افتقدته بعد أن وعت إليه وعاشرته، ربما هذا أصعب!


لكن هاجر متصالحة مع نفسها ومع حالها وظروفها كلها؛ فهي تشتاق لأبيها وأمها، لم تأبه لكونها لم تتعلم تعليمًا جامعيًا ولم توافق أن تكمل دراستها معي، لازالت فتاة حالمة رغم كل شيء، تحلم بالزواج وفارس الأحلام والفستان الأبيض. 


لكني غيرها، تراني ساخطة كما تتهمني دائمًا!

حتى لو كنت هكذا أرى أني محقة. 


التحقت لألعب لعبةً قتالية، لم يكن لديّ رغبة في لعبة بعينها، لكني وجدتُ لعبة الملاكمة متاحة أمامي فاختارتها وأجبرت هاجر أن تلعب مثلي؛ فنحن بحاجة لوسيلة حماية أنفسنا تجاه الطامعين فينا. 


لم يكن لهاجر من الصبر ولا المثابرة لتواظب على التدريب ولا لعب هذه اللعبة، عكسي تمامًا فبمجرد أن بدأت بلعبها حتى أحببتها وتفوقتُ فيها بشكلٍ ملفت، وبدأت ألفت انتباه مدربيني إليّ، وبدأت ألتحق ببطولات عديدة حتى وصلت إلى بطولة الجمهورية وحصلت عليها، صحيح أنها كانت ميدالية برونزية لكنها وسام على صدري، ثم تبعتها العديد من البطولات المحلية والدولية التي التحقت فيها وحققت العديد من الميداليات البرونزية والفضية بعدها التحقت بفريق المنتخب الوطني وصرت أمثّل وطني في العديد من البطولات.


حقيقةً التحاقي بفريق المنتخب الوطني قد وفر عليّ الكثير؛ فصار هناك رُعاة رسميين هم من يتولون احتياجات اللاعبين وتوفير كل شيء لهم. 


لكن حتى هذا النجاح الذي حققته نجاحًا ناقصًا، فلازالت الألعاب الفردية تعاني من التهميش في بلدي... 


لازالت تفكر وتحدث نفسها، ولازالت تلكّم كيس الملاكمة المعلّق بقوة وانفعال، حتى بدأت تشعر ببعض الانهيار، وفجأة ضمت ذلك الكيس وعانقته بشدة وتمنت لو انفجرت بالبكاء؛ فلازال صدرها متكدّسًا بالهموم والآلام!


حتى جاءها صوت مدرّبها: إده يا بيبو! ده إيه التمرين الجديد ده؟!


فانتبهت لصوت المدرّب وتركت ذلك الكيس وهي تحاول جاهدة حجب كل تلك المعاناة، وقبل أن تنطق بكلمة تابعها المدرّب قائلًا: في واحد جاي يتدرب، جهّزي نفسك عشان تتعرفي عليه. 


فأجابته وهي تبتعد عن كيس الملاكمة: خليه يجهز ويجي. 


جلست أرضًا فخلعت قفازيها ثم فكت تلك الأربطة التي تربط بها رسغيها، ثم خبطت كفيها ببعضهما ببعض لتُنفض ما فيه من آثارٍ للبودرة، وكانت تلهث وتتلاقط أنفاسها متصببة عرقًا، فأمسكت بزجاجة الماء وبدأت تشرب... 


ثم شردت في صاحب البيت وفي حالة البيت المتهالكة، فماذا لو طُردتا من البيت؟! ماذا لو هُدم البيت علي رؤسهم؟! كيف ستخرج من ذلك المأزق؟!

ليته ينتظر حتى انتهاء البطولة القادمة؛ ربما بالمال الذي ستحصل عليه تستأجر بيتًا آخر، رغم أنها ليست بأموالٍ طائلة، فهي ليست لاعبة كرة قدم!


رفعت رأسها لأعلى وهي تهمس في نفسها: إفرجها يا رب! قوينا وعنا وما تحوجناش لحد من عبيدك!


وفجأة وجدت المدرب يقف أمامها وهو يتحدث معها مشيرًا لذلك الذي يقف خلفه: يلا يا كابتن عشان تدربي، الأستاذ جهّز نفسه واستعد تمامًا. 


فتابع الرجل قائلًا: معاك كابتن حبيبة القاضي، بطلة مصر وأفريقيا.


بدأت حبيبة تنهض واقفة بينما اقترب ذلك المتدرب الجديد منها مرتديًا ملابسًا وحذاءً رياضيًّا حاملًا على كتفه حقيبة رياضية. 


اقترب وهو يعرّفها بنفسه قائلًا: رياض نصّار، صاحب محلات نصّار للملابس الكاجوال الرجالي. 


شبّهت على ذلك الصوت فرفعت عينيها بسرعة لتتفاجأ بذلك الوسيم الذي قد رأته من قبل في المطعم، لكنها ضيقت عينيها بعدم تصديق وقد ظنت فيه كل ظنون السوء، ثم حدثت نفسها بمكرٍ داخلها لم تظهره على وجهها أن قد تحققت أمنيتي، وقد جئت بقدمك، إذن فلتذهب إلى الجحيم!


ابتسم الشاب ابتسامة عريضة ومد يده ليصافحها، بينما هي ظلت ترمقه بنظراتها، ثم تجاهلت يده الممتدة لمصافحتها وسارت لبضع خطوات في وسط قاعة التدريب المتسعة، ثم تحدثت برسمية: معاك كابتن حبيبة القاضي، هتدرّب تلات أيام في الأسبوع و مدة التمرين من ساعة ونص إلى ساعتين، والمواعيد نهارية قبل الساعة اتنين؛ لأني بعد كده ما عنديش مواعيد فاضية. 


فأجابها رياض بهدوء: تمام، الكابتن قاللي واتفق معايا على كل ده. 


- هتتمرن بوكس ولا كيك بوكس؟


-  بوكس!


فأجابت بنفس حدتها: تمام، هنبدأ نسخّن الأول...


وقبل أي جواب منه وجدها تبدأ بالجري حول تلك القاعة الكبيرة مشيرة إليه ليلحق بها، وبالفعل لحق بها، وبعد جريا عددًا من الدورات، بدأت تقفز بقفزات مختلفة وهي تتحرك في نفس الاتجاه، ثم الجري للجانبين يمينًا و يسارًا، ثم جري مع تحريك الذراعين بحركاتٍ مختلفة. 


ثم عدد من تمارين البطن والضغط ،كانت تشاركه التمارين؛ فهي في الأساس تريد أن تتدرب هي أيضًا، ولم يُسمع سوى صوت عدّاتها أو ما تأمر متدربها به. 


ثم استراحة قليلة فجلسا أرضًا لشرب الماء وهما متصببان عرقًا، وبينما هو جالسًا أرضًا إذ اتجهت إلى إحدي الجوانب لتحضر بعض الأوزان المختلفة لبداية تدريب اليدين. 


وبدأت بالفعل لتدريبه بتلك الأوزان، بعمل التمرين أمامه ليقوم بتقليدها، بالطبع سرعة استجابته ولياقته لم تغيبا عنها. 


ثم استراحة قليلة فجلسا مجددًا لشرب بعض رشفات الماء، ثم نهضت لتعيد الأوزان مكانها وتحضر تلك الصدادات وهي أداة يمسكها المدرّب لها هيئة مستطيلة وسميكة، خامتها تشبه كيس الملاكمة ومغطاة بطبقة من الجلد، لكنها تُمسك بكل يدٍ واحدة و يقوم المتدرب بتسديد الضربات فيها باليدين كما هو الحال في لعبة الملاكمة أو اليدين والقدمين كما هو الحال في ألعاب الدفاع الأخرى.


وقفت أمامه وقد ارتدى قفازيه، بدأ يسدد الضربات وهي تقف ثابتة في مكانها ويرتفع  صوتها بالعد وفي وصف كيفية الوقفة وكيفية تنظيم عملية التنفس. 


ومع اتقانه الملحوظ بدأت تتحرك أثناء تسديد ضرباته فيتحرك معها، للأمام، الخلف والجانبين، ثم بدأت تزيد من سرعة حركاتها، ثم تحرك يديها الممسكتين لتلك الصدادتين وكأنها تسدد ضربات بهما وهو لازال يسدد ضرباته فيهما، ثم مع اندماجه أخذت تزيد من سرعتها لتنتقل بشرودها من جديد فتصبح حاضرة جسدًا لا عقلًا ولا روحًا، لكن وكأن تلك اليدين مبرمجة على الضربات السريعة فصارت تسرع في الحركات بتلقائية ولاوعيٍ منها، ولم تنتبه إلا من صوت صرخة!


فانتبهت لتجد رياض ملقى أرضًا على ظهره مبللًا تمامًا بالعرق، يتلاقط أنفاسه بالكاد ويصرخ بصوتٍ مبحوح وسط الأنفاس المتلاحقة: كفاية!


وكأنما أُفيقت فجأة من غيبوبة لترى حالة رياض هكذا، فقالت بهدوء ناظرة إلى الساعة: التمرين انتهى.


ثم انصرفت تجمع أشياءها واتجهت نحو الحمام دون أن تلتفت لما أحدثته فيه، فاضطر رياض للنهوض وفعل ما فعلته. 


كان وجه حبيبة أثناء التدريب والذي يقسم أنها كانت شاردة بل وفي أمرٍ ليس هين، من الواضح أنها تعاني من الكثير... هكذا كان يحدّث نفسه و هو يقف تحت مرش الماء. 


أما هي فلازالت تعيد اسطوانات ذكراياتها الطويلة ومعاناتها الكثيرة بلا توقف، كم تتمنى لو غسل ذلك الماء المتساقط فوق رأسها كل تلك الذكريات ومحاها تمامًا لكن هيهات!


الفصل السابع والثامن من هنا


🌹🌺🌹🌺🌹🌺🌹🌺🌹🌺🌹🌺🌹🌺🌹🌺🌹🌺


قارئاتي وقمراتي وقرائي الغاليين بعد ما تخلصوا القراءه هتلاقوا الروايات الجديده والحصريه إللي هتستعموا بيها من هنا 👇 ❤️ 👇 💙 👇 ❤️ 👇 




🌹🌺🌹🌺🌹🌺🌹🌺🌹🌺🌹🌺🌹🌺🌹🌺🌹🌺



إرسال تعليق

أحدث أقدم