القائمة الرئيسية

الصفحات

أخبار الرياضة

رواية صرخات أنثى للكاتبة آية محمد رفعت الفصل الاول حتى الفصل الخامس حصريه وجديده على مدونة أفكارنا

 رواية صرخات أنثى للكاتبة آية محمد رفعت  الفصل الاول حتى الفصل الخامس حصريه وجديده على مدونة أفكارنا 



رواية صرخات أنثى للكاتبة آية محمد رفعت  الفصل الاول حتى الفصل الخامس حصريه وجديده على مدونة أفكارنا 


عاد للمنزل يحمل شوق العالم بأكمله للقائها، لا يعلم كيف  مر ذلك الأسبوع عليه ليعود من مصر إلى إنجلترا، صف على سيارته بالخارج  وصعد للأعلى إليها، كان يعلم بأنه سيجدها تغفو بفراشها مع قرابة الساعة  الواحدة صباحًا، تلاشت ابتسامته الجذابة وتبخرت حينما وجد فراشه مرتبًا  وكأنها لم تبيت يومها به!

ظن أنه سيجدها بغرفتها الجانبية فاتجه إليها يناديها بشوقٍ ولهفة: فطيمه!

تجعدت ملامحه بدهشةٍ حينما لم يجدها أيضًا بغرفتها، فأسرع للطابق الأول  قاصدًا غرفة والدته، طرق الباب أكثر من مرةٍ فلم يجد أحدٌ، حتى عمران وشمس،  فهبط للأسفل ينادي أحد الخدم الذي استيقظ على الفور يجيبه بوقارٍ: ما  الأمر سيدي؟

سأله على بقلقٍ يكاد يمزقه: أين الجميع؟

أجابه الخادم مسرعًا: السيدة مايسان هاجمها ألمًا مفاجئًا فحملها السيد  أحمد وذهبت برفقتهما السيدة فريدة وشمس للمشفى، أما السيدة فاطيما والسيد  عمران لم يعدان بعد من الخارج.

ضيق عينيه باستغرابٍ، وجذب هاتفه مشيرًا له: عد لغرفتك.

هاتف على فطيمة وعمران ولكن لم يجيبه على مكالماته، فكاد أن يجن من فرط  قلقه لما يحدث هنا، كيف يتسنى لعمران ترك مايا وهي بتلك الحالة ويذهب بهذا  الوقت برفقة فاطمة!

هاجمه عقله دون رحمة، وأقصى ما يخشاه أن تكون قد هاجمت فاطمة نوبة أو حدث  بها سوءًا، جذب هاتفه مجددًا وطلب أحمد الذي أجابه على الفور: أيوه يا  حبيبي، عامل أيه؟

أنا كويس يا عمي، طمني انت مالها مايا؟

أتاه صوته المرهق يجيبه: مفيش حست بتعب وعمران مكنش موجود فجبناها المستشفى.

أسرع بسؤاله لما وجده هام: عمران فين لحد دلوقتي وفاطيما مرجعتش؟

عمران وفاطيما اتاخروا النهاردة، وأخر مرة كلمت عمران قالي إنه كان عنده اجتماع مهم هيأخره بره جايز يكون صمم يرجع فاطيما معاه.

أغلق على الهاتف بعدما استمال بحديثه الهادئ عمه، وجلس على أحد المقاعد  يحاول تهدئة ذاته، يكفيه أنها الآن باتت أكثر نضوجًا وقوة أهلتها للتعامل  مع العالم الخارجي، ولماذا قد يشعر بالقلق وأخيه لجوارها!

اقتحم صوت سيارة عمران مسمع علي، فنهض عن مقعده واتجه للشرفة يراقبه  بتمعنٍ، فاتسعت عينيه بصدمة جعلته يتجمد محله لا يقوى على الحركة قيد  أنامله، وبالكد استدار بجسده ليكون مقابل لباب المنزل الذي انصاع لمفتاح  عمران ودفعة قدمه الخافتة جعلته يتسع لمرورهما معًا!

اتجه عمران بخطواتٍ بطيئة للمصعد، وقبل أن يخطو منه توقف وهو يتطلع ذاك المتيبس من أمامه، فهمس بذهولٍ: علي! إنت رجعت أمته؟

بقى جامدًا وجهه خالي من التعابير، حدقتيه تنخفض رويدًا رويدًا على تلك المستلقية على ذراع أخيه، وكأنها فاقدة الوعي!

ابتلع لعابه بتريثٍ وهو يجاهد لتماسك انفعالاته، وبدأ يقترب ليكون مقابله  وجهًا لوجه، فاستطاع أن يرى وجه زوجته المجهد وحجابها وملابسها الغير مرتبة  بشكلٍ يثير الريبة!

سقط وجه فاطمة إليه فور تهدل ذراع عمران للأسفل بعدما استحوذ الارتباك عليه  من صمت أخيه وجمود نظراته الغريبة، فتمكن تلك المرة من لقط علامات الأصابع  الخمسة الماسدة على خدها المتورم وكأنها نالت عشر صفعات قوية.

ضم على شفتيه معًا بقوة ومد نفسه بصبر يجعله لا يحتمل حتى مجرى تنفسه، لا  يسمح أن تزوره مجرد شكوك تدفعه لأخيه أي شكوك يود قتلها رغم أن كل ما تنظره  عينيه ما هو الا هلاكًا وجحيمًا يلوح له!

تنحنح عمران وهو يناديه بتوترٍ: علي. إنت ساكت ليه؟ !

تلك المرة قرر رفع عينيه ليواجه أخيه، فحرك رماديته ليقابله بنظرة طويلة  طعنت قلب عمران باجتيازٍ، وخاصة حينما انحرفت عينيه لعلامات الاظافر التي  تضم رقبة أخيه وخده الأيسر، فأغلق على عينيه على الفور ومزق شفتيه من فرط  ضغط أسنانه عليها، وردد بصعوبة أنفاسه المنفعلة: فاطمة مالها؟

ابتلع ريقه بتوترٍ جعله لا يعلم ماذا سيفعل أمام أخيه؟ ، فأجلي أحباله  المنقطعة قائلًا: آآ، أنا، أصل هي أخده حقنة مهدئة يوسف ادهالها، آآ، مش  هتفوق غير بكره الصبح.

احتقنت رماديته واختفى لونهما الجذاب، ودنى باقي المسافة بينهما يردد بصعوبة بالحديث: ويوسف يديها مهدئ ليه؟

وتابع وعينيه تتجه لرقبته: وأيه على رقبتك ده يا عمران؟

ارتعب عمران من طريقة حديثه، ولف برقبته للمرآة المحاطة بصفحة المصعد فصعق  حينما وجد علامات أظافر جعلت الآن الصورة كاملة له بما يجوب بخلد أخيه.

ترخى ذراعيه عنها وكاد باسقاطها لولا ذراعي على التي حملتها وولجت بها للمصعد، مرددًا بغضب مدفون خلف هدوء مخيف: تعالى ورايا.


1=رواية صرخات أنثى للكاتبة آية محمد رفعت الفصل الأول

ترنح بمشيته وبصعوبةٍ بالغة تفادى سقوطه، فهم الخادم ليساعده، أوقفه صائحًا: هل جُننت أيها المعتوه، أعد ذراعيك اللعينة عني!

ابتعد الخادم للخلف، فوضع جاكيته على ذراعه واستكمل طريقه للداخل، قاصدًا  باحة المنزل الفخم، وبالأخص تلك الأريكة البيضاء المريحة، فجلس عليها  بإنهاكٍ وهو يتفحص ساعة يده التي تشير له بأنها الخامسة صباحًا، فردد  بضيقٍ: بتمنى متكنش فريدة هانم مستنياني فوق زي كل يوم حقيقي مش ناقص!

ابتسم بخبث وعينيه الماكرة تراقب باب الغرفة الماسد بالطابق الأول، فجذب  جاكيته وصعد للأول بخطواتٍ غير منتظمة، تفادى سقوطه على الدرج الرخامي  أكثر من مرةٍ، حتى وصل للغرفة، ولج للداخل وألقى جاكيته على المقعد الموضوع  جانبًا، وعينيه تراقب الغافلة على الفراش بتقززٍ، وبالرغم من انقباض  ملامحه الا أنه حرر قميصه وتمدد جوارها.

كانت تغفو بعمقٍ حينما شعرت بيدٍ تمتد على خصرها بتملكٍ، انقبض قلبها  وانتفضت بمنامتها بفزعٍ، فصعقت حينما وجدته يرمقها برومادية عينيه ببرودٍ،  فرددت برعشة اعتلت لسانها الثقيل: عمران!

منحها نظرة جافة، وذراعه تمتد لتجذبها لاحضانه مجددًا، حاولت الابتعاد عنه  خاصة بعد أن طالتها رائحته المنفرة، فقالت باستنكارٍ: إنت شارب! فريدة هانم  لو عرفت هتعاقبك تاني.

أظلمت عينيه وقيد حركة يدها خلف خصرها، فتأوهت ألمًا، وترجته بهدوءٍ  زائف: عمران إنت مش في وعيك، من فضلك إبعد والا وقسمًا بالله هصرخ وهلم  عليك البيت كله.

ابتسم ساخرًا، وردد بخشونة: غريبة المفروض اللي بيحصل بينا دلوقتي يكون على  مزاجك مش بردو كنتِ مقهورة وإنتِ بتشتكي لفريدة هانم إن من يوم ما اتجوزنا  وأنا مقربتلكيش!

جحظت عينيها صدمة، وانسابت دمعاتها وهي تدافع عن نفسها: محصلش أنا مقولتش لخالتو حاجة!

ذم شفتيه بسخطٍ، وهو يشير لها: قولتلك قبل كده أنا مبتخدعش بوش التماسيح  بتاعك ده يا بنت خالتي، وفري مجهودك بالكلام وركزي معايا، مع جوزك!

وأضاف وهو يمنحها نظرة منفرة: بصراحة ألكس زعلانه مني ورفضت تيجي معايا الاوتيل النهاردة، فأنتِ اللي هتشيلي الليلة.

صعقت مما استمعت إليه، تعلم جيدًا بأنه يرافق تلك الفتاة التي تدعو  ألكس، يرافقها أمام الجميع وأولهم فريدة هانم العاجزة عن ردع ابنها الصغير  عن لقاء تلك الشقراء، حتى بعد أن أجبرته على الزواج من ابنة شقيقتها التي  تعتبرها ابنة لها، ومع ذلك رفض الاعتراف بها كزوجة فكانت ألكس وجهة ظهوره  بكل مناسبة، وأحيانًا يصطحبها للمبيت بالمنزل دون حياء.

كم مرة انكسر قلبها وهي ترى زوجها يصعد لغرفته برفقة تلك الفتاة  المبتذلة، كم مرة بكت خلسة وعلنًا أمام جميع الأسرة، كم مرة أهانها وقلل من  شأنها كانثى قليلة الحيلة لا تملك ما قد يميل قلبه القاسٍ إليها، الا  يكفيه ما فعله بها طوال أشهر زواجهما حتى يهينها الآن تلك الاهانة؟

تدفقت دمعاتها تباعًا، والغضب يثور داخلها فجعلها شرسة لا تغلب تحت  ذراعيه الخبيرة، فركلته عنها حتى سقط أسفل الفراش وهي تصرخ بغضبٍ جعل من  تنتظره بغرفته تعلم بمكان وجوده: أنت أيه معندكش دم يا أخي، أنا مش رخيصة  عشان تقارني بالعاهرة اللي أنت ماشي معاها!

احتدت نظراته فنهض واتجه إليها ليجذبها من ذراعها وهو يصبح بانفعالٍ: لسانك ده لو نطق عليها حرف هقطعهولك يا

عمران.

ابتلع ريقه بارتباكٍ قبل أن يستدير لمواجهة الصوت الصارم، ليجد والدته  ذات الخمسة وأربعون عامًا، تربع يدها أمام صدرها وتحدجه بغضبٍ عارم، ترك  عمران ذراعها ووقف قبالتها، ليجدها تدنو منه قائلة بعصبيةٍ بالغة: قولتلك  ألف مرة صوتك ميعلاش على مايسان مراتك ولا تعاملها المعاملة المقرفة دي  تاني وبالرغم من كده بتكسر كلامي.

تحكم بانفعالاته بصعوبة، وصاح بتريثٍ: هي اللي بتستفزني بكلامها.

منحته نظرة ساخطة قبل أن تجابهه بحدةٍ: بس هي مقالتش حاجة غلط، الحقيرة اللي أنت ماشي معاها ملهاش مسمى تاني.

قبض معصمه بغضبٍ جعل الدماء تفور بمقلتيه، فانخفضت نظراتها المتفحصة  ليده ثم استرسلت بدون مبالاة لغضبه: بقالك سنين بتترجاها تتجوزك وهي رافضة،  مش لانها متحررة يا حبيبي لا لإنها وقحة عايزة تعيش معاك في الحرام وتتمتع  بفلوسك لحد ما تجيب نهايتك وبعدها هتدور على غيرك، بتلعبها صح ومش عايزة  تدبس نفسها مع راجل واحد.

صرخ بتعصبٍ غاضب: ماماااا

فريدة هانم.

رفضت منادته الصريحة، لتعيد له أصول تربيته، خشيت مايسان تدهور الأمور  بينهما، فنهضت عن الفراش تجذب مئزرها الأبيض ثم دنت من خالتها تخبرها  ببسمةٍ مصطنعة: فريدة هانم محصلش شيء لكل ده، عمران كان داخل يتكلم معايا  بخصوص ملف الصفقة اللي بينا وبين راكان المنذر وكنت هديله الملف وهيخرج  حالًا.

همهمت بتهكمٍ: ويخرج ليه المفروض يكون ده مكانه لكن هنقول أيه أخد إنه يأكل من الزبالة، وميبصش للنضافة.

كز على أسنانه حتى كاد باسقاطهما، وخاصة حينما قالت بحزنٍ: كنت فاكرة  إني لما أجوزك بنت عثمان باشا هتفوق لنفسك وتقدر الجوهرة اللي معاك، بس  للأسف إنت مفيش فايدة فيك.

وتطلعت لابنة شقيقتها، الابنة التي تقرب لقلبها كابنتها الصغيرة وقالت بنبرة مختنقة: حقك عليا، أنا اللي بليتك بابني.

احتضنتها مايسان وهي تردد ببكاءٍ: متقوليش كده يا خالتو أنا آ.

ابتلعت باقي كلماتها برعبٍ حينما استعادت فريدة ثباتها مرددة بغضب: فريدة هانم أيه خالتو دي!

واشارت لها مسترسلة بضيق: ثم اني قولتلك ألف مرة بلاش تبكى، الدموع والحزن بيكرمشوا الوش!

كبتت مايسان ضحكاتها بصعوبةٍ، وهي تشير لها: حاضر، أنا أسفة يا فريدة هانم.

ابعدت عينيها عنها وعادت تجابه من يجذب قميصه وملابسه بمللٍ، ثم قالت  بحزمٍ: دي أخر مرة ترجع فيها متأخر وسكران يا عمران والا تصرفي مش هيعجبك  وسبق وجربت.

ابتلع ريقه بتوترٍ، فهز رأسه بهدوءٍ، ثم كاد بالمغادرة فأوقفته قائلة:  قبل ما تخرج، اعتذر لمراتك على الكلام المتدني اللي قولته ليها.

ركل حافة الباب بقدميه بعصبيةٍ، وهو يجبر ذاته على نطق الكلمات دون أن يستدير لها: آسف.

وكاد بالخروج لغرفته، ولكنه توقف فور سماع صراخها الحازم: اعتذارك بالشكل ده مش مقبول، قرب من مراتك واعتذرلها باحترام.

رفع رأسه عاليًا وهو يسحب نفسًا مطولًا يزفره على مهلٍ، لينهي تلك  المهزلة، فاستدار إليهما واتجه بخطواتٍ سريعة إليها، وقف قبالتها يرمقها  بنظرة مشتعلة جعلتها تكاد تفر من أمامه لتختبئ خلف خالتها، فما أن رفع يده  حتى احتوت وجهها بيدها، فوجدته يقرب رأسها إليه ليطبع قبلة مغتاظة كادت  بتهشم جبينها وهو يهمس بأنفاسٍ لاهثة من فرط تعصبه: سامحيني يا حبيبتي أنا  غلطت في حقك.

هزت رأسها وهي توزع نظراتها المرتبكة بينه وبين فريدة هانم، فرددت بخوفٍ: محصلش حاجة.

مال برأسه لوالدته مرددًا: أقدر أرجع أوضتي يا فريدة هانم ولا لسه في حاجة تانية؟

ابتسمت وهي تشير له بغرور: تقدر تروح، بس اعمل حسابك مايسان هتصحيك بدري  عشان هتروح مع شمس الجامعة بكره، في مشكلة عندها وعايزاك تساعدها.

تفحص ساعته بصدمةٍ: بس صعب أنا مش هلحق أنام كده، خليها تأخد على معاها.

أجابته بصرامةٍ: أنا قولت إنت اللي هتروح مع أختك، على بره في المستشفى لسه مرجعش البيت.

واستطردت بسخريةٍ: وأهو بالمرة تروح معاها حفل افتتاح شركة راكان خطيبها ولا مش معزوم عليها!

منحها نظرة مغتاظة، قبل أن يهز رأسه وينسحب لغرفته، فتوقف بالخارج فجأة  حينما استمع لزوجته تردد بفرحةٍ: برا?و يا فريدة هانم، عمران مكنش عمره  هيروح حفل الافتتاح ده ومتتخيليش الحفلة دي مهمة لشركاتنا ازاي؟

أشارت لها بكبرياءٍ: أنا قولتلك هخليه يروح وكلمتي واحدة.

واسترسلت بحزمٍ: يالا هسيبك تريحي شوية وهروح أكلم على أشوفه إتاخر ليه كده  هو كمان وأول ما تصحي تفوقي شمس وتعالولي في الجناح، عشان تقيسوا الفساتين  والكوليهات اللي اشتريتها ليكم.

وتابعت وهي تغادر للخارج: لازم تكونوا وجهة مشرفة لعيلة سالم عشان راكان المنذر يعرف هو ناسب مين!

ولج لغرفته بغضب من سماع خططتها الوضيعة، فألقى جاكيته على الفراش  بعصبية، وجاب الغرفة ذهابًا وإيابًا وهو يهتف: كده ماشي يا مايسان أنا  هعرفك.

وابتسم بمكر وهو يجذب هاتفه ليحرر زر الاتصال بعشيقته متابعًا: هتحضري  معايا الحفلة بس أوعدك هيبقى يوم متنسهوش أبدًا عشان بعد كده تحرمي تتذاكي  على عمران سالم!

بين غيمة الليل المظلم المغدف، كانت تخطو بفستانها الأبيض بخطواتٍ  بطيئةٍ ومن خلفها طرفه الطويل يلامس الأزهار الذابلة الملقاة أرضًا  بإهمالٍ، فتشابكت بأطرافه واتبعتها كالظل الملازم لها، كأنها تزف لها بشرى  سيئة لما ستجده الآن من مصيرًا بائسًا ينتظرها، استدارت للخلف وخصلات شعرها  الفحمي يتمرد على كتفيها كالشلال المحاط بجوهرتها الثمينة.

شعرت بحركة خافتة تتبعها، فاستدارت صاحبة الفستان الأبيض بإِرْتِيَاع  لمصدر الصوت المزعج، انقبض قلبها الخافق بين ضلوعها حينما وجدت ثلاثة ذئاب  تلهث بشراسةٍ وأعينهم لا تحيل عنها.

تراجعت للخلف بخوفٍ وهي تراقب اقترابهم الخطير منها، تراجعت حتى احتجز  جسدها بين ثلاثة حوائط، عقدت مستطيل حولها وأربع أضلاعه موجه بالذئاب التي  بدأت تنهش عظامها.

وفجأة انقلبت الثلاثة ذئاب لأجساد بشرية، ذكورية، متحجرة، تستباح جسدها دون رحمة منهم أو شففة لبكائها وتوسلاتها.

صرخات مكبوتة لإنثى جُردت من كبريائها، وكأنها سلعة رخيصة استباحها اللعناء  لينتزعوا شرفها، عفتها، لوثوا طاهرتها البريئة وأدموا بعذريتها.

برزت عروقها بقوةٍ، ورأسها يدور على وسادتها التي تحمل دمعاتها على  سطحها الرقيق، تمردت حركة جسدها بعنفٍ، وصوتها مكبوت، عاجز عن الصراخ،  فانتبهت الممرضة الغافلة على المقعد المجاور لفراشها لحالتها الغريبة،  فنهضت عن مقعدها وركضت خارج الغرفة الطبية التابعة لمشفى من أهم المستشفيات  التابعة لدولة انجلترا، تصيح بجنونٍ: دكتور علي!

بأحد غرف المشفى المخصص لعلاج الطب النفسي، التي تحمل لافتها اسم د. على سالم.

كان يجلس على مكتبه يتابع حاسوبه باهتمامٍ، وبين يده نوته الخاص، يدون  به ملاحظاته الهامه لعلاج الحالة المطروح من أمامه التسجيل الأخير من  مناقشاته معها، ينصب تركيزه التام على اشارات يدها ويتمعن بقوةٍ بكل حرفٍ  نطقت به، ويقارنه بما دونه مسبقًا وقت جلوسه معها، زفر على بمللٍ، نزع عنه  نظاراته الطبية واستكان بجسده الممشق لخلف مقعده، يفرك عينيه بارهاقٍ،  وعقله شارد بتلك التي آسرت قلبه ويقف هو بمؤهلاته وشهادت وسامه عاجزًا عن  معالجتها، مر أكثر من ثمانية شهور منذ تركهما لمصر وقدومهما لانجلترا ولم  يحرز أي تقدم بحالتها، صامتة كزخات الموت البارد، يود بكل ذرة بداخله أن  يستمع لصوتها ولو لمرةٍ.

يرى رغبة الموت تنعكس جبريًا داخل حدقتيها، ومع ذلك مازال يبذل أقصى ما  بوسعه، خاصة بأنه ليس طبيبًا عاديًا، وسعت شهورته لتمكنه وبراعته من علاج  أكثر من حالة كان يستحيل علاجها، وأغلبها تابع للعائلات الهامة من انجلترا  وغيرها من الدول الأخرى.

كان يُطلب بالإسم لعلاج الشخصيات الهامة من المشاهير وغيرهم، ومع ذلك  يقف عاجزًا أمام حالة فطيمة التي تجعله حائرًا عما يصيب قلبه تجاهها، يرغب  دائمًا بالبقاء جوارها لساعاتٍ طويلة مع إنها لا تشعر بوجوده أبدًا.

نهض على عن مقعده ودنى من شرفة مكتبه، ليحرر ستائره البيضاء وهو يلتقط  نفسًا مطولاً ويده تمشط خصلات شعره البني المتناثر على جبينه، ملامسة عينيه  الرمادية، ويده مربعة أمام صدره مخاطبًا ذاته.

«وبعدين يا علي، بقالك 8 شهور بتحاول بس إنك تخليها تتكلم!

معقولة يكون كلام الدكتور أبراهام صح، وحالتها ميؤس منها وملهاش علاج!

لا مش معقول الكلام ده، أكيد حالتها ليها علاج، إنت عمرك ما استسلمت يا على  عشان تعملها دلوقتي، ابذل كل مجهودك معاها وأكيد هتلاقي تحسن».

وأغلق عينيه وهو يحاول تذكر أي تحسن بسيط قد حاذ به بعد رحلة علاجه  الشاقة، فتجعد جبينه حينما طاف إليه ملاحظته الطفيفة، فركض لمكتبه يجذب  النوت الخاص بحالة فطيمة ودون

«بعد ثمانية أشهر من بدء جلسات العلاج لم أتمكن من ارغامها على الحديث،  مازالت صامتة ترفض الحديث عن ماضيها ولكن ما تمكنت من فعله الأهم من دوري  كطبيب.

الآمان.

بالبداية كانت تنزعج كليًا من وجودي لجوارها بمكان واحد، جسدها يتشنج  وترفض سماع أي كلمة تنبصق على لساني، ولكن الآن تتقبل وجودي لجوارها، تستمع  لمحاولاتي البائسة بحثها على الحديث باسترخاء حتى وإن لم تتحدث لي ولكن  بالنهاية لم تنفر من وجودي مثلما تفعل مع أي طبيب يحمل لقب ذكر بهويته! ».

ترك على القلم عن يده حينما استمع لرنين هاتفه الذي يلمع بإسم فريدة  هانم، ضم على شفتيه معًا وسحب نفسًا مطولًا قبل أن يجيب بحماسٍ: فريدة  هانم، موبيلي المتواضع بيرقص في حالة من عدم الاستيعاب.

وصلت ضحكاتها لمسمعه، وأجابته: دكتور على البكاش اللي مش هيبطل يغلبني بكلامه.

وتابعت بضيق: وبعدهالك يا على كل ليلة هتقضيها عندك بالمستشفى ولا أيه؟ وبعدين مش كان بينا وعد؟

رد عليها بحرجٍ: أنا عارف إني وعدت حضرتك بإني هرجع كل يوم بدري بس غصب  عني حالة فطيمة اللي كلمت حضرتك عنها قبل كده صعبة ومازلت بحاول معاها،  ابنك الدكتور المحترف عاجز عن علاجها.

صوتها الغاضب أتاه يحذره: هو إنت مبقاش على لسانك غير اللي إسمها فطيمة دي،  ما قولتلك قبل كده سلم ملفها لأي دكتور تاني، أنا كنت واثقة إنك مبقتش  ترجع البيت بسبب الحالة دي وهضطر أكلم دكتور ألبرت يشوف حل للموضوع ده.

ردد متلهفًا: لأ من فضلك بلاش تكلمي المدير يا ماما. أأقصد يا فريدة  هانم، هتضيعيلي خطة العلاج والمجهود اللي بذلته طول الشهور اللي فاتت من  فضلك.

رق قلبها إليه، فقالت: تمام بس توعدني إنك مش هتبات بره البيت تاني، عمران  أخوك مبقتش قادرله لوحدي يا على عايزاك جانبي تفوقه من اللي هو فيه.

اعتلى الضيق معالمه، وتساءل بضجرٍ: عمل أيه تاني الاستاذ؟

أجابته بضيقٍ: كل يوم بيرجع وش الفجر وهو سكران.

جحظت عينيه صدمة، فقال بعدم تصديق: حصلت أنه يشرب خمرة!

ردت بسخط: ومستني أيه منه طول مهو متلم على السنكوحة اللي إسمها ألكس هي  والشلة الحقيرة اللي معاها، المشكلة إنه مش قادر يستوعب إنها لا تليق باسمه  ولا تنفعه ومع ذلك لسه بيقابلها ومش مدي اهتمام خالص لبنت خالتك.

كان حذرًا باختيار رده: يا فريدة هانم حضرتك عارفه من البداية إن عمران  مهوس بألكس حضرتك اللي صممتي تجوزيه مايسان وهو مش بيحبها فكل ده كان متوقع  من البداية.

أجابته باعتراض: ده لمصلحته ولو أخر يوم في عمره مش هسمحله يدخل الحقيرة دي وسطينا.

ونهت حديثهما الغير مستحب لها حينما قالت: المهم، إرجع البيت عشان حفلة افتتاح الشركة الجديدة لراكان خطيب أختك.

وتابعت: أنا جبتاك بدلة فخمة، هتلاقيها متعلقة في أوضتك.

ضم منخاره بتأففٍ من عاداتها الغير مجدية للتغير، قائلًا: مكنش له داعي، أنا كنت هلبس أي بدلة رسمية من عندي.

اعترضت لما قال، وكأنه تفوه بحماقاتٍ، فصاحت: على من فضلك حافظ على شكل العيلة، وسبق وإتكلمت معاك قبل كده.

ردد بعدم تصديق: وهي يعني البدالة اللي هترفع من مكانة العيلة!

واستطرد بيأسٍ: حاضر يا فريدة هانم، هكون في الحفل بالمعاد وبالبدالة اللي حضرتك اختارتيها.

أجابته بإعجابٍ: عفارم عليك يا دكتور.

أغلق الهاتف وهو يلقيه على مضضٍ، ليتفاجئ بالممرضة تقتحم غرفته وهي تردد  بنبرتها الانجليزية: دكتور علي، على ما يبدو بأن المريضة فطيمة تواجه  مشكلة ما، أرجو أن تسرع لغرفته في الحال.

فور نطقها بإسمها حمل حقيبته الطبية وركض إلى غرفتها بهلعٍ، جعل المحاطين  به يتأملونه وهو يتخلى عن مكانته ومظهره المعتاد ويركض كالأحمق، ولج على  لغرفتها سريعًا وإتجه للفراش، فتيقن إليه عودة تلك الاحلام المنفرة إليها.

سبق له العلم بمختصر ملفها الطبي بما خاضته مسبقًا، لذا كان يعلم ماذا  يزورها بكوابيسها، فحاول أن يجعلها تسترد وعيها حينما ناداها بلهفةٍ:  فطيمة، سامعاني؟

وهز جسدها وهو يردد: ده كابوس ولازم تفوقي منه.

وحينما لم يجد أي ردة فعل، جذب جسدها إلى صدرها ليرغمها على الجلوس وهو يناديها: فطيمة. افتحي عيونك.

رفعت أهدابها بتثاقل عن بنيتها الدامعة، فتقوست معالم وجهها بشراسة  وجسدها ينقبض بين ذراعيه دون توقف، ارتعب على من حالتها الغير مبشرة  بالمرة، فصاح بالممرضة التي تراقب الوضع من أمامها: أشلي احضري لي إبرة  ال## في الحال.

أومأت برأسها واتجهت للحقيبة التي تركها، فملأت الأبرة الطبية بمحتويات  العُلبة التي أخبرها بها، وناولتها له، فقيد على حركة جسدها المنفعلة  بحرافيةٍ، وزرع الأبرة داخل عرق رقبتها المنتفض، وبسهولة تمكن من بث  محتويات الأبرة الطبية داخلها، فاستكانت حركة جسدها في نفس لحظة خروج  المحقن من جلد رقبتها.

مالت فطيمة برأسها على ذراعه، وعينيها الباكية تتأمل عينيه القريبة منه  بسكونٍ رغم اندمال دمعاتها دون توقف، وكأنها تشكو إليه بنظراتها الصامتة  قسوة ما تتعرض له، تألم قلبه وذُبح فؤاده، لا يعلم ما يصيبه حقًا وهو  لجوارها!

ظل يتأملها لدقيقةٍ ونظرات الممرضة لا تفارقهما بدهشة اعتادتها تجاه علاقته الغريبة بتلك المريضة المغربية.

تهدل ذراع على الحامل لرأسها على الوسادة وظل لجوارها يبعد عنها خصلات  شعرها المتمردة على عينيها وهو يهز رأسه مرددًا وعينيه لا تفارق نظراتها  المستكينة عليه: ده كابوس وانتهى يا فطيمة، إنتِ بخير ومفيش حد يقدر يمسك  بسوء تاني.

اهتزت الصورة من أمامها، وأغلقت جفنيها الثقيل استسلامًا لفعل المنوم  السريع لتهدئة أعصابها، ومازال على لجوارها، نظراته منصوبة عليها بتأثرٍ،  وكأن نظراتها نفذت داخل أضلعه مستهدفة قلبه المسكين، ضعيف القوة أمام وجهها  الملائكي، ومشاعره التي حملها لها منذ لقائهما الأول بمشفى القاهرة!

تململت بنومتها بانزعاجٍ حينما قبضت ذراع مايسان على ذراعها وهي تحاول افاقتها مرددة: يوه بقى يا شمس، كل يوم تطلعي عيوني لما تقومي!

واسترسلت بمكرٍ وهي تتجه للباب: أنا كده هروح أنادي فريدة هانم تيجي هي تقومك بنفسها.

فتحت بنيتها بصدمةٍ، وتخلت عن غطاءها وعروستها اللعبة التي لا تتركها، وهي تصيح برعبٍ: لا تفعليها مايا، انظري لقد استيقظت.

ضحكت وهي تراقبها تركض لحمام الغرفة، فلحقت بها تقف على باب الحمام،  فرأتها تغسل وجهها بسرعةٍ، هزت رأسها باعجابٍ: شكلي كده عرفت كلمة السر  اللي هستخدمها معاكِ كل يوم.

وأشارت لها قبل أن تبتعد: متلبسيش هدومك، فريدة هانم بنفسها جابتلك فستان وشوية والخدم هيوصلوهولك.

تهدلت معالمها بضيقٍ ملحوظ: بس مامي ذوقها مش بيعجبني يا مايسان.

وقفت أمام المرآة تعدل من حجابها الفضي، وكنزتها السوداء لتجيبها  ومازالت ترتب حجابها: لو عتدك الجرءة روحي وبلغي فريدة هانم بكلامك غير كده  فأنا مش هقدر.

ازاحت شمس عن شعرها الأسود المنشفة، وهي تجيبها بسخرية: لن أفعلها  بالتأكيد، على أي حال سأرتديه مرغمة مثل ذهابي للحفل الممل الذي لا أرغب  بالذهاب إليه.

واسترسلت ببعض الألم الذي تسلل لزوجة أخيها: ومثل الزوج المثالي الذي إختارته لي فريدة هانم، كل شيء هنا يحدث دون رغبة مني.

تحركت مايسان بعيدة عن المرآة، فجلست جوارها واضعة يدها على ساقيها وبحنان  قالت: شمس حبيبتي، عايزة أقولك حاجة وإفهميها كويس، فريدة هانم مش أنانية  هي بتختارلك الأصلح والأفضل ليكي راكان شخص محترم وبيحبك ولو عايزة رأيي  هقولك إنتِ كده كده مفيش حد في حياتك فخلاص اديله فرصة وأكيد هتحبيه.

زفرت بضيقٍ وقالت: هحاول أديله فرصة مع إني مش طايقاه!

انتهى على من عمله، فوضع الحاسوب الصغير بحقيبته السوداء ثم جمع دفتره  والأوراق، نزع عنه البلطو الطبي واستعد للمغادرة فإتجه للدرج، وتوقف فجأة  والبسمة تطوف به، أراد أن يودعها قبل مغادرته المشفى، لقائه المستمر بها لا  يشبع عينيه التي ترغب بالتطلع لوجهها الهادئ، برائتها الطاغية عليها.

طرق على الباب فانتبهت الممرضة التي تهم للمغادرة إليه، هز رأسه بتحية  مختصرة إليها وهو يستكمل طريقه للمقعد المقابل لفطيمة الجالسة على الفراش  وعينيها تهيم بالفراغ بشرودٍ، أوقف على الممرضة قبل خروجها حينما قال  بعصبية وهو يجذب الحجاب الملقي جوارها بإهمالٍ: أخبرتك كثيرًا بإن فطيمة  مسلمة، من فضلك لا تتركيها دون حجابًا مجددًا.

زمت الطبيبة الانجليزية فمها بسخطٍ، ومع ذلك ردت ببسمة سخيفة: حسنًا.

قالتها باقتضابٍ وغادرت، فجلس على مجددًا وعلى وجهه ابتسامة ساحرة،  يراقب تلك التي تهيم بالفراغ بجمال عينيها وانتظام أنفاسها، فقال وقلبه  يخقق إليها: تعبتيني معاكي يا فطيمة، بقالي 8شهور بحاول معاكِ وبردو مفيش  أي نتيجة.

زوى حاجبيه باستغراب لحق نبرته: أنا كنت فاكر إنك لما تيجي هنا هتتحسني،  اللي مستغربه بجد إني وأنا في مصر سمعتك بتغني قبل كده في المستشفى، وكنتي  بتتكلمي مع الدكتورة يارا وحالتك كانت بتستجيب ليها.

واسترسل وهو يتساءل بحزنٍ: معقول حالتك اتدهورت لما أنا اللي مسكت ملفك!

لم يرمش لها جفنًا وكأنها لم تسمعه من الأساس، فابتسم وهو يقول بصوته  الرخيم المحبب لها: متقلقيش أنا مش جايلك دلوقتي عشان نبدأ جلستنا أنا كنت  راجع البيت وحبيت أعدي عليكي.

وتابع وعينيه لا تتركها: أقولك سر.

خطف نظرة متفحصة حوله قبل أن يقترب بمقعده لها وهو يتابع بهمس: أنا برتاح  أوي لما بشوفك، بحب الهدوء والسكينة اللي بحس بيهم وأنا جانبك.

وردد بمرحٍ: مش عارف مين فينا الدكتور المعالج هنا أنا ولا إنتِ!

ضحك بصوته الرجولي الجذاب، ورفع يده يتابع ساعة يده، فأسرع بالنهوض وهو  يشير لها: يا خبر إتاخرت جدًا، فريدة هانم هتعلقني على سور البيت، ده لو  بوابته اتفتحت ليا أساسًا.

واسترسل بمزحٍ: فريدة هانم دي تبقى والدتي.

واتجه للخروج ثم عاد يميل للفراش وهو يغمز لها: سر تاني هقولهولك فريدة  هانم مبتحبش حد يقولها ماما لازم فريدة هانم عشان حياتنا تستمر مع إن إسمها  مكتوب في شهادة الميلاد إنها أمي بس هي مش مقتنعة بده.

وغادر على الفور، ليته انتظر دقيقة واحدة ليرى البسمة التي تركها على  وجه التي البائسة التي مازالت تحارب الذئاب التي تنهش لحمها المهتري!

فور خروجهما من الجامعة، تحرك بهما عمران للحفل وهو يراقب هاتفه ببسمة  ماكرة، أقسم على رد الصاع إليها، وجودها بالشركات لجواره لا يرغب به لإنه  يعلم بأنها تصل كل شاردة وواردة لوالدته، عدل عمران المرآة ليتمكن من  رؤيتها جيدًا، فوجدها تتحدث مع شقيقته شمس الجالسة لجوارها، فاستكمل طريقه  حتى وصل بهما لمقر الحفل الصباحي، هبط برفقتهما، جاذبًا بوكيه الورد من  صندوق السيارة، ثم أشار لشقيقته: يلا يا شمس، ادخلي.

هزت رأسها وتركتهما وولجت للداخل تبحث عن راكان لتكن لجواره بمناسبته،  بينما انتظرته مايسان لتدخل معه فوجدته مازال يقف بالخارج، تساءلت بدهشة:  مش هندخل ولا أيه يا عمران؟

منحها نظرة كراهية، قبل أن يُحقر من شأنها: إنتِ فاكرة إني هدخل الحفلة معاكي إنتِ!

جحظت عينيها بصدمةٍ وهي تحاول تحليل حديثه المبطن، فدنت منه وهي تردد  بذهولٍ: أوعى تقولي إنك هتجيب الحيوانة دي وتظهرها قدام الصحافة  والتلفيزيون، دي كانت خالتي راحت فيها!

وضع يده بجيب جاكيته وجذب العلبة الزرقاء القطيفة وهو يجيبها: ومش بس كده، جايبلها خاتم ألماظ تمنه فوق ال30مليون دولار.

غرس سهمًا قاتل بصدرها، فكادت دمعاتها بالانسدال على وجهها، ومع ذلك  قالت بثبات: عمران الحفلة كلها رجال أعمال مينفعش تبان قدامهم بالشكل ده،  صدقني أنا خايفة عليك وعلى مكانتك وسطهم أ.

أعاد العُلبة بجيب جاكيته، وقال ساخرًا: والله مكانة شركاتي دي تخصني  لوحدي، ولا تكونيش فاكرة إن العشرة في المية اللي كاتبتهملك فريدة هانم بعد  الجواز هيدوكي الحق إنك تشوفي نفسك من ملاك الشركات.

قبضت على حقيبتها الفضية بقوةٍ، ومازالت تحاول التحكم بانفعالاتها،  فقالت: سبق وقولتلك ألف مرة إني مش عايزة حاجة، ومستعدة أتنازلك عنهم  حالًا.

وتابعت بقسوة لتسترد حق كرامتها المهانة: إنت الظاهر اللي بتنسى ونسيت أنا أبقى مين وبنت مين؟

دنى منها فتراجعت للخلف حتى اصطدم جسدها بالسيارة فباتت محاصرة به،  تطلعت لعينيه الرمادية بارتباكٍ وحبًا تجاهد بدفنه داخلها، واتجهت لشفتيه  التي تردد بحنقٍ: فلقتيني بابوكي وبنسبك العظيم يا بنت الأكابر.

ومال لرقبتها يهمس باستحقارٍ: ما كنتِ اتجوزتي واحد من شركاء أبوكي ورحمتيني من البلاء ده.

تهاوت دمعتها رغمًا عنها، فابعدتها عن وجهها، وهي تردد بثبات: عمران لما  نرجع بيتنا هني براحتك، دلوقتي خلينا ندخل قدام الصحافة وبلاش تنفذ اللي  في دماغك، فريدة هانم ممكن تعاقبك لو اتسربلك خبر مع البنت دي.

وتابعت وهي تبتلع خصتها المؤلمة: جوه إبقى أقف مع الهانم بتاعتك براحتك.

راقب ثباتها الغريب بدهشةٍ، ومع ذلك ردد بسخرية: خايفة عليا من عقاب فريدة هانم ولا خايفة الصور توصل لعثمان بيه أبوكي!

منحته نظرة شملت الألم بين طياتها، فتجاهلته واستقامت بوقفتها متجهة للداخل، لحق بها عمران ومازال يحاول العثور على عشيقته.

وجدته يقف برفقة رجال الأعمال، فتصنعت بسمتها الرقيقة ودنت منه تناديه على استحياءٍ: راكان.

استدار لها بقامته الطويلة، وهو يعدل من جاكيت بذلته الزرقاء، ليردد ببسمةٍ هادئة: أووه بيبي!

وضمها إليه وهو يشير للرجال المحاطين به: أحب أعرفكم، شمس هانم خطيبتي.

قابلتهم ببسمةٍ مجاملة وايماءة رأسها، مرت الدقائق عليها ومازالت تقف  جواره، تجده مشغول بالحديث برفقة رجال الاعمال عن المشروعات والصفقات  القادمة، مثلما اعتادت منه حينما يزور قصرهم، يقضي الوقت برمته برفقة أخيها  عمران بالحديث عن الأعمال، شعرت شمس بالملل، فمررت أعينها على مراسم الحفل  بنفورٍ، فلمحت سلم رفيعًا جذب انتباهها، لاحت على شفتيه ابتسامة تسلية،  فتسللت للبوفيه الموضوع، ثم جذبت منه طبقًا به خبز التوست، والتقطت  النوتيلا الصغير الموضوعة جانبًا، وتسللت للدرج الصغير المؤدي للأعلى، لا  تعلم بأنه يسوقها لقدرها المحتوم!

ترك راكان الجمع فور رؤيته لعمران وزوجته، فاتجه إليهما يرحب باحترامٍ: عمران باشا منور الحفلة.

احتضنه عمران وهو يهنئه قائلًا: مبارك يا وحش السوق.

رفع حاجبيه باستنكارٍ: هنيجي فين جانبك.

وتابع بمزحٍ: بنحاول نتعلم منك احنا لسه بنبتدي على الهادي.

تعالت ضحكاتهما، ليقطعها صوت مايسان الرقيق: ألف مبروك يا استاذ راكان وأن شاء الله تكون فتحة الخير لحضرتك.

منحها ابتسامة واسعة، وهو يشير لها بامتنانٍ: مايسان هانم أشكرك، حقيقي تشريفك هنا النهاردة ده شرف ليا.

رد على استحياء: الشرف ليا أنا.

وتساءلت باستغراب وهي تتفحص القاعة: أمال فين شمس؟

استدار حوله وقد تذكر أمرها: كانت هنا من شوية.

بزغت عينيها صدمة، حينما أحاطت تلك الأفعى بزوجها، تضع القبلات الجريئة على خده وعنقه وهي تردد بمياعةٍ: افتقدتك عزيزي.

لف ذراعه حولها بفرحةٍ وهو يردد: كنت واثق أنكِ ستأتين.

رمش راكان بعينيه بدهشةٍ، من رؤيته لتلك الفتاة تحتضن عمران بتلك  الطريقة الفاضحة أمام زوجته، وعلى ما يبدو له ادراكها للأمر مسبقًا، لم  يعنيه الأمر كثيرًا فتلك الامور المعتادة بين طبقة رجال الأعمال، فانسحب من  بينهما حينما وجد على يدلف من باب القاعة، أسرع إليه يرحب به: دكتور على  مش معقول إنك أخيرًا خرجت من قوقعتك الطبية وجاي تحضر معانا الحفلة!

ضحك وهو يضمه ليهمس له بحنق: مجبور والله يا ابو نسب، دي أوامر فريدة هانم ولازم تتنفذ ما أنت عارف.

تعالت ضحكاته بعدم تصديق لما تفوه به، فتابع على وهو يتفحص الجمع: أمال فين عمران وشمس؟

أشار له على الطاولة التي جمعت أسرته، فتركه وولج للداخل ليتفاجئ  بمايسان تجلس على الطاولة بمفردها وعينيها تجوب من يقف بالبعد عنها يحتضن  عشيقته ويضمها لجسده بطريقة مخجلة، دنى منها فما أن رأته حتى أزاحت دموعها  وهي ترسم بسمة صغيرة مرددة: علي!

جلس قبالتها يتأملها بحزنٍ، فقال وهو يقدم لها علبة من المناديل: امسحي دموعك يا مايسان، الكلب ده ميستهلكيش.

وردد وهو يتابع أخيه: بس متقلقيش أنا هعرف ازاي أوقفه عند حده هو والزبالة اللي معاه دي!

بأعلى سطح الشركة.

جلست على السور الخارجي، تضع النوتيلا على الخيز وتتناولها بتلذذٍ،  قدميها ترفرف بحرية واستمتاع، خصلات شعرها المموج تتطاير من خلفها وضحكاتها  تتناثر دون توقف وهي تقص موقفها المضحك لرفيقتها، فقالت وهي تقضم قطعه من  الخبز: اهدائي قليلًا جومانه، ماذا عساني أفعل بالأسفل، راكان الأحمق لا  يجيد سوى الحديث بما يخص الشركات، ليته يعلم بأنني لا أطيق رؤية وجهه  الساذج.

انكمشت تعابيرها بغضب لحق نبرتها: بربكِ يا فتاة، تعودين لاسطوانة رجل الاعمال الناجح الوسيم أنا لا أراه وسيمًا!

وأغلقت الهاتف وألقته جوارها وهي تردد: هحجزلك كرسي جنب فريدة هانم، عشان تحكوا طول النهار عن الطبقة الآرستقراطية!

أيه ده إنتي بتتكلمي عربي!

صعقت حينما اقتحم صوتًا ذكوريًا عالمها المثالي، فاستدارت للخلف تراقب  من يقف خلفها، لتجده شابًا جذابًا يرتدي حلى سوداء اللون، شعره بني غزير  مصفوف بحرافيةٍ وكأنه قضى نهاره بتصفيفه، عينيه سوداء قاتمة كسواد الليل  المخيف، اقترب منها وهو يحاول منع ضحكاته بالوصول إليها، وخاصة وهو يتفحص  ما بيدها، فقال وهو يشير بعينيه: في نوتيلا على وشك!

حاولت ازاحتها بيدها فسقط الطبق منها، رفعت يدها الاخرى تزيح بها فسقطت  عنها النوتيلا، انفجر ضاحكًا على هيئتها، فاقترب منها وهو يشير: خليني  أساعدك.

وانحنى يجمع ما سقط عنها ومازالت تراقبه عن كثبٍ، فقالت بارتباك: أنت سمعت كلامي كله؟

رفع عينيه إليها وهز رأسه مبتسمًا، ابتلعت ريقها بتوتر وتساءلت بحماقة: هتقول لحد؟

قدم لها النوتيلا وصمته يطول به ويقلقها، إلى أن قال بثبات: إنتِ عندك حق الجو تحت ممل، خليكي هنا مع النوتيلا.

وتركها وكاد بالمغادرة، فاوقفته قائلة: استنى عندك، مقولتليش إنت مين؟

استدار إليها ليطوفها ببسمةٍ هادئة، قبل أن ينطق: أنا آدهم الحارس الخاص براكان باشا ودراعه اللمين.

انفلت فمها أرضًا، فتعالت ضحكاته مجددًا، فدنى إليها وهو يتفحص ملامحها  الملائكية بنظرة خاطفة، قبل أن يهمس لها باحترامٍ: أنا مشوفتكيش ومسمعتش  حاجة، متقلقيش يا شمس هانم.

منحته ابتسامة رقيقة، ورددت بتشتتٍ: أنا بشكرك. بس أنا فعلا بشوف راكان ده شخص بارد ومعقد.

اصابته نوبة ضحك مجددًا، تخلى عنها فور سماعه رنين هاتفه، فرفعه وهو يحاول  جاهدًا السيطرة على ضحكاته مرددًا: أيوه يا باشا، دقايق وهكون عندك.

وتركها وكاد بالمغادرة ولكنه استدار ليخبرها: أنا كمان نظرتي ليه شبه نظرتك.

وغادر تاركًا بسمة ساحرة مرسومة على شفتيها، فضمت النوتيلا إليها وهي تردد بعينين ترمشان دون تصديق: معقول أكون لقيت فارس أحلامي!

بالأسفل.

تعلقت عينيها بالخاتم الالماسي بعدم تصديق، فتعلقت برقبته وهي تردد بعدم تصديق: أووه حبيبي. شكرًا لك.

ابتسم وهو يهمس لها بجراءة: لا. اشكريني حينما نصبح بمفردنا بغرفتنا، أشتاق لكِ ألكس.

أمسكت يده وغمزت له: فلنذهب اذًا.

توقف عن تتبعها حينما أوقفه علي، ليصبح في مواجهته، لعق عمران شفتيه بارتباك وهو يردد: علي!


2=رواية صرخات أنثى للكاتبة آية محمد رفعت الفصل الثاني

وزع نظراته الغدافية بينه وبين تلك الفتاة التي ترتدي ثيابًا شبه  عارية من أمامه، غض على بصره عنه ليسلطها على أخيه، آمره بنبرة قطعية:  عايزك. تعالى معايا حالًا.

ابتلع ريقه الجاف بصعوبةٍ، وردد بصوتٍ منخفض: بس آآ...

قاطعه على بحزمٍ: قدامي يا عمران، بدل ما صوتي يعلى قدام الناس.

دنت ألكس من عمران تتحسس صدره بطريقة تقزز منها على للغاية، وقالت بدهشةٍ: ما الأمر عمران؟

حاول عمران إبعادها عنه وهو يتابع نظرات أخيه القاتلة، فهمس لها: انتظريني بالفندق ألكس، سألحق بكِ بعد قليل.

هزت رأسها على مضضٍ، وتركتهما وغادرت، فاحتل ثغرها ابتسامة تسلية فور رؤية  زوجته تجلس على الطاولة القريبة منهم، فاتجهت وجذبت المقعد المقابل لها،  تشنج جسد مايسان فور رؤيتها لها تجلس قبالتها، فصاحت بانفعالٍ: من سمح لكِ  بالجلوس هنا.

دنت بجسدها من الطاولة وهي تخبرها بمياعةٍ: ستعتدين رؤيتي بأي مكانٍ يزوره عمران.

تهجمت معالم وجهها بصورةٍ ملحوظة، فوضعت ألكس ساقًا فوق الأخرى لتتعمد أن  تريها ساقيها البيضاء العارية من أسفل الهوت شورت المقزز الذي ترتديه،  مسترسلة: هيا مايسان عليكِ تقبل وجودي بحياة زوجك، استسلمي لتلك الحقيقة.

زوت حاجبيها بتهكمٍ: حقيقة إنكِ وقحة وعاهرة رخيصة.

تعالت ضحكاتها بشكلٍ صدم مايسان التي تأملتها بتقززٍ، وكأنها معتادة  لسماع تلك الكلمات البذيئة، تعمدت ألكس أن تنهض وتجلس قبالتها على الطاولة  لتستمع لما تقول جيدًا: لا، حقيقة إن عمران لن يقترب منك ما دمت أنا  بحياته، بربك كيف سيراكِ وعينيه لا ترى سوى جمالي.

وجذبت سيجارًا تضعه بفمها وهي تستكمل بتحدٍ: اقترب اليوم الذي سيجردك به عمران من زواجك أعدك بذلك.

ونهضت من على الطاولة وهي تسحب به حقيبتها لتغادر، فتفاجئت بها تجذبها  لتقف أمام عينيها، لتخبرها مايسان بتحدٍ وقوة لم تغادر شخصها القوي أبدًا:  وأنا أعدك بأنني لن أترك زوجي لعاهرة وضيعة مثلك، لا تنتظري هذا اليوم  عزيزتي، لآنه إن أتى ستكونين إنتِ المجردة ولست أنا.

وتركتها مايسان وغادرت تحت نظرات ألكس المشتعلة، فرددت بحقد: لنرى من منا سينتصر بالنهاية.

بالقرب من مقر شركة راكان المنذر.

وقف قبالته يصيح بغضب جعل عروفه بارزة للغاية: خلاص مش لاقي حد يوقفك عند حدك يا عمران!

رفع رأسه إليه وقال بهدوءٍ: أنا معملتش حاجه يا علي، فريدة هانم اللي أجبرتني أتجوز مايسان بنت خالتك وأنا مبحبهاش هعمل أيه يعني؟

رمقه بنظرةٍ ساخرة، اتبعها رفع يده يشير له: تزني وتشرب خمرة ده اللي تعمله!

لعق شفتيه بتوترٍ وقال بتلعثمٍ: ألكس رافضة ترتبط بيا، إنت عارف إن ديانتنا مختلفة وآآ.

جذبه من تلباب جاكيت بذلته وهو يصيح بانفعالٍ: أنت جنس ملتك أيه! واقف قدامي بكل بجاحه تبرر وساختك، إنت عارف مصيرك أيه!

وتابع وهو يحتد من مسكته: أنت نسيت هنا دينك يا عمران ونهايتك هتبقى أبشع مما تتخيل، إبعد. إبعد عنها وعن الشياطين اللي حوليها.

وابتعد عنها وهو يحاول التماسك عن عصبيته، زفر بغضبٍ مما يفعل وعاد يقف  قبالة أخيه الصغير، يربت بحنان على صدره ويعدل من جاكيته الغير مهندم  بفعله، وقال بهدوءٍ: يا عمران إفهم مفيش حد في الكون كله يستاهل إنك تعصي  ربنا وترتكب كبائر زي دي، بص حوليك وشوف ربنا كارمك بأيه وأنت غافل عنه،  شوف نجاحك في شغلك، والزوجة الصالحة اللي ربنا رزقك بيها، امسك فيها بايدك  وسنانك وخليها تطلعك بعيد عن القرف اللي إنت بقيت عايش فيه ده.

رفع رماديته الشبيهة لاخيه إليه ليرى دمعته المستكانة داخله، وكأنه  يخبره شيئًا تفهمه علي، وقال: أنا مش هفرض عليك تعيش معاها زي فريدة هانم،  بس أنا مش عايزك تظلمها معاك لو مبتحبهاش طلقها وسبها تعيش حياتها مع شخص  تاني يديها اللي إنت مقدرتش تدهولها.

أجابه بحزنٍ: وتفتكر إني محاولتش أعمل كده يا علي، حاولت بس فريدة هانم هددتني إني لو طلقت مايسان هتحرمني من الورث ومن كل حاجة.

وتابع وهو يتجه للشجرة القريبة منه، يتكأ عليها بتعبٍ يضربه نفسيًا،  فالتقط نفسًا ثقيل واستدار يخبر أخيه: لما أنت كنت في مصر أنا أصريت أطلقها  عشان أنهي العذاب اللي معيشها فيه ده، بس ماما عاقبتني وأخدت مني الكريدت  كارت وسحبت مني العربية وكل حاجه بمتلكها.

واسترسل بقلة حيلة: مكنش في قدامي حل تاني، بضغط على مايسان بكل قوتي عشان هي اللي تقف قدامها وتطلب الطلاق.

ضحك ساخرًا وهو يشير له باستحقارٍ: قصدك بتهنها وبتدوس على كرامتها، كرامة مراتك اللي هي المفروض كرامتك.

حاول تبرير ما يفعله حينما قال: عايزني أعمل أيه يعني!

صاح بعصبية بالغة: تخليك راجل ولو لمرة واحدة في حياتك، تقف قدام ماما  وترفض الجوازة دي، ولو حرمتك من الفلوس والأملاك في داهية المهم بلاش تعصي  ربنا بعلاقتك القذرة دي وبظلمك الكبير لانسانة بريئة ملهاش ذنب غير إنها  بتحبك من وإنتوا عيال صغيرين وأنت أعمى عن حبها ليك.

واسترسل وهو يمنحه نظرة أخيرة: إنت ماشي في طريق كلها معاصي بداية من  الخمرة للبنت اللي انت ماشي معاها. صدقني يا عمران إنت مش أد غضب ربنا  عليك.

وتركه وغادر على الفور، تاركه يعيد حساباته التي تنتهي جميعًا فور رؤيته لتلك الملعونة.

خرجت مايسان تنتظره جوار سيارته والدموع مازالت تختم على وجهها، لا تعلم  لماذا تحمل الحب له بالرغم من الكراهية الواضحة بعينيه لها، مازالت  تفتقده. تفتقد تلك الليالي التي كانت تقضيها بانتظار هبوطه لمصر برفقة  والدته كل عامٍ، كيف كان يبتسم فور رؤيتها ويقضي أغلب الأوقات برفقتها، كان  لا يفترق عنها أبدًا، تاركًا الجميع يظنون بأن بينهما قصة حب عظيمة  نهايتها الزواج المتوقع، وحينما حدث ذلك تفاجئت بوجود تلك الفتاة بحياته،  وكأنه شخصًا أخر غير ذاك الذي كانت تلتقي به كل عامٍ، ترسخ داخلها بأنه كان  يستغلها بالفترة التي يقضيها بمصر، ولكنه لم يسبق له بأن تعدى عليها مرةٍ،  كان يعاملها برفقٍ وحبًا ينبع داخل عينيه، أزاحت دمعاتها حينما وجدت على  يدنو منها ليشير لها: يلا نرجع البيت يا مايسان، شمس راكان قال هيوصلها.

رفضت الانصياع إليه مرددة بتصميم: أنا جيت مع جوزي وهرجع معاه.

أغلق باب سيارته وعاد يقف قبالتها، قائلًا بعدم تصديق: بعد اللي عمله جوه ولسه عايزة تركبي معاه!

تدفقت دمعاتها على وجنتها، فابعدتها عنها وهي تخبره بصوتٍ منكسر: أحسن ما أسيبه يروحلها.

رمش باهدابه تأثرًا بها، فهمس بصوتٍ حزين: غبي ومش مقدر الجوهرة اللي معاه.

ورفع من صوته يخبرها وهو يعتلي سيارته: لو حصل حاجة كلميني.

اكتفت بهزة بسيطة من رأسها، وتوجهت لتقف جوار سيارة عمران حتى خرج  فوجدها تنتظره، وضع يده بجيب بنطاله وتساءل بضيقٍ: مركبتيش مع على ليه؟

ردت عليه بثباتٍ قاتلٍ: أنا مجتش معاه عشان أرجع معاه!

سحب نفسًا مرهقًا وأشار لها بالصعود باستسلامٍ، تحركت بآليةٍ تامة لتجلس  جواره، فخيم السكون عليهما طوال الطريق، تكبت هي بكائها بحرافيةٍ اعتادت  عليها ويفكر هو بحديث أخيه، حتى توقف بها أمام المنزل، انتظرته يهبط ولكنه  بقى بمقعده فعلمت بأنه يوصلها وسيغادر على الفور، لم تتمكن مايسان اخفاء  دمعاتها طويلًا، فتحركت يدها المرتشعة تقبض على معصمه المتعلق بالقيادة،  انتبه لها عمران فلف وجهه إليها، فاندهش حينما وجدها تتطلع له بعينان  باكيتان، وصوته الشاحب يردد: بلاش تروحلها يا عمران، بلاش تكسرني بالشكل ده  كل يوم، أنا لسه عندي أمل إنك هتسيب كل ده وترجعلي.

تألم قلبه القافز بين ضلوعه، لا ينكر بأنه كان يكن لها حبًا في وقتٍ مضى  من حياته، ولكن فور ظهور ألكس بحياته منذ ثلاث سنواتٍ وهو لا يرى سواها،  وكأن مايسان لم تزور قلبه في يومٍ مضى، طال صمته ووصلت لها إجابته، فسحبت  يدها عنه وخرجت من السيارة على الفور.

انهال عمران بجسده للامام وهو يواجه كل ما يعتريه من ألمٍ مبالغ به، سئم  من حياته ومما يواجهه بمفرده، فحسم أموره بإنهاء عذابه وخوفه الشديد من  الله عز وجل، حرك المفتاح ليقود سيارته من جديد متوجهًا للفندق، تاركها  تراقبه من الشرفة بانهيارٍ تام، جعلها تجلس أرضًا متعلقة بالستائر التي  تكبت بها صراخاتها. صرخات أنثى تعافر لاسترداد حبيب طفولتها الغائب خلف  فترة مراهقة لا تود تركه أبدًا.

صعود مايسان لغرفتها ومغادرة عمران زرع الشكوك داخلها، فصعدت لغرفة  ابنها تطرق بابه وحينما استمعت لآذنه ولجت للداخل، فوجدته يبدل ملابسه،  منحته فريدة نظرة متفحصة قبل أن تتساءل بحدةٍ: إنت راجع تاني المستشفى يا  علي؟

منحها ابتسامة جذابة، ودنى منها يطبع قبلة على جبينها ويدها مرددًا بحبٍ: مساء الجمال كله على أجمل قمر بالكون كله.

كعادته ينجح بنثر السعادة على وجهها، ابتسمت وهي تردد بنفاذ صبر: دكتور على البكاش إنت لحقت تقعد معايا عشان تلبس وترجع تاني.

اتحه لخزانته يجذب حذائه الأسود، فجلس على حاملة الأحذية يرتديه وهو  يجيبها: هعمل أيه بس يا فريدة هانم لازم أرجع عشان عندي كام كشف مهم  النهاردة، مقدرش أعتذر للأسف، بس وعدي مازال مستمر هرجع بدري.

هزت رأسها وهي تشير له: عفارم عليك.

اخفى بسمته على كلمتها المعتادة، التابعة لعهد مضى ومع ذلك تمعن بنظرته  المحبة لها، شعرها القصير المرتب حول وجهها، فستانها الآنيق، وحذائها ذو  الكعب العالي الذي إعتاد رؤيتها ترتديه أينما كانت، حتى ولو بالمنزل،  عينيها العسلية المزينة بالكحل الأسود وبشرتها البيضاء الصافية.

أحيانًا يشعر وكأنها شقيقتها الكبرى وليست والدته بالمرةٍ، مازال حتى  تلك اللحظة يتقدم إليه عدد من الرجال لخطبتها، فضحك رغمًا عنه حينما تذكر  كيف كانت تغضب وتثور وخاصة حينما كان يخبرها على بأنه ليس معترضًا آن أردت  الارتباط.

كعادتها تعيد عليه حساباتها الدقيقة حول تضحيتها بالزواج في سنٍ مبكر، وبالأخص بعد وفاة والده كانت حينها تبلغ الثلاثون من عمرها.

أفاق من شروده على صوتها المنادي: روحت فين يا علي!

تنحنح بحرجٍ: مع حضرتك.

عادت تكرر ما قالته مجددًا: سألتك اللي إسمها ألكس حضرت الحفلة؟

سحب عينيه عنها بارتباكٍ، وادعى انشغاله بتصفيف شعره، مرددًا: مخدتش بالي.

احمرت عينيها، فنهضت عن الفراش وتوجهت للخروج قائلة: ردك وصلني.

انتهى الحفل أخيرًا وانتهى دورها المثالي بالوقوف مع خطيبها المزعوم  بحفلٍ هامٍ هكذا، انتهت شمس من تناول طعامها، فجذبت منديلًا ورقيًا تجفف  فمها قائلة بضجرٍ: راكان أنا كده أتاخرت، خلينا نمشي بقى.

ابتلع ما بفمه قائلًا وهو يلتقط مناديلًا ورقيًا: أوكي يا بيبي، هنتحرك حالًا.

انطلق رنين هاتفه الذي لا يكف عنه، فأشار لها بحرجٍ حينما وجدها تتأفف بغيظٍ: معلشي، ثواني وراجعالك.

وتركها تجلس على الأريكة التابعة لمكتبه السفلي، وابتعد يجيب على هاتفه،  ابعدت شمس الطاولة القصيرة عنها ونهضت تتمشى بالخارج بضيقٍ شديد، فتحت  الباب الزجاجي بالطابق الأرضي ووقفت تتنفس الهواء المنعش ببسمةٍ ساحرة،  فتحت عينيها على مهلٍ لتتفاجئ بالحارس الشخصي يقف على بعدٍ منها، لاح على  وجهها بسمة صغيرة، فخطفت نظرة سريعة على راكان الذي مازال يتابع حديثه الذي  لا ينتهي، ثم تسللت للخارج بعدما خلعت حذائها حتى لا يستمع راكان لصوت  خطواتها.

خطت على أطراف أصابعها حتى وصلت للحديقة الخلفية للشركة حيث كان يقف  آدهم منشغلًا بتأمل هاتفه، ليفق على صوت صفيرًا منخفض وصوتًا انوثي رقيق:  كابتن.

رفع عينيه إليها، فتفاجئ بها، ابتسم آدهم وهو يرد بتهذبٍ: شمس هانم.

رفعت طرف فستانها وتسللت بعيدًا عن المياه الرطبة المحاطة للأرض الخضراء،  حتى وقفت جواره، رمش بدهشةٍ وهو يراقب قدميها دون حذاء، ولكنه لم يعلق وعاد  يراقب ما ستقول.

اتسعت ابتسامتها وهي تربع يدها أمامه، وعلى ما يبدو تشتتها وحيرتها بما  ستفوه، فقالت بعد صمتًا: أنا كنت عايزة أشكرك أنك مقولتش لراكان حاجة، وأكد  عليك من تاني أنك مسبقش إنك شوفتني فوق.

تطلع لها بغموضٍ، ومازال يقف بثبات يزيد من جموده، ظنته سيتحدث بالأمر  فقالت برجاء: بليز مش تقول لراكان حاجة، لحسن ممكن يقول لفريدة هانم  وهتبهدلني.

اخفى بسمته وردد باتزانٍ قاتلٍ: أنا بعتذر بس مش فاهم تقصدي أيه، دي أول مرة أقابل حضرتك وش لوش يا شمس هانم.

بدت كالبلهاء تحاول فهم ما يقوله، فانفرجت شفتيها بضحكة واسعة ولفت اصبعها: آيوه آيوه فهمتك، إنت بتمثل من دلوقتي.

ضحك بصوته الرجولي وهو يهز رأسه: بالظبط كده.

رفعت إبهامها له: برا?و، استمر على كده.

اتجهت لتغادر ومن ثم استدارت لتخبره: شكل كده هيكون بينا أسرار كتير يا آآ. آآ.

انقطعت كلمتها حينما تهاوت قدميها بالمياه الرطبة فكادت بالسقوط أرضًا،  وكان ذراعه الصلب الأسرع لمساندة خصرها المرن، تعلقت شمس تلقائيًا برقبته،  في نفس لحظة استكماله لجملتها: آدهم، إسمي آدهم.

قالها وعينيه هائمة بعينيها، وجهها الملائكي اختطفه وكأنها تملك تعويذة  سحرية تشده بها، رفرفرت بجفنيها وهي تتأمل عينيه عن قربٍ، ذاك الغريب الذي  اختطفها منذ أول نظرة وأول لقاء، انتبه آدهم لراكان الذي يتقدم منهما،  فاستقام بوقفته جاذبها لتقف أمامه، وتراجع خطوتين للخلف واضعًا يده خلف  خصره المستقيم

لعقت شمس شفتيها وهي تحاول تهدئة أنفاسها اللاهثة، وما زاد ريبتها وجود راكان الذي تساءل: في أيه؟

أجابه آدهم وعينيه الثاقبة تحيطه: شمس هانم كانت بتتمشى بالحديقة، واتكعبلت في طرف الفستان وكانت هتقع.

ابتسم راكان وربت على كتفه بفخرٍ: إنت مش بس منقذي المخلص يا آدهم، شكل هتكون المنقذ الرسمي لافراد عيلتي كلها.

طعنه آدهم بنظرة غامضة، يخفي من خلفها دوافعه الحقيقية، ومع ذلك اختطف بسمة ثابتة وهز رأسه بخفةٍ.

اخبره راكان: اتصل بالسواق يجيب العربية عشان نوصل شمس هانم.

رفع آدهم هاتفه ليردد باقتضاب لمن يجيبه: هات العربية قدام الشركة يا حامد.

استدار راكان تجاهها، فشملتها نظراته، فردد بدهشةٍ: شمس فين الشوذ بتاعك؟!

حكت جبينها بتوترٍ، فاحنى آدهم رأسه ضاحكًا خشية من أن يرأه أحدٌ، بينما  تلعثمت بردها: آآ. أنا بس كنت حابة أجرب النجيلة عندكم في الشركة ناعمة ولا  خشنة.

برق راكان بدهشة، فتمادت بثقتها بالحديث: دي نقاط مهمة متخدش بالك إنت منها، الستات دقيقة جدًا.

أحمر وجه آدهم من فرط كبته للضحك، بينما رفع راكان يده لصدره ليشير لها: اسندي لما نوصل للشوذ بتاعك عشان نخرج.

وما أن طوفت ذراعه حتى تحرر رنين هاتفه للمرة الألف، راقب راكان الشاشة فابتعد وهو يشير للخلف: آدهم.

اقترب منه ليجده يهمس له: ساعد شمس هانم، معايا مكالمة مهمة.

احتل آدهم مكانه، فاحنى يده لصدره، ارتبكت شمس وهي تستند بيدها على  ذراعه، ثم تحمل طرف فستانها باليد الاخرى لتتفادى الحشائش المبتلة، تلون  وجهها بخجل، وقلبها ينبض تأثرًا لقرب ذاك الغريب منها، انتهت مسافتها  القصيرة حينما وصلت للحاجز الرخامي، فحملت طرف فستانها وصعدت عليه، تركها  آدهم وكاد بالتراجع، لتوقفه كلماتها: شكرًا يا كابتن آدهم.

ابتسم مجددًا، وقال دون أن يلتفت لها: العفو يا شمس هانم.

غادر من أمامها تاركًا قلبها يكاد يركض من خلفه، ولجت شمس للداخل  ومازالت بسمتها لا تفارقها، فارتدت حذائها وخطت للخارج بفرحة لم تشعر بها  يومًا، صعدت بالسيارة بالخلف جوار راكان الذي مازال يتابع حديثه بالهاتف  طوال الطريق حتى لحظة هبوطها من السيارة، وذاك الأمر لم يزعجها تلك المرةٍ،  كل ما يشغلها هو ذاك الحارس. آدهم.

صف على سيارته أمام المشفى، فصعد للأعلى حاملًا باقة الزهور البيضاء  ببسمةٍ بشوشة، كعادته كل يومٍ لم يتجه لمكتبه كانت غرفتها أول وجهة له، طرق  الباب وحرر مقبضة على الفور، فتلاشت ضحكته تدريجيًا حينما وجد أمامه آرثر،  أحد الأطباء الذين تم تعينهم منذ فترةٍ صغيرةٍ، وما لفت إنتباهه امتقاع  ملامح فطيمة بشكلٍ ملحوظ.

دلف على حتى بات قبالته، فتحرر من صمته بسؤالٍ تحرر بعصبيةٍ: ماذا تفعل هنا؟

تلبس رداء الثبات قبالته، ليجيبه ببرود: ماذا يتوجب على الطبيب فعله!

رده الفظ دفع على ليردد بنفس وتيرته: أنا الطبيب المسؤول عن علاج فطيمة، لا يحق لك التواجد هنا.

ابتسم ساخرًا، مردفًا: سمعت إنك مسؤول عن حالتها منذ ثمانية أشهر ولم تتحسن حالتها، ربما أنا الأجدر بعلاجها دكتور علي.

وتركه وقبل أن يغادر من باب الغرفة قال: فكر جيدًا بالأمر.

منذ لحظة قدومه للمشفى وهو يضعه بخانة منافسته الرخيصة، وأخر ما توقعه  على أن يسخر منه بتلك الطريقة، وضع على باقة الزهور على الكوماد المجاور  لفطيمة، ثم جلس على المقعد المجاور لها باهمالٍ.

أزاح نظارته الطبية عنه وهو يفرك مقدمة أنفه بضيقٍ شديد، لأول مرة يعجز عن  علاج أحد حالاته، وليكن صادقًا مع نفسه فطيمة تهمه كثيرًا ربما لذلك يرغب  بشدةٍ أن تعود لحالتها الطبيعية.

استدارت بوجهها للكوماد تتأمل الزهرات ناصعة البياض ببسمةٍ رقيقة،  اعتادت على شم تلك الرائحة العطرة كل صباحٍ فور ولوج على لغرفتها، ممتنة  لحمله كل يوم باقة زهور مميزة إليها، غامت معالمها فور أن سُلطت عليه،  ليتها تعلم الحديث بالانجليزية لتعرف ماذا ضايقه هذا الطبيب؟

انتبهت له يستقيم بجلسته تجاهها وهو يجاهد لرسم بسمة صغيرة، وردد بصوته الرخيم: صباح الخير يا فطيمة.

وحرر غطاء قلمه، ثم جذب النوت ليبدأ قائلًا: النهاردة هنحاول نرجع مع  بعض لذكرياتك، أكيد في طفولتك كان في موقف حلوة كتير يا فطيمة، والحلو إنك  مش هتتكلمي عن حاجة تضايقك.

وتابع تعابيرتها باهتمامٍ، ولم يحصل على أي رد فعل إيجابي.

أغلق على دفتره ثم اقترب بجلسته إليها يخبرها بانهاكٍ: فطيمة سكوتك ده  هيضرك أكتر مش هيفيدك في شيء، أنا مازلت بحاول معاكِ وبتمنى تساعديني عشان  أقدر أساعدك وأعالجك.

وتابع برجاءٍ غريب: من فضلك حاولي تساعديني، اتكلمي واحكيلي عن اللي مريتي بيه ده هيهون عليكي كتير.

تحررت دمعة على خديها جعلته زفر باختناقٍ، فاتجه للشرفة يحرر ستائرها،  مستندًا بجسده على العمود المجاور للشرفةٍ، اطال بصمته ثم قال بعد سكونه:  شكل دكتور آرثر صح، أنا فشلت أعالج حالتك وهو أولى بيكِ مني.

وغادر الغرفة وعلامات الحزن والاستسلام تغدو وجهه دون راجع.

فور نطقه لتلك الكلمات اعتدلت فطيمة بجلستها وعينيها تبرق بصدمة مما  استمعته، فهزت رأسها بجنون وهي ترفض حقيقة ابتعاده عنها، ابتلعتها حالة من  الصرع فتشنج جسدها من جديدٍ مما جعل الممرضات تهرول للداخل إليها.

وقف أمام غرفته القابعة بالطابق الثالث والأربعون بالفندق يلتقط أنفاسه  بانتظامٍ، وكأنه يستعد لما سيخوضه بالداخل، يستند بيده على الحائط في  محاولة لتقوية نفسه التي ستضعف فور رؤيتها.

ولج عمران للداخل باستخدام بطاقته، ليجدها تجلس على الفراش بقميصٍ مغري  قصيرًا، وبيدها كأس من المحرمات التي كانت السبب بادمانه لها، وفور رؤيته  نهضت عن الفراش تسرع إليها مرددة بصوتٍ مغري: حبيبي هل عدت!

انطوت داخل احضانه وهي تهمس له: اشتقت لك كثيرًا.

ابتلع ريقه بصعوبة بالغة وهو يقاوم رغبته التي بدأت بالتحرك لها فور  رؤيتها، فرفع يده عنها وهو يحاول ابعادها مرددًا: ألكس، هناك أمرًا هامًا  أود إخبارك به أولًا.

رفعت رأسها عن صدرها ويدها تعبث بذقنه الغير حليق: لا أريد سواك.

دفعها عنه برفقٍ مصرًا على طلبه: ألكس من فضلك.

ابتعدت عنه وهي تراقب ملامحه المهمومة باستغرابٍ: ما بك عمران، أخبرني.

جلس على الأريكة وهي من جواره، ضم شفتيه معًا قبل أن ينطق: لا أرغب في ارتكاب معصية أخرى، أريدك أن تقبلي عرض الزواج مني.

زمت شفتيها بسخطٍ لعودته لنفس الحديث الممل، فاتجهت لزجاجة الخمر تسكب منه  بكأسها: بحقك يا عمران هل عدت لحديثك هذا مجددًا، أخبرتك سابقًا إني لا  أريد الزواج، ولا أحبذ سماع تلك التفاهات المتعلقة بدينك المتسلط.

احمرت عينيه غضبًا فنهض عن الأريكة يصرخ بحدةٍ: تأدبي بالحديث ألكس والا اقتلعت عنقك.

خشيت أن تسوء الأمور بينهما، فهرولت إليه تردد بخداع نبرتها المغرية: أعتذر  لك، لا أقصد اهانتك ولا إهانة ديانتك، ولكني سئمت من تكرار حديثي لك، أنا  لا أريد أي قيود عمران، والزواج بالنسبة لي أكبر قيد.

وتلك المرة لم تترك له فرصة المناص منها، حيث حررت أزرر قميصه وبدأت  تتقرب منه بطريقتها المقززة، هامسة باغراءٍ: أنا أرغب بك، دون أي قيد.  وأعلم بأنك تحبني مثلما أحبك.

وتابعت وأنفاسها تلفح رقبته: هيا عمران دعك من تلك الترهات. أفتقدك حقًا.

أغلق عينيه بقوةٍ تأثرًا بها، فانساب خلف مشاعره الخائنة التي استسلمت  لها للمرة الرابعة، كل مرةٍ يعترض وكانت تنجح بعد عدد من المحاولات بالحصول  عليه، ويعود بعدها يؤنب نفسه ويبتعد أشهر عديدة حتى تنجح باغوائه مجددًا،  ولكنها تثق بإن سقوطه وخضوعه لها سيكون مؤكدًا حتى وإن بقى عامًا دون  لمسها!

هرع على لغرفتها ليجد عدد من الاطباء والممرضات يجتمعون داخل الغرفة  لتعسر حالة فطيمة، ابعد من بطريقه ليصل للفراش فوجدها تتشنج بعنفٍ ونظراتها  تحيط بمن حولها بذعرٍ، فردد بلباقةٍ: أعتذر منكم جميعًا، ولكن وجودكم هنا  يثير ريبتها، من فضلكم.

خرج الجميع الا آرثر صمم البقاء ليتابع الحالة بفضول، أراد باصرار متابعة  حالتها ولديه رغبة بتحقيق الانجاز الذي فشل به علي، يتخيل نجاحه الساحق بعد  علاج حالة فطيمة.

سلط نظراته عليه فوجده يدنو منها وهو يشير لها بكلماتٍ عربية فشل آرثر بفهمها: فطيمة اهدي، مفيش حاجة. كلهم خرجوا.

فور رؤيته بدأت في الاسترخاء، وعينيها لا تتخلى عنه، فالتقط اذنيها صوت هذا  الدخيل التي بات منفرًا لها، حينما قال آرثر: أعتقد بأنها تحتاج لأبرة  مهدئة.

أجابه على بغيظٍ من بقائه رغم طلبه الصريح من الجميع بالخروج: لا تحتاج لها، بدأت بالاسترخاء بالفعل.

زم آرثر شفتيه وهو يخبره بلطفٍ مصطنع: دكتور على أنت لا تجيد التعامل مع الحالة، أرجوك دعني أجرب أعتقد بأنها ستتحسن إن حاولت.

صمت على وشرد قليلًا، نظراته العاجزة المسلطة على فطيمة جعلتها تسترجع  حديثه الأخير، فخشيت أن يترك له أمرها مثلما خمنت، استقام على بوقفته  واستدار ليكون قبالة أعين آرثر، موليًا لها ظهره، فاحتقن وجهها وكأنه يغادر  عنها ويتركها من خلفه، انقبض قلبها فتحرك جسدها بعنفوانٍ فلم تجد سوى  وسيلتها الوحيدة للنجاة.

رفعت فطيمة يدها المرتشعة لتقربها من يد علي، فتمسكت بيده بقوةٍ جعلت  جسده يتصلب صدمةٍ وببطءٍ استدار ليجدها تجلس على الفراش ويدها تتمسك به،  وما زاده صدمة فوق صدمته حينما ناطحت آرثر بنظرة قاتلة ورددت بحروفٍ ثقيلة،  وكأن صوتها كبت لألف سنة: دكتور على هو المسؤول عن حالتي!


3=رواية صرخات أنثى للكاتبة آية محمد رفعت الفصل الثالث

فور خروجه سحبت فطيمة يدها عن يد على بخجلٍ شديد، ودمست وجهها أرضًا  بحرجٍ لما فعلته، لجئت لصمتها مرة أخرى، ولكن تلك المرةٍ لم يسمح لها على  بذلك، فجذب المقعد وقربها منها وهو يردد بعدم تصديق: بقى أنا بقالي 8شهور  طالع عيني معاكِ يا فطيمة عشان بس تتكلمي ويجي آرثر المغفل يخليكي تتكلمي  في دقيقتين!

اختطفت بسمة صغيرة على شفتيها تمكن من رؤيتها بوضوحٍ، فابتسم تلقائيًا  وهو يراقبها، وردد مازحًا: بتضحكي! شكلك شايفاني أنا المغفل مش هو صح. لإنك  قدرتي تخدعيني طول الفترة دي.

رفعت عسليتها إليه لتمنحه نظرة حزينة، تسلل عمقها لنبرتها المرتجفة: سكاتي  هاد المدة كاملة حيت ما بغيتش نتكلم على اللي داز عليا أ دكتور علي

(سكوتي طول المدة دي لإني مش حابة أتكلم عن الماضي يا دكتور علي).

حقق نقطة بسجله الطبي، وها هي تستجيب للحديث بعد رحلة عناء منه، لذا لن  يفوت فرصته، فبدأ بالحديث بإحكامٍ وبحسن اختيار ألفاظه بعد معاناة لفهم  نبرتها المغربية: بالعكس يا فطيمة الماضي عمره قصير وبيتنسي، بس قبل ما  يتنسي لازم ندوي جرحه الأول عشان نقدر نكمل ونبدأ من جديد.

ضمت شفتيها معًا بقوةٍ جعلت أسنانها تنغرس فيهما، وقالت بلسانٍ ثقيل:  داكشي اللي داز عليا ماشي قصة حزينة غنبكي عليها عامين و لا تلاتة و ننسى،  اللي فات غيبقا معايا واجعني و ضارني لاخر حياتي.

ضيق عينيه بعدم فهم تلك المرة، فاستغنت عن نبرتها المغربية وقالت  باللهجة المصرية المعتادة لسماعها من مراد ومن الطبيبة يارا المسؤولة عن  حالتها سابقًا فقالت: اللي فات من حياتي مش قصة حزينة وهبكي عليها سنتين  تلاته، اللي فات وجع هيدوم معايا لأخر عمري.

رد عليها بلهفةٍ: وأنا جاهز أشاركك الوجع ده يا فطيمة.

رفعت عينيها إليه بارتباكٍ، فتنحنح بحرجٍ وهو يعدل من نظاراته الطبية  موضحًا مقصده: فطيمة أنا الدكتور المسؤول عن حالتك، من فضلك سبيني أقوم  بشغلي وأحاول أساعدك، بلاش تحكمي عليا بالفشل بدون محاولة.

وتابع ببسمةٍ هادئة: ولا عايزة الجوكر يزعل مني ويقول عليا دكتور فاشل وإن الدكتورة يارا أشطر مني.

ابتسمت فور سماعها عن مراد وقالت: مراد ده شخص عظيم، بالرغم من كل اللي  اتعرض ليه بسببي ومازال جانبي وحابب يساعدني، بس مش قادر يستوعب إن اللي  اندبح بسكينة تالمة مستحيل يرجع للحياة من تاني.

سكن الألم رماديته، ومع ذلك تساءل بهدوءٍ: قوليلي يا فطيمة، إنتي اتعرفتي على مراد زيدان ازاي؟

التقطت نفسًا مطولًا استسلامًا لرغبته المستميتة بالنبش حول ما يؤلمها،  فبدأت بالحديث بوجعٍ يخترقها رغم تلك البسمة الزائفة على وجهها: في اليوم  ده خرجت الصبح مع خطيبي، كنا بنحضر للجواز، ويومها طلبني نخرج ونتكلم شوية،  لبست وروحت مع والدي عشان أقابله بس وإحنا في الطريق بابا عربية بابا  عطلت.

انهمر الدمع على وجنتها وهي تحاول استرداد حديثها، فجذب على دفتره  سريعًا وفتح هاتفه يسجل به ما تقول لعدم استطاعته بالعودة لمكتبه ليحضر  حاسوبه والمسجل الخاص بالمرضى، بالطبع لن يخسر تلك الفرصةٍ ليعود ليحضر ما  يحتاجه.

كان بحاجة لسماعها تقص عن أي شيءٍ متعلق بماضيها، رغم أنها يعلم  اختصارًا شاملًا لحالتها من ظابط المخابرات المصري مراد زيدان، المسؤول عن  نفقة علاجها بشكلٍ كاملٍ، ويباشر كل فترة بالسؤال عنها(سلسلة الجوكر  والاسطورة)، استرسلت فطيمة حديثها ودموعها بدأت تدمعان بحدقتيها، فقالت:  بابا نزل وطلب مني أقعد في العربية لحد ما يدور على أي ميكانيكي أو شخص  يساعده، بس بعد نص ساعه اتفاجئت بعربية بتقرب مني، ونزل منها شابين كان  باين عليهم إن وراهم شيء مخيف، ولما قربوا واتاكدوا إن مفيش حد معايا في  العربية هاجموني.

ورفعت عينيها إليه وهي تخبره بدموع: محستش غير بقماشة بيضة على وشي  وبعدها فقدت الوعي ولما فوقت لقيت نفسي في مكان شبه صندوق كبير جوه طايرة،  ومكنتش أنا البنت الوحيدة اللي جواه.

جحظت عين على بصدمةٍ، لم يتوقع سماع هذا، هل يتم تهريب النساء على متن  طائرة بكل تلك البساطة، هؤلاء ليسوا الا شياطين لعينة مثلما وصفهم مراد له،  هدأت نيرانه قليلًا فبالفعل تم القضاء على تلك المافيا بواسطة الجوكر  والاسطورة سابقًا، لذا حثها على الاسترسل وهو يسألها بنبرته الهادئة:  وبعدين يا فطيمة، اتكلمي.

استكان ظهرها للوسادة من خلفها، فانسدل حجابها رغمًا عنها، عينيها لم  تكن تعي سوى الشرود بالفراغ، وهي تكمل له: اخدونا مكان غريب، ريحته وشكله  مقبض فوق ما تتخيل.

وابتسمت ساخرة رغم صراخ تعابيرها بألم: كان بيتقسموا الغنايم فيه، بيعينوا البنات وبيشوفوا مين فيهم اللي تنفع لشغلهم.

وابتلعت ريقها القاحل بمرارة ما وجهته، فقبضت بأصبعها على الغطاء  المفرود على جلبابها الأبيض الخاص بالمشفى وهي تخبره بوحعٍ استشافه من  حديثها: كلنا خضعنا للكشف العذري على إيد دكتورة شكلها مخيف، واللي كانت  مننا لسه عذراء كانوا بياخدوهم في عربية لمكان روحت فيه من ضمنهم.

واستكملت ودموعها لا تتوقف: لإن بالنسبالهم ليهم تمن أعلى.

وانفجرت بالبكاء الحارق، تاركة دمعة رجلًا عزيزًا تلمع داخل مقلتيه  تأثرًا بوجعها، لم يسبق لها التأثر هكذا برفقة مرضاه، لا تلك الفتاة بالطبع  ليست عادية بالنسبة له، ترك على مقعده ونهض يحمل منديلًا ورقيًا، قدمه لها  فتناولته عنه بامتنانٍ.

زاد من لطفه حينما سكب من زجاجة المياه كوبًا لها، تناولته فطيمة جرعة  واحدة تسد به نيران صدرها المشتعلة، فعاد يجلس قبالتها وتلك المرةٍ رفض  الضغط عليها، بل تساءل بلهفةٍ بعد دقائق فاصلة: أحسن دلوقتي؟

هزت رأسها على استحياءٍ من حديثها الحساس والمخجل له، بالنهاية هو رجل  ولكنها لا تعلم لما تشعر بأنها تود سماع نصائحه وتلقي له ما خاضته من رحلة  قاسية، عادت تستكمل له: البيت اللي روحناله بعد كده كان فيه جنسيات مختلفة  من البنات، أنا من المغرب وكان في هناك بنات من العراق ومصر وبنات كتير  أغلبهم من العرب، نسبة قليلة اللي كانت أجنبية.

وتابعت له: اللي عرفته بعد كده من مراد إن كل بنت ليها دخلتها، اللي  منهم بيبتزوها بشريط فيديو مصورينه ليها، واللي بيغروها بالفلوس، واللي  بيستخدموا عليها العنف عشان تكمل، واللي ببهددوها بخطف حد من أهلها،  بالنهاية كلهم بياخدوا فترة لحد ما يتعودوا على الشغل المهين ده، وأنا كنت  من البنات الجديدة اللي لسه داخلين المكان، وحظي وقعني مع مراد.

وأزاحت دمعاتها بمنديله الورقي وهي تخبره بانكسارٍ: كل يوم قضيته  بالمكان ده كنت بموت فيه بالبطيء، عيني كانت على باب الأوضة ومستنيه لحظة  دخول أول شخص هيدبحني، كنت بدعي ربنا كل يوم أن اليوم ده ميجيش غير وأنا  ميتة.

وتمعنت بتطلعها إليه وهي تقول: حاولت انتحر معرفتش، كنت كل ما بحاول  بلاقيهم فوق رأسي، لحد ما اتاكدت أن الاوضة دي فيها كاميرات مراقبة.

استدار عنها يزيح بإصبعه دمعة كادت بأن تفضحه أمامها، لا يود أن تصل  شفقته وحزنه لها، ذاك الطريق مفروض لأطباء الطب النفسي، عاد يدون بمذكرته  ملاحظة طفيفة تنبع عن ألمها الشديد عما خاضته ببداية رحلتها.

فراقبها وهي تخبره باهتمامٍ عن أصل سؤاله المبدئي عن علاقتها بالجوكر  مراد زيدان فقالت: وفي اليوم اللي الباب اتفتح فيه كان مراد أول شخص يدخله،  حسيت إن الدنيا بتضيق عليا، وخاصة لما لقيته بيقرب مني، بس كان بيعمل كده  عشان الكاميرات، وقدر إنه يخدعهم أنه بيقربلي، وبعد كده اتفاجئت بيه بيقولي  انه ظابط من المخابرات وإنه جاي المكان ده هو وظابط معاه عشان يقبضوا على  شبكة الدعارة الدولية دي، وطلب مني أني أساعده عن أي معلومات تقدر تفيده.

واسترسلت بحماس لاخباره: ساعتها حسيت ان ربنا سمع دعواتي وهيخلصني من  الذل والمهانة اللي كنت هتعرض ليها، مترددتش وساعدته ووعدني إنه هيرجع  وهيساعدني أخرج من المكان ده من غير ما حد يلمس شعرة مني، وفعلًا كان أد  وعده ورجع من تاني بس المرة دي كانوا كشفوني وعرفوا ان أنا اللي ساعدته  فحبوا يكافئوني على الخيانة دي.

وتابعت ببسمةٍ ساخرة: لفوا حزام ناسف حواليا عشان يبدوا المكان اللي  ممكن يكون دليل عليهم، وبالرغم من كده مراد رفض إنه يخرج من غيري، وساعدني  أخوه رحيم زيدان وقدرت اخرج من المكان ده من غير ما حد يمسني.

سحبت نفسًا مطولًا تستعيد به قوة تكمل له الجزء الاخر من رحلتها القاسية  فقالت: مساعدات مراد منتهش معايا لهنا، رجعني المغرب لاهلي وكان ليا أخ  بكل ما تحمله الكلمة، حسيت إني بأخد فرصة من تاني بوجود مراد، رجعت لخطيبي  ولحياتي وكان مراد على تواصل مستمر معايا ومع أهلي، ووعدني انه هيحضر فرحي  وهيزفني لعريسي.

وانهمرت دمعاتها وهي تردد ببسمة: كان بيعتبرني زي أخته وحسيت منه بده فعلًا.

ابتسم على وهو يجد نقطة هامة قد تعاونه برحلته الشاقة، فدون بنوته مراد  زيدان البداية لتماثل فطيمة الشفاء، رفع على عينيه لها بانتظارها أن  تستكمل، ولكنه تفاجئ بها صامتة تبكي تأثرًا، فسألها بريبة: وبعدين؟

امتعضت ملامحها بألمٍ برز حينما قالت بحشرجة تلاحق نبرتها المبحوحة:  ابتدينا نجهز لفرحي بأسرع وقت، لإن طبعًا الفترة اللي اختفتها خلت الناس  تتكلم عني، فكان الحل أني اتجوز بأقرب وقت.

وبسخريةٍ أضافت: كنت فاكرة إن ده كمان رغبة خطيبي، مع إنه كان فرحان برجوعي الا أنه طلب مني طلب بشع رجعني لكل اللي عشته من تاني.

سألها باستغرابٍ: طلب منك أيه؟

تساقطت دموعها وهي تردد بتلعثمٍ: طلب مني أروح معاه لدكتورة تأكدله أني لسه  شريفة بحجة إن والدته وأهله اللي حابين يطمنوا، رجع يوجعني زي ما اتوجعت  ومريت بتجربة أبشع من اللي قبلها.

وأغلقت عينيها وهي تردد بشهقاتٍ قاتلة: حتى أهلي اجبروني أروح معاه لان  للاسف دي فرصتي الوحيدة اني اثبت للناس إني رجعت من المكان ده نضيفة ومحدش  لوثني.

وتشنج جسدها وهي تصرخ بوجع: جبروني أرجع اتهان من تاني عشان حاجة كانت  خارجة عن ارادتي، وكإني لو كنت خسرت شرفي ورجعت ليهم كانوا هيرفضوني!

وجد على بإن الجلسة الاولى تندرج لمسمى خطيرًا بتشنج جسدها الملحوظ،  فأغلق النوت، ونهض يخبرها: خلاص يا فطيمة كفايا كده النهاردة وبكره نكمل.

اكتفت بهزة بسيطة من رأسها ولم تترك له مجال الحديث، تمددت على الفراش  بأنهاكٍ نفسي وجسدي، أسرع على بحقنها بورديها لتهدأ قليلًا من انفعالاتها،  فتقبلت الأمر وغابت بنومها سريعًا.

ترك جسده يخضع لجلوس مقعده القريب منها، لينزع عنه نظاراته الطبية وهو  يزيل الدمعات العالقة بأهدابه هامسًا بعصبيةٍ تطيح بخطيبها السابق: حقير!

غادرت الشمس ساحة السماء تاركة للقمر البزوغ في ليله القاتم، ومازال  غائبًا عن المنزل منذ أمس، جابت فريدة الردهة ذهابًا وإيابًا وبيدها الهاتف  تحاول الوصول إليه للمرة العاشرة ولكن دون جدوى، تابعتها شمس الجالسة على  الأريكة تتابع دروس جامعتها على حاسوبها الوردي، فتركته جوارها ونهضت تقترب  منها مرددة بقلقٍ: مامي بليز اهدي، عمران دايمًا كده بيتأخر بره ومش بيرجع  غير بمزاجه وحضرتك عارفة كده.

ألقت فريدة الهاتف عن يدها ثم جلست على المقعد تبعد خصلاتها القصيرة عن  عينيها، وقد تمكن منها الارهاق: أعمل أيه بس معاه عشان أغيره، مفيش أي شيء  جايب نتيجة معاه.

واستندت بيدها على ساقيها متكئة بجلستها للأمام: أنا ادتيه حتة من قلبي  مايسان. كنت فاكرة إن الحب الطفولي اللي بينهم هيقدر يبعده عن الطريق ده بس  للأسف أنا مجنتش حاجة من اللي عملته.

حزنت وهي تستمع لوالدتها، فجلست جوارها وهي تربت بحنان على ظهرها وتخبرها بارتباكٍ: متزعليش عشان خاطري.

ابتسمت فريدة وهي تتطلع لابنتها الصغيرة، فقالت بنبرةٍ لم تعتاد منها  سماعها: أبوكِ سابني وأنا في عز شبابي، وساب وراه ثروة كبيرة الكل كان  طمعان فيها، اتحدف عليا رجالة العيلة عشان يتجوزوني بحجة إنهم يحموا المال  اللي مش هتصونه واحدة ست.

واسترسلت بألمٍ قاتل يذبح فؤادها: رفضت. رفضت أرتبط بأي حد واعتمدت على نفسي، اشتغلت وتعبت لحد ما كبرتكم، نسيت نفسي ودفنت حياتي.

وتابعت وهي تتعمق بعينيها الواسعتان: كنت أوقات بحتاج لوجود حد جنبي، بس  حتى أختي الوحيدة ماتت بعد وفاة جوزي بسنتين، وسابتلي بنتها أمانة في  رقبتي.

وشددت بحبٍ أمومي: مايسان بنتي أنا يا شمس أنا اللي ربتها وكنت جنبها لحظة بلحظة.

ونهضت وهي تتطلع لقصرها الفخم من حولها لتردد بغضبٍ مخيف: البيت ده بيتها، ومستحيل هسمح للحقيرة دي إنها تأخد مكانها.

واستدارت تجاهها تؤكد لها: أنا اللي يقرب لأولادي أنهش لحمة، ومايسان دي ضي عيوني.

وتابعت بقهرٍ: أنا بتوجع وأنا واقفة بالنص بينها وبين ابني ومش عارفة أجبلها حقها. بس عندي أمل كبير أنها هتغيره!

عاد على للمنزل مثلما وعد والدته، فصعد لغرفته وجذب ثيابه ثم دلف  لحمامه، ترك على المياه تنسدل على جسده دون راجع، وحديثها يقتحمه فيثير  غضبًا داخله، وعاطفة تدفعه للعودة وضمها داخل أحضانه، ترك الدُوش يفرد  مياهه على خصرها ومال يستند على الحائط، ومازال يجابه عقله بتبرير حقيقة  شعوره تجاه تلك الفتاة!

لمع عقله بفكرةٍ خطرت له، فجذب المنشفة ولفها من حوله، ثم خرج يبحث عن  هاتفه، أخذ ما يقرب الخمسة دقائق حتى عثر على رقمه، فرفع الهاتف وهو يترقب  سماع صوته الرزين الذي أتاه بعد ثواني: دكتور علي.

ابتسم وهو يردد بوقارٍ: مراد باشا.

انتفضت نبرتها قلقًا فليس معتادًا على إتصاله الغريب: فطيمة كويسة؟

أسرع يطمنه: بخير متقلقش، أنا بس كنت محتاج مساعدتك.

أتاه صوت الجوكر الهاتف باهتمامٍ: أعتبر موضوعك منهي لو في إيدي.

إعجب بثقته برده الصارم، وقال بوضوحٍ: فطيمة أخيرًا وبعد الشهور دي كلها  اتكلمت، والنهاردة كان أول جلسة علاج ليها، وفي الحقيقة يا مراد من خلال  كلامي معاها قدرت ألمس مدى احترامها وحبها الكبيى ليك، يعني لو في وسيلة  تواصل بينك وبينها أظن هيسهل الموضوع جدًا.

أجابه بترحابٍ: أنا أعمل أي حاجة عشان فطيمة ترجع لطبيعتها ولو اتطالب الأمر هسافرلك انجلترا من بكره لو تحب.

رفض موضحًا له وجهة نظره كطبيب متخصص: لا، أنا حابب في البداية يكون في  اتصالات بينكم لإني مش ضامن هيكون رد فعلها أيه لو شافتك وش لوش خصوصًا  إنها لسه في البداية.

تفهم الجوكر وجهة نظره، وأبدى تضامنه الكامل معه: زي ما تحب، المهم إنها تتحسن وترجع زي الأول.

استغل على مكالمته الهامة مع مراد زيدان، فبدأ بطرح سؤاله قائلًا: طيب كنت حابب أسالك عن شيء.

اتفضل.

جلس على الفراش وأسند هاتفه إليه وهو يجذب نوته ليردد: تاني مرة فطيمة  اتخطفت فيها وتم الاعتداء عليها فعليًا، الفترة اللي قضتوها انتوا الاتنين  مع العصابة دي كان في أي حوار ما بينكم يعني فطيمة كانت بتتكلم؟

مجرد تذكره تلك الفترة العصيبة التي مر بها بحياته، أظلمت حدقتيه وود لو  عاد بحياته ليقتص منهم بدلًا من أخيه رحيم زيدان، ولكنهم بالنهاية لاقوا  حتفهم بما يستحقوه، فسحب نفسًا مطولًا قبل أن يجيب: أيوه كانت بتكلمني،  وقتها الكلاب دول كانوا بيحقنوني بالمخدرات وهي كانت حاسة بالذنب لانهم  ضغطوا عليها وكانت سبب لرجوعي للمكان ده من تاني.

دون على ملحوظة هامة، وعاد يسأل من جديدٍ: طيب بعد خروجكم؟

أتاه صوته الذكوري المتعصب رغم هدوئه: للأسف كنت تحت تأثير المخدرات  ومقدرتش أكون جنبها في الوقت ده، رحيم أخويا اللي كان جنبها، لحد ما  استرديت صحتي وفوقت من تاني.

قابلتها؟

مرة واحدة وكانت حالتها متدهورة ومبتتكلمش نهائي.

أكد عليه على بعدما استوعب نقطة كان يشك بها: مراد بعدك عن فطيمة بعد  خروجكم من الحبس ده كان سبب من الاسباب اللي خلها تفقد الأمان، على ما  أعتقد بعد أول جلسة مكنش ليها تعارف كامل بأخوك يعني بالنسبالها شخص غريب،  يمكن ده كان بداية إنها بقت كارهة تشوف أي راجل خاصة بعد الاعتداء اللي تم  عليها.

يمكن.

وبرجاءٍ قال: من فضلك يا على اهتم بفطيمة، بتمنى في اليوم اللي تسمحلي فيه بزيارتها تكون واقفة على رجليها واستعادت صحتها.

أجابه وهو يمنحه وعدًا قاطعًا: هيحصل إن شاء الله متقلقش.

وبلطفٍ قال: بعتذر إني أزعجتك في وقت متأخر زي ده، تصبح على خير.

رد بإيجازٍ ووداعة: أنا تحت أمرك في أي وقت يا علي.

أغلق الهاتف فور انتهاء مكالمته، ونهض لخزانته يرتدي ثيابه ليغفو بعمقٍ بعد عناء شهور النوم المتقطع.

اتخذت قرارها بعد أن قضت ليلها بأكمله تفتكر فيما ستفعله، باكية تحتضن  جسدها، ضعيفة في خلوتها بينها وبين ذاتها، قوية فور خروجها من باب غرفتها،  تبدو كالحديد القوي الذي لا يهاب شيئًا كاسر، وهي بالحقيقة هاشة، خاوية.

حملت مايسان الحقيبة الفارغة ووضعتها على الفراش، ثم جذبت الملابس من  الخزانة ووضعتها داخلها ودموعها لا تتركها، وضعت حدًا لمعاناتها تاركة من  خلفها حساباتها المعقدة حول حزن خالتها لقرارها هذا، يكفيها تحمله طوال  الخمسة أشهر الماضية من زواجهما.

قلبها يئن. كفى ألمًا، كفى قهرًا، كفى إهانة ولوعة، كفى تحمل الهجر والكراهية. كفى!

أغلقت حقيبتها وهي تزيح دموعها، واتجهت للسراحة تضع حجابها فوق فستانها  الأسود وهي تتفحص ساعة الحائط لتتأكد بأن الوقت متأخرًا، لتضمن المغادرة  ليلًا دون وداع أحدًا، لا تريد لخالتها أن تلين قلبها مجددًا.

جذبت حقيبتها وجمعت جواز سفرها وما يخصها، فقاطعها رنين هاتفها الموضوع على  الكوماد، أسبلت عينيها بدهشة بالمتصل بتلك الساعة المتأخرة من الليل، فما  أن رفعت الهاتف حتى همست بعدم تصديق: عمران!

بقيت ساكنة بوقفتها، لا تعلم هل تجيبه أم لا، ولكن الغريب بالأمر أنه  بتصل بها، والأغرب ذاك الوقت المتأخر، كادا مايسان باجابته ولكن ما فعله  جعلها تلقي الهاتف على الفراش وتعود لتستكمل استعدادها للرحيل، فتوترت  حركتها وعينيها لا تترك الهاتف المتروك على الفراش، فرددت لذاتها: لا يكون  في حاجة، عمره ما اتصل بيا بوقت زي ده!

انتصر قلبها عليها، فرفعت الهاتف إليها وبقيت صامتة تتلصص لما سيقوله هو، فارتجف جسدها فور سماع صوته الواهن يردد: مايسان.

نبرته كان مقلقة للغاية، وبالرغم من ذلك ادعت برودها: خير يا عمران نسيت حاجة حابب تقولها.

ابتلعه الصمت قليلًا ثم قال بإنهاكٍ شديد: أنا تعبان أوي يا مايا، مش قادر  أسوق خايف. آآ، خايف أعمل حادثة وأقابل ربنا وأنا سكران وكلي ذنوب. خايف من  مقابلته.

واسترسل دون توقف: خوفت أكلم على هيتنرفز لو شافني بالحالة دي، وأكيد فريدة هانم هتعاقبني لو لجئت ليها، ملقتش غيرك.

رددت بلهفةٍ ضربت خفقات قلبها المتسارعة: أنت فين أنا جيالك حالًا.

ابتسم وهو يجيبها بتعبٍ ومازال جسده ملقى على الجزء الأمامي للسيارة: مش عارف أنا فين!

جذبت حقيبتها وهرولت للخارج وهي تردد لاهثة: ابعتلي اللوكيشن وأنا دقايق  وهكون عندك، أرجوك خليك في العربية متنزلش. آآ، أنا مش هسيبك.

ارتعش جسده فور سماع تلك الكلمة التي أبقيته أمانًا قليلًا، فأرسل لها موقعه قبل أن يغلق عينيه مستسلمًا للنومٍ المؤقت.

وقفت تراقب سواد الليل الكحيل برهبةٍ، ومع ذلك تغلبت على خوفها الغريزي  واندفعت تجاه سيارتها، حبه القابع بقلبها كالظل الساكن للجسد مدها بالقوةٍ  جعلتها غير واعية لمخاوفها تلك، فصعدت لسيارتها وحررت بريموتها حاجز  البوابة الخلفي لتنطلق بسرعة البرق وهي تتفحص الهاتف من أمامه، تتبع  الاشارة، يكاد قلبها يتوقف أكثر من مرةٍ وهي تتخيله يخالف ما قالت ويقود  بذاته فيصطدم بأحد الحافلات، فرددت بانهيارٍ: يا رب قصر طريقي ووصلني ليه!

كادت بأن تنقلب السيارة بها أكثر من مرةٍ، تفادت أكثر من حادثٍ حتى وصلت  للإشارة المتبعة، ظهرت سيارة عمران من أمامها، وجدتها معاكسة للطريق لا  يفصله عن الجسر الفاصل بين الرصيف والمياه سوى خطوات معدودة، وكأنه تفادى  سقوطه فعليًا.

تبلدتها الغيوم فور تخيلها بأن السوء قد أصابه بالفعل، فخلعت حزام أمان السيارة وهرولت تناديه بصراخٍ متلهفًا: عمران.

طرقت على باب السيارة في محاولة لتفحصه من عبر النافذة القاتمة، وجدته  يتحرك بصعوبة، ففتح الباب مرددًا وهو يرفع جفنيه بتثاقل: مايا. جيتي لوحدك  في الوقت ده!

مالت بجسدها تجاه السيارة تستند على حافتها العلوية، وهي تجاهد ألا تفقد وعيها من فرط حالة الذعر التي خاضتها منذ قليلٍ.

تابع عمران انقباض صدرها وصوت أنفاسها المسموعة، فمال بجسده على التابلو  متفوهًا بارهاقٍ: أنا شرحلك حالتي قبل ما تخرجي من البيت، مالوش داعي  العياط على حالتي البائسة، روحيني أنا تعبان ومش قادر.

استمدت قوتها وانحنت إليه تعاونه على الخروج من السيارة، أخفضت ساقيه أولًا  بعيدًا عن المقعد، ثم لفت ذراعه حول رقبتها، فخرج صوتها يهمس من فرط  الحركة: اتحمل عليا يا عمران لحد عربيتي.

أتكأ عمران على باب السيارة حتى نجح بالوقوف، فاختل توازنه من أثر الدوار، كاد بالسقوط لولا يدها التي تركزت على صدرها بقوة.

وزع نظراته بين يدها اللامسة لقلبه ويدها الاخرى التي تحيطه، ليرفعهما  لعينيها، زوت حاجبيها بدهشةٍ حينما وجدت عينيه متورمة ومازالت تحتفظ بأثر  بكائه، تمزق نياط قلبها فور تخيلها إنه كان يبكي منذ قليلٍ، أرغمت قدميها  على التحرك به لسيارتها، وبصعوبةٍ نجحت بفتح باب السيارة، فارتمى باهمال  على مقعدها.

حاول رفع قدميه ولكنها لم تستجاب إليه، الا حينما رفعتهما إلى السيارة، وقالت قبل أن تنحني: هجيب مفاتيح العربية وحاجتك وجاية.

هز رأسه دون اكتثار، فأغلقت باب السيارة ثم أسرعت لسيارته، جلست محله  تجذب مفاتيح السيارة، ومن ثم جذبت هاتفه ومحفظته الملاقاة بالمقعد المجاور  له، وكادت بالخروج لولا أن لفت انتباهها تلك الزجاجة الملقاة أرضًا  بالسيارة تحمل بقايا الخمر، ألقتها مايسان من النافذة بغضب، وغادرت سريعًا  بعد أن أغلقت الباب.

اتجهت مايسان للسيارة فتوقفت حينما وجدت عمران يجذب المناديل المبللة  الموضوعة بسيارتها ويمسح شفتيه ورقبته بتقزز واضحًا، اندهشت من فعلته،  فتوقف حينما وجدها تصعد لمقعد سيارتها واستعدت للمغادرة.

لزم الصمت بينهما جلبابه حتى مزقه عمران الذي يرتكن بجسده على نافذة السيارة: هترجعيني البيت لفريدة هانم تعاقبني.

أسبلت بعينيها الباكية تأثرًا برائحة البرفيوم النسائي الذي يفور منه،  وقالت وهي تدعي انشغالها بالطريق: هنروح شقة بابا اللي هنا، مفتاحها معايا.

أغلق عينيه باستسلامٍ لنومه المرهق، ولم يفق الا على هزات يدها وصوتها المنادي: عمران وصلنا.

هبطت مايسان واتجهت إليه فعاد يحتمل عليها حتى وصلت بها للمصعد، فوضع  رأسه على كتفها وهو يشعر بأنه على وشك فقدان الوعي بأي لحظة، أمسكته مايسان  بألمٍ، جسدها الرفيع لا يحتمل جسده الممشق ومع ذلك حرصت بالا تتركه، تفحصت  المصعد حتى صدح بالطابق الثالث عشر، فخرجت برفقته حتى وصلت للشقة، فشلت  مايسان باستخراج مفتاحها، فقالت وهي تلتقط أنفاسها بصعوبة: عمران المفتاح  في الشنطة حاول تجيبه.

منحها نظرة مشوشة، فجذب حقيبتها المعلقة بذراعها وعبث بها بنصف عين، وجد  ما يريد فقدمه لها، وعلق حقيبتها بذراعه بشكلٍ أضحكها رغمًا عنها، فانقطعت  بسمتها فور أن همس: إنتِ واخده في الشنطة جواز سفرك ليه؟

تجاهلت سؤاله ودفعته للداخل، فأشار لها بتعبٍ على الأريكة: خليني هنا معتش قادر اتحرك.

رفضت معللة: أوضة النوم قريبة متقلقش.

انصاع لها حتى ولجت به لأحد الغرف الجانبية، عاونته ليجلس على الفراش،  وجذبت الغطاء إليه فأبعده عنه وعاد ليجلس مجددًا وهو يردد بنفورٍ غريبٍ:  هأخد شاور الأول.

تعجبت من أمره، فمنذ قليل أخبرها بأنه لا يحتمل والإن يرفض الراحة، ومع ذلك  لم تعترض، عاونته مايسان بصعوبة تلك المرة بعد أن اشتد التعب به للغاية،  فكان يئن وهو يردد بهمسٍ ساخرًا: أنا تعبتك معايا بس ده دين وبتردهولي.

حدجته من هذا القرب الخطر بنظرة استغراب، فقال: فاكرة واحنا صغيرين كنت دايمًا بشيلك على كتفي.

قست نظراتها تجاهه، فكاد أن يختل توازنه فرفع يديه معًا حولها، شعر بأنه  سيسقط لا محاله ولكنه وجدها تسانده بكل قوتها، فاتبع خطاها لحمام الغرفة  قائلًا بعاطفة غريبة تهاجمه: عمري ما كان ليا أصدقاء مصريين غيرك، كنت  بستنى كل أجازة عشان أنزل مصر وأسمعك وانتي بتحكيلي عن دراستك وحياتك.

وابتلع ريقه بمرارةٍ تلثم لسانه ومازال نفوره يزداد: كان نفسي علاقتنا تفضل كويسة على طول يا مايا.

وتمعن بالتطلع لفيروزتها: يمكن لو كانت سابتني أختارك بارادتي مكنش شيطاني وزني إني مغصوب عليكي وإنك مش اختياري.

انهى حديثه بسعالٍ قوي جعلها تنتفض برعبٍ من حالتها الغريبة، وبرعبٍ قالت: عمران مالك؟!

احتمل ليصل للمرحاض، فدفعها للخلف وسقط يتقيء بتعبٍ شديد، وكأنه يصارع  الموت، بكت مايسان وهي تتأمله عاجزة عن مساعدته لا تعلم ماذا ستفعل؟

تركته وركضت للخارج ثم عادت بالهاتف تشير له: أنا هتصل بعلي.

جلس أرضًا على السجادة القريبة من حوض الاغتسال، يصرخ بصرامةٍ آمرة: أووعي تعمليها.

وجذب المنشفة يجفف فمه ورأسه يستند على الحائط بارهاقٍ: أنا بس تقلت في الشرب.

خرجت عن طور هدوئها بانفعالٍ: وبتشرب ليه مدام بتتعب منه!

فتح رماديته يسلطها بنظرةٍ إليها، وبسمة ساخرة تعج بما يخفيه: كنت بحاول أنسى قذارتي بس للأسف منستنيش.

وتابع بفتورٍ: كل مرة بخرج فيها من عندها بكون كاره حياتي، قربها في  البداية بيكون مغري وبعد كده بقرف من نفسي وجسمي، بقرف من كل شيء وبكرهها  هي شخصيًا. بعاند وببعد وبرجع تاني أضعف وأقرب.

برقت بعينيها الباكية إليه، زوجها المصون يقص لها عن لياليه مع عشيقته  بجراءة، ودت لو صفعته ليفق من مستنفع قذارته ولكن ما يهدأ اتفعالاتها حالته  المذرية واعترافاته الغريبة بأنه ينفر من فعلها.

شرودها، صمتها، جعله ينتبه لما تفوه به، فرفع ذراعه يقبض على يدها لتفق  محنية رأسها له لتراه يردد ورأسه تترنح ليدها: متبعديش. خليكِ جنبي يا  مايا. ارجعيلي الصديقة اللي كانت بتهون عليا كل شيء، متكونليش الزوجة اللي  بتعاتب وبتجلد أخطائي.

وضم يده حول ساقيها مستكملًا بصوت مختنق بالعبارات: متسبنيش، أنا محتاجلك.

تهاوى الدمع فوق وجنتها فرفع يدها بآلية تامة تمررها بين خصلات شعره  الفحمي، وكأنها تؤكد له وجودها، أزاحت دموعها قائلة بجمودٍ: لو مش قادرة  تعالى ريح وبكره إبقى خد الشاور.

رفض الخروج ونهض بصعوبة ليتجه للجزء المخصص للدوش، فنزع عنه جاكيته وقميصه  المتسخ وحرر المياه لتندفع فوق جسده تمتزج بدموعه بعد ارتكابه لذاك الذنب  الفاضح.

جلست مايسان على الفراش ليتحرر صوتها المكبوت ببكاءٍ عالي، لا تعلم ماذا  تفعل لتتحرر من علاقته السامة، كلما حاولت اتخاذ موقف حازمًا يردعها شيئًا  أقوى مما سبقه، ازاحت عنها دموعها فور رؤيته يخرج من الحمام ومازال يتمايل  بمشيته، أسندت ذراعه حتى وصل للفراش، فجذبت الغطاء عليه وكادت بالابتعاد  فوجدته يتشبث بذراعها وهو يردد بإلحاح: خليكِ جنبي.

قبضت على فستانها بتوترٍ، ولكنها رضخت له بالنهاية، تمددت مايسان لجواره  لتجده يغفو بعمقٍ والانهاك يبدو عليه، فحدثت ذاتها وعينيها لا تفارقه:  حيرتني معاك يا عمران!

دق رنين هاتفه المجاور لفراشه، فرفع ذراعه يتحسس الكومود حتى وصل لهاتفه، فحرر زر الرد ووضعه على أذنيه وهو يردد بنومٍ: أيوه.

أتاه صوتًا يجيبه: جمعتلك كل المعلومات عن شمس سالم يا آدهم باشا!

اعتدل بنومته وبسمة خبيثة تحيط بيه، ليمنحه الآذن مرددًا: سامعك، اتكلم.

حملت الأغراض من بواب العمارة، وعادت للمطبخ تضع الأغراض على الصينية  المستديرة، وكوب القهوة الذي انتهت المكينة من صنعه ثم توجهت للغرفة  بارتباكٍ، لا تعلم ماذا سيكون رد فعله بعد افاقته. وتذكر ما قاله بالأمس،  توقفت مايسان أمام باب الغرفة حينما وجدته يجذب هاتفه الذي لم يكف بالرن  منذ الصباح ومازال يتجاهل الرد على المكالمات، والآن يلقيه على الفراش  بغضب، انتبه عمران لها تدنو منه، فوضعت الصينية على الطاولة القريبة منه  قائلة بنبرة تحاول جعلها جافة: افطر واشرب قهوتك عشان تنزل الشركة قبل ما  فريدة هانم توصل هناك.

وكادت بالمغادرة فأوقفها حينما ناداها: مايا.

وقفت محلها تبتلع ريقها بتوترٍ، وخاصة حينما وجدته يدنو منها مرددًا بحرج:  أنا أسف، بسببي خليتك تخرجي من البيت في وقت متأخر ومن ورا ماما وتقلت  عليكي امبارح أنا بجد بعتذر.

أبعدت عينيها عنه وقالت دون النظر إليه: محصلش حاجة. بس ياريت مترجعش للقرف ده تاني.

قال باصرار: مستحيل. بعد اللي عشته امبارح مستحيل هشرب الزفت ده وآ.

قاطعه رنين الهاتف مجددًا، فزفر بغضبٍ وهو يتأمل المتصل، فألقاه مجددًا وتلك المرةٍ تسنى لها رؤية إسمها على الشاشة ألكس.

خشيت أن يمسك بها وهي تلقط ما بيده فتوجهت للخروج وهي تخبره: أنا غسلتلك القميص والجاكت، هجبهملك تلبسهم.

فور أن تأكد من ابتعادها قليلًا، جذب الهاتف يسجل رسالة صوتية سمعتها من تقف بالخارج.

«ألكس علاقتنا انتهت هنا، إن كنتِ تحبيني مثلما تدعين ستقبلين الزواج  بي، ما حدث بالأمس لن يعاد مجددًا، استهزائك على ديني، تقربك مني بتلك  الطريقة لن يحدث الا بالزواج، أعدك تلك المرة إن رفضتي الزواج مني سأطردك  خارج حياتي للأبد. »

قال كلمته الأخيرة وهو يلقي الهاتف على الفراش، مرددًا بندمٍ: مش هرتكب الذنب البشع ده تاني لو أخر يوم في عمري.

انتبه عمران لها تقف قبالته حاملة القميص والجاكت، دنى منها عمران وهو  يحاول قراءة ملامحها إن كانت استمعت لمكالمته، ارتدى عمران القميص ومن ثم  الجاكيت قائلًا: تسلم ايدك.

وحمل القهوة يرتشفها مرة واحدة، ثم قال: مش يالا ننزل الشركة قبل ما ماما تروح تفتش عننا هناك.

هزت رأسها بآلية تامة واتجهت للسراحة، جذبت حجابها وارتدته ثم حملت  الحقيبة واتابعته للاسفل، فقادت سيارتها وهو لجوارها شاردًا بما حدث بالأمس  وبالأخص بمساعدتها له بالرغم مما يفعله.

كانت بطريقها للجامعة حينما صدح صوت عجلات السيارة لتتوقف من بعده عن  الحركة، مما جعل من تقودها تهبط وهي تتأمل ما يحدث بصدمةٍ، فركلتها وهي  تصيح بضيق: مش وقتك خالص، أنا كده هتأخر على المحاضرة.

بحثت شمس بعينيها في محاولة للبحث عن سيارة أجرة، فلفت انتباهها سيارة  سوداء تدنو منها، حتى توقفت قبالتها، ليهبط منه بقامته الطويلة قائلًا  ببسمة هادئة: محتاجة مساعدة يا شمس هانم.

ارتسمت ابتسامة تلقائية على وجهها، ورددت بتذكرٍ: آدهم، كابتن آدهم!


4=رواية صرخات أنثى للكاتبة آية محمد رفعت الفصل الرابع

اليوم خاص باحتماع رؤساء مجلس الادارة، وبالرغم من أهمية الإجتماع الا  أنه كان شاردًا، عينيه مسلطة على المهندس الذي يتابع شرحه باستفاضة على  شاشة الانجازات المطروحة من أمامهم، بينما يستكين عمران على ذراعه الساند  على حافة المقعد المتحرك، يسحب عينيه تارة عن المهندس الذي يشير له بإعجاب  لما يبديه بالمشروع القادم وفي الحقيقة لم يستمع لأي حرفًا قاله من الأساس،  وتارة أخرى يسحب عينيه لمن تجلس على يمينه تتابع العمل بجديةٍ تامةٍ.

خيمتها نظرة عميقة من رماديته، لم تنتبه لها مايسان لانشغالها بتدوين  بعض الملاحظات الهامة المتعلقة بالمشروع الجديد التابع للشركة، انتبهت لصوت  المهندس المنادي: عمران باشا حضرتك معايا؟

انتبه الجميع لعمران وكذلك مايسان، استدارت إليه فاندهشت حينما وجدته  يتطلع لها بشرودٍ، لعقت شفتيها بارتباكٍ من نظرات الموظفين حولها، وضحكات  الموظفات الحالمة بتفاصيل قصة حب نابعة بينهما، على عكس ما يحدث، فنادته  على استحياءٍ وهي تعدل حجابها: عمران!

لم ينتبه إليه، فمررت قدميها من أسفل الطاولة لتلكزه بقوةٍ، جعلته يرتد  بجلسته متأوهًا بألمًا ليس كإفاقته على ما يحدث حوله، اعتدل بجلسته وتنحنح  بخشونة، اتبعت أوامره الصارمة: كمل يا بشمهندس سامعك.

ابتسم وهو يخبره مازحًا: أنا خلصت يا فندم!

التقطت عينيه الهمسات الجانبية بين موظفينه، فنهض عن مقعده الرئيسي وهو  يشير لهم بحزمٍ: ولما أنت خلصت لسه قاعدين هنا ليه، كل واحد يروح يشوف  شغله!

جمعوا أوراقهم وغادر الجميع والابتسامة تشق الوجوه، فحك عمران لحيته  بحرجٍ مما فعل، وخاصة حينما وجدها مازالت تجلس محلها وتطالعه بدهشةٍ، سحب  جاكيته عن مقدمة المقعد وغادر من الباب الجانبي لمكتبه، فجلس على مقعده وهو  يمرر يده على جبينه هامسًا بضيقٍ: ناقصة هي!

وجذب أحد الملفات الموضوعة جواره ليجبر ذاته على التركيز بالعمل دون  التفكير بليلة أمس، فاستقبل هاتفه رسالة نصية جعلته ينصب اهتمامه فور  رؤيتها تخص ألكس، فتح الرسالة ليجدها تدون له.

«ألم تمل من الحديث عن زواجنا! حسنًا عمران سأثبت لك حبي الشديد لك، أنا  موافقة على الزواج بك ولكن شرطي الوحيد أن تتخلص من زواجك الأول، فإن كنت  تحترم دينك أنا أيضًا أحترم ديني، وديني يمنعني بالزواج من شخص متزوج،  ولأعلمك بالأمر لا ينبغي لك الزواج إن قبلت أنا زواجك».

استفزته رسالتها، فعبث بأزرر هاتفه يجيب.

«بربك ألكس، ألا تريني أحاول فعل ذلك منذ أشهر! فريدة هانم ترفض طلاقي من مايسان، والإ حينها سأخسر المال وكل ما أملك! »

ليته كان لجوارها ليتمكن من رؤية فزعها وخوفها على المال السبب الوحيد  لتعلقها به، فوصلت رسالتها إليه بعد خمسة عشر دقيقة، بعد تفكيرها الميمون  بالأمر

«إترك لي الأمر، أعدك بأنني سأجعل والدتك تتوسل لك لتطلقها. »

تجعد جبينه بدهشةٍ وراح يتساءل

«كيف ذلك؟! ».

وصلته رسالتها ففتحها بلهفة

«لا تهتم عزيزي، أريدك أن تترك لي أمر تلك المعتوهة سأهتم بها. »

اغتظم غيظه لسماع لفظها البذيء، فترك هاتفه ورفع يديه لوجهه بتعبٍ من تلك  الحلقة الدائرية التي يدور بها، انطلق رنين هاتف مكتبه، فتفحصه وهو يردد  بسخطٍ: مش وقتك يا فريدة هانم!

ولكنه اضطر يحمل السماعة ليجيب بامتعاضٍ: صباح الخير.

أتاه صوتها مفزوعًا، مقبضًا، يستمع له عمران للمرة الأولى: عمران.

انتفضت حواسه فتساءل بقلقٍ: ماما إنتِ كويسة؟

رددت بارتباكٍ وتخبط بكلماتها الغير مرتبة والغير مسبق لها: مايسان مش في  أوضتها، في شنطة على سريرها لمة فيها هدومها. باينها سابت البيت. مايسان  سابتني، مش عارفة هتكون راحت فين، دور عليها وشوفها فين أنا عايزة بنتي يا  عمران!

أجابها سريعًا وملامح الخوف مرسومة على معالمه تأثرًا بسماع والدته بتلك الحالة: متقلقيش يا حبيبتي مايا هنا معايا في الشركة.

وصل إليه أنفاسها التي عادت تنتظم بعد عناءٍ، وبصوتٍ مهزوز قالت: بجد يا عمران ولا بتضحك عليا. طيب سمعني صوتها.

شفق عليها، يعلم جيدًا ماذا تعنى مايسان لوالدته، فحمل سماعة الهاتف اللاسلكي، وأجابه بهدوءٍ: حاضر خليكِ معايا.

ودلف من الباب الجانبي لغرفة الاجتماعات، فوجدها مازالت تجلس محلها تراجع أوراقها، قدم لها عمران الهاتف قائلًا بثباتٍ: فريدة هانم.

التقطت منه الهاتف تجيب ببسمة ساحرة: صباح الخير يا ديدا.

انكمشت تعابيرها وهي تستمع إليها، وخاصة من مراقبة عمران لها، وكأنه  يحاول تحليل تلك الاحداث، فقالت بتلعثم: لأ، أنا بس كنت بجمع الهدوم اللي  مش محتاجاها وزاحمة الدولاب عندي، لكن أنا هسيبك وأروح فين، ده أنا حتى كنت  هرجع بدري النهاردة عشان أروح معاكِ الجمعية.

أتاها صوته المتلهف يخبرها: سيبي اللي في إيدك وتعالي حالًا، أنا من الخضة  مش قادرة أتلم على أعصابي وشكلي كده هعاقبك على اللي عملتيه ده.

رددت بمزحٍ رغم تجمع الدمعات بمقلتيها: عقاب أيه بس، لا أنا جاية مسافة الطريق بإذن الله.

وأغلقت الهاتف ثم قدمته لعمران، وانحنت تجمع متعلقاتها تحت نظراته  المتفرسة، فقطع صمته حينما قال: إمبارح كان معاكِ جواز سفرك وفريدة هانم  بتقول إنك كنتِ محضرة شنطتك.

رتبت الأوراق بمجلد واحد قائلة ببرود: وده يخصك في أيه؟

مال بجسده ليستند على جسد الطاولة الزجاجية: يعني أيه يخصني في أيه؟ انتي ناسية إنك مراتي؟

ضحكت ساخرةٍ وتجاهلت التطلع إليه: لا مش ناسية، بس اللي فاكراه إنك مش معترف بجوازنا وبتحاول بكافة الطرق تنهي العلاقة دي.

ابتلع ريقه بارتباكٍ وبقى يتابعها بجمودٍ مصطنع، حملت مايسان حقيبتها  واستدارت لتكون قبالته، فقالت بألمٍ: أنا حياتي مش هتتوقف على العلاقة  السامة دي يا عمران، أنا عايزة أكمل حياتي مع الشخص اللي يقدرني ويحبني من  قلبه.

وفتحت الباب الزجاجي وقبل أن تغادر منحته ابتسامة رقيقة وهي تخبره:  متقلقش لما أرتبط بانسان تاني مش هنسى إنك كنت صديق طفولتي وهكونلك الصديقة  دايمًا حتى لو أنت كنت رافض الاعتراف بده.

واستكملت بتسليةٍ: المواقف اللي بنتعرضلها في حياتنا هي اللي بتورينا احتياجنا بيكون لمين؟

وودعته بنفس البسمة الواثقة: مع السلامة يا عمران.

وتركته مقيدًا محله، يتطلع للباب الذي يتراقص من خلفها لشدة دفعها له،  شعر بالاختناق يجوبه من حديثها الذي أيقظ غضبه وحنقه الشديد، مجرد تخيله  أنها برفقة رجلًا أخرًا غيره جعلت الدماء تتصاعد بأوردته بشراسةٍ.

حرر عمران جرفاته باختناقٍ، فعاد لمكتبه يجذب مفتاح سيارته، وغادر وهو لا يعلم لأي وجهة سينطلق!

منحها ابتسامة صغيرة رغم ثبات نظراته، ليخطفها لعجلة القيادة المركونة  على الرصيف، رفع حاجبه بتمعنٍ اتبع نبرته: الظاهر إنك كالعادة محتاجة  مساعدة.

رفعت كتفيها بقلةٍ حيلة: الظروف اللي بتعمل فيا كده، لكن أنا بسكوتة وقلبي أبيض والله متحملش كل اللي بيحصلي في حياتي ده.

قهقه ضاحكًا وهو ينزع عنه جاكيته الأسود، وأشمر عن ساعديه ليجذب من  صندوق سيارته المعدات اللازمة ليبدل عجلة سيارتها، رفع آدهم السيارة  باستخدام الحامل ومن ثم شرع بتبديلها بأخرى كان يحملها بسيارته.

راقبته شمس باهتمامٍ وهو يعيد ربطها، وقالت بحرجٍ حينما وجدته ينظف يده  المتسخة بالمناديل بصعوبةٍ: كان نفسي أساعد بس للأسف مينفعش فستاني هيتوسخ.

ابتسم وهو يراقبها تشير لفستانها، وكأنه جوهرة ثمينة وتنحنح وهو يلقي منديله: ولا يهمك، أنا خلاص خلصت، هلم الحاجة بس.

رددت بامتنانٍ لما فعله: شكرًا يا كابتن.

ضحك بصوتٍ مسموع، وقال وهو ينحني يجمع أغراضه: العفو يا شمس هانم.

علي رنين هاتفه فوضع الأغراض عن يده ثم رفع شاشته إليه، فأجاب بخشونة اعتلته: أيوه يا باشا.

تجهمت معالمه تدريجيًا بصورة لفتت انتباه شمس التي راقبته باهتمامٍ لمعرفة ماذا هناك؟

أسرع آدهم لسيارته، ففتح بابها الخلفي وهو يبحث عن شيئًا كان مبهمًا  لشمس، فجحظت عينيه صدمة مما رأه، وقبل أن تستوعب ماذا أصابه، وجدته يجذب  يدها مرغمًا إياها على اتباع خطاه، فهرول بها بعيدًا عن السيارتين،  والاخيرة تتساءل بدهشةٍ: في أيه؟

دفعها أدهم لمقاعد الانتظار المصفوفة على طرف الطريق، فأرغمها على  الجلوس أرضًا، ليحني جسده من فوقها ويديه من أعلاهما في تأهبٍ صريحٍ  لمواجهة ما سيحدث، رفعت شمس وجهها إليه تتساءل برعبٍ من هيئتها: آدهم في  أيه!

أتاها دوي الأنفجار الخاص بسيارته، ضاربًا سيارتها المجاورة للأخرى، فصرخت برهبةٍ وتمسكت بقميصه وهي تصرخ: أيه اللي بيحصل جاوبني!

رفع رأسه من خلف حافة المقعد يراقب الطريق بتمعنٍ، فتفاجئ بسيارتين  تقترب من سيارته المتفحمة، عاد يختبئ من جديدٍ، وما يهاجمه بتلك اللحظة  اكتشافهم بقائه على قيد الحياة.

المعركة الآن غير متكافئة بوجود شمس برفقته، لا يرغب في إيذائها بسبب  عمله المفروض عليه، إن كان بمفرده كان ليقف شامخًا بساحة الحرب متباهيًا  بقوته بالقتال، ولكنه من المؤكد لن يحتمل خسارة حياة أحدٌ بسببه، ماذا وإن  كانت تلك الفتاة التي بدأت تعرف طريقها لقلبه!

جابت عينيه ذاك الطريق المنجرف خلف أعواد الخضرة الضخمة التي تسد الطريق عن  المياه، فأخرج سكينًا صغيرًا مما جعلها تردد بذعرٍ: أنت هتعمل أيه؟

وتابعت وعينيها تراقب السيارات التي خرجت منها رجالًا مسلحين: ومين دول!

أشار لها بأن تخفض صوتها، ليهمس لها بحذرٍ: اهدي يا شمس، خليني أعرف أتصرف  قبل ما يلاحظوا مكانا لإنهم لو وصلوا لينا أوعدك هيكون يومنا الأخير.

صعقت مما استمعت إليه، وابدت اعتراضها الفوري: وأنا مالي، إنت شكلك اللي مزعلهم بالجامد ذنبي أنا أيه؟

ضحك وهو يراقب ملامحها المذعورة بتسليةٍ، فصاحت بعصبيةٍ: وطي صوتك مش  بتقول هيعرفوا مكانا! وبعدين أنت ليه دايمًا منشكح كده حتى في المواقف اللي  مينفعش حد يبتسم فيها!

رد عليها وهو يغمز لها بمشاغبةٍ: بستقبل موتي بنفس بشوشة.

ردت باجتياجٍ: استقبله انت براحتك أنا لسه صغيرة وفي بداية حياتي.

أشار بالسكين خلفه: حاولي تقنعيهم بده، يمكن وقتها يفكروا يمشوا ويسبوا  وراهم شاهدة لطيفة على جريمتهم البشعة اللي هيرتكبوها مع الشخص اللي علم  على قفاهم مرتين.

ابتلعت ريقها بارتباكٍ، فحاولت ادعاء قوتها الزائفة: وأنت بتتنيل تديهم بالقفا ليه يا عم إنت!

تمردت ضحكاته الرجولية بشدةٍ ومازالت تشير له بخوفٍ، فقال: آسف بس إنتِ جاية تنكتي وإحنا بنموت حضرتك!

وتابع بخبث وهو يحاول نزع الغاب عن طريقهما: يعني ده جزاتي بدل ما  تشكريني إني حميت حياة راكان باشا خطيبك من الكلاب دول زعلانه إني علمت  عليهم!

زوت حاجبيها بدهشةٍ: يعني الناس دي عايزة تقتلك عشان كنت بتحمى راكان منهم؟

هز رأسه بتأكيدٍ وهو ينزع أخر الغاب المصفوف، لوت شفتيها وهي تهمهم بتريثٍ: يا أخي كنت سبتهم يخلصوا عليه وخلصتني من بروده وتقل دمه.

تطلع لها بعدم تصديق وخار ضاحكًا، فرفعت كفها تكبت ضحكاته وهي تردد برهبةٍ: اطلع اضحك بره قدامهم وسبني أعيش!

غادرته ضحكاته وهامت عينيه بقربها الشديد منه، يدها التي تلامس شفتيه  ونظراتها المرتعبة، ارتبكت شمس من نظراته الجذابة تجاهها، فسحبت كفها  بارتباكٍ لمسه آدهم فابتسم وهو يتابع عمله ببراعةٍ، وما أن انتهى حتى أشار  لها: يلا.

هزت رأسها وانحنت على يدها تزحف حتى وصلت إليه، فمدت رأسها داخل الفجوة التي صنعها، ثم عادت إليه سريعًا تخبره بذعرٍ: ده طريق للبحر!

أكد بإشارة رأسه، وردد وهو يطالعها بتسليةٍ: عندك حل تاني؟

لعقت شفتيها وهي تخبره بتوترٍ: بس أنا مش بعرف أعوم!

ابتسم وهو يخبرها: متقلقيش يا شمس أنا معاكِ.

زادتها كلماته ارتباكًا فوق ارتباكها، فرددت بتشتتٍ: كلمة متقلقيش دي  بتقلق أساسًا، ثم أنك ما صدقت ونازل من الصبح شمس شمس، أمال فين هانم اللي  كنت بتقولها!

وأشارت باصبعها تعترض: لا أوعى الموقف ده ينسيك إني خطيبة راكان البارد اللي بتشتغل عنده أنا مسمحلكش.

سيطر على ضحكاته بصعوبةٍ وهو يشير بيديه كأنه يرحب بالملكة: آسف شمس  هانم، ممكن لو سمحتي تدخلي بسرعة قبل ما الحيوانات اللي بره دول يعرفوا  مكانا ووقتها هتنزف في شوال واحد لراكان باشا خطيبك!

لعقت شفتيها برعبٍ: بتخوفني ليه يا عم!

ومرت لداخل الفجوة التي تحيطها الحشائش مرددة بضجرٍ: كان يوم مالوش ملامح لما وافقت ارتبط باللي اسمه راكان ده.

زحف من خلفها مبتسمًا، فأحاط الفجوة بالحشائش لتخفي محلهما، تفادت شمس  فستانها الذي كاد بأن يسقطها بالمياه، فتمسك بها آدهم بقوةٍ جعلتها تعود  لطريقها من جديد حتى وصلوا لنهاية الطريق المؤدي على الرصيف الأخر، هبط  آدهم أولًا فمد ذراعه مشيرًا لها: هاتي ايدك.

تفحصت المسافة بينها وبين الرصيف بتمعنٍ، وليده الممدودة فعادت تختبيء خلفه الحشائش وهي تخبره: هستنى هنا لحد ما يمشوا وهطلع.

أجابها بنفاذ صبر: متبقيش جبانة يا شمس إطلعي!

فتحت الحشائش لتطل عليه من جديدٍ، قائلة بغضب: أنت بتتخطى حدودك يا كابتن، مش كفايا العربية اللي اتفحمت على الطريق!

واسترسلت بغيظٍ: لأ وأنا اللي كنت فرحانة إنك موجود وبتساعدني عشان ألحق المحاضرة، لا لحقت محاضرة ولا العربية سلمت!

مرر يدها على وجهه بغضبٍ، مازال مكانهما غير آمنًا بالمرة، وهي غير  مدركة لخطورة الموقف، وكأنه يحاول أن يلين رأس إبنة شقيقته البالغة من  العمر اثنا عشر عامًا، فقال من بين اصطكاك أسنانه: شمس الموضوع خطير من  فضلك خلينا نمشي من هنا وفورًا، وإن كان على عربيتك فأنا هعوضك صدقيني.

عادت تطل له من خلف الحشائش تخبره بغضب: أنا مش بقبل عوض يا كابتن، ثم أنك متعرفش أنا بنت مين ولا أيه؟

أدنى شفتيه بأسنانه وصاح بها: مش وقته الكلام ده بقولك الناس اللي بره دي لو وصلولنا هيصفونا!

اعترضت محتجة: يصفوك أنت أنا مالي بالليلة دي!

ضيق عينيه بنظرةٍ مستهزئة فأشار لها بخبث: أوكي أنتِ صح، عشان كده ههرب أنا  وهسيبك تداري ببوكيه الورد اللي أنتِ قاعدة جواه ده، مع السلامة يا شمس  هانم.

جحظت عينيها في صدمةٍ حينما وجدته يشرف على الابتعاد عنها، فصاحت بهلعٍ:  أنت سايبني ورايح فين، يا آدهم، كابتن آدهم استنى، طيب مش خايف من راكان  البارد يعاقبك انك سبتني ليهم.

لم يعيرها انتباهًا، فصاحت بصوتٍ أعلى: طيب استنى تنتاقش طيب.

صعقت شمس حينما استمعت لصوت طلقات نارية تجوب مياه البحر، بعد أن اكتشف  الرجال أمر السيارة فارغة، فظنوا بأنه هرب للمياه، أمرهم كبيرهم باطلاق  الرصاص الحي على المياه حتى يصبوه في مقتلٍ.

كادت بأن تلقي ذاتها من خلفه غير مبالية بما سيصيبها لبعد المسافة، فوجدته  يسرع ليتلقفها بين ذراعيه، ارتجفت شفتيها وهي تردد بخوفٍ: بيضربوا نار،  شكلهم فعلًا ناس خطيرة

لوى شفتيه بتهكمٍ: والله؟!

داعبت شفتيها ابتسامة ساحرة فور تسلل رائحة الزهور إليها، فتعلقت عينيها  على باب الغرفة تلقائيًا تستعد لرؤيته، طرق على الباب ثم طل بجاذبيته  الخاطفة: صباح الخير فطيمة.

ابتسمت فور رؤيته يتقدم لينزع زهور الأمس، ومن ثم وضع الزهور الجديدة  بال?ازة القريبة منها، فجلس على المقعد المقابل لها قائلًا: يا رب تكوني  النهاردة أحسن؟

بقيت صامتة كحالها وابتسامتها لا تفارقها، فتقوست معالمه هاتفًا بضيق:  لا احنا اتخطينا مرحلة الصمت من إمبارح تقريبًا ومش مستعد إنك ترجعيلها  تاني.

وعبث بحدقتيه مرددًا: هنعيد من تاني.

ضيقت عينيها بعدم فهم، فوجدته يخرج من غرفته ويعود بالطرق مرة أخرى، مكررًا: صباح الخير يا فطيمة.

صاحبتها ضحكة رقيقة: صباح النور دكتور علي.

تهللت أساريره واتجه ليقف قبالتها يكشف عن ساعديه وكأنه على وشك  الاستعداد لشيءٍ هامٍ، فقال: بصي أنا جاي النهاردة وعندي نية تامة إني  هنزلك الحديقة، ترفضي بقى تقبلي قراري صدر وأمره نافذ.

منذ ثمانية أشهر تجلس بتلك الغرفة، ولم تحبذ يومًا مغادرتها، بداخلها  رفضًا تامًا للاحتكاك بأي رجلًا، مجرد تواجد أي طبيب بغرفتها كان يثير  اشمئزازها، لولا وجود على لجوارها، فقالت بإصرارٍ: مابغيت نشوف حتى واحد،  انا كنخاف فاش كنكون وسط ناس كتيرة، عافاك خليني هنايا احسن.

(مش جاهزة أشوف حد، أنا بخاف لما بكون وسط ناس كتير، من فضلك خليني هنا أحسن).

فاقت رغبته اصرارها فقال: لازم تخرجي يا فطيمة، وجوك هنا طول الوقت هيضرك مش في صالحك.

وقال بهدوءٍ: متخافيش هكون جانبك وجاهز لأي رد فعل.

زوت حاجبيها بعدم فهم، فوجدته يخرج إبرة طبية من جيب بنطاله، فأشارت له بهلعٍ: لاا مابغيتش نضرب ليبرة.

(لأ مش عايزة أخد حقن! )

أعادها على لجيبه بابتسامةٍ ماكرة: يبقى تسمعي الكلام.

هزت رأسها بطاعةٍ، ونهضت عن فراشها تبحث عن حذائها، ارتدته فطيمة ولفت طرف حجابها من حولها ووقفت قبالته قائلة بحرجٍ: أنا جاهزة.

فتح باب غرفتها وخرج وهي تتبعه بخطواتٍ مترددة، لفت انتباهها الطابق القابع  به غرفتها، يغمره اللون الأبيض النابع عن صفاء العين، وبالرغم من الهدوء  الشامل للمكان الا إنه لم يخلو من المارة، سواء من الاطباء أو المرضى،  وكأنه هي بمفردها التي تحبس ذاتها بغرفتها.

ابتسم على وهو يراقبها من طرف عينيه تتابع المكان باهتمامٍ، هكذا ما أراد أن تختلط سريعًا بالبيئة المحاطة بها.

استدارت فطيمة تتفحص المكان ولم تنتبه لتوقف على عن الحركة، فارتطمت به  وكادت بالسقوط لولا يده التي تشبثت بها وصوته الدافئ يصل لها: خلي بالك يا  فطيمة، بصي قدامك.

ارتجف جسدها الهزيل، وتلقائيًا دفعته بعيدًا عنها، وأنفاسها تعلو بعنفٍ،  منحها على ابتسامة هادئة لم تغادره وقال مازحًا وهو يشير على المصعد: آسف  إني وقفت فجأة، بس مش هينفع ننزل كل المسافة دي.

انفتح باب المصعد، فأشار لها بالدخول، وزعت نظراتها المرتبكة بينه وبين  المصعد، صحيح أنها تراه أمانها ولكن بخروجها معه تختبر شيئًا لم تختبره من  قبل، والآن أعليها البقاء معه بمفردها داخل المصعد!

استمدت فطيمة قوتها الزائفة حينما وجدته يناديها بدهشةٍ: فطيمة إنتِ كويسة؟

أومأت برأسها وهي تلحق به، ففور انغلاق الباب حتى اهتز جسدها وتسلله  البرودة، اضطربت أنفاسها رويدًا رويدًا وهي تراقب مكان وقوفه، فابتعدت لأخر  زوايا المصعد.

تفهم على حالتها لذا بقى ثابتًا، لم يعير ما يحدث أي اهتمامًا قد يضايقها،  هو بالنهاية ليس شخصًا عاديًا، هو طبيبٍ نفسي يحلل تصرفاتها ويعلم بماذا  تفكر؟ ولماذا تشعر؟

كان احترافيًا بالتعامل معها، فلم يبدي أي اهتمام لوقوفها بعيدًا عنه  ولم يتساءل عما يصيبها ليقلل من تنفسها هكذا، توقف المصعد فخرج أولًا وهو  يقول دون النظر إليها: وصلنا.

لحقت به للخارج، فوقفت تتطلع للحديقة بنظرةٍ انبهار، طافت حدقتيها كل  ركنٍ بها، لم تكن كبيرة ولكنها منسقة بزهور ترآها لأول مرة، تملأها عدد من  الطاولات، وعدد من المرضي المرتدون لنفس لون جلبابها، أشار لها على على  الطاولة القريبة منهما متسائلًا بلباقةٍ: تحبي نقعد هنا؟

اكتفت بإيماءة من رأسها، فاتجه للطاولةٍ ثم جذب المقعد ليشير لها بالجلوس، فجلست وهي تردد على استحياءٍ: شكرًا.

جلس على قبالتها، مستندًا على الطاولةٍ بجسده العلوي عليها، ليسحبها من  دوامة تشتتها: شوفتي بقا إنك سايبة الجمال كله تحت وقاعدة حبسة نفسك فوق.

تكلفت بسمة على شفتيها، وعادت تتطلع من حولها بفضولٍ، متجاهلة حديثه عن  مداخل الحديقة ووصفه الدقيق عن كل مكانٍ بها، ابتسم على حينما تأكد بأنها  لا تصغي لحرفٍ واحدٍ مما يقول، فردد بصوته الرخيم: فطيمة!

عادت برأسها إليه، ورددت بحرجٍ: بتقول حاجة يا دكتور؟

استند على يده وتابع بنفس بسمته: كنت بقول حاجات بس الظاهر إن جمال الحديقة خطفك مني.

ابتسمت وهي تخبره: المكان فعلًا جميل أوي.

بداخله يهمس دون توقف مفيش في جمالك!

وتنحنح قائلًا: شوفي بقى، عشان سمعتي الكلام هكافئك بالرغم من إنك غلبتيني.

تساءلت باستغرابٍ: مكافأة أيه!

أخرج على هاتفه ثم حرر زر الاتصال بعدما فعل السماعة الخارجية، فتابعته  باهتمامٍ لمعرفة مقصده، زف إليها صوتًا رجوليًا مألوفًا لمسمعها: دكتور  علي، إزيك.

ابتهجت للغاية، ورددت بلهفةٍ: مراد!

فطيمة، أخيرًا سمعت صوتك!

وتابع بحماسٍ: طمنيني عاملة أيه؟

اتسعت بسمتها وهي تجيبه: أنا كويسة الحمد لله، أخبارك إنت أيه؟

بخير بفضل الله. المهم إنتِ عايزك تفوقي كده وتستردي صحتك، والأهم إنك تسمعي كلام دكتور علي.

ابتسم على وأشار باصبعيه للهاتف: سمعتي.

أجابته بلطفٍ: حاضر. أنا بجد مبسوطة أوي أني اتكلمت معاك.

وقريب هاجي بنفسي أزورك بس عشان ده يحصل لازم تخفي وتكوني أحسن عشان أخدك  في إيدي على مصر وأعرفك على حنين وبناتي مرين ومارال هيتجننوا عشان  يشوفوكي.

ببسمة مشرقة قالت: ما شاء الله، ربنا يباركلك فيهم وتفرح بيهم يا رب.

اتاها صوت ضحكاته ومن بعدها سخريته بالحديث: بتدعي عليا أني أكبر، ماشي يا فطيمة مكنش العشم!

شاركته الضحك وتحدثت بصعوبةٍ: قولي الدعوة اللي تحبني أدعهالك وأنا أدعي.

رد عليها بجديةٍ تامة: مفيش عندي شيء أتمناه غير إنك تقومي بالسلامة.

تمعنت ببسمتها وهي تردد بهمسٍ: يا رب.

تبادلا الحديث حتى أغلق مراد معها على وعد بأنها ستجاهد لتلقي خلفها  الماضي بما يحمله من آهات قاتلة، كانت مكالمة الجوكر لها في الصميم مثلما  توقع علي، فقد تبدلت فطيمة من حالٍ للأخر، فجلس يراقبها خلسة وكلما أمسكت  به عينيها ادعى انشغاله بمراقبة هاتفه، حتى أخرج لها دفترًا صغيرًا وقلمًا  مرددًا: أنا هسيبك تقعدي لوحدك شوية في الجمال ده، وعايزك تدوني بالدفتر ده  ذكريات جميلة لسه فاكراها لحد النهاردة عن طفولتك.

جذبت الدفتر منه ببسمةٍ هادئة، ففتحت أول صفحاته لتتفاجئ بأنه يدون  فاطيما بأول صفحاتها، فرفعت عينيها إليه وقالت: انا اسمي فاطمة بالالف و  لكن في المغرب كنقولوا فاطما و لا فطيمة

و انا انا دارنا كيقولو لي فطيمة.

برق بدهشةٍ، فجذب الدفتر يمحي إسم فطيمة ويكتب فاطمة، وأعاده لها وهو يسألها: يعني أناديكي فاطمة ولا فطيمة؟

أجابته ببسمة صغيرة: الاسم اللي يعجبك و تبغيه عيطلي بيه.

ردد بتيهةٍ: ما تكلميني مصري ينوبك ثواب!

تعالت ضحكاتها وهي تعيد ما قالته: الاسم اللي يعجبك ناديلي بيه.

هز رأسه باقتناعٍ: اتفقنا.

علي!

صوتًا ذكوريًا اقتحم جلستهما، فرفعت فطيمة رأسها تجاه هذا الشاب الذي يملك ملامح مشابهة لعلي، ابعد مقعده ونهض يردد بدهشةٍ: عمران!

جابت عينيه الفتاة التي يجلس برفقتها، وقال دون أن يحيل عينيه عنها: روحتلك مكتبك قالولي إني أكيد هلاقيك مع فطيمة!

وتابع بمرحٍ: وكل ما أسأل حد يقولي نفس الجملة لدرجة إني بقى عندي فضول أشوفها.

وتابع وهو يشير بعينيه إليها: هي دي بقى فطيمة؟

بدى الارتباك يجوب ملامحها، فأجبر على رسم بسمة متكلفة على وجهه وهو يسحب  عمران بعيدًا عن مقعدها مرددًا: ده عمران أخويا الصغير يا فطيمة، هو بس  مشاكس حبيتين وداخل على هزار على طول.

صحح له مفهومه الخاطئ: أنا بني آدم عشري وقلبي أبيض والله.

سحبه على مشيرًا بيده للممرضة التي جلست محله، بينما اتجه بعمران للطاولة القريبة من فطيمة، جلس قبالته يتساءل بقلقٍ: خير يا عمران.

لفظ أنفاسه بصوتٍ مسموع، واستكان على سطح الطاولة بنصف العلوي، مجاهدًا  لخروج كلماته: على إمبارح كنت سخيف أوي معاك فأنا، آآ، آسف على اللي حصل  إمبارح مش عايزك تزعل مني إنت أخويا الكبير وآ.

قاطعه على ببسمته الهادئة: عمران مفيش داعي إنك تكمل كلامك، أنا مزعلتش  منك ولا عمري هزعل، أنا زعلي كله عليك وعلى الحالة اللي أنت حاطط نفسك  فيها.

مرر يده بين خصلات شعره التي تناثرت بفعل الهواء العليل، ثم قال بفتورٍ: علي، إمبارح قولتلي أطلق مايسان وأسيبها لغيري يعوضها ظلمي.

هز رأسه بتأكيدٍ لتذكره ما قال، فلعق عمران شفتيه مضيفًا بارتباك: وقتها حسيت إني شوية كمان وهضربك.

احتدت نظراته بغضبٍ، فأسرع يبرر له: مايسان النهاردة قالتلي نفس جملتك حسيت اني هقتلها بردو.

وتابع بضجرٍ ينتابه: على أنا مبقتش عارف أنا عايز أيه، فجيتلك تعالجني من الحالة النفسية اللي أنا فيها دي.

ذم شفتيه بضجرٍ، ثم قال: إنت اللي حاطط نفسك في الحالة المرضية دي يا عمران.

بجديةٍ تامة أجابه: أنا عقلي مشتت ومش قادر أشوف شيء، بس اللي أنا قررته  إني مستحيل هغضب ربنا تاني يا علي، وقولت لألكس الكلام ده مستحيل هسمح  لنفسي أعيش حالة الخوف والرعب والاشمئزاز اللي بكون فيها.

ضم يده بمقدمة أنفه يحاول تهدئة إنفعالاته، لا يرغب أبدًا بالاندفاع بحديثٍ  متهور قد يفقده أخيه، فقال باتزانٍ: عمران أنا عايز أسألك سؤال وتجاوبني  عليه بصراحة.

هز رأسه وتابعه باهتمامٍ، فاقترب على من الطاولة ثم قال وعينيه تقابل عينه: لما حصل بينك وبينها علاقة كانت مرتها الأولى؟

مسح بيده وجهه، وكأنه لا يود اجابته لمعرفته ما سيقول أخيه ومع ذلك ردد باقتضابٍ: لأ.

ألقى الكرة بملعبه، فقال بثبات: وهتأمن تديها إسمك يا عمران؟

سيطر على غضبه القاتل، وقال بتعصبٍ واضح: ألكس اتغيرت من وقت دخولي لحياتها  يا علي، وبعدين الحب مش اختيار، ولو كان بإيدي كنت أكيد اختارت مايسان.

زفر بمللٍ من الوصول لحل ينهي معضلة أخيه، فصاح بتريث: يعني إنت عايز أيه دلوقتي ألكس ولا مايسان؟!

تنحنح وهو يجلي أحباله الصوتية: الاتنين. عايزهم الاتنين.

جذبه من تلباب قميصه بعنفٍ: وحياة أمك!

تلفت حوله وهو يحاول تحرير ذاته مرددًا: على عيب الناس حولينا، وبعدين لو فريدة هانم سمعتك بتقول الكلام ده هيجيلها سكتة قلبية!

تفحص الأوجه من حوله، وحينما وجد الجميع يراقبون ما يحدث بينهما تركه  متمتًا: قوم امشي من هنا يا عمران، بدل اللي ما عملتهوش امبارح هعمله  النهاردة وقدام الناس.

حمل مفاتيح سيارته وهو يشير له: طيب يا حبيبي همشي أنا دلوقتي ولما تهدى وتعقل كده بالتعامل مع المرضى بتوعك أبقى أجيلك.

واستدار عمران يشير له بمزحٍ: بنصحك تشوف دكتور نفساني هينفعك أوي في شدة الاعصاب اللي أنت فيها، سلام.

أوقف عمران رنين هاتفه، فوقف على مسافة من أخيه يجيب ومازالت الابتسامة على وجهه: أيوه أنا عمران سالم. خير؟

اكفهرت معالمه وهو يصيح بصوتٍ مرتفع: عربية أيه وإنفجار أيه، أنت بتتكلم عن مين؟!

هرول على إليه يتساءل بقلقٍ: في أيه يا عمران؟

وجده يهمس بصدمةٍ وهو يبعد هاتفه عنه: شمس!

جذبه على ليقف قبالته يصيح: مالها شمس؟!

وضع النادل العصير على الطاولةٍ، فشكره من يتابع مسح قميصه الأبيض  المتسخ بالمناديل المبللة، بينما تراقبه الاخيرة بصمتٍ، فجذبت كوبها بعدما  انهت رسالتها بارسال إسم المطعم المتواجدة به لعلي، وارتشفت الكوب عله يزيح  مرارة حلقها، ومازالت تخطف النظرات إليه، فتحررت عقدة لسانها السليط قائلة  باستهزاءٍ: بقالك ساعة بتمسح قميصك وبيحاول يقنعك أنه مش هينضف وإنت مازلت  مصر!

ابتسم آدهم واستمر بتجفيف صدرك المتسخ بسواد السيارة، قائلًا بخبث: ده طبعي مش بمل بسهولة.

رمشت باهدابها وهي تتابعه، وقالت ضاحكة: خليه كده على الأقل تبقى محتفظة بالبقايا الأخيرة من عربيتي المرحومة.

تعمق بالتطلع لعينيها وقال ببسمة واثقة: على فكرة عجلة عربيتك عطلت بفعل فاعل.

ابتلعت ريقها بارتباك، ودنت منه تتساءل بخوف: قصدك أيه؟ هما اللي عملوا كده عشان يقتلوني!

تمردت ضحكاته الرجولية، فنفى ذلك مرددًا: لأ مش للدرجادي.

التقطت أنفاسها براحة غادرتها حينما استطرد: أنا اللي عملت كده.

برقت بعينيها بصدمة: إنت! طب ليه؟

ترك آدهم المنديل عن يده ثم مال برأسه إليها يهمس: كانت نيتي أشوفك على  الطريق وأقف أصالحلك العربية وبعديها تعزميني في مكان على قهوة، أو على  الأقل تخدي رقمي وتشكريني حاجة شبه الأفلام كده بس صدقيني مكنتش أعرف إن  الكلاب دول مش هيلاقوا غير الوقت اللي هقابلك فيه ويهاجموني.

توقف عقلها عن استيعاب ما يخبرها به، فتساءلت بعدم تصديق: مش خايف أقول لراكان أنك بتحاول توقعني؟

اتسعت بسمته وهو يجيبها دون مبالاة: أنا مبخافش من حد يا شمس.

وبجديةٍ تامة تناقض نبرته قال: إنتي نقية وتتحبي بجد عشان كده هقولك إبعدي عن راكان يا شمس، ميستهلكيش.

كادت بسؤاله لماذا يخبرها تلك الكلمات؟ ولماذا يحاول التقرب منها، فقطعها صوت أخيها المنادي بلهفة: شمس.

التفتت تجاه مصدر الصوت، فوجدت أشقائها، ضمها على إليه بلهفةٍ وأبعدها وهو يتفحص جسدها بنظرةٍ متفحصة: طمنيني حصلك حاجة؟

هزت رأسها نافية وقالت وعينيها تجوب آدهم: خرجت من المكان بفضله.

تركزت نظراتهما عليه، فتعرف عليه عمران فقد رأه أكثر من مرةٍ برفقة راكان، فقال: مش إنت آدهم الحارس الشخصي لراكان.

نهض عن مقعده يشير له بهدوءٍ، فصافحه عمران بامتنان: مش عارفين نشكرك ازاي حقيقي جميلك ده مش هننساه أبدًا.

أجابه وهو يسحب جاكيته الموضوع على المقعد: مفيش داعي للشكر يا باشا ده واجبي.

رد عليه على ومازال يحتضن شقيقته: ربنا بعتك بالمكان ده بالوقت المناسب.

وتساءل بفضول: بس ازاي ده حصل، فهمني.

خطف آدهم نظرة سريعة لشمس قبل أن يجيبه بذكاءٍ: في الحقيقة أنا السبب في  اللي حصل، عربيتي سخنت ودخنت بشكل مخيف، وقفتها ونزلت أشوف في أيه فلقيت  الامور ساءت وعلى وشك إنها تنفجر. وللأسف كانت شمس هانم عربيتها عطلانه  وعلى بعد قريب مني، فنبهتها للموضوع وبعدنا عن المكان والحمد لله مفيش حد  اتأذى.

ردد على وهو يطبع قبلة على جبينها: الحمد لله، أنا روحي راحت لما جت  المكالمة دي لعمران لو كانوا اتصالوا بالبيت كانت فريدة هانم جرالها حاجه.

ربت عمران على ظهر شمس بحنانٍ: جت سليمة الحمد لله.

ابتسمت شمس وهي تنصاع لذراعه التي تتلقفها بعيدًا عن على لاحضانه هو، فهمس  لها عمران بتسليةٍ: فريدة هانم هتعاقبك بحرمان دائم من العربيات طول حياتك.

منحته نظرة ماكرة: مين اللي هيقولها؟!

رفع يده ببراءةٍ: أنا مش هتكلم في سبيل أنك متفتحيش بوقك ولا تفتني عليا  في أي كارثة جاية هرتكبها، علوى اللي جنبك ده اللي لسانه فالت أمني عليه  بس للأسف مالوش لوية دراع ولا حاجة تساوميه عليها.

راقب آدهم حديثهما ببسمةٍ هادئة وخاصة حينما صاح على بحزمٍ: أنا مش جبان زيكم. عمومًا لينا بيت نتساوم فيه.

واستدار يقف قبالة آدهم، يصافحه من جديد وتلك المرة عينيه تقابله وجهًا  لوجه، فقال وهو يضيق نظراته تجاهه: هو أنا ليه حاسس إني شوفتك قبل كده، على  ما أعتقد بمصر!

لم تتلاشى بسمة آدهم وأجابه بثبات: جايز، أنا نزلت مصر أكتر من مرة يمكن  حالفني الحظ إني قابلتك ولو حصل واتقابلنا تاني هنكون عارفين بعض.

ابتسم لرتابة حديثه وقال بوداعةٍ: إن شاء الله. بشكرك لتاني مرة.

ودعهما آدهم ووقف يراقبها وهي تصعد برفقة على للباب الخلفي من سيارة  عمران، فما أن صعدت حتى طلت عليه بنظراتها عبر النافذة، كأنه تودعه على  استحياء، تاركة البسمة تشدو على وجهه الجذاب.

وضعت المال على الطاولة، فتلقفه الشابين الجالسان من أمامها، لتؤكد عليهما  وهي تنفث دخان سيجارها: ستفعلان ما طلبته منكما غدًا بحفل ليام وإميلي.

وعادت تكرر تنبيها الحازم: واحرصا على أن تنجزان مهمتكما والا لن أدفع لكم دولار واحد بعد الآن.

ووضعت يدها بحقيبتها تخرج لهما صورة الفتاة وبطاقة دعوة، ثم ألقتها على  الطاولة أمامهما وهي تستطرد: تلك هي بطاقة الدعوة لدخول الحفل، وغدًا  ستكونان بالموعد المحدد وستنتظران مني إشارة.

هز رؤسهما وغادروا معًا، بينما نفثت هي دخانها وهي تردد ببسمةٍ استمتاع:  حسنًا مايسان فلنري من منا ستنتصر بتلك المعركة، أنا أم أنتِ!

5=رواية صرخات أنثى للكاتبة آية محمد رفعت الفصل الخامس

اندهش حينما لم يجده يتابعهما للداخل، فبحث عنه حتى وجده يسرع لسيارته  مجددًا، تعجب على من خروج عمران بهذا الوقت، فترك شمس تستكمل طريقها  للخارج ثم عاد أدراجًا ينادي: عمران.

كاد باجتياز البوابة الخارجية للمنزل حينما استمع لصوت أخيه، اقبل إليه يتساءل: مش طالع ولا أيه؟

أحكم غلق جاكيت بذلته الآنيقة حينما داهمه التيار البارد وقال: بقالي فترة مشوفتش الشباب هروح الشقة يمكن أشوف حد فيهم.

دث يده بجيب بنطاله وهو يشمله بنظرةٍ متفحصة: الشقة عند أصحابك يا عمران، مش الفندق.

أكد له سريعًا: على أنا وعدتك مش هرجع للقرف ده تاني صدقني.

قال وهو يعود للداخل: أتمنى. بلغهم سلامي لحد ما أقابلهم.

رفع جسده عن الأرض ليحتل سيارته المكشوفة: يوصل يا مان.

قاد عمران سيارته ليصل بعد أقل من ثلاثون دقيقة للعمارة السكنية  الراقية، صفها بمحاذاة الطريق وصعد للأعلى يلهو بمفاتيحها وهو يدندن  بصفارته الهادئة، حتى وصل للطابق الخامس من المبنى، دث مفتاحه وولج للداخل  مبتسمًا، متلهفًا للقاء أصدقائه المقربون، بحث بالغرف أولًا وهو يتمنى لقاء  أحدهما، فانتبه للنور المضاء بالردهة، أسرع إليها فتهللت أساريره وردد:  جمال!

استدار بمقعده القابل للحركة، فمنحه نظرة خاطفة ثم عاد لجلسته يرتشف  كوبه لأخره بجموحٍ، صعق عمران مما رآه فاجبر ساقيه على تتبعه رغمًا عن  تثاقلها، أصبح الآن قبالته لا يفصلهما سوى طاولة البار المطل على كورن  مشروبات القهوة وغيرها، فحمل الزجاجة الموضوعة أمامه بعدم استيعاب: إنت جبت  دي منين؟

ابتسم من يحتضن رأسه الثائرة بصداعٍ قاسٍ، وقال: أكيد يعني كنت هلاقي جوه أوضتك.

جذبه عمران بقوةٍ كادت باسقاط جسده المترنح: من أمته يا جمال وإنت بتشرب القرف ده، ده إنت كنت بتعنفني لو بتشوفه معايا، أيه جرالك؟

أزاح ذراعه عن قميصه وعاد يستند على البار ساكبًا كوبًا ويلتهمه غير عابئًا  بنظراته ولا بقميصه المبتل، وكأنه ينتقم من نفسه هنا، كز عمران على أسنانه  بغضبٍ، فأبعد الزجاجة لأخر البار وصاح بعنفوانٍ: كلمني هنا، من أمته وإنت  بتشرب القرف ده؟

ابتسم وهو يجيبه: من النهاردة، ولو نساني اللي بواجهه هدوام عليه زي ما إنت بتداوم عليه عشان تنسى مشاكلك.

مرت يده بخصلات شعره بتعصبٍ شديد، فسحب مقعد مجاور له وجلس يخبره بهدوءٍ:  كنت بضحك على نفسي يا جمال، السُكر مش حل للي بنواجهه، كفايا التقزز وكره  النفس اللي هتحس بيه بعد ما تفوق ومفيش حاجه هتتسنى.

ابتلع ما بكوبه وقال ببسمةٍ صغيره رسمت على وجهه الحنطية مستنكرًا: مش  مصدق انك اللي بتتكلم، ما ياما بذلنا أنا وأخوك مجهود كبير معاك عشان تبطل،  جاي دلوقتي توعظني!

اتجهت نظراته البنية لهاتفه الجانبي الذي يعاد للرنين مجددًا، فجذبه جمال  وأغلقه نهائيًا، ثم عاد يرتشف الكوب ببرودٍ، وزع عمران نظراته بين حالة  رفيقه والهاتف، ثم تساءل: إنت اتخانقت مع صبا تاني؟

ضحك وهو يجيبه ساخرًا: قصدك عاشر ومليون!

استمر بحديثه ليعلم ما به، فقال: ليه حصل أيه؟

لف المقعد ليكون مقابل إليه: الست هانم من الفضى اللي بقى عندها هنا بقت  بتشك فيا، مفكرة إني بعرف واحدة عليها، وكل يوم بتفتش في موبيلي.

وتابع ببسمةٍ حملت حزنًا وألمًا رغم تعمده الاستهزاء: ده غير اسطوانة كل  يوم عن تضحيتها العظيمة إنها سابت أهلها ومصر وجت عاشت معايا هنا في  انجلترا، شايفة نفسها بطلة ولازم أقدر انجازاتها!

وتجرع ما بكوبه وهو يشير له: متعرفش إن لولا وجودي هنا وتعبي ليل نهار  في الشغل مكنتش قدرت أحقق كل اللي وصلتله ولا كان باباها قبل بالجوازة دي  من الأساس.

وتابع بغدافية جعلت دمعاته تبرز بحدقتيه: متعرفش أنا موجوع أد أيه وأنا  عايش هنا بقالي سبع سنين متغرب عن أهلي عشان أقدر أكونلها الزوج المناسب  والابن اللي يقدر يتحمل مسؤولية أبوه وأمه، متعرفش إني بموت ألف مرة وأنا  بعيد عن عيلتي ونفسي أكون معاهم بس السنة اللي هفكر فيها أنزل مصر هي اللي  هقرر أخوض رحلة العجز قدام مصاريف علاج والدتي ودراسة أخويا الصغير، وجهاز  أختي، وأكون عاجز عن طلبات بيتي، وأنا مش جاهز أتحمل كل ده يا عمران.

تدفقت دمعة خانت صموده المزيف وهو يبتسم بتهكمٍ: لما خلصت أوراقها من  سنة كنت فاكرها جاية تشيل عني وتشاركني وحدتي، فرحت وأنا بتخيل حياتي  معاها، وكنت متحمس أرجع شقتي ألقى حد مستنيني، متحمس أرجع لحياة مريحة ألقى  فيها أكل بيتي واهتمام بلبسي مقفش أنا أعمل أكلي لنفسي وأكل لوحدي.

واستدار برأسه إليه يخبره بضحكةٍ مهزومة: مكنتش أعرف إني هفتح وجع جديد  ليا فوق أوجاعي، وإني هتمنى ساعات الشغل تطول عشان مرجعش البيت لنكدها.

تفحص كوبه الفارغ بضجرٍ واستمر بحديثه: طلعت معاك حق يا عمران لما سبت مراتك وبصيت على واحدة تشوف مزاجك من غير ما تقلب حياتك نكد.

وناوله الكوب يشير إليه: فرغلي كأس.

جذب عنه عمران الكوب وألقاه أرضًا بكل قوته، ثم رفعه من تلباب قميصه  صارخًا بعصبية: فوق يا جمال، القرف ده لو دخل حياتك هيدمرك، أنا غلط وحياتي  كلها غلط، مش عايزك تكون زيي خليك نضيف زي ما أنت.

ترنح جسده بتعبٍ، فتمسك به عمران دون الافلات عن حديثه: مشاكلك مع مراتك تافهة وتتحل، شاركها وجعك هتحس بيك.

ومنحه نظرة ساخطة وهو يتابع: ثم أنك اللي بتديها الفرصة لده، أيه اللي  مقعدك هنا لحد دلوقتي، سيف قالي إنك بتبات هنا بقالك فترة ما طبيعي إنها  تشك فيك!

مال برأسه على كتف عمران، مغلق عينيه بارهاقٍ: أنا تعبان أوي يا عمران.

ضمه عمران بحزنٍ شديد، لا يستوعب إن صديقه المثالي يترك طريقه المستقيم  وينجرف للمحرمات فجأة، بعدما كان يقضي يومه ينصحه بالابتعاد عن المشروب وعن  ألكس اللعينة، كان ينفر من حديثه تارة ويحاول الاستماع له تارة أخرى.

يشعر دائمًا بأنه النسخة الشبيهة بأخيه علي، لذا كان سببًا منطقيًا لحب على لجمال، ودوام صدقاتهما طوال تلك السنواتٍ.

تحرر باب الشقة من جديدٍ، فاستمع عمران لخطوات تقترب منهما، ألقى  المفتاح جانبًا ونزع عنه جاكيته وهو يتفحصهما بنظرة ساخطة اتبعت نبرته  المرحة: جمال في حضن عمران، لأ قلبي الكبير مرحب بالأفكار المنحرفة.

وإتجه بقامته الممشقة للأريكة، مضيفًا: في البلد دي نتوقع أي حاجة حقيرة!

دفع عمران جسد جمال للمقعد مجددًا، ثم اتجه ليجلس جواره مرددًا باستغرابٍ: أيه جابك إنت كمان دلوقتي يا يوسف؟

سحب نفسًا طويلًا ورفع ساقيه ليستند بهما على الطاولة الزجاجية: مفيش  رجعت البيت متأخر كالعادة، فالمدام قالتلي هتلاقيك كنت عند صحابك المقاطيع،  ومن هنا لهنا قالتلي روح بات عندهم يا دكتور يا محترم.

حل وثاق قميصه وهو يتابع: بس كده فاتصلت بسيف أخويا أعرف منه مين من  المقاطيع فيكم موجود عنده، قالي إنه بره الشقة بيجيب شوية طلبات وميعرفش  مين فثكم مشرف عنده النهاردة، فجيت أبص وبيني وبينك زهقت من الخلقة اللي  متعود أشوفها كل يوم.

قال كلماته وهو يشير على جمال الملقي رأسه على الطاولة.

رد عليه عمران بضيق: البيه سايب بيته بقاله فترة ومقضيها هنا.

هز رأسه قائلًا: عارف عارف يا حبيبي، ما أنا بجبله الأكل كل يوم وبتعاقب  بتتضيف الشقة من سيف، بيقولي ورايا امتحانات ومش فاضي لهلس صحابك.

اختنق عمران فحرر جرفاته ونظراته لا تغادر جمال بحزنٍ، بينما تركزت نظرات  يوسف المتفحصة له، فسأله: هو نام هنا ليه ما يقوم يدخل أوضته.

التقطت عينيه زجاجة الخمر الموضوعة جانبًا، فزفر بسخطٍ: خمرة تاني يا عمران، إنت مبتحرمش!

سدده بنظرةٍ حادة، فابتسم ساخرًا: أنا لسه داخل قدامك من شوية، واتفاجأت بالبيه أخد مكاني.

جحظت عينيه في صدمة حقيقية، فاعتدل بجلسته المريحة وهو يردد بعدم تصديق: إنت تقصد مين؟

انتصب واقفًا بدهشةٍ: لأ. جمال مستحيل يعمل كده!

وأسرع إليه فأبعده عن الطاولة بعصبيةٍ بالغة: قوووم فوقلي.

دفعه جمال وعاد يلقي برأسه على الطاولة من جديد، مرددًا: بعدين يا يوسف، سبني.

اشتعل الغضب بمقلتيه، فبحث عما يعاونه بافاقته، فسحب الاناء الممتليء  بالثلج، ودفعه إليه بأكمله، انتفض جمال بجلسته وصاح: إنت غبي يالا، بقولك  تعبان وجسمي كله مكسر تحدفني بالتلج!

طرق على صدره وجذبه ليقف أمام عينيه الملتهبة: أقسم بالله يا جمال لو  متعدلت لادفنك هنا، سيف كان بيشتكيلي منك بس أنا متوقعتش إن أمورك توصل  لهنا.

فتح عينيه وهو يجيبه بمزحٍ: ليه يا دكتور كنت فاكر حالتي هتكون أخرها أيه يعني، ما أنا سبق وحكيلك.

تماسك الأ يطيح به، وقال برزانةٍ: يا جمال أي اتنين متجوزين طبيعي إن يكون  بينهم مشاكل في بداية حياتهم، دورك هنا إنك متهربش، تواجه وتبرر مش تزيد  الامور طين وتسبها لعقلها وشيطنها يأكدلها ظنونها.

وأشار للزجاجة بتقززٍ: وفوق كل ده تسكر، بتغضب ربنا عشان بتواجه مشاكل سستم طييعي ودائم في حياة كل البشر يا جمال، جاوبني ساكت ليه؟

وضع عينيه أرضًا حرجًا منه، فأشار باصبعه بتحذيرٍ: دي أول وأخر مرة تعملها، سامعني؟

هز رأسه بتعبٍ جعل جسده يترنح بوقفته غير واعيًا لما يصيب معدته من ألمًا  لا يطاق، فاستتد على صدر يوسف: أنا تعبان أوي يا يوسف، بطني بتتقطع.

أجابه ساخرًا: من القرف اللي بلبعته.

وأشار لمن يراقبهما: اسنده معايا ندخله أوضته، لما أشوف أخرتها معاكم أيه؟

أحاطه عمران من جانبه الأيمن، خاطفًا نظرة سريعة إليه، وقال: فوق يا جمال، لازم ترجع بيتك عشان مشاكلك مع صبا متزدش.

مال بجسده على الفراش، فجذب يوسف الغطاء وداثره جيدًا، وعدل من ملابسه  الغير مهندمة، ليحك أنفه وصوت أنفاسه اللاهثة تعلو: مرمطة في العيادة وهنا.

ضحك عمران على مظهره المضحك، وصاح: ورايا يا دكتور الحالات المتعثرة.

حرك كتفيه يعدل من قميصه بغرور: دكتور يوسف أيوب من أكبر دكاترة النسا  والتوليد، وبتنازل وبتواضع وبعرف اشكالكم المعتوهه، وبتعاقب من حرمي دكتورة  ليلى أيوب بالطرد لشقة المقاطيع وعادي وزي الفل.

جذبه عمران من تلباب قميصه بعنف: إنت هتحكيلي قصة حياتك لخص في إم الليلة دي.

تعالت ضحكاته الرجولية بقوةٍ، ولحق به للخارج، فجلس كلا منهما على  الأريكة، لاحظ يوسف تسلل الحزن لمعالم عمران، فقال وهو يهم لصنع القهوة:  مالك قالب وشك ليه إنت التاني؟

توترت معالمه، فنهض واتبعه ليستند على البار وبتلعثمٍ قال: يوسف أنا آ، آآ...

ضيق عينيه الثاقبة إليه، فرفع الكوب الفارغ وملعقة السكر إليه: ولآ. أنا  بخاف من الداخلة دي، أقسم بالله لو قولتلي حاجة تنكد لاقتلك إنت والحيوان  اللي جوه ده، أنا لسه خارج من ولادة طبيعية متعسرة وخلقي في مناخيري. فانجز  وإرمي المصيبة اللي بتحاول تلقيها في وشي من ساعة ما شوفت خلقتي.

وجذب هاتفه وهو يهدده: اتصل بدكتور على أقرره ولا هتتكلم.

خشاه عمران فجلس على المقعد بارتباكٍ، طرق على كتفه ليجذبه نصفه العلوي  فوق الطاولة الرخامية الفاصلة بينهما: انطق ياض هببت أيه إنت التاني؟

رفع رماديته بتوتر إليه، وردد: أنا غلطت مع ألكس.

فلته ببطءٍ وعينيه المغتظمة بغضبه لا تتركه، فتحرك لمكينة القهوة بصمتٍ كان  قاتلًا لمن يتابعه بترقبٍ لسماع ما سيقول، فاتبعه والحرج يشكل على معالمه،  فحاول تبرير أخطائه: يوسف أنا آآ...

قاطعه حينما استدار بحركته الشرسة ليصرخ بعصبية: إنت حقير ومبتحبش غير الوساخة زي العاهرة الرخيصة اللي غلطت معاها.

رسم وجهه أرضًا تأثرًا بكلماته، فشدد يوسف على شعره بقوة كادت باقتلاعه،  ثم سحب كوبه وجلس على مقعد البار مرددًا بعدم مبالاة: خسارة فيك النصايح  اللي في النهاية مش هتعمل بيها، إعمل ما بدالك يا عمران، إسكر وازني وإغضب  ربنا بكل الكبائر واقعد ابكي واندب واستنى لحظة عقابك وإنت عارف وواثق إنها  جاية.

اتبعه للمقعد المجاور له، فجذبه ليجلس قبالته، يراقبه وهو يرتشف قهوته  بجمودٍ، فحاول استعطافه: يوسف أنا حاولت والله، بس صدقني أنا لما بشوفها  قدامي بضعف ومبقدرش أتحكم في نفسي.

طعنه بنظرة قاتلة: حيوان تقصد، ما هو الحيوانات هي اللي مبيكنش عندها دارية بالامور ولا التحكم بالذات.

ولعق بلسانه شفتيه يخفي ابتسامته الخبيثة التي تحررت من خلفها مكيدته:  بقولك أيه يا عمران، ما دام إنت كده كده هتطلق مايسان، فأنا شايفها مناسبة  لدكتور سيف أخويا، إنت عارف بقى إننا هنا في انجلترا صعب نلاقي عروسة عربية  أدب وأخلاق وجمال وآ...

كممت لكمته كلماته فاسقطته عن المقعد، نهض يوسف وهو يزيح الدماء النازف  عن شفتيه ببسمة راضية، بينما انتصب الاخير بوقفته وصرخ بعنفوان: متحاولش يا  يوسف صدقني هنسى الصحوبية والعيش والملح اللي بينا وهدفنك حي هنا.

منحه ابتسامة ساخرة، وجلس يستكمل قهوته ببرودٍ، وحينما انتهى من الكوب  لف رأسه تجاه ذاك الثائر فجأة وقال: لما شتمت ألكس وقولتلك أنها عاهرة  ورخيصة متعصبتش ولا اتحمقت عليها كده، ولما كلمتك بالحلال وبالاصول على بنت  خالتك اللي مش طايقها عرق الرجولة نقح عليك أوي، مش غريبة؟

ابتلع ريقه وهو يترنح جراء تمعن كلماته المصوبة لكل ذرة داخله، فتراجع للخلف بتأثرٍ، جعله يرتبك: آآ، أنا، الوقت إتاخر لازم أرجع.

أشار بيده وهو يعود للتطلع أمامه بكل هيبة ورزانة: اهرب يا عمران، اهرب من حقيقة مشاعرك واجري ورا شيطانك اللي هيدمرك.

فتح عمران الباب ومازالت نظراته منصوبة على رفيقه، وحينما استدار ليغادر  وجد سيف قبالته، يخلع حقيبة ظهره وهو يوزع نظرات متفحصة بينه وبين أخيه  الجالس على بعدٍ منهما وشفتيه تنزف الدماء فتساءل بشكٍ: اتخانقتوا تاني ولا  أيه؟!

أتاه رد أخيه يوسف يجيبه: حمدلله على سلامتك يا دوك، تعالى اشجيني إنت كمان بمصايبك مانا خلاص هقلب تخصصي لطب نفسي ومحلل هنا.

وأضاف وهو يشير لعمران الشارد على باب الشقة كالتمثال: استضيف دكتور على يومين هنا للمقاطيع دول يا عمران، يمكن يحل مشاكلهم ومشكلتك.

ودعه بنظرة حارقة قبل أن يصفق الباب، هاربًا، مبتعدًا، نازحًا عن اختراق  تلك الكلمات لقلبه المشتعل، قاد سيارته بجنون ومازالت كل الاحاديث تختلط  إليه تجعله يبدو كالأبله.

توقف فجأة عن القيادة، وارح جسده للمقعد وهو يفكر جديًا منح زوجته فرصة، عسى بقربها يصل لباب الخروج من المتاهةٍ اللعينة.

دق هاتفه للمرة التي تجاوزت الثامنة، ففتحه وهو يجيب: أيوه يا فؤاد، محتاج حاجة!

استمع للطرف الأخر بعنايةٍ، فلم يكن سوى السائق الخاص براكان، اوقف آدهم  السيارة بقوةٍ جعلت عجلاتها تحتك بالرصيف بصوتٍ مقبض: لأ، أوعى تعملها يا  فؤاد.

ولف عجلة قيادته ليعود أرداجًا وهو يكرر لمسمعه: متتصرفش نهائي، أنا راجع.

وأكد بحزمٍ: اسمع كلامي ونفذه، أنا كلها دقايق وأكون عندك متتصرفش من دماغك فااااهم.

وألقى هاتفه يساره وضغط بسرعته حتى وصل ل?يلا راكان بعد خمسة عشر دقيقة،  فأسرع للجانب الخلفي حيث كان يقف السائق فؤاد بانتظاره، فما أن دنى منه  حتى جذبه بعيدًا عن نطاق الحرس، فقال الأخير وقد برز الغضب بعروقه  المتصلبة: البت معاه جوه يا باشا، أنا مش هقدر أسيبه يعملها حاجه وأقف  أتفرج.

كز آدهم على أسنانه وردد بنظرة تحذيرية قاتلة: إنت اتجننت عايز تضيع تعبنا طول الشهور دي في لمح البصر.

ردد باستنكارٍ لما يقوله: يعني أيه يا باشا هنقف كده ونسيبه يعمل عملته الوس

تقابل حاجبيه المنزوي غضبًا، وبصوتٍ حازم صاريح: سيطر على أعصابك واتحكم بعقلك.

جابهه بعندٍ: أنا آسف يا باشا مش هقدر.

وأخرج سلاحه وهو يسحب زناده للاستعداد، فجذبه آدهم ليقف قبالة شرارته متفوهًا بصرامة: ده أمر مباشر مني يا حضرة الظابط.

أدى تحيته العسكرية وهو يردد بوقارٍ: الأمر نافذ.

وتركه وغادر وعينيه تلمع بالدمع، استعطف قلب آدهم، فجذبه وهمس له: متقلقش أنا هخلص البنت دي بدون ما ننكشف.

وتابع وهو يشير: هانت وهنجيبه راكع تحت رجلينا.

وتركه وأسرع بالتواجه للداخل، متعمدًا الطرق أكثر من مرةٍ على الباب حتى  لا يطرق له فرصة افتعال أي شيءٍ، وبالفعل فتح راكان باب غرفته وبيده زجاجة  الكحول، رفع آدهم نظراته المتقززة ليصل لوجهه، ورسم بصعوبة بسمة خاطفة وهو  يردد: اللي حسبته لقيته عثمان الحقير حطيلي قنبلة بعربيتي، كان عايز يخلص  مني عشان يوصلك.

برق بعينيه بدهشةٍ: قنبلة!

هز رأسه مؤكدًا، وتابع بقص التفاصيل إليه، خاصة بما تخص شمس، فأسرع متلهفًا: طب وشمس جرالها حاجة؟

أجابه ويده مضمومة على الأخرى: اطمن يا باشا شمس هانم بأمان، أنا مستحيل كنت هسيبها تتأذى.

راح على وجه راكان بسمة واسعة، وهمس وهو يطرق على عضلات صدر آدهم: برا?و يا  وحش، ده المتوقع منك، إنت متعرفش لو جرالها حاجة كنت هخسر إزاي.

وتابع وهو يرتشف كحوله اللعين: البت دي من عيلة كبيرة أوي، مركز ونسب  يليق باسمي ويخلينيا نتابع شغلنا من غير ما نلفت النظر لينا، وبالأخص كمان  عمران أخوها، شركاته وعلاقاته تقدر تفيدنا لو جرينا رجله معانا.

وعاد من أرض أحلامه يبتسم لمن يطعنه بثبات قاتل: أنا مش عارف أشكرك ازاي،  من يوم ما ظهرتلي وانت ملاكي الحارس اللي في دهري وقدام كل شر أتعرضه.

همس آدهم بصوتٍ خبيث منخفض: أنا ملاك موتك اللي هقبض روحك وأرجعها لقفصها.

انتبه آدهم من شروده على كلمات راكان: أطلب مني اللي تحبه وفورًا هلبيهولك.

اتسعت بسمة مكره، فغامت عينيه على المقيدة على فراشه البارز من خلفه، فضحك  راكان وهو يلتفت لما يتطلع إليه، وعاد يرتشف من الزجاجة ببسمة دنيئة، فأشار  له: اعتبرها ملكك، أنا مجتش جانبها بقالي ساعة بحاول معاها بس بنت ال  مستقوية عليا عشان سكران.

وخرج من الغرفة وهو يغمز له: عارف إنها مش هتأخد معاك غلوة، أكلم أنا واحدة من البنات إياهم.

راقبه آدهم بنظرة مستحقرة، فما أن اختفى من الرواق حتى بصق خلفه مرددًا: كلب.

ثم ولج للداخل، فصعق حينما وجدها طفلة لا تتعدى عمرها السابعة عشر، مقيدة  على الفراش بشكل يمزق القلب، وجهها متورم من فرط الكدمات التي تلقتها، أبعد  جاكيته ليجذب خنجره، فأشارت بعينيها الباكية وهي تترجاه: لا تفعل أرجوك.

أغلقت عينيها بقوةٍ ظنًا من إن نصل السكين سيصل لعنقها، فصعقت حينما  وجدته يحرر الحبال المقيدة لها، فعاونها على الوقوف وإتجه بها للباب الخلفي  هامسًا بشفقةٍ: إركضي سريعًا إن رغبتي بالنجاة.

فور إنتهاء كلماته هرعت وكأنها تهرب من شبح موتها، بعدما حررها ذاك  الملاك الذي يبدو مخيفًا من نظراته الثاقبة وخطاه الواثق، ولكنه فجأها بأنه  لا يريد أن يكون سجانها العتي بل أراها جانبًا أخرًا لشهامة رجلًا يجابه  دناءة الأخر في الوقت ذاته.

استند بجسده على أحد فروع الشجرة بالحديقة، بعدما فشل بالنوم، فهبط  يتمشى بحديقة المنزل، زفر على بمللٍ وكاد بالتراجع، فلفت انتباهه تلك  الجالسة على الأريكة هائمة بضوء القمر بسكونٍ، اقترب منها ببسمته الجذابة،  واقتحم صوته الرجولي عالمها الهادئ: لسه صاحية؟

انتبهت له مايسان، فمنحته ابتسامة هادئة: مجاليش نوم قولت أنزل اشم الهوا النقي ده.

مال بجسده يستند على حافة الاريكة الخشبية، متسائلًا بتهذبٍ: تتضايقي لو شاركتك القعدة اللطيفة دي.

ربعت قدميها وتنحت لأخر الأريكة: يا خبر يا علي، هتضايق منك إنت!

وأشارت بيدها: اتفضل يا دكتور.

ابتسم وجلس قبالتها يرفع عينيه للقمر الصافي بتلك الليلة الهادئة، واركن  رأسه لحافتها، قائلًا بهيامٍ: منظر رائع، ينقصه بس فنجان قهوة وموسيقى  هادية.

ضحكت وهي تخبره بمزحٍ: جيت في جمل! اديني ثواني.

وتركته وعادت بعد قليل حاملة للقهوة، التقطتها منها بحرجٍ: تعبتك معايا، حقيقي شكرًا.

ومالت بجسدها تجذب حاسوبها وتشغل أغنية هادئة لام كلثوم: وادي الاغاني، مش حرمينك من حاجة يا دكتور.

ارتشف من قهوته، وأشار بتلذذٍ: الله، تسلم إيدك يا مايا بجد حاجة تعدل المزاج.

واسترسل مازحًا: يا بخت عمران الغبي بيكِ.

احتلاها الحزن، فزمت شفتيها بسخطٍ من ذكره، ولكنه أتاح له الفرصة للحديث  عنها، فقالت: على أنا عايزة أطلق من عمران، ومش عارفة أقول أفاتح خالتي  ازاي بالموضوع ده، إنت عارف أد أيه بيعصبها.

مال بجسده واضعًا الكوب على الطاولة، ثم قال بجدية تامة: عارف. مشكلة ماما  إنها متعلقة بيكِ جدًا يا مايسان، شايفاكِ بنتها وصديقتها اللي مقدرتش تكون  في حياتها في يوم من الأيام.

هزت رأسها وخانتها تلك الدمعة: أيوه بس أنا موجوعة أوي يا علي، إنت مش عارف أنا بحس بأيه وأنا شايفة حياتي كده معاه.

برر لها نظرته الغير منصفة: لا عارف وحاسس بيكِ يا مايا، بس صدقيني إنتِ  اللي محتاجة يكون عندك قوة لمواجهة أي حد قدام قرارك، متسمعيش لخوفك يقصر  عليكي، ودافعي عن قراراتك بكل قوة.

واستطرد مازحًا: أجلي موضوع طلاقك ده لبعد مشكلتي يمكن الثورة اللي هعملها مع فريدة هانم تديكي دروس تقوية في اللي جاي.

اكتفت برسم بسمة صغيرة، وتساءلت باهتمامٍ: ثورة! ليه خير يا دكتور؟

خطف نظرة متفحصة من خلفه، وكأن لصًا كمش به: أصل أنا وقعت. والواقعة كانت  مع بنت بعيدة عن الطبقة الآرستقراطية اللي فريدة هانم مش بتناسب غير منهم.

جحظت عينيها دهشة، وتساءلت بفضول: بجد، مين دي إحكيلي!

ربع قدميه والتفت إليها، وكأنه كان يود الحديث عن أمرها مع احداهما،  زارته تلك البسمة بافتتاحية حديثه عنه، وعينيه تلمع بعشقٍ صاريح تغلغل  داخلها، اعتلاها الحزن فور ذكر على لقصة فاطيما المؤلمة، وترقبت فور  انتهائه.

انتظر على حديثها، الا أنها إلتزمت الصمت لدقيقة، وكأنه تواجه صدمة كبيرة،  وعادت تتطلع إليه من جديد بعدما اعتدلت بجلسته: على إنت مش بس هتقوم ثورة  إنت هتشعل نار هتأكلنا كلنا.

ولعقت شفتيها بخوفٍ قاتل: دي فريدة هانم هتقوم الدنيا متقعدهاش لو اكتشفت قصة حبك دي.

وبارتباكٍ استكملت: أصل الموضوع مش موضوع نسب العيلة وبس لا ده يخص اللي  أتعرضت له وده طبعًا مالهاش تتحاسب عليه لإنه خارج عن ارادتها يبقى إنت  اللي لازم تخاف منها يا علي!

أجابها بحدةٍ وثقة: ميفرقش معايا، أنا مش بتجبر على شيء يا مايا، ومازلت  مصمم علة رأيي ومنتظر لما فطيمة تتعالج وتتقبل وجود حد في حياتها ساعتها  هكونلها الحد ده.

جاهدت برسم بسمة صغيرة على وجهه، وبنقاء قلبها دعت له رغم احتراق روحها على  نفسها التي تعافر جوار رجلًا لا يشعر بعاطفتها تجاهه وبين أخيه الذي يود  تحدي العالم بأكمله لأجل تلك الفتاة: ربنا يجمعها بيك في الخير يا علي.

وأكدت عليه: لازم تعرفني عليها، عندي فضول أشوفها أوي.

ابتسم وهو يميل إليها هامسًا: أوعدك هعرفك عليها بأقرب وقت.

هزت رأسها بسعادةٍ: مع إني خايفة عليك من اللي جاي، بس اختك جانبك وهتساندك وتحارب معاك يا علي.

ابتسامة ممتنة تمردت على شفتيه: طول عمرك بتأدي واجبك تجاهنا كلنا على أكمل وجه يا مايا.

تهربت منه عساه لا يرى دمعاتها، فعادت تدندن مع الاغنية بشرودٍ، وذراعها  يفرك بالأخر برعشة سرت لجسدها لسوء الجو، لاحظها على فأشار لها جادًا:  شكلك بردانة، خلينا ندخل عند الدفاية.

هزت رأسها نافيًا، وباصرارٍ قالت: أنا عايزة أقعد هنا شوية.

لم يفكر مرتين، نزع عنه جاكيت بذلته وأحاطها به جيدًا، وكأن من أمامه هي  شمس شقيقته الصغيرة، ابتسمت مايسان لحنانه المعتاد، فرفعت عينيها لتقابل  وجهه القريب المنحني بجسده لها وقالت: شكرًا يا علي.

لم ترى أعين ذاك المتسمر بالوقوف بالقرب منهما، يراقبهما منذ دقائق،  فاستشاط غضبًا وهو يجدهما يتبادلان الحديث منذ فترة وابتسامتها التي لم  يراها برفقته يومًا تزدهر بوجود شقيقه.

والآن يشق صدره ويبتلع ما بداخله النيران وهو يراه يلف جاكيته من حولها،  وجوده جوارها بهذا القرب بحد ذاته جعله على وشك الانفجار حيثما يقف.

انتصب على بوقفته وعينيه تجوب الهواء الذي يكاد يلتهم اجسادهما، فقال برعشة  شفتيه: إنتِ شكلك متأثرة بإم كلثوم وعايزة تقضي الليل وسماه في الجو اللي  مالوش ملامح ده، وأنا بصراحة ورايا شغل ومعنديش استعداد اخد لطشة برد،  فخليكي هنا مع أم كلثوم، وتصبحي على خير.

انفجرت ضاحكة حتى أدمعت عينيها، فراقبته وهو يسرع للداخل، رافعة صوتها الضاحك: وإنت من أهله يا جبان.

وما أن تأكدت من رحيله حتى حررت حجابها، ويدها تغوص بخصلات شعرها الطويل،  وتمددت على الأريكة واضعة رأسها على كتفها المرتدي لجاكيته، خصلاتها تستجاب  للهواء فترفرف من حولها مثلما أردت.

أغلقت مايسان عينيها ومالت برأسها ومازالت شفتيها تدندن باستمتاعٍ، ولم  ترى ذاك المحترق الماسد أمامها، كز عمران على شفتيه فلف يده حول معصمها  وأجبرها على الوقوف قبالته.

انتفضت مايسان فزعًا، وبدأت ملامحها بالاسترخاء وهي تشاهد من يجرأ على  لمسها، هدأت حدة انفاسها ورددت بصوتٍ هامس مغري له: عمران! خضتني!

ردد من بين اصطكاك اسنانه الهائلة للسقوط: تحبي أناديلك دكتور على ياخدك في أحضانه عشان الخضة.

برقت بعينيها بعدم استيعاب لما يقول: إنت بتقول أيه؟!

رفع يده يحيط بذراعيها، متعمدًا إيلامها وهو يصرخ بعنفٍ: الا أخويا يا مايا  بلاش، عشان أقسم بالله هقتلك لو فكرتي تكرهينا في بعض ويكون هو اختيارك  التاني الرابح هنا.

شعرت وكأنها صماء لا تستمع إليه، عينيها تراقب شفتيه وهي تصرخ بنطق اسم  علي وآذنيها تصرخ بسماعها الصريح له، بدت كالصنم بين يده، وأخر ما التقطته:  لو دي لعبتك فأنا طلاق مش هطلق، هسيبك كده زي البيت الواقف لا تطولي ناري  ولا، جنة غيري.

ورفع اصبعه يشدد بنظرات قاتمة: بحذرك لأخر مرة الا أخويا، سامعة.

لم تشعر بذاتها الا وكفها يصفعه بنفس قوة غضبها، وصوتها العاجز يتحرر: اخرس يا حيوان، على ده أخويا!

واسترسلت بوجعٍ يخترق أضلاعها: يا ريته كان اختياري وكنت إختياره مكنتش  اتعذبت العذاب اللي شايفاه معاك ولا عشت كل يوم في كسرة ومهانة.

وبقسوةٍ صرخت: يلعن أبو القلب اللي حبك يا أخي.

مازال رأسه مائلًا انصياعًا لصفعتها والصدمة تحاط به، لم تجرأ أي أنثى  طعن رجولته مثلما فعلت تلك الفتاة، كور يده بقوةٍ جعلتها بيضاء كاللوح  الثليج القارس، راقبته مايسان بخوفٍ خاصة بعلمها بأن عمران شرس صعب المراس،  عمران ليس بالمتهاون بحقه أبدًا.

ابتلعت حلقها المرير بازدراء فور أن أتجهت رماديته القاتمة إليها، فتراجعت  خطواتها للخلف بهلعٍ تربص بمعالمها فور تعثر قدميها بحافة حمام السباحة.

استعدت لمصيرين كلاهما أبشع من الأخر، الأول مواجهة ذاك الأسد الجامح  وثانيه سقوطها بتلك المياه التي تحاطها طبقة من الثليج استجابة مرحبة لتلك  الاجواء القارصة.

تراقص جسدها بالهواءٍ، ففصلتها مسافة قليلة عن ملامسته للمياه، رفعت مايسان  عينيها لتجده يمسك يدها بتحكمٍ، وقوة غضبه مازالت ساكنة حدقتيه، خشيت أن  ينتقم لجرحها الصريح لرجولته فيسقطها أرضًا.

وزعت نظراتها بتيهةٍ برماديته المقتادة بالنيران وبالمياه الباردة، فتحررت كلماتها بتثاقلٍ عزيزٍ: متسبش إيدي يا عمران.

كلماتها الواضحة له أثارت مشاعره بريبة بددت غضبه تدريجيًا، ألمه رؤية  الخوف القابع بعينيها منه ومن مصيرها المنتظر، جذب عمران يده المتمسكة بها  بقوةٍ جعلت جسدها كالورقة المترنحة بالهواء العتي، فسقطت على الأريكة من  خلفها، وقبل أن تستوعب ما فعله للتو وجدته يدنو منها، ينحني إليها بجسدها.

سال لعابها ذعرًا فزحفت للخلف حتى وصلت لأخر الأريكة، ومازال يلاحقها  بخطاه البطيئة الواثقة، وجدته ينزع عنها جاكيت على بعنفٍ كاد أن يهشمها،  فلعب عقلها لما يحاول فعله بعد أن أذاقته من فنون الغيرة رغمًا عنها، فصرخت  به: عمران إنت بتعمل أيه؟

أزاح ذراعها والآخر، فخشيت ما تردد لها، لتعود لصراخها المهدد: أقسم بالله  لو قربتلي لأصرخ ولا هيهمني فريدة هانم هتعاقبك بأيه المرادي، إبعد عني  أحسنلك!

زاد ذُعرها حينما سدد لها نظرة قاتلة، وانتصب بوقفته يزيح عنه جاكيت  بذلته بعصبية كادت بتمزق أزراره وانتزعها، ليلقيه بوجهها جاذبًا جاكيت على  ومتوجهًا للداخل بصمتٍ مميتٍ.

هدأت أنفاسها رويدًا رويدًا، وهي تجده يدلف داخل المنزل، وضعت يدها على  صدرها تتلامس فرط نبضات قلبها الثائر، واشتعال وجنتها من قربه القاتل،  ويدها الاخرى ترفع جاكيته الموضوع على جسدها بإهمالٍ.

رغمًا عنها استجابت شفتيها لبسمة صغيرة، غيرته كانت بادية كسطوع الشمس  في ليلٍ مخيف، مجرد رؤيتها ترتدي شيئًا يخص رجلًا غيره تمرد طابعه الشرقي  دون ارادة منه، ومع ذلك خشي تركها بالثليج دون غطاء يداثرها، عساها تمرض  بعد ازاحة الجاكيت عنها.

ضمت مايسان جاكيته وهي تستنشق رائحة البرفيوم الخاصة بها تطوف بما تركه من  خلفه، وحملت بين ذراعيها بعنايةٍ وكأنها تحمل قطعة من المجوهرات، وتمددت  على الأريكة بهيامٍ.

كان يقرأ بكتابه باستمتاعٍ حينما انفتح باب غرفته، ليظهر من أمامه أخيه  وبيده جاكيته الخاص، ولج عمران للداخل واضعًا الجاكت على المقعد وبآلية  تامة تحرك للفراش، رفع الغطاء وتمدد جواره، ثم استكان برأسه على ساق أخيه  المندهش مما يراه، فترك كتابه ومرر يده على ظهر أخيه بقلقٍ: عمران إنت  كويس؟

تمسك به أكثر وعينيه تلتمع بالدمع آبية السقوط، صمته زاد من قلقه فقال: عمران مالك؟

أتاه صوتًا محتقنًا يجيبه: خايف أخسرك في يوم من الأيام يا علي.

رفع رأسه إليه، فاعتدل عمران بجلسته مواجهًا أخيه وجهًا لوجه، فتماسك وهو يردد: أنا عايز مايسان يا علي.

رمش بعدم استيعاب لما يحدث عنه، فضربه بخفة على جبينه مرددًا بضحك: إنت  توهت في الأوضة ولا أيه يالا، داخلي أنا وبتقولي الكلام ده ليه ما تروح  لمراتك!

ولف وجهه بين يده بنظرة متفحصة: أوعى تكون شربت تاني، هعلقك من رقبتك المرادي أنا مطمن إنك كنت مع جمال ويوسف.

واعتدل على بجلسته يتساءل: إنت كنت فين يا عمران إنطق!

تعجب من بروده بالحديث، وعدم تطرقه لما يخص زوجته وكأنه لم يستمع لحديثه من  الأساس، ما يشغله عودته للخمر ولتلك اللعينة، فاندث بأحضانه والآخر يضمه  باستغرابٍ لحالته الغامضة، فردد بخوفٍ: عمران مالك متقلقنيش عليك!

ردد إليه بندمٍ: أنا حقير فعلًا زي ما يوسف وصفني.

ضمه على مازحًا: قول كده بقى الدكتور يوسف اداك الطريحة اللي هي، وجاي أصالحكم على بعض، خلصانة يا حبيبي أنا لما أشوفه هحلك الأمور.

صمت ولم يبرر له، تركه يظن الأمر خاص برفيقه، فكيف سيواجهه إن علم ظنونه  التي تلاشت لحظة تمعنه بحدقتيه الصادقة، انحنى عمران ليعود بوضع رأسه على  ساق على من جديد، فمرر على يده بخصلات شعره البني بحنانٍ، وردد بمرحٍ: خدلك  يومين دلع بعد كده حضن أخوك هيبقى ملك لزوجته المصون.

رمش عمران بعينيه باستغرابٍ، فاستدار بجسده ليقابله متسائلًا: تقصد أيه؟

وخمن ببسمة هادئة: إنت رجعت ليارا يا علي؟

ضحك وهو يجيبه ساخرًا: دكتورة يارا خطيبتي السابقة اتجوزت وزمانها على وش ولادة يا عمران!

اعتدل عمران بجلسته وهو يستفهم بلهفة: يبقى حب جديد صح؟

هز رأسه مؤكدًا، فاتسعت بسمة عمران بحماسٍ: طيب احكيلي بتخبي عني!

نفى ذلك موضحًا: عمري ما خبيت عنك حاجة، الموضوع وما فيه إني مكنتش متأكد من مشاعري وكمان علاقتنا هتبقى شبه محال.

رفرف باهدابه بعدم فهم: ليه؟

التقط على نفسًا مطولًا قبل أن يجيبه: عمران أنا بحب فطيمة.

جحظت عينيه صدمة وهو يحاول تذكار الاسم المردد لولا أنه رآها بنفس  اليوم، ومع ذلك تمنى أن يكون مخطئ ففاه: فطيمة اللي أنا شوفتك قاعد معاها  واللي المستشفى كلها جايبك سيرتها وسيرتك! يعني مكنوش بيبالغوا!

لم يترك له عمران فرصة الحديث، واستكمل بهمسه المنخفض: مش دي البنت اللي  كنت دايمًا بتتكلم عنها طول الشهور اللي فاتت هي اللي تم الاعتداء عليها.

هز رأسه مؤكدًا له بحزنٍ، فصاح عمران به بعد فترة صمته: لأ يا علي، فريدة هانم مش هتسكت دي، دي ممكن تقوم قيامتك!

تمدد جواره مستندًا بيده أسفل رأسه، عينيه شاردة بسقف غرفته: مستعد أتحاسب وأتحداها بكل قوتي، بس فطيمة تتقبل حبي وده صعب يا عمران.

واستكمل وعين عمران المندهشة لا تفارقه: لأول مرة أحس بالوجع ده،  المفروض إني كطبيب متأثرش بالكلام اللي أسمعه من المريض وأكون مركز لكل حرف  بحيث أقدر أساعده، لكني وأنا جنبها عاجز. عاجز وبتمنى أساعدها بدون ما  أسمع عن اللي اتعرضتله لإني بحس بخنجر بيقطع لحمي وبتمنى أرجع الماضي وأقتل  أي حقير جرحها ومسها.

وبصوتٍ مختنق استطرد: بتمنى أكون أول راجل ظهر في حياتها، وقتها مكنتش  هسبب كلب يمس شعرة منها، يا ريت لو أقدر أخدها بين ضلوعي وأخبيها عن كل  اللي اتعرضتله يا ريت!

رمش بعينيه وهو يستمع إليه بعدم تصديق، فصاح: إنت مش بتحب ده أنت عاشقان وواقع من الدور الفوق المية!

ابتسم وهو يشير له بهيامٍ: عنيها فيها حاجة غريبة، بتشدني لدرجة مببقاش  عايز أفارقها، مجرد ما عيوني بتلمح غيرها بشيل نفسي ذنب كبير، مع إني  نظراتي ليها أكبر ذنب، غصب عني مجبور أبعد لإني أكتر حد عارف حالتها.

وسُلط رماديته لاخيه وهو يخبره بألمٍ: عمران أنا الدكتور الخاص بفطيمة  وعارف ومتأكد إني مش هواجه حرب مع فريدة هانم بس، الحرب هو فوزي بقلب فطيمة  الأول قبل كل شيء.

وتابع بعين شاردة: فطيمة شايفة فيا الآمان والسكينة وده طبيعي لإني  جنبها بصفتي الدكتور علي، مش قادر أخد أي خطوة تخليني أجزم إنها حابة  الأمان مع على نفسه.

ارتسمت بسمة خافتة على وجه عمران، فتمدد جوار أخيه وردد بحبٍ: بتمنى تقدر تحصل على حبك وتعيش حياة مثالية لإنك تستاهل يا علي.

لف رأسه للوسادة ليكون قبالته: وإنت كمان الحياة المثالية مع الزوجة اللي تستاهلك على بعد منك خطوات وإنت من غبائك بتضيع كل شيء منك.

لف عمران رأسه لأخيه وأجابه: بحاول يا علي، بس المرادي عندي ارادة قوية مرجعش للقرف ده تاني.

واستقام بوجهه مربعًا يده أسفل رأسه مثلما يفعل أخيه، وردد بعزمٍ: مش  جاهز أرجع أعيش نفس التجربة البشعة، احساس كره النفس والتقزز والخوف من  الموت وأنا شايل ذنوب كبيرة زي دي مش هقدر أعيشه من تاني.

أغلق على عينيه باستسلامٍ لنومه وهو يهمس: نام يا عمران، ومتقلقش أنا جانبك ومش هتخلى عنك أبدًا.

مال برأسه إليه مبتسمًا وسرعان ما لحق به هو الأخير.

أشرقت الشمس بردائها الذهبي لتعتلي عرشها بيومها الجديد.

أفاقت سيدة المنزل ترتدي ترنجها الرياضي لتمارس رياضتها المعتادة كل  صباحٍ، فجلست على السجادة الصغيرة الخاصة بها تتأمل ولاديها، هبط على برفقة  عمران والضحكات لا تفارق الأوجه، ومن خلفهما لحقت بهما شمس تردد بضجرٍ:  طبعًا عاملين تحبوا في بعض ونسيتوا إن آ.

ابتلعت كلماتها حينما وجدت والدتها تراقبهم من الأسفل وهي تتمرن، فدنت  منهما تضع يدها على كتف كلا منهما وهي تهمس: نسيتوا أن حد فيكم لازم يوصلني  الجامعة معيش عربية أنا، اتفحمت والله.

ضحك على وهو يهمس بنفس مستوى صوتها: معلش تتعوض، عمران أخوكي هيوصلك، صح يا عموري.

جز على أسنانه وهو يؤمي برأسه باستسلامٍ، فتابع على بخبثٍ: بالمناسبة لو فريدة هانم شمت خبر هتحرمك من الجامعة.

وتركهما وهبط للأسفل، مرددًا ببسمته البشوشة: صباح الجمال على سيدة الرشاقة والجمال كله.

اعتدلت بانحنائها وهي تجيبه ببسمةٍ هادئة: أهلًا بالدكتور البكاش اللي مش محافظ على صحته وبطل يلعب رياضة معايا زي كل يوم.

حك أنفه بضجرٍ، فابتسم عمران ساخرًا وهو يشير له: هاتلك سجادة واقعد جنب مامي اتدرب ونشط الدورة الدموية يا دكتور.

مامي في عينك قليل الأدب ومنحط.

قالتها فريدة بغضبٍ جعل على يقهقه ضاحكًا، وعاد يجيبها: آسف يا حبيبتي  اليومين دول بس مشغول مع كام حالة كده، لكن وعد في يوم الاجازة هتلقيني  مستنيكِ تحت من الفجر.

واقتبس قبلة على خدها مستأذنًا بالمغادرة لتأخره، وكذلك فعل عمران وشمس ولحقوا به.

تعجب عمران حينما وجد على الذي يتحدث عن تأخره يقف بحرجٍ بداخل زواية المنزل، فسأله باستغرابٍ: رجعت ليه مش بتقول متأخر؟!

تنحنح وهو يردد وعينيه أرضًا: الظاهر كده إن مايا نامت بره وشكلها مش لابسه الحجاب، اطلع ظبط الدنيا بحيث متتحرجش لو عديت.

تصلب جسده وهو يستمع لأخيه الذي يرفض مجرد لمح طيفها في حين إنه من فرط  غيرته كان ليطعن به بالأمس، أفاق على هزة يده المتعصبة: بقولك متأخر هتخرج  ولا أنادي شمس اللي اختفت دي!

هز رأسه بخفةٍ، وخرج بخطاه المتثاقل للخارج، اقترب من الأريكة فازدرد  لعابه تأثرًا برؤيتها غافية كالملاك، وفوق كل ذلك تحتضن جاكيته بقوةٍ،  للحظة ود لو كان هو بدلًا من جاكيته، ود لو يطول قربها منه، ينتابه فضول عن  شعوره إذا كانت معه زوجة شرعًا، يود القرب بشكلٍ مستميت وخطيرًا لمشاعره  التي باتت تخنقه بتلك اللحظة.

زاد عمران من نخفيف حدة جرفاته على عنقه، وبصوتٍ هادئ رقيق ناداها: مايا.

فتحت عينيها تدريجيًا لتبدو صورته غير واضحة، فبدت تتحرك بنومتها وكأنها  على فراشها الوثير، كادت بالسقوط أرضًا أسفل قدميه لولا ذراعيه المتملكة  لخصرها.

فتحت عينيها على وسعيها، ورددت بخوفٍ: عمران! أيه اللي جابك أوضتي!

ابتسم بسخطٍ، وعاونها على الوقوف ثم وضع يده بجيب بنطاله: إحنا في الحديقة حضرتك وجنب الpool تحديدًا.

وتابع وعينيه تجوبها: إنتِ ازاي تنامي في البرد ده؟

أجابته وهي تلف رقبتها بتعبٍ: معرفش نمت ازاي.

انحنى عمران يلتقط حجابها المتساقط ومده لها يشير: إلبسي، على عايز يخرج.

تناولته منه بارتباكٍ وارتدته بإحكامٍ أسفل نظراته، كاد بالتحرك من أمامها  ولكنه عاد يخبرها: هروح الشركة أخلص حاجة مهمة وهقابلك في حفلة عيد زواج  ليام وإميلي، متنسيش تاخدي كادو مميز لإن الصفقة الجاية مع شركاتهم مهمة.

هزت رأسها بتفهمٍ: عارفة وبالفعل اختارت عقد ألماظ شيك لإميلي.

لطالما لم تفوتها أي تفاصيل خاصة بالعمل، منحها بسمة صغيرة وحمل حقيبته السوداء بيده وتحرك ليغادر فأوقفته وهي تدنو منه: عمران.

استدار لها فوجدها ترفع يدها على استحياء: الجاكت بتاعك.

رفع عينيه ببطءٍ لها، ليغمز بمشاكسة: خليه في حضنك يدفيكِ.

وتركها تصطبع بحمرةٍ خجلها واتجه للداخل ينادي بضجرٍ: شمس كل ده بتعملي أيه، صدقيني همشي!

خرجت تهرول من الداخل وهي تجر اذيال الخيبة، لتقف قبالتهما، فتساءلت مايسان باستغراب: في أيه، اتخانقتي مع فريدة هانم؟

ردت بحزنٍ وعينيها تتوزع إليهما: رفضت تديني فلوس عشان قولتلها إن عربيتي في التصليح.

ومالت لاخيها تهمس له: أمال لو عرفت إن مفضلش للعربية بقايا هتعمل فيا أيه!

تعالت ضحكاته الرجولية، فحاوطها بذراعه وهو يضمها إليه: ولا يهمك يا حبيبتي، الكاريدت كارد بتاعي تحت أمرك.

وقدمه لها، فصرخت بحماس وهي تلاقي ذاتها باحضانه فارتد درجات الدرج حتى  كاد بالسقوط بها وهي يردد من وسط ضحكاته الساحرة لمن تراقبه: يا مجنونة  هغير رأيي ومش هوصلك للجامعة.

ابتعدت وهي تستوعب كلماته، فرددت بذعر: الجااااامعة محضرتش ولا محاضرة امبارح.

وركضت لسيارته تشير له: يالا يا عمرااااااان.

منحها نظرة أخيرة والابتسامة مازالت على شفتيه، ثم غادر خلف شقيقته ليتحرك بسيارته للجامعة أولًا.

طرق على باب غرفتها، فقالت والابتسامة تحلق على وجهها: ادخل يا دكتور علي.

طل بوجهه متسائلًا: عرفتي منين إني علي!

أجابته فطيمة ببسمةٍ هادئة: من ريحة الورد!

وضعه على بالمزهرية وهو يردد بغرور: على حد بقى أنا بقيت مميز وسهل تعرفي قربي!

احمر وجهها خجلًا، فسحب على المقعد المقابل لفراشها، ثم جذب دفتره ليبدأ متسائلًا بخفةٍ: تحب نبدأ منين؟

ولج عمران لمكتبه الخاص بعدما أكد على السكرتير الخاص باحضار ما يلزم  الصفقة الأخيرة لآن لديه حفل صباحي هام بعد ساعتين من الآن، ورفع سماعته  يؤكد له: متحوليش أي اتصالات أو مقابلات النهاردة.

وأغلق الهاتف مجددًا، ليعمل جاهدًا حتى ينتهي مما يفعله، فتفاجئ بباب مكتبه  يُدفع لتظهر من أمامه بملابسها القصيرة المغرية، نهض عمران عن مقعده ليجد  سكرتيره يشير لها بغضب: من فضلك سيدتي آ.

قاطعه عمران باشارة يده فخرج على الفور، لتبقى تلك التي تقترب من مكتبه  مرددة بدلال: عمران اتصلت بك مرارًا ولم تجيبني، هل أنت بخير عزيزي؟

ابتلع ريقه واستمد نفسًا كأنه يبتلعه بخوفه، وأشار لها: اجلسي ألكس.

تعمدت اثارته بحركاتها الخليعة وبالرغم من ذلك سحب نظراته عنها وجلس على  مقعده ساندًا بيديه على الطاولة بهدوءٍ جعلها تتساءل: ما بك عمران، لقد  تحدثنا وانتهى الأمر ومع ذلك تتجاهل مكالماتي، ظننتك ستهاتفني للذهاب معك  حفل إميلي وليام أنت تعلم بأنها صديقتي ولكنك لم تفعل ما الأمر؟

طرق بقلمه على مكتبه بهدوءٍ اتبع رزانة نبرته: ألكس أنا لا أتخلى عن  كلمتي كوني رجلًا شرقيًا كلمته عهدًا، أريد الزواج بكِ لما حدث بيننا  مسبقًا ولكنتي لن أتخلى عن زوجتي المصرية.

رمشت بعدم فهم لحديثه الغامض فبدى واضحًا: لن أطلق مايسان.

عبثت بعينيها بغضب قادح ورددت وهي تلعق شفتيها: والدتك تريد ذلك أليس كذلك؟

هز رأسه نافيًا: تلك المرة أنا الذي يريد التمسك بزوجتي ألكس، لقد فعلت الكثير لأجلي وأنا أرغب برد دينها.

نهضت بعصبية بالغه لحقت طرقها العنيف على مكتبه: حسنًا عمران من اليوم  فصاعد لا أريد رؤيتك، أنا أعلم أنك كالعادة تقول تلك الكلمات وتعود لي  سأدعك الآن وأنا واثقة بإن عودتك قريبة.

جلس على مكتبه ببرودٍ التمسته تلك التي كادت بالخروج من المكتب، فخشيت  بأنها على وشك فقدانه تلك المرة، فما أن ولجت للمصعد حتى دونت رسالة  لرجليها

«لا تنسى سنلتقى بعد ساعة بالحفل، أريدك أنا تفعلها بنفسك أنت ورفيقك وأعدك بإنني سأدفع لك 20000ألف دولارًا مقابل ذلك! ».

يتبع 



انت الان في اول مقال

تعليقات