رواية اسمي معاني العشق الفصل التاسع والعاشر بقلم الكاتبه سلمي سمير حصريه وجديده علي مدونة افكارنا

رواية اسمي معاني العشق الفصل التاسع والعاشر بقلم الكاتبه سلمي سمير حصريه وجديده علي مدونة افكارنا 


رواية اسمي معاني العشق الفصل التاسع والعاشر بقلم الكاتبه سلمي سمير حصريه وجديده علي مدونة افكارنا 


في أروقة المستشفى،اندفع عمر بخطوات متسارعة، أنفاسه متلاحقة وقلبه يكاد يخرج من صدره. الممرات الضيقة بدت وكأنها لا تنتهي، بينما كان عقله مثقلًا بالأسئلة والخوف، عاجزًا عن إدراك ما قد ينتظره. ركض كمن يطارد ظل قلقه، حتى توقف أمام الطبيب المعالج.

رفع الطبيب يده بهدوء حين رآه، مشيرًا إليه بأن يهدأ.

لو سمحت، قبل ما تدخل، عايز أتكلّم معاك.


توقف عمر عن اندفاعه محاولًا السيطرة على أنفاسه:

اتفضل، يادكتور، خير إيه اللي حصل؟


قاد الطبيب عمر إلى مكتبه بخطوات ثقيلة. أغلق الباب خلفهما، واستدار نحوه، في عينيه مزيج من الجدية والتعاطف، وبنبرة حازمة قال:

زوجتك في حالة حرجة جدًا، وطفلك في خطر. إذا استمر الوضع علي كده للصبح ، هنضطر إلى إجراء عملية قيصرية فورًا.


صُدم عمر بالخبر، وكأن صاعقة ضربته في مقتل: 

طيب ليه... أنت قلت امبارح إنها اتحسنت  إزاي حالتها ادهورت بالشكل ده بسرعه كده؟


حاول الطبيب تهدئته بنبرة أقل حدة:

علي الأغلب أن السبب نفسي. الضغط النفسي ممكن يكون هو العامل الرئيسي. حاول تعرف منها السبب اللي وصلها للحالة دي. يمكن نقدر نسعدها علي استقرار حالتها بدل المخاطرة؛


تردد عمر للحظات، ثم هزّ رأسه بقلق واضح:

مفيش حاجة حصلت  امبارح يتسبب في تعب نفسيتها ... انا مبقتش فاهم هو في ايه. بس عموما هتكلم معاها. شكرًا يا دكتور.


خرج عمر من المكتب مسرعًا، متجهًا نحو غرفة سعاد. دفع الباب بخفة ودخل، لتقابله صورة أصابت قلبه بمزيد من الألم. فقد كانت زوجته مستلقية على السرير، وجهها شاحب إلى حد مخيف، وعيناها مثقلتان بالتعب وكأنها تحمل عبء العالم بأسره.

وقف عند الباب، يتأملها بصمت. في تلك اللحظة، شعر وكأن الزمن توقف. حاول قراءة ملامحها، باحثًا عن إجابة لذلك السؤال الذي يعصف بذهنه: 

ما الذي يؤلمها بهذا الشكل وجعلها علي هذه الحالة؟


اقترب بخطوات حذرة، ثم جثا بجانب سريرها، وأمسك بيدها برفق. تطلع إلى عينيها الممتلئتين بالحزن، وكأنه يرجوها أن تفصح عن السر الذي يثقل قلبها. وقال لها بصوت خافت يحمل ألمه وقلقه:

مالك يا حبيبتي؟


رفعت سعاد عينيها نحوه ببطء. بنظرة طويلة، مشبعة بالتعب والحزن، ثم تنهدت تنهيدة عميقة، قبل أن تفيض عيناها بالدموع.

تركها تبكي لعلها تزيح بالبكاء همهاالي ان  قالت، بصوت خافت يكاد يختنق بالأسى:

بجد انا حبيبتك؟! من إمتى وازاي؟


تفاجأ عمر من كلماتها. للحظة، عمّ الصمت المكان وكأن الزمن توقف. شعر بثقل الكلمات وهي تضرب قلبه كصاعقة. هل كان غافلًا عن كل ما مرت به؟ هل أغلق عينيه عن ألمها طوال تلك السنوات؟

ابتسم بحنان ورد بصوت منخفض يعتريه الحزن:

طبعًا... من يوم جوازنا. إنتِ زوجتي، وشريكتي، وأم طفلنا، وحبيبتي. ده اللي كنت دايمًا حاسس بيه، حتى لو ما قلتهاش كفاية.


تنهدت سعاد بعمق، وكأن الألم يسيل من صدرها مع كل نفس تتنفسه.زفرت وبنبرة مشبعة بالمرارة قالت:

أيوة،أنا زوجتك وأم طفلك، وشريكتك. لكن حبيبتك؟ عمري ما كنت حبيبتك. طول السنين دي، ما حسيتش منك غير بالواجب عايك... واجب الزوج، وواجب الأب، وواجب الشريك. عمرك ما قولت بحبك، ولا حسّيت بيها. ازاي دلوقتي تقولها بسهوله كده؟

ايه علشان ابنك اللي في بطني؟ ولا علشان خايف عليّا لاني أنا مريضة وممكن أموت؟


كلماتها كانت كالسكاكين، تقطع أوتار قلبه واحدة تلو الأخرى. شعر عمر بصدمة عميقة تهز كيانه، وكأن حجابًا قد انكشف أمام عينيه فجأة، ليواجه حقيقة لم يدركها من قبل وهي وضع زواجهم الغير مستقر،.

اخذ نفس عميق  وبصوت  متردد وهو يحاول فيها  استجماع أفكاره:

انتي بتقولي ايه يا سعاد، ازاي فكرتي فيا كده؟! 

انا طول فترة جوازنا عمري ما فكرت أخونك، ولا كان في حياتي حد غيرك. صحيح انشغلت عنك ممكن تقولي قصّرت.. او اهملت... لكن كل ده كان علشان ننجح، علشان أحققلك حياة مستقرة. دلوقتي الوضع اتغير، شغلي استقر، وربنا كرمنا بطفل جميل هيكون سبب سعادتنا ويربطنا أكتر.، ازاي بقي متبقيش حبيبتي وحياتي الجاية انت اساسها، 


نظرت سعاد إليه طويلاً، وكأنها تبحث في وجهه عن صدق كلماته، لكن عينَيها كانتا تعكسان إحساسًا أعمق من الألم. تنهدت مرة أخرى، ثم فجرت سؤلاً كان مخبأ في صدرها كقنبلة بنبرة هادئة لكن مثقلة بالأسى:

طيب و... ندى؟


ارتبك عمر من نطقها لاسما معشوقة قلبها، لكن سرعان ما خفض عينيه، محاولً السيطرة على تلاحق أنفاسه المتوترة. اشاح بنظرة بعيدا عنها وقال في محاوله مستميته للدفاع عن نفسه:

سعاد، اعقلي شوية. ندى إيه اا مالي ومالها؟!

مش هنكر إني كنت بحبها زمان، لكن ده انتهى. إنتِ عارفة إنها رفضتني وقتها واختارت الفلوس بدل الحب. كرامتي فين علشان أرجع أفكر فيها؟! 

معقول كل ده حصلك علشان جت معايا أمبارح؟!


رفع عينيه إليها مرة أخرى، مشددًا بنبرة أكثر حدة:

ثم ندى كانت جيالك، مش جاية عشاني. عندها طفل، وحياتها ماشية وسعيدة بلاش الهبل ده،

واعقلي اللي فات ماضي واللي بينا الحاضر 


لمعت الدموع في عيني سعاد، وأخذت تهز رأسها ببطء، وكأنها تقاوم الاعتراف بشيء تعرفه في داخلها. هتفت بصوت متهدج يفيض بالغضب:

ياريتها كانت سعيدة... كنت ارتحت. اوعلى الأقل حسّيت إن في حد عايش مرتاح في حياتها مش زينا

تجهش بالبكاء وبدأت تحكي له ما حدث بينها وبين ندي عند عودتها من السفر بعد سنوات

********(فلاش باك)

في إحدى اليالي كانت سعاد بشقتها بشبرا، كان الهدوء يخيم على المكان، سوى من صوت عقارب الساعة المتواصله بوتيرة لا تتغير. 

دقّ الباب فجأة، فنهضت بسرعة لفتحه.

كانت ندى تقف هناك، بابتسامة خافتة تخفي وراءها همومًا ثقيلة. بابتسامة مرتجفة هتفت بحماس:

سعاد، حبيبتي وصديقة عمري! احمدك يارب انك هنا انت متتخيلاش فرحتي اني أللاقيكِ هنا.


بدت سعاد مذهولة، وحدّقت فيها لوهلة قبل أن تستوعب الموقف وتقول بدهشة:

ندى؟! إنتِ جيتي إمتى؟


ثم فتحت الباب بالكامل تطلب منه الدخول:

  اتفضلي يا ندى. ادخلي  انت وحشتيني اوي


خطت ندى بخطوات مترددة إلى الداخل، وما إن أغلقت الباب خلفها حتى ارتمت في حضن سعاد باكية، كما لو أن السنين التي حاولت التظاهر فيها بالقوة تهاوت دفعة واحدة.


ربتت سعاد علي ظهرها وهي تحتضنها بلطف:

اهدي يا ندي مالك يا حبيبتي ؟ فيكِ إيه؟


ندى، بصوت متقطع وسط بكائها:

أخيرًا لقيت حد يسمعني... اختي صغيرة، ما بتفهمش اللي مريت بيه. وبابا يقولي تحملي علشان ابنك.


شعرت سعاد بالدموع تغمر عينيها، متأثرة بحال صديقتها:

ربنا يعينك... وادعي ربنا دايمًا يهديلك الحال، علشان خاطر  ابنك الجميل، ده هو عزوتك في الدنيا."

هو عنده كام سنه دلوقتي 


ندى، وهي تمسح دموعها بحركة عابرة:

أيوة، أمجد عمره خمس سنين. وانتِ... عندك أولاد؟


سعاد، وقد لاح الحزن في عينيها قليلاً بعد كلمات صديقتها:

لسه ربنا مرزقنيش... معنديش. اولاد 


ندى، بابتسامة هادئة ممزوجة بالدعاء:

إن شاء الله، ربنا يوعدك ويعطيك كل اللي تتمنيه.


مرت لحظة من الصمت، كانت سعاد خلالها تتأمل ملامح ندى محاولة قراءة ما خلف الكلمات. ثم سألت بصوت حمل شيئًا من القلق:

صحيح يا ندى هو إنتِ جايه زيارة؟ لوحدك ولا مع جوزك؟


تغيرت ملامح وجهها، وردت بنبره انخفضت قليلاً:

لا جيت لوحدي اصله خلاص انا هقعد هنا. مش هسافر تاني 


ارتبكتب سعاد  خوفا بعدما باغتها الجواب وسألتها :

وجوزك راح فين ؟...  هو انت اتطلقتي؟


حاولت نظيف  إخفاء ألمها وراء هدوء مصطنع:

لا. مطلقتش بس  كان لازم أمشي... علشان لو قعدت، اكثر من كده كنت زماني ميته أنا وابني.


نظرت سعاد إليها بدهشة، ثم قالت بتعاطف صادق:

طيب ليه؟ إيه اللي حصل بينكم ؟ احكيلي.


تنهدت ندى وأخذت نفسًا عميقًا كأنها تستجمع شجاعتها لسرد ما عاشته:

انا اتجوزت وسافرت. في أول شهر كنت لوحدي، مبسوطة ومتفائلة. لكن بعد الحمل، لقيت زوجاته الثلاثة فوق دماغي. من يومها بقيت خادمة ليهم، وجوزي بقى يتجاهلني. حاولوا أكتر من مرة يسقطوا حملي، لأن كلهم خلفتهم بنات، وكانوا خايفين أجيب ليه الولد اللي هيورث كل حاجه،.


توقفت لحظة، وعيناها تبرقان بحزن عميق،  ودموع تهدد بالسقوط ثم أكملت:

لكن ربنا كان لي حكمة في جوازي منه. خلفت أمجد، وبدأ الشيخ جاسم يخاف عليّ شوية. حسيت بالأمان لفترة صغيرة، لكن بعد ما كبر أمجد، رجعت الإهانات والضرب من الكل، حتى من جوزي. لحد ما حاولوا يسمّموه... تخيلي، كانوا عايزين يموتوا طفل بريء.


غلبتها الدموع للحظة، لكنها أسرعت بمسحها، واستطردت:

بعدها خدت تعهد منه إني أربيه بعيد عنهم، وطلبت منه ينزلني مصر. وافق ، بس بشرط... إني افضل علي ذمته غير طلاق. جوزي رفض يطلقني علشان افضل تحت سيطرتة. أنا وافقت، علشان خايفه علي نفسي وعلي امجد لو فضلت بينهم


فجأة عادت والقت نفسها في حضنها وقالت بلوعه:

انا اتبهدلت واتهمت اووي يا سعاد مفيش يوم نمت مرتاحه أو سعيدة، حتي علاقتي بيه كانت بالغصب لا كان في ود ولا رحمه المهم يرضي نفسه وبس،


حوطت.سعاد جسدها المرتجف علي صدرها وصمتت طويلًا فهي لم  تستطع الرد عليها.فقد خانتها الكلمات أمام هذا الكم الهائل من المعاناة. اكتفت بالتنهيد، ثم قالت بصوت خافت حزين:

معلش يا ندى... كل واحد بياخد نصيبه في الدنيا.

وانت ربنا يكرمك بالبنك غيرك مش لاقي،


رفعت ندى راسها عن صدرها وسألتها بنبرة منكسرة:

عرفت إنك اتجوزتِ عمر... اكيد أخوكي غصبك علي الجوازه دي،  مش كده حساكي حزينه؟


سعاد، بنظرة تحمل مزيجًا من الألم والحدة:

أه. لانه كان خايف يسيبني لوحدي هنا، لكن حزني أن 

ربنا مرزقنيش بطفل يعوضني غياب اخويا وعمر دائما مشغول في شركته حياتي فاضيه يا ندي،


شكرت ندي بأن سعاد تحمل فوق طاقتها من الحزن والألم وأتت هي واثقلت عليها بهمومها، نكست راسها حزنًا علي صديقتها، وساد الصمت مرة أخرى، قبل أن تنهض ندى بهدوء.

شكراً إنك سمعتيني، يا سعاد كنت محتاجه افضفض لحد. بس خلاص مبقاش منه فائدة لان محدش مرتاح، انا همشس دلوقتي وياريت تبقي تزوريني وازورك انا مليش غيرك ارتاح معاه في الكلام،.


ودعتها ندي وغادرت الشقة، تاركة خلفها طوفانًا من المشاعر في قلب سعاد التي جلست وحدها، تسترجع كلمات صديقتها وتفكر في حياتها. كانت تعرف أن عودة ندى قد تعصف بكل شيء، وأن علاقتها بـعمر التي لم تكتمل يومًا ستزداد هشاشة.


قررت بسرعة، تريد الهروب من كل شيء. فكرت في مغادرة المكان، وارضاء زوجها بالحمل كنوع من الضغط بدأت تخطط للابتعاد، لكن في داخلها شعرت أن الأمور قد تخرج عن سيطرتها.إن رآها يومًا

،،،،،،،عودة إلى الحاضر

طالعته سعاد بصوت مخنوق بالدموع:

صدقني يا عمر لو كانت ندي سعيدة، كان ممكن أكون سعيدة بيك، وبطفلنا، وبكلامك دلوقتي. لكن الحقيقة إنني ظلمتِك، وظلمتِ نفسي، وظلمتِه بايدى؛


كانت كلماتها تتناثر بين شهقاتها، تشعر كأنها تغرق في دوامة من الندم. بدت الحياة أمامها ككتاب يمضي بسرعة، دون أن تجد فرصة لتغيير النهاية.

اقترب عمر منها بقلق، جاثيًا بجانبها، أمسك يدها برفق محاولًا مواساتها في حزن علي صديقتها وقال:

اهدي يا سعاد. بالطريقة دي هتضري حملك. فكرّي في نفسك وفي طفلنا. إحنا لازم نعدي ده مع بعض.


لم تجبه ودخلت في نوبة حادة من البكاء،  نهض عمر فجأة وتركته مغادرًا الغرفة بسرعه، لكي  يبحث عن الطبيب، بينما استمرت هي لوم نفسها بالبكاء بصمت. كانت تدرك أن حياتها لن تعود كما كان أو تتمنا، وأن الحكاية قد وصلت إلى نقطة اللاعودة.


دخل الطبيب إلى الغرفة بخطوات متسارعة، وجهه مشدود وملامحه تحمل عبء قرار ثقيل. قام بفحص سعاد بسرعة، ثم التفت إلى عمر بصوت يحمل ثقل الموقف وعواقب ما حدث:

آسف يا أستاذ عمر، حالتها بتتدهور بسرعة. لازم نعمل الجراحة فورًا. الوضع حرج جدًا، ومش هقدر ننتظر أكثر من كده، 

بس مش هقدر اوعدك إننا هنقدر. ننقذها هي والجنين الأولوية طبعا هتكون للحفاظ على حياتها، بس هنحاول بكل جهدنا. ننقذهم سوا


وقف عمر كمن تجمدت قدماه، يتأمل الطبيب وكلماته التي كانت كسكاكين تخترق صدره. أغمض عينيه للحظة، كأنه يبحث عن شجاعة غائبة، ثم قال بصوت مبحوح:

موافق، يا دكتور..حاولوا تنقذوها. هي عندي  الأهم بالنسبة لي."


لكن فجأة، جاء صوت سعاد ضعيفًا ومهتزًا، يقطع الصمت الذي خيم على الغرفة:

عايزة أشوف. ندى.ضروري قبل ما أدخل العمليات!

ارجوك يا عمر حقق امنيتي الاخيرة،


ارتبك الجميع للحظة، إلا أن طرقات خفيفة على الباب قطعت التوتر.فقد دخلت ندى مسرعة، وعيناها تجولان بين الوجوه بقلق. 

اقتربت من سعاد التي كانت تبدو منهكة تمامًا، وتكاد أنفاسها تخذلها.

طالعتها سعاد بابتسامه مغتصبه من وسط الالم وبصوت بالكاد يُسمع، كأنه يُنتزع من أعماق روحها:

سامحيني.. يا ندي وحياة ابنك سامحيني


وقفت ندى بجانبها امسكت يدها تشد عليها، وعيناها ممتلئتان بالدموع، وقالت بصوت يملؤه الحيرة والقلق والخوف :

اسامحك على إيه بس، يا سعاد؟ إنتِ كويسة، اهدي حبيبتي وان شاء الله هتقومي لينا بالسلامه.


لم تتمالك سعاد نفسها وبدأت تبكي بحرقة، وكأن كل الألم الذي احتبس في صدرها طوال السنين قد انفجر الآن. قالت بصوت متقطع:

سامحيني... لأني كنت... كنت سبب في عذابك أنتِ وجوزي... سامحيني .. لاني بانانيتي حرمتك السعادة


تسمرت ندى في مكانها، وهي تحاول فهم  مغزي كلمات صديقتها وعن اي عذاب تتحدث فسالته:

مش فاهمة... عذاب إيه واسامحك علي ايه؟

سعاد  إنتِ بتتكلمي عن إيه بالظبط؟


جالت عين عمر علي زوجته وصديقتها بريبة، أخيرًا تدخل في الحوار بينهم محاولًا إخفاء توتره قائلًا:

سعاد، مش وقته الكلام ده. استريحي دلوقتي، وبعد العملية نحكي كل حاجة لندي زي ما انت عايزه؛


رفضت سعاد ورفعت عينيها نحوها بنظرة مستعطفة، تحمل في طياتها رجاءً خفيًا، وكأنها تستنجد بها لتمنحها فرصة للكلام. تشبثت بما تبقى من شجاعتها، وتحدثت بصوت مرتعش يكاد لا يُسمع:

ندى... عايزة تعرفي ليه بطلب منك السماح؟ هقولك... فاكرة لما جيتِ ليكي يوم ما عمر طلبني للجواز؟

قبلها انت كنتِ حكتيلي إنك بتحبيه، وإنك مصممة ترفضي كل العرسان علشان عمرك ما هتكوني لحد غيره. يومها أنا جيتلك وقولتلك إنه بيحبني أنا،

كنتِ متأكدة إنك مستحيل تخسري صداقتنا. وقتها لما وعدتك إني هارفض الجوازة دي؟ عشان أحافظ على صداقتنا وكل الذكريات الحلوة اللي بينا؟"


ارتبكت ندى، وبدت على وجهها علامات الإحراج وهي تحاول أن تخفي اضطرابها. شعرت أن سرها انكشف، ذلك السر الذي أخفته لسنوات: أنها كانت تحب زوج سعاد. بعد لحظة من التردد، قالت بصوت خافت:

أيوة، فاكرة. بس... إنتِ ملكيش ذنب في جوازك منه. أخوكي هو اللي أجبرك. عمر كان نصيبك، مش نصيبي.


ثم أخذت نفسًا عميقًا، وكأنها تحاول تهدئة اضطراب قلبها، وأضافت بابتسامة باهتة:

اطمني يا سعاد، أنا مش زعلانة منك عشان اتجوزتيه. أنا كمان اتجوزت وخلفت. أسامحك على إيه بقى؟ ما فيش حاجة تستاهل الزعل.


هزت سعاد رأسها برفض، وكأنها تحاول طرد الحقيقة التي تثقل صدرها. قالت بصوت مخنوق، تخنقه دموع حبستها طويلًا:

إنتِ مش عارفة حاجة... عمر مكنش عايز يتجوزني...


توقفت فجأة، تأخذ أنفاسًا متقطعة كأنها تغرق في بحر مشاعرها. رفعت ندى عينيها إلى عمر، الذي بدا كأن الكلمات سقطت عليه كالصاعقة. ارتد خطوة للخلف، يتأرجح بين الدهشة والألم، قبل أن يتمتم بصوت منخفض:

سعاد... إنتِ بتقولي إيه؟ مش ممكن!


شعرت ندى بأن الجو أصبح مشحونًا بالارتباك، وكأن الصمت يصرخ بين الجميع. اقتربت من سعاد، وأمسكت يدها برفق، تنقل إليها بعضًا من طاقة الهدوء. قالت بنبرة مفعمة بالحنان، تحاول تخفيف وطأة الألم:

إسمعي يا سعاد... إنتِ مكنتيش سبب في أي حاجة. اللي حصل كان نصيب، وده قضاء أمر الله،

عمر دلوقتي جوزك، والطفل اللي في بطنك هو الرابط اللي هيقوي اللي بينكم أكتر. صدقيني أنا  نفسي مش شايلة من ناحيتك أي حاجة... كل اللي بتمنّاه ليكي إنك تكوني بخير وتقومي لينا بالسلامة،  وتفرحي بطفلك وحياتك مع جوزك."


لم.تهدا كلمات ندى العاصفة داخل سعاد. جذبت يدها من بين كفّيها، وانفجرت في بكاء مرير بعدما عجزت عن السيطرة عليه. وقالت بصوت مختنق يفيض بالألم:

مش هقدر.. مش هقدر أعيش حياة جديدة مع طفلي وأنا شايلة الذنب ده أكتر من كده. سامحيني يا ندى... أنا ظلمتك... وظلمت عمر معايا.


فجأة صرخت سعاد وكأن الكلمات تُنتزع من قلبها المنهك، تتساقط متقطعة من بين شفتيها:

يا ندى.. الحقيقة انا يوم ما جيت عندك، مكنتش جايه أقولك إن عمر بيحبني وطلبني للجواز... 

انا كنت جايه علشان هو طلب مني أكون وسيط بينكم. كان بيحبك، وكان عايزني أسألك عن مكانه في قلبك، علشان يعرف إمتى يتقدم رسميًا!


ساد الصمت للحظة، ندى تراقب عمر بعيون ممتلئة بالذهول. نظراتها كانت مزيجًا من الصدمة والغصة، بينما عيون عمر بدأت تفيض بالدموع، كأنه يعيش ألمًا جديدًا لم يتخيله.


طالعها عمر بصدمه، فقلبه لم يعد يتحمل غدرها بها ، صرخ بصوت يملؤه القهر:

ليه يا سعاد؟ ليه عملتي كده؟!


ترددت سعاد للحظات، ثم نطقت بصوتٍ منكسر، وكأن الكلمات تخرج من أعماق جرح قديم:

لأني بحبك يا عمر... حبك عما قلبي. كنت دايمًا قريب مني، قريب أكتر من أي حد تاني. دايمًا في بيتنا، مع أخويا، وأنا معاكم.. كنت شايفة فيك كل حاجة نفسي فيها. لما عرفت إنك بتحبها هي، مقدرتش أتحمل... حسيت إني لازم أبعدها عنك بأي شكل.


أخذت نفسًا ثقيلًا، وكأنها تحاول جمع ما تبقى من قوتها، ثم أكملت بصوت خافت:

عارفة إني أنانية... لكن كنت فاكرة إن لما ندى تخرج من حياتك، هتبقى حياتك ليا. لكن حتى بعد جوازنا، محبتنيش زي ما حبيتها هي. كنت شايفة في عينك حبها كل يوم، وده كان بيقتلني. كلنا عشنا في تعاسة، بسببي. أنا اللي ضيعت علينا السعادة.سامحوني.


انفجرت بالبكاء بعدمت انكشف كلي شئ أمامها وأصبح الحقيقه أمامهم. لكن قبل أن يرد عمر أو  ندى اقتحم الطبيب الغرفة بوجه متجهم، مشيرًا بضرورة دخولها إلى غرفة العمليات فورًا.

نظر الطبيب إلى الساعة، ثم قال بحزم:

لازم نبدأ الجراحة فورًا. الوقت مش في صالحنا.


أومأ عمر برأسه، وهو يحاول كتم دموعه، ثم انحنى ليهمس في أذن سعاد؛

هستناكي بره... هتخرجي بالسلامة، وهتكملّي حياتك معايا ومع طفلنا. رغم كل شئ انت زوجتي


في تلك اللحظة، مدت سعاد يدها المرتعشة نحو ندى وقالت بصوت ضعيف وسط دموعها:

ندى..خلي بالك من بنتي. إنتِ أحن إنسانة عرفتها في حياتي. وواثقه انك هتكون احن ام ليها أوعي تتخلي عنه، او تاخديها بذنبي أرجوكي...دي وصيتي.


لم تستطع ندى الرد، فقط انحنت وقبلت يدها بحنان، بينما أخذوها سريعًا إلى غرفة العمليات، تاركة خلفها عمر وندى غارقين في مزيج من الألم والصدمه


مر الوقت ثقيلًا كأنه أبدية، حتى خرج الطبيب بعد ساعات طويلة، ووجهه يكسوه الحزن. وقف أمام عمر وندى" وقال بصوت يحمل أسفًا عميقًا:

للأسف.مقدرناش ننقذ الأم. لكن ارادة الله كانت اقوي  رزقكم بطفلة جميلة جدًا. حالتها  الان مستقرة. ربنا يباركلك فيها.


شعر عمر وكأن الأرض قد زلزلت تحت قدميه، بينما انهمرت دموع ندى بصمت، وهي تنظر من بعيد إلى المولودة التي أصبحت الآن مسؤوليتها. منذ تلك اللحظة، أدرك كلاهما أن الحياة قد حملت لهما أمانة ثقيلة، وأنهما الآن أمام اختبار جديد، لعلّهما يجدا فيه معنىً للفقدان الذي مزقهما.

********

الفصل العاشر

#اسمي_معاني_العشق

*********

تهالك جسد عمر بانهيار علي اريكه في ركن الغرفة، وقد أثقلته الذكريات والمآسي، إذ لم يتبقَ له شيء سوى مرارة الفقد وألم الذكريات. غابت روح سعاد عن الحياة، لكنها تركت خلفها وجعًا لا ينتهي وابنة صغيرة لم يملك قلبه إلا أن يغمرها بكل ما تبقى فيه من حب لم يستطيع أن يمنحه الي امها الراحلة.


في تلك اللحظةٍ خانته دموعه، فانفجر في بكاء مرير، كأنما يحاول غسل روحه المثقلة بالندم والأسى. لم يكن فقد سعاد مجرد غياب شخص، بل كان فقدانًا للسنوات التي عاشها معها، وللأمل الذي كان يربطه بها. كان ذلك الفقد يحمل في طياته إحساسًا قاسيًا بأنه كان السبب في تمزيق شملهما حين وقف عاجزًا أمام مشكلات الحياة. بسبب قلبها الذي عشق غيرها


في زاوية أخرى من الغرفة، حملت ندى  الطفلة بين ذراعيها برفق كأنها تحمل قطعة من قلب صديقتها الراحلة. راحت تهدهدها بحنانٍ عميق، وقد عقدت العزم في داخلها على أن تصون الأمانة التي تركتها سعاد  لها وتعوضها حرمانها منه وتكون لها أمٍّ بديلة. فاندى لم تكن مجرد صديقة لسعادة فقط، بل كانت امتدادًا لحبٍ خالدٍ لا يموت في قلب عمر.

******

بعد أيام العزاء، وقف عاصم، أخو سعاد، وألقى نظرة على الطفلة النائمة بين يدي ندي، ثم التفت إلى عمر وقال بصوتٍ يشوبه الحزن:

اسمع يا عمر، انا فكرت كتير، وأظن بوضعك الحالي مش هقدر تراعي بنت اختي، انا هاخد الطفلة معايا الفيوم، تتربي مع ابني، وأحاول أديها حياة مستقرة.


لكن ندى،التي كانت تحمل الطفلة وقد اعتادت علي وجودها كانها ابنتها، تدخلت في الحوار وقد غمرها الإصرار، وقفت بحزم قائلة::

لا يا عاصم،انا مش هتخلي عن الطفلة، دي وصية أختك. هي طلبت مني أنا أربي بنتها، وأوعدك إني هفضل مخلصة لوصيتها مهما كانت الظروف.


نظر عمر إلى ندى بامتنانٍ غامر، وقال بصوتٍ يغلبه الإرهاق ويؤكد حديثها:

فعلا يا عاصم سعاد طلبت من ندي تربي البنت، 

وأنا متأكد إن مفيش حد يقدر يراعيها زيك، يا ندى. بس... خايف أثقل عليكِ. ممكن  ظروفك أو سفرك يمنعوكِ. توفي بوعدك ليها،


ردت ندى بهدوءٍ وثقة وابتسامه حنونه تمنحها للطفلة بين يداها كأن الله عوضها بها حرمانها من صديقتها وخسارة حبها الضائع:

متقلقش يا باشمهندس، أنا مش هسافر تاني. لكن جوزي هيبقي يجي يزورني هنا انا وأمجد من وقت للتاني، اطمن انا مش هسيب الطفلة أبدًا.


نظر الجميع إلى الطفلة الصغيرة التي كانت تنام بهدوء بين يدي ندى، وقد ساد الصمت للحظة قبل أن يكسره عاصم قائلاً بابتسامة حزينة:

مدام دي وصية اختي انا واثق فيكي يا ندى، بما إنها هتعيش معاكي، ايه رايكم  نسميها على اسمك، يا ندى. أختي كانت بتحبك جدًا وانا واثق لو عايشه كانت سمت بنتها علي اسمك؛


ايد عمر اختيار وقال بحزنٍ ممزوج بالحنين:

ليك حق يا عاصم، ندى... اسم جميل،

والبنت  هتفضل دايمًا رمزًا للحب والرابط اللي جمعنا بأمها الله يرحمه؛

**********


مرت الأيام واستقرت الطفلة في بيت ندى.

في البداية، كان ابنها الصغير أمجد يحدّق بحيرة في المولودة الجديدة، وكأن وجودها الغريب يشعل في قلبه تساؤلات لا يعرف كيف يصوغها. لكن سرعان ما مد يده الصغيرة نحوها، وما أن لامست أصابعه، حتى التقطت بيدها الرقيقة إصبعه، وكأنها تبحث عن دفء حنانه. كانت حركة عفوية، لكنها اخترقت قلبه الصغير في لحظة، فتحركت مشاعره نحوها وكأنها أصبحت جزءًا من عالمه.

حملها أمجد بحذر  وسأل أمه بلهفة:

ماما، النونو دي بنت مين؟ وهتعيش معانا ع طول؟


ضمته ندى إلى صدرها، ثم احتضنتهما معًا بحنان وهي تنظر إلى الصغيرة، تلك الطفلة التي ورثت جمالاً هادئًا يخطف الانفاس يجعل من يراها يظن أنها ابنة ندى نفسها، وليست ابنة سعاد، صديقة عمرها. شعرت ندى في تلك اللحظة بمزيج من الحزن والامتنان، فقد سامحت سعاد على خداعها وظلمها لها،لأن صداقتهما كانت تمثل كل ذكرياتها الجميلة، وكل لحظة سلام في حياتها.

سعاد، التي رحلت مبكرًا، وتركت لندى هذه الأمانة الغالية، كأنها تقدم لها فرصة للتعويض عن خساراتها: خسارة الصداقة والحبيب، وخسارة الأمان مع زوج هجرها وتركها على ذمته فقط كأم لابنه الوحيد.


تنهدت ندى بحرقة، ثم همست بصوت يحمل مزيجًا من العزم والحب:


أيوه يا أمجد، النونو دي هتعيش معانا من النهارده. عايزاك تخاف عليها وتحميها كأنها أختك.


نظر أمجد إليها بعينين تشعان بالحماس، واحتضن الصغيرة بقوة، تاركًا إصبعه في فمها تمتصه كأنها تمتص حنانه. ثم قال بحماسة، وكأنه يعد نفسه قبل أن يعدها:

وأنا أوعدك يا ماما، هخاف عليها وأحميها زي أختي. دي هتبقى حبيبتي، وهلعب معاها على طول.


ابتسمت ندى، وهي تشعر أن الوعد الذي قطعته لصديقتها قد بدأ يتحقق، وأن هذا البيت الصغير سيصبح مأوى للطفلة التي جلبت معها هدوءًا من نوع جديد.

**********

بدأت الحياة في كتابة فصل جديد من حكايتها، ولكنها لم تكن خالية من الألم. فمع مرور السنين، ظل عمر يعاني من تبعات فقدان سعاد، ومن أعباء المسؤوليات التي أثقلت كاهله. خسر زوجته وحبهما، ثم تدهورت حالته النفسية والمالية حتى اضطر إلى العودة إلى شقة متواضعة في شبرا، حيث كان يحيا وسط أطياف الذكريات.


لكن شيئًا واحدًا كان يضيء عتمة أيامه: زيارات ندى الصغيرة. كانت تجلب معها لحظاتٍ من السعادة البسيطة التي تُعيد له طيف الأمل. 


منذ اليوم الذي أخذت فيه ندى الطفلة إلى منزلها، أصبحت لقاءات عمر بها نادرة.

كان يزورهم في البيت لبضع ساعات، يجلس مع الصغيرة قليلاً، ثم يسلّم إلى والد ندى مصروفات الطفلة، وكأنها أمانة يحاول الوفاء بها عن بعد.

لم يكن غريبًا غياب ندى عن هذه الزيارات، فهي امرأة متزوجة ومحدودية لقاءاتها بعمر كانت متوقعة. لكن ما أثار دهشة الجميع هو خوف أمجد الشديد على الصغيرة من أبيها. كان لا يتركها معه وحده مطلقًا، وكأنه يخشى أن يأخذها ويهرب.

كثيرًا ما كان أمجد يتدخل عندما يحمل ابيها الطفلة بين ذراعيه، فيداعبها بحركات صغيرة حتى تترك حضن والدها وتلقي بنفسها إلى أحضانه هو. 

هذا السلوك لم يمر مرور الكرام على عمر، إلى أن قرر أن يواجهه ذات يوم.

اقترب عمر من أمجد وقال بابتسامة ممزوجة بحيرة:

تعالَ هنا يا أمجد، عايز أسألك عن حاجة محيراني فيك من فترة بس ذات الايام اللي فاتت.


رفع أمجد رأسه الصغير مبتسمًا ببراءة، وقال:

اتفضل يا عمو، قول بسرعة علشان ألعب مع ندى قبل ما ماما تاخدها تنيمها.


ضحك عمر بخفة، ثم ضمّ أمجد إلى صدره بحنان، ناظرًا إلى طفلته التي بلغت عامها الثاني، وتمسك بيد أمجد الصغيرة كأنها ترفض أن تفلتها. قال له بصوت هادئ حذر:

بص يا بطل... أنا ملاحظ كل مرة أجي أشوف ندى، ما بتدينيش فرصة أقعد أو ألعب معاها. والله لولا إحراجي من جدك، كنت جيت كل يوم أشوفها. ممكن أفهم ليه بتعمل كده؟ هو أنت بتكره زبارتي ليها؟ وكمان... أنت معاها طول اليوم، ليه ما بتسيبش لي فرصة أعوض حرماني منها بحبي وحناني ليها؟


نظر أمجد إلى الأرض، وهو يحاول استيعاب الكلمات الثقيلة التي سمعها. لم يفهم تمامًا ما الذي يعنيه عمر بـ حرمانه، لكنه شعر بحزنه الواضح، من خلال نبرات صوته فرفع رأسه وقال بعفوية صادقة:

والله يا عمو، أنا بحبك، بس أنا خايف... خايف تاخد ندى وتروح بعيد وما ترجعش تاني. حتى لما بابا بيجي يزورنا، أنا بخبّي ندى وما بخليهش يشوفها، علشان محدش يحبها غيري. بس انت...حبها زي ما انت عايز، بس سيبها هنا معايا.


نظر عمر إلى الطفل الصغير بحزن عميق، وكأن كلماته البريئة كشفت عن صراع أكبر مما تخيله. مدّ يده وربت على كتفه، محاولًا طمأنته، لكن قلبه كان مليئًا بالتناقضات التي لا يعرف كيف يحلّها.

تنهد عمر بقوة، وهو ينظر إلى أمجد بعينين تحملان مزيجًا من الحزن والرضا.

في داخله، شعر بسعادة عجيبة لرؤية خوف هذا الصغير على طفلته، وكأنه وجد فيها حاميًا وحارسًا سيقف بجانبها في المستقبل. اقترب منه وربت على كتفه برفق، ثم قال بصوت مطمئن مليء بالحب:

لا يا أمجد، متخافش. ندى مستحيل آخدها منكم، لأنها عمرها ما هتلاقي أم أحن عليها من أمك. بس عايزك توعدني يا بطل... إيدك تبقى دايمًا في إيدها، متسبهاش مهما حصل. اتفقنا؟


تألقت ملامح أمجد بالفرح، وكأن كلمات عمر حملت له راحةً لم يشعر بها من قبل. اطمأن قلبه الصغير بأن ندى ستظل بينهم، ولم يكن يفهم تمامًا عُمق الوعد الذي يُطلب منه. لكنه، ببراءة الطفولة وصدق إحساسه، رد بحماس:

أوعدك يا عمو... عمري ما هسيب إيدها، وهفضل دايمًا جنبها، حارسها وأمانها في الدنيا.


نظر عمر إلى أمجد، ثم إلى طفلته الصغيرة التي بدت سعيدة بأمان بين يد امجد الصغير. شعر في تلك اللحظة أن وعد أمجد، رغم براءته، هو طوق الأمان الحقيقي لندى، وكأن هذا الطفل كتب على نفسه عهدًا أكبر من عمره، لكنه يعرف أنه سيصونه بكل ما يملك.

-------------------------

تعددت الزيارات، ومع مرور الوقت، أصبح حال عمر من السيئ إلى الأسوأ. طفلتُه تكبر بعيدًا عن عينيه، وصارت زياراته لها قليلة ومتباعدة. فبعد زواج هند، أخت ندى، ووفاة والدتها، أصبح من الصعب عليه زيارة بيته كما كان في السابق. ومع مرور السنوات، بلغت ندى العاشرة، وأصبحت هي من تزور والدها بدلًا من العكس

برفقة أمجد، الذي لا يفارقها ولا يتركها تذهب إلى أي مكان من دون أن يكون إلى جانبها.

وفي إحدى تلك الزيارات، جاءت ندى بصحبة أمجد، الذي صار شابًا في السادسة عشرة من عمره. عندما فتح عمر الباب، احتضن ابنته بقوة، وقال بابتسامة متعبة:

وحشتيني، يا حبيبة بابا.  تعالي ادخلي شوفي جبت ليكي ايه وكمان قوليلي عايزة تروحي فين النهاردة؟"


ردت ندى بنظرة بريئة وعينيها تتوهجان شوقًا:

عايزة أروح الملاهي. بس أمجد لازم ييجي معانا.


ضحك عمر قائلاً:

ماشي موافق طبعا ، بس خلي بالك أنا مش قادر أجري وراكي زي زمان! يلا ادخلي غيري هدومه


جرت الصغيرة علي غرفتها وابتسم أمجد وقال بنبرة جادة ردًا علي اجهادها لأبيها :

متقلقش يا عمو انا هروح معاكم  بس عندي طلب واحد. ياريت توافق عليه 


وقف عمر أمام النافذة، وقد انعكست أضواء الشارع الخافتة على وجهه الذي بدا متعبًا ومثقلًا بالمسؤوليات. عندما سمع صوت أمجد، استدار ببطء وسأل بصوتٍ عميق عكس شخصيته الحازمة:

طلب إيه يا أمجد؟

كان في عيني أمجد وعدٌ خفي بقصة لم تُروَ بعد، وكأن شيئًا ما يحضر لفتح فصل جديد في حياة الجميع. رفع أمجد رأسه بثباتٍ، وكأن تلك اللحظة كانت فاصلة في حياته. أخذ نفسًا عميقًا وأجاب بصوت واضح:

عمي... ندى مش بس بنت حضرتك. أنا اتربيت معاها، وهي بقت كل حياتي. يمكن أكون صغير ولسه في الثانوية، لكني عارف أنا عايز إيه. بعد ما أخلص دراستي وأسافر أكمل تعليمي مع بابا، هرجع. وكل اللي طالبه إنك توافق وقتها تكون ندى من نصيبي. أنا بحبها بجنون، ومش شايف حد يستحقها غيري.


تجمدت ملامح عمر للحظات، كأن كلماته دفعت به إلى دوامة من التفكير العميق. حملت عيناه دهشةً ممزوجة بالجدية، وكأنه يحاول استيعاب حقيقة حديث الشاب الذي يقف أمامه. تنهد بعد لحظة من الصمت وقال:

يا أمجد... إنت بتتكلم عن سنين طويلة لسه قدامكم، وندى.لسه طفلة. إزاي عايزني أخد قرار مصيري زي ده وأفرضه عليه من دلوقتي؟


في تلك اللحظة، انفتح الباب بهدوء، وظهرت ندى الصغيرة بخطواتها السريعة ووجهها الناطق بالبراءة. كانت كلمات الحوار قد تسللت إلى أذنها، فدخلت الغرفة باندفاعٍ طفولي، قائلة بصوت مليء بالثقة:

بس يا بابا، أنا بحب أمجد! وعايزة أتجوزه.


ارتبك عمر للحظة من صراحتها غير المتوقعة، لكنه سرعان ما فتح ذراعيه ليحتويها بحنان الأب ودفئه. انحنى إليها وقال بصوتٍ هادئ:

لو ده اللي إنتِ عايزاه، يبقى أنا موافق. مفيش حد يقدر يخاف عليكي ويرعاكي زي أمجد. قلبك البريء ده يستاهل واحد زيه.


ثم نهض من مكانه، والتفت نحو أمجد، ومد يده إليه بنظرة صارمة مشوبة بالود. قال بحزم:

لكن عندي شرط.


رفع أمجد حاجبيه باهتمامٍ وقال:

أمرك يا عمي. اتفضل فول شرط ووعد انفذه كله يهون علشان خاطر ندى


قال عمر بنبرة جدية:

توعدني.با امجد إنك تكون ليها حبيب وصديق قبل ما تبقى جوزها. مش عايزها تعيش لحظة من اللي عاشته أمها ولا اللي عانته أمك. اوعدني إنها تفضل سعيدة، دايمًا. باختيارتها لشريك حياة يحبها وتحبه؛


للحظة، انعكست مشاعر أمجد الصادقة في عينيه. أومأ بثقة ورد بصوت مليء بالصدق:

ده وعد يا عمي. ندى مش هتكون مراتي غير لما تكون بتحبني بكل قلبها. ولو محبتنيش، هرعاها كأنها أختي، وهكون سند واخ وصهر ليها لحد ما اجوزها للي يستاهله. ده عهد قدام ربنا مش هكسره أبدًا.


تسربت الراحة إلى ملامح عمر الثقيلة، وكأن تلك الكلمات أزاحت عن قلبه عبئًا كبيرًا. أومأ برأسه، ثم اقترب من أمجد واحتضنه قائلاً:

ربنا يبارك فيك يا أمجد... ويجعلها من نصيبك بحق نيتك الطيبة.


وفي تلك اللحظة، انفتحت نافذة الأمل في حياة الجميع، كأن المستقبل يحمل وعودًا بقصة جديدة تُكتب بالحب، والوفاء، والإخلاص.

********

عاد الجميع إلى المنزل بعد رحلة للملاهي أعادت لهم شيئًا من البراءة المنسية. جلس عمر وأمجد في المطبخ يحتسيان الشاي، وكان عمر يطالع أمجد بنظرة مليئة بالرضا. ابتسم امجد بحيرة وساله:

ممكن أسألك سؤال يا عمي؟


لاحظ عمر نبرة التردد في صوت أمجد، فابتسم بحنان وقال بهدوء:

اسأل يا أمجد، خير إن شاء الله؟


ابتلع أمجد ريقه، وشعر بالإحراج للحظة، لكنه تشجع بعد صمت قصير وقال بصوت خافت:

انت ليه بعت الشركة والشقة بتاعتك؟ وكمان... حالتك المادية بقيت صعبة، مع إنك مهندس ناجح؟


أسند عمر رأسه إلى ظهر الكرسي، وحدّق في السقف كأنما ينبش في صندوق ذكرياته المؤلم. ظل صامتًا للحظة، قبل أن يتنهد بعمق ويجيب بصوت هادئ مليء بالندم:

عشان حبيت أمك. حبي ليها كان نقطة ضعفي وبسبب قراراتي دمرت نفسي. 

أمك... كانت حلمي اللي ضاع، وندم حياتي. ضيعت كل حاجة، لأن بعد ما بعدت عني وماتت مراتي ، مبقاش عندي هدف أعيش عشانه. حتى ندى، اللي هي كل حياتي، كانت قدام عيني، بس مش في حضني. كله ضاع بسبب الأنانية.


تجمّدت الكلمات في حلق أمجد وهو يحاول استيعاب ما سمعه.  فقد صدمته حقيقة مشاعر عمر نحو أمه، لكنه لم يجرؤ على سؤال المزيد عن معنى الأنانية.  وما المقصود بها ، ارتبك للحظة، لكنه قال بخجل ممزوج بالفضول:

يعني أفهم من كلامك إنك... لسه بتحب ماما يا عمي؟


أغمض عمر عينيه للحظة كأنما يستدعي ذكرى ثقيلة، ثم فتحهما وتنهد بحرارة. كان صوته مليئًا بالألم والحنين حين قال:


أيوه يا أمجد، بحبها... وما زلت بحبها. حبها عمره ما قل في قلبي، لكنه خلاص... انتهى. مفيش أمل.


ابتسم بمرارة وهو يكمل:

عارف ليه أنا مطمئن على ندى وهي معاكم؟ لأن أمك بتربيها. ده الشيء الوحيد اللي بيخليني حاسس إن في حاجة بنتشارك فيها، حتى لو إحنا مش مع بعض.


تأمل أمجد كلمات عمر بعينين متألقتين، وكأن فكرة جريئة بدأت تتشكل في ذهنه. رفع رأسه بابتسامة واثقة وقال بحماسة:

أيوه كده فهمت... طيب إيه رأيك في...؟

************

يتبع .


بداية الروايه من هنا


قارئاتي وقمراتي وقرائي الغاليين بعد ما تخلصوا القراءه هتلاقوا الروايات الجديده والحصريه إللي هتستعموا بيها من هنا 👇 ❤️ 👇 💙 👇 ❤️ 👇 




🌹🌺🌹🌺🌹🌺🌹🌺🌹🌺🌹🌺🌹🌺🌹🌺🌹🌺

إرسال تعليق

أحدث أقدم