رواية متاهة مشاعر الفصل الاول حتى الفصل الرابع والعشرين حصريه وجديده على مدونة أفكارنا

رواية متاهة مشاعر الفصل الاول حتى الفصل الرابع والعشرين حصريه وجديده على مدونة أفكارنا 


رواية متاهة مشاعر الفصل الاول حتى الفصل الرابع والعشرين حصريه وجديده على مدونة أفكارنا 


في تلك الليلة الصيفية الحارة تلألأت حديقة فيلا آل غيث بالأضواء الساطعة, وكأنها تنافس سماء يوليو المغطاة بآلاف النجوم.. حيث تعالت ضحكات الحضور.. واختلطت الهمهمات المختلفة.. مَن افتتن بألوان باقات الورود المنتشرة في كل مكان داخل وخارج الفيلا, والتي تم استيرادها من هولندا خصيصاً لتلك الليلة الموعودة.. ومَن شغل نفسه بتفحص أنواع الأطعمة التي وصلت تواً من أشهر مطاعم باريس وروما... وبالطبع تنافست سيدات الحفل في ارتداء أحدث صيحات الأزياء وأغلى وأندر أنواع المجوهرات.. فكُن كإعلان حي عن مدى ثراء أزواجهن, بل كانت الليلة بأكملها تصرخ بمدى الرفاهية التي يعيشها رواد الحفل..


التفت الجميع بانتباه عندما ظهرت نجمة الحفل.. فاتنة حمراء الشعر تتباهى بجمالها الفتان بثوب ناري اللون لا يضاهي جرأة لونه سوى تصميمه, الذي أظهر بالتصاقه بجسدها منحنياته المثيرة, كما خطفت ساقيها المرمرتين عيون الرجال من تحت تنورته القصيرة جداً.. هذا بدون الكلام عن فتحتي الصدر والظهر اللتان أظهرتا بشرة وردية غاية في النعومة, وتكاد تغطي بلمعتها على تلألأ حبات الألماس المنتشرة على صدر الفستان.. وكانت تلك الحبات ما لفتت نظر سيدات الحفل فاختلطت أصواتهن وشهقاتهن لتأكدهن أن ما يزين الثوب هو حبات من الألماس الحر المطعم أحياناً بحبات لؤلؤية صغيرة..


ارتسمت ابتسامة واسعة على شفتي نيرة المطليتين بالحمرة القانية وهي ترى تأثير ظهورها على الحضور.. فتهادت بخيلاء تستمتع بشهقات النساء ونظرات الرجال التي تلتهم جسدها التهاماً.. تعشق الشعور بالتمييز والانفراد.. وهذا ما حققته الليلة بارتدائها ذلك الثوب لتحتفل بخطبتها.. اختيار لم تكن تجرأ عليه إلا.. هي.. "نيرة غيث"..


استمرت في خطواتها المتراقصة والابتسامة معلقة على شفتيها تعبر عن سعادتها الغامرة, سعادة تنبع من تحقيقها لأغلى أحلامها الليلة بعد أن تمت خطبتها على حسن.. حسن حلم طفولتها وصباها.. تحبه, بل تعشقه بكل سنواتها العشرون.. وأخيراً الليلة وضع خاتمه في إصبعها.. أخيراً أصبح خطيباً لها.. مِلكاً لها وحدها..


وصلت بخطواتها إلى حسن الذي كان يقف شارداً وكأنه في عالم منفصل تماماً عمن حوله.. وقفت تتأمله للحظات, بطوله المهيب الذي يقارب السبعة أقدام ومنكبيه العريضين وشعره الأسود الحالك, والذي قصه ليكون قصيراً جداً.. فأظهر معالم وجهه التي تنبأ عن رجولة وعنفوان يبرزها عيناه شديدتا الخضرة واللتان كانتا تنظران إليها في برود شديد, لم تهتم هي ببروده وهي تقترب منه وتضع يدها على كتفه ببطء:


ـ حسن.. حبيبي, يلا علشان نرقص أول رقصة..


أجابها بهدوء وهو لم يتخلَ عن بروده:


ـ اتفضلي..


ألقت بنفسها بين ذراعيه بلهفة ليفتتحا الرقص معاً.. ابتعد عنها قليلاً جاعلاً بينهما مسافة مناسبة بينما هي ضمت جسدها إليه أكثر وهي ترفع وجهها الفاتن إليه وتسأله بشغف:


ـ حسن.. أنت مش ناوي تبوسني ولا إيه!!..


أجاب بدهشة:


ـ إيه.. أنتِ بتقولي إيه.. أبوسك إزاي يعني!.. وليه؟!!


ـ أيوة عادي وفيها إيه؟؟.. كل خطيب بيبوس خطيبته في ليلة خطوبتهم.. ده أنت حتى ما بوستنيش وأنت بتلبسني الدبلة!!..


ـ هو أنتِ كمان كنتِ عايزاني أبوسك قدام والدك!!


أهدته نظرة ماكرة:


ـ بس هو مش موجود دلوقتِ.


رمقها بذهول للحظات ثم طبع قبلة باردة على جبهتها وابتعد بسرعة:


ـ كويس كده.. مبسوطة؟!


ظهرت معالم خيبة الأمل على وجهها, وهي تسأله بعتاب:


ـ أنت ليه بتعاملني بالطريقة دي؟


زفر بضيق:


ـ نيرة.. أنا آسف, بس أنتِ عارفة الظروف.. وإزاي تمت خطوبتنا.. أنا محتاج شوية وقت.


ظهرت معالم غضب عاصف في عينيها أخفتها سريعاً.. ورسمت على وجهها ابتسامة ناعمة:


ـ خلاص يا حبيبي.. بس ممكن تحاول تغير من تعبيرات الاشمئزاز دي من على وشك.. الناس بدأت تاخد بالها..


هز رأسه وهو يكمل الرقص معها في صمت قطعه انتهاء الموسيقى وحضور صديقاتها اللاتي التففن حولها بصخب, فانتهز هو الفرصة ليتحرك مبتعداً إلى ركن منعزل بالحديقة... حيث أخرج هاتفه بسرعة واتصل بالرقم الذي يحفظه عن ظهر قلب.. انتظر قليلاً ولكنه لم يتلق أي إجابة.. اتصل مرة ثانية وثالثة ورابعة.. وأخيراً فُتِح الخط على الطرف الآخر ولكن لم يكن هناك رد.. فقط أنفاس مضطربة وتنهدات مسموعة.. تبعتها شهقات مختنقة مميزة لأصوات البكاء..


همس بألم:


ـ منى!!


مرة ثانية لا رد فقط صوت بكاء مكتوم..


عاد يهمس بحزن:


ـ منى.. الله يخليكِ كفاية بُكى وردي عليا..


أخيراً أجابته بصوت مخنوق:


ـ مبروك.


سألها بلوم:


ـ مبروك!!.. بتباركي لي يا منى؟!!..


ـ حسن..


قاطعها:


ـ بتباركي لي على ايه!!.. على حفلة الخطوبة اللي نفسي اختفي منها فوراً.. ولا على العروسة اللي مش فاكر ولا عارف أقول لها كلمتين على بعض.. تخيلي إني حتى مش فاكر ملامحها... رغم إني أعرفها طول حياتي.. كل اللي متأكد منه إنها مش حبيبتي.. مش أنتِ يا منى..


ازداد بكائها:


ـ حسن.. أنت بتوجعني.. أرجوك.. كفاية..


أخبرها بتوسل:


ـ قوليها.. قولي نعم وأنا هكون قدامك حالاً.


للمتعه والترفيه أدخلوا هنا 👇 ❤️ 👇

خرج صوتها بصعوبة من وسط شهقاتها:


ـ ما أقدرش يا حسن.. ما أقدرش.. مش ممكن أشجعك أنك تعصى والدك.. واستحالة أوافق أننا نتجوز من غير علم أهالينا.. أنت ما ترضاش لي بكده..


زفر بحنق:


ـ طيب إيه الحل.. إني أكمل في الجوازة دي.. أبعد عنك وأقتل قلبي وقلبك.. ندفن مشاعرنا جوانا.. وأكمل حياتي مع إنسانة بعتبرها زي أختي.. وكل ده ليه؟!!.. عشان الشراكة بين أبويا وأبوها!.. عشان عشرة العمر زي ما أبويا بيقول!!!..


ـ حسن.. أنت عارف إن نيرة بتحبك.. كل اللي حوالينا عارفين كده..


ثم تهدج صوتها:


ـ حاول.. ووهتلاقي قلبك بيميل لها و..


قاطعها بقسوة:


ـ أحاول!!.. أحاول إيه بالظبط؟.. كان ممكن أقدر أعمل كده.. بس أنتِ ناسية حاجة مهمة.. إن القلب ده اتملى فعلاً بالحب.. الحب ليكي يا منى.. وأنتِ دلوقتِ جاية تطلبي مني أمحي الحب ده.. لا.. وكمان أقتل قلبي.. لأن قلبي من ِغير حبك ميت يا منى.. ميت..


عاد بكائها يرتفع وهي تهمس:


ـ حـ..ســ..ن..


وجعه الألم في صوتها.. اخترق قلبه ومزقه تمزيقاً.. يحبها, بل يعشقها.. ع

الفصل الثاني


"بعض الحرمان.. كثير من الحزن.. بعض الفراق.. وكثير جداً من البكاء.. قليل من لحظات السعادة.. وكثير جداً جداً جداً من الألم.. إنها الوصفة السحرية لأي قصة حب مستحيلة.. لأي قصة عشق خيالية تدور أحداثها فقط في قلوب العشاق والمحبيين.."..


كانت تلك بعض من خواطر خطها حسن بعد انتهاء حفلة خطبته وآوى أخيراً إلى عزلة حجرته.. إلا أن هاتفه ما لبث أن دق مراراً وتكراراً مظهراً على الشاشة اسم نيرة.. ولكنه يتجاهله.. ففي كل مرة يسمع رنينه يرفعه بلهفة عاشق لسماع صوت محبوبته, ولكن في كل مرة يصدمه الواقع باسم نيرة..


فقرر تجاهل الهاتف واستمر في كتابه أفكاره وخواطره.. عله يصدر بعض من الحزن الذي يعصف به إلى الورق..


أخرجه من اندماجه صوت طرقات على باب حجرته وما لبث أن دلف مازن إلى الغرفة وهو يصيح بدهشة بعدما رأى حسن جالساً على مكتبه:


ـ حسن!!.. أنت لسه صاحي!


رمقه حسن بسخرية:


ـ لا.. نمت!.. أنت شايف إيه؟!


هز مازن رأسه بأسى:


ـ أنت لسه برضوه لابس قناع السخرية دا؟


ـ ما تشغلش دماغك بيا.. كنت عاوز حاجة؟..


خبط مازن يده على رأسه:


ـ آآخ.. كنت هنسى!


ثم دفع إليه هاتفه قائلاً:


ـ نيرة بتحاول تتصل بيك بقى لها مدة.. يظهر إن تليفونك فاصل شحن.


أمسك حسن هاتف مازن في يده للحظات قبل أن يرفعه إلى أذنه:


ـ مساء الخير يا نيرة..


انطلق صوتها مرتفعاً من الجهة الأخرى:


ـ حسن.. أنت فين؟ ليه مش بترد عليا؟.. أنت كنت بتعمل إيه؟


وصل صوتها المرتفع إلى مازن الذي استأذن ليخرج من الغرفة وهو يغلق الباب خلفه بهدوء, ويخفي وجهه الذي ارتسمت عليه أقسى معالم المعاناة والألم.. بينما زفر حسن بحنق:


ـ نيرة.. أنتِ عارفة الساعة كام دلوقتِ؟.. ازاي تتصلي على تليفون مازن في وقت زي ده؟ الساعة عدت واحدة؟


سألته بلهفة:


ـ أنت بتغير عليّ يا حبيبي؟


أجابها بهدوء:


ـ أغير إيه وبتاع ايه!.. هغير من أخويا!!.. أنا بتكلم عن الأصول.


كادت أن تصرح له بعشق مازن لها.. عشقه المرتسم في نظراته.. في مراقبته لها.. في صوته.. في كل تصرفاته نحوها... ولكنها عنيدة لا تريد إلا صعب المنال.. حسن.. فلم يخلق بعد من يرفض نيرة غيث.. كانت بالفعل على وشك إبلاغه بذلك العشق, الذي لا تعلم كيف لم يتعرف عليه ولكنها تراجعت.. إنها لم تمتلكه بعد.. لا تملك السيطرة الكافية عليه حتى تحاول استخدام مازن كورقة رابحة.. لم يحن الوقت بعد..


غيرت من أسلوبها وسألته:


ـ ما قولتليش إيه رأيك في فستاني الليلة؟ حلو ومختلف صح؟


فوجئ حسن بالسؤال.. فستان!!!.. أي فستان هذا الذي تسأل عنه.. كيف يجيب على هذا السؤال؟!!.. هو بالفعل لا يتذكر الفستان.. لا يتذكر تصميمه أو شكله.. ولا حتى لونه.. حاول.. وحاول.. جاهد ليتذكر كيف كانت تبدو ولكن لا شيء.. لم يمر في ذهنه إلا وجه منى.. وصوت شهقاتها الحزينة..


لم يعرف بم يجبها.. فأنهى المكالمة بسرعة:


ـ آسف يا نيرة أنا مضطر أقفل لأن مازن محتاج تليفونه وأنا كمان مرهق وهنام تصبحي على خير.


أغلق الخط بسرعة مدركاً أنه أثار غضبها بذلك.. لكن قدرته على التحمل قد انتهت ولن يستطيع مجاراتها في لعبة الخطيبين السعيدين... وهي أول من تدرك أنها لعبة.. تدرك طبيعة مشاعره نحوها.. وتعلم تماماً أنه عاشق لأخرى.. ولكنها رفضت التراجع.. أبت مساعدته بعد أن ذهب إليها يتوسل مساعدتها...


عاد بذاكرته لأسبوع مضى.. سبعة أيام فقط .. غيرت من حياته..


كان يومها في مكتب والده يحاول كعادته إقناعه بفكرة زواجه من منى.. بينما والده يعدد له مزايا الزواج من نيرة.. وعندما لاحظ عامر عزوف حسن الكلي عن نيرة, ألقى بورقته الأخيرة.. وكان التهديد بطرد نصر والد منى.. بل لم يكتفِ بذلك ولكنه ألمح إلى تلويث سمعة منى.. وتدبير تهمة تمسها وتمس شرفها.. وأبلغه أنه حدد موعد خطبته على نيرة بالفعل.. وحذرة من مخالفة أوامره


لقد صعق حسن من فداحة ما وصل إليه تفكير والده, بل وتحديده موعد خطبته بالفعل وإبلاغه به كأنه شيء لا يخصه.. فأدرك أن الأمر قد خرج عن السيطرة.. والحديث مع والده لن يؤدي إلا إلى أسوأ النتائج.. فتركه غاضباً مقهوراً بعدما اضطر أن يوافق مرغماً على الخطبة..


فكر يومها أنه إذا صارح نيرة بحقيقة الوضع وطبيعة مشاعره نحوها, فإنها ستساعده في إقناع والديهما بعدم جدوى ذلك الارتباط...


ضغط أزرار هاتفه ليتصل بنيرة:


ـ نيرة.. مساء الخير.. أنا حسن..


هتفت بسعادة على الجانب الآخر:


ـ حسن!!.. ياااااااااه.. أخيرااااا أنت اللي اتصلت بيا!


ـ اممم.. نيرة ممكن أشوفك دلوقتِ؟


هتفت بلهفة:


ـ طبعاً.. أنا في الفيلا.. هستناك.


كانت بالطبع تعلم أنه يريد أن يتنصل من الخطبة حتى يتفرغ لحبه الأبله لابنة السائق.. هل يظنها عمياء ولا ترى نظراته التي تنطق بالحب عندما ينظر إلى منى؟!.. أو صوته الذي يرتعش بعشقه عندما ينطق اسمها!.. ولكنها لن تمنحه الفرصة للهروب من الارتباط بها.. فذلك الارتباط بينهما شيء مقدر.. وهي متأكدة أنه ما إن يمتلك جمالها.. ويشعر بأنوثتها بين يديه سينسى كل ما في ذهنه عن ابنة السائق..


وصل إليها بأسرع ما يمكنه, فوجدها بانتظاره في حديقة منزلها ترتدي بنطلون جينز يلتصق بها وكأنه جلد ثانٍ لها.. بينما كشفت الفتحة الواسعة لبلوزتها عن أحد كتفيها الذي لمع تحت خصلاتها الحمراء الناعمة..


ما إن وضع قدمه في حديقة الفيلا حتى وجدها تسرع إليه مرحبة:


ـ حسن.. أنا مش مصدقة عينيا.. معقول أنت هنا قدامي!!.. أكيد أونكل عامر بلغك بميعاد الخطوبة.. تصدق الأسبوع الجاي.. بسرعة كده.. أنا مش عارفة إذا كنت هلحق أجهز نفسي في الوقت المناسب.. أنا بعت فعلًا عشان أطلب الفستان.. و..


قاطع حسن استرسالها في الكلام:


ـ نيرة.. لحظة.. لحظة..


تنهدت بقوة:


ـ آسفة.. الكلام أخدني من فرحتي يا حبيبي.. ونسيت أرحب بيك.. اتفضل.. اتفضل استريح..


واصطحبته إلى مائدة مستديرة تقع بجوار المسبح الدائري والمظلل ليخفي من بداخله عن العيون المتلصصة.. ويفصله حاجز زجاجي عن حديقة الفيلا الرائعة...


جلسا معاً حول المائدة وساد الصمت للحظات.. ثم أجلى حسن صوته وبدأ في الكلام:


ـ نيرة.. اممم.. بصي.. أنا مش عارف أبدأ الكلام منين.. بس واضح أنك عرفتِ أنه والدك ووالدي حددوا ميعاد الخطوبة..


اندفعت نيرة في الكلام مرة أخرى:


ـ أيوه.. بابي بلغني.. و..


قاطع كلاماتها وهو يحاول إفهامها ما يريد قوله:


ـ اسمعيني بس يا نيرة.. أنا لازم أتكلم معاكِ في موضوع مهم..


تجمدت ملامح نيرة تماماً وقد أدركت أن محاولتها لإلهائه عن سبب حضوره والذي تدركه هي جيداً قد فشلت.. فسألته بحذر:


ـ إيه؟!.. خير؟.. في ترتيبات معينة في دماغك؟.. أصحابك أعزمهم أنت براحتك.. و..


عاد لمقاطعتها بنفاذ صبر:


ـ نيرة.. من فضلك.. اسمعيني..


رمقته بحذر:


ـ إيه يا حسن؟.. أنت خوفتني..


تردد قليلاً يحاول إيجاد طريقة مهذبة ليخبرها أنه لا يريد الارتباط بها, ولكن هربت منه الكلمات ليجدها تخرج أفكاره في صورة كلمات أطلقتها في وجه بمنتهى السهولة:


ـ أنا عارفة.. أنت جاي ليه دلوقتِ!


فوجيء بكلماتها وردد بذهول:


ـ عارفة؟!!..


نهضت فجأة لتقف على قدميها وهي تخبره ببساطة:


ـ أيوه.. أنا بس ما كنتش عايزة أتكلم في الموضوع.. بس مادام ده هيريحك.. خلاص وماله.. نتكلم.. أنا عارفة أنك جاي تصارحني بعلاقتك بــمنى!


لم تمهله ليجيب واندفعت كلماتها:


ـ ما تقلقش يا حبيبي.. أنا مش زعلانة منك.. أنا فاهمة طبعاً إن كل شاب بيكون في حياته نزوات وعلاقات عابرة قبل ما يتجوز ويستقر..


صرخ بها وقد فاض به الكيل من وضعها الكلمات في فمه:


ـ بس منى لا هي نزوة ولا علاقة عابرة.. منى تبقى بالنسبة لي حاجة كبيرة وغالية قوي.. وده اللي بحاول أقوله لك.. أنا مش عايز أظلمك يا نيرة..


سألته بتحدي:


ـ تظلمني!!.. يعني إيه..


عاد ليتكلم بنبرة أهدأ:


ـ الوضع اللي إحنا فيه ظلم للكل.. أنا عاوزك تساعديني إننا نقنع والدي ووالدك باستحالة الارتباط بينا..


رفعت نيرة رأسها بشموخ:


ـ استحالة ايه؟!.. إيه الكلام الفارغ ده!.. الخطوبة الأسبوع الجاي وأنت جاي تقولي استحالة ارتباط!.. كل ده عشان حتة السنكوحة اللي أنت ماشي معاها..


صرخ بها:


ـ نيرة.. أنا ما اسمحلكيش..


قاطعته:


ـ ما تسمحليش!.. ما تسمحليش بإيه؟!.. أني أصارحك بالحقيقة.. أنه كل اللي في دماغك ناحية منى ده وهم ولازم تنساه..


اقتربت منه بجرأة وهي تمسد وجنته بظاهر يدها وقد تغيرت نبرتها:


ـ أنا هنسيك.. هنسيك كل حاجة.. حبي ليك هيعوضك وهنعدي الأزمة دي..


وأضافت بنبرة ذات مغزى:


ـ ولا أنت عارف أونكل عامر زعله وحش قوي..


صدمته الجملة.. وشلت تفكيره للحظات.. حاول أن يتبين من ملامحها إذا كانت تقصد ما فهمه.. أنها مشتركة مع والده في مؤامرة لإجباره على ترك منى والارتباط بها هي.. ولكنه لم يستطع فك شفرة ملامحها التي كانت ترسم ملامح عشق جارف موجه له وحده ولكن نظرات عينيها كانت تنطق بتحدي سافر, وتملك واضح وكأنها تحاول إخباره انه ملكها وهي لن تتنازل عنه...


أعاده للواقع.. الصوت المنبعث من هاتفه ينبئ عن وصول رسالة.. فتناول هاتفه بلهفة ليجد رسالة من منى..


"تصبح على خير.. لا اله الا الله"..


زفر براحة.. أنها لم تنسَ عادتهما اليومية.. لم تتخلى عنه بعد..


ضغط بضعة أزرار ليرسل لها الرد المعتاد..


"احلمي بيا يا ملاكي زي ما بحلم بيكي ليل ونهار".. وأردف برسالة أخرى


"محمد رسول الله"...


وانطلقت من صدره آهه ألم..


"آه يا منى لو تطاوعيني.. أنا هصبر بس لحد ما تخلصي كليتك.. ووقتها ما فيش حاجة هتمنعني عنك.. ولا حتى تهديدات عامر بيه.. حتى لو أخدتك وهربنا لأبعد مكان في الأرض"


************


تهادت نيرة في أروقة أحد أشهر نوادي القاهرة ترافقها صديقتها الوحيدة علياء.. وبدا أن الاثنتين تجتذبان أنظار الموجودين بشدة.. فنيرة بخطواتها الرشيقة الواثقة التي تستعرض روعة وكمال قدها الممشوق, والذي أظهره الرداء المخصص لرياضة التنس.. بتنورته البيضاء القصيرة جداً لتظهر رشاقة ساقيها الطويلتين, وجزئه العلوي الذي احتضن جسدها بشدة ليظهر تفاصيله كاملة للعيون التي أخذت تلتهم ذلك الجمال الذي يعلن عن نفسه بوضوح وتركت خصلاتها الحمراء للتطاير حول وجهها لتمنحها جمالاً وحشياً متفرداً.. على العكس من علياء التي تمتلك جمال ناعم وهادئ.. جمال حزين تشبه أميرة الثلج بشعرها الأسود الطويل وبشرتها البيضاء الناعمة وعينين حزينتين بلون السماء..


لم تمتلك علياء ثقة نيرة بنفسها, ولكنها كانت تحاول مجاراتها في جرأة ملابسها فارتدت بنطلون جينز أسود التصق بساقيها بشدة _حتى يبدو وكأنه تم إلصاقه عليهما_ وقميص ضيق أحمر اللون يغطي خصرها بالكاد..


سألت علياء بتردد:


ـ نيرة.. أنتِ مش مضايقة ولا مكسوفة من النظرات اللي بتاكلك أكل دي..


زفرت نيرة بحنق:


ـ وبعدين معاكِ بقى يا عليا.. أنا ما صدقت أنك اقتنعت تغيري ستايل لبسك.. وسيبتي اللبس العجيب اللي كنتِ مصرة عليه قبل كده.. إيه لازمة الكلام ده دلوقتِ؟.. وبعدين مش أنتِ عايزة حبيب القلب ياخد باله منك؟.. يبقى لازم تلبسي كده.. ما هو مش معقول هيبص لخيمة ما فيهاش أي علامات أنوثة!!


ـ خلاص.. خلاص يا نوني.. أنا آسفة.. بس كل ما أفكر أن أعمامي لو شافوني باللبس ده هيعملوا فيه إيه.. ركبي ترعش..


قاطعتها نيرة:


ـ أعمامك مين يا عليا؟!!.. دول ما صدقوا يرموا همك على أونكل عصام جوز مامتك الله يرحمها.. صحيح.. أنتِ عاملة إيه مع تانت سهام.. لسه برضوه مش طايقاكِ؟..


أجابتها علياء بألم:


ـ ما أنتِ عارفة يا نوني.. أنها مش ممكن تحبني.. دي حتى كل ما تشوفني تقولي إني بفكرها بـماما الله يرحمها.. وترص لي بقى القصيدة اللي أنتِ عارفاها.. خطافة الرجالة.. خرابة البيوت.. وكلام من ده.. عشان كده أنا بفضل أقضي معظم الوقت في المزرعة.. عند جدو.. أقصد يعني.. أبو عمو عصام.. ولولا كده.. كانت طردتني من زمان.. وخاصة أنها واخدة بالها إني.. إني..


قاطعتها نيرة:


ـ إنك بتحبي المحروس ابنها.. البشمهندس يزيد بيه الغمراوي..


ـ أنت بتتريقي عليا يا نيرة؟


تأبطت نيرة ذراعها وهي تخبرها بمداهنة:


ـ لا يا حبي.. مش بتريق ولا حاجة.. هي صحيح قصة حبك دي ملعبكة.. يعني موقفك صعب شويتين.. هي مش ممكن هتنسى أنك تبقي بنت الست اللي اتجوزت جوزها.. بعد عشرة 20سنة.. موقف صعب مش سهل..


تنهدت علياء بيأس:


ـ أنت ناسية أهم حاجة.. أنه مش معبرني نهائي.. ولا كأني موجودة.. وأما بيجي يكلمني بيكون كل كلامه مجموعة من المحاضرات على اللي يصح واللي ما يصحش.. ويكملها بشوية تعليمات ونصايح.. وغير ده كله.. خطيبته الآنسة المبجلة.. ريناد.. بنت خالته.. ده بيموت عليها يا نوني.. وأنا..


كادت أن تختنق بغصتها.. فسكتت قليلاً ثم أكملت:


ـ وأنا.. انا بموت كل ما اشوفه معاها.. وهي حاطة ايدها في ايده كأنها بتقولي ده بتاعي.. وعمره ما هيبصلك أبداً..


قربت نيرة رأسها من علياء وهي تسألها باهتمام:


ـ أنت بتعملي زي ما بقولك ولا لأ؟..


ترددت علياء:


ـ ما هو أصل..


صاحت بها نيرة بغضب:


ـ اصل إيه وفصل إيه!!.. اسمعي كلامي أحسن لك لو عايزة سي يزيد بتاعك ده يبص لك.. وإلا هتلاقي نفسك بتحضري فرحه زي ما حضرتِ خطوبته ودمعتك على خدك..


ـ يا نيرة.. صعب.. صعب علي قوي أني أقرب منه أو إني.. إني..


رفعت نيرة احد حاجبيها وهي تسألها:


ـ أنك تغويه؟.. لا يا عليا مش صعب.. خليكي بس لازقة فيه في كل حتة.. لاحقيه.. خليكي قدام عينيه على طول.. وفي اللحظة المناسبة اضربي ضربتك.. ومش هوصيكي على اللبس والميك آب وكده..


هزت علياء رأسها بخوف:


ـ خايفة يا نوني.. خايفة..


ـ أنتِ بس خايفة عشان أنتِ لسه صغيرة.. أكبر منك بيوم يعرف عنك بسنة.. وأنا أكبر منك بتلات سنين.. يعني أعرف حاجات وحاجات.. خليكي بس معايا وأنت تكسبي..


ـ أيوه يا نوني.. بس هو بيحب ريناد.. معقولة أني أقدر.. يعني أقدر أقرب منه وهو..


قاطعتها نيرة:


ـ أيوه تقدري.. أغلبيه بأنوثتك.. شوفتي إزاي أنا قدرت اخلي حسن يخطبني.. رغم إنه كان بيحب اللي اسمها منى دي.. المهم أنك تعرفي تلعبي بورقك صح..


ـ يا رب يا نيرة.. يا رب يحبني ربع ما أنا بحبه.. أنا راضية..


أكملا سيرهما وثرثرتهما معاً حتى سألت علياء:


ـ ما قولتيليش إيه أخبار حسن معاكي..


تغير وجه نيرة للحظات وهي تشرد في علاقتها بحسن أو بمعنى أصح انعدام علاقتها بحسن.. فهو يتجاهلها أو يتناساها منذ ليلة خطوبتهما, والتي مر عليها أسبوع كامل لم تره فيه ولو مرة وتعذره دائماً بكثرة العمل والمسئوليات.. حتى المكالمات الهاتفية.. تكاد تكون منعدمة.. ودائماً ما تكون هي المتصلة ولا تتعدى مدة المكالمة دقيقتين في أحسن الأحوال.. ولكنها لن تخبر علياء بذلك بالطبع.. فهي بغنى عن أي شماتة.. ليس أن علياء تكرهها, هي تحبها ومرتبطة بها بشدة.. تتبعها كالتابع المخلص.. إنها صديقتها الوحيدة.. رغم فارق السن بينهما لكنها الوحيدة التي تثق بها نيرة وتحكي لها أدق أسرارها, لعل فارق السن ذاك هو ما جذب نيرة لإقامة صداقة مع علياء.. فعندما تعرفت عليها كانت علياء فتاة خجولة منطوية تخشى الاندماج مع الناس.. هذا بخلاف ملابسها التي تشبة خيام الشاطئ.. لا تدري نيرة كيف قررت أن تتبنى علياء اجتماعياً وتتولى نصحها وإرشادها لتندمج في المجتمع الجديد عليها تماماً.. فهي كانت تقضي معظم وقتها في مزرعة الغمرواي.. ونادراً ما يسمح لها بالحضور إلي فيلا زوج والدتها بالقاهرة.. وذلك بالطبع بناء على رغبة سهام هانم الزوجة الأولى لعصام الغمرواي.. زوج والدة علياء.. والتي توفيت بعد زواجها من عصام بعام واحد.. تاركة ابنتها الوحيدة كأمانة في عنق عصام.. وذلك بناء على وصيتها التي أسرتها لعصام قبل وفاتها.. فأعمام علياء لا يبحثون سوى عن ميراثها من الأراضي الزراعية التي تركها لها والدها.. لذلك كانوا يتحينون الفرص ليضعوا أيديهم عليها, حتى عن طريق تزويج الفتاة التي لم تكن بلغت حينها الرابعة عشر إلى أحد أولاد عمومتها.. وهو الأمر الذي عارضه عصام بشدة.. واضطر أن يترك ميراث الفتاة تحت أيدي أعمامها مقابل السماح له برعايتها وتركها لتكمل تعليمها.. لكن ذلك لم يلقى استحسان سهام الزوجة الأولى لعصام, والتي قبلت على مضض زواجه المفاجئ من والدة علياء واعتبرته نزوة سرعان ما تزول.. وبالفعل زالت بعد وفاة نادية والدة علياء.. تاركة الفتاة الصغيرة التي قررت على الفور سهام نفيها إلى مزرعتهم لتعيش مع والد عصام.. لذا عندما تعرفت نيرة على علياء.. كانت الفتاة تستجدي الاهتمام والمواساة.. كما أن جمالها من النوع الحزين والهادئ والذي لن يؤثر على جمال نيرة الصارخ, بل وجودهما معاً يبرز وحشية جمال نيرة مقابل الجمال الحزين التي تمثله علياء.. وتحولت علياء إلى تابع مخلص أمين لنيرة تستمع لنصائحها وتنفذها بالحرف.. فغيرت من مظهرها وطريقة لبسها.. وعلمتها كيف تصبح سيدة مجتمع صغيرة.. كيف تلفت انتباه أي شاب ينال إعجابها بدون أن تمنحه أي وعد, لكن الشيء الوحيد الذي لم تستطع نيرة تغييره هو شعر علياء فكان منطقة محظورة ممنوع اقتراب المقص منه نهائياً بناء لوعد منحته علياء لأمها.. وعوضت نيرة ذلك بأن رسمت لها الخطط حتى توقع بيزيد.. ابن زوج والدتها.. لكن إلى الآن تلك الخطط لم تفلح سوى في إبعاد يزيد أكثر وأكثر...


خرجت نيرة من شرودها على صوت علياء:


ـ هاااااااه.. إيه يا بنتي.. روحتي مني فين؟.. آه على الحب وعمايله.. واضح إن حسن دايب فيكي وبقى زي الخاتم في صوابعك


ضحكت نيرة بتكلف:


ـ طبعا يا بنتي.. وهي بنت السواق دي تيجي جنبي حاجة.. يللا بينا نروح المطعم.. لأني مواعدة حسن هناك..


ولكنها كانت تكذب بالطبع فهي علمت بالصدفة بوجود حسن في النادي ليتناول الغذاء مع شقيقه مازن ويزيد صديقهما الحميم... وقررت أن تباغته بظهورها المفاجئ لتجبره على الاعتراف بها في حياته.. وممارسة دوره كخطيب فخور للفاتنة نيرة غيث..


***********


جلس الأصدقاء الثلاثة حول إحدى موائد المطعم الملحق بالنادي الشهير.. فجذبوا أنظار الجميع وخاصة النساء.. فكل واحد منهم يتميز بوسامة مميزة.. حسن بلون عينيه الزمردي النادر الذي تحسده عليه النساء.. ومازن بملامحه المنحوتة كأحد آلهة الأغريق.. ويزيد أكبرهم سناً وأكثرهم جذباً للأنظار بعينيه السوداوين التي تموج بالشقاوة والعبث وشعره الأسود الحالك.. وبشرته السمراء الجذابة.. كانوا اعتادوا على الالتقاء بانتظام.. ولكن ظروف العمل ومسئولياته جعلت أوقات لقائهم تتباعد أكثر وأكثر.. حتى أن يزيد لم يستطع حضور خطبة حسن لارتباطه بالسفر للخارج.. فقام بدعوة صديقيه على الغذاء كتعويض عن تقصيره في حقهما..


ربت يزيد على كتف حسن مهنئاً:


ـ ألف مبروك يا معلم.. عقبال الفرح والليلة الكبيرة بقى..


ابتسم حسن ابتسامة بلا معنى وهو يجيب صديقه:


ـ أنت مصدق نفسك يا يزيد.. لا وعاملي عزومة وغدا!!.. وأنت عارف اللي فيها..


تبادل يزيد النظرات مع مازن الذي أشار له خفية بتغيير الموضوع... فأطلق ضحكة مُحرجة وهو يتوجه بحديثه إلى مازن:


ـ وأنت بقى ناوي تقعد كده.. عايز تبقى أنت السينجل الوحيد اللي فينا.. يللا شد حيلك كده.. عشان نفرح فيك.. أقصد بيك أنت كمان..


ابتسم مازن بمرارة وهو يقول بسخرية:


ـ يللا يا سيدي إيدي على كتفك.. عندك عروسة لي؟.. بيتهيألي ريناد ما عندهاش أخوات بنات..


ابتسم يزيد:


ـ ريناد ما فيش منها اتنين.. هي ريناد واحدة بس..


ثم أردف بعبث:


ـ أنت بس شاور.. وهتلاقي البنات بتترص قدامك طوابير.. أنا فاكر أنهم كانوا أيام الكلية بيطنشوني أنا وحسن وبيموتوا عليك أنت..


ضحك مازن:


ـ أيوه يا سيدي قر بقى.. ما تسيبني سينجل ومرتاح..


دخلت نيرة بصحبة علياء في تلك اللحظة ولمحهما حسن من بعيد.. فقال بسخرية:


ـ خلاص يا مازن عروستك جت أهي!..


تبع مازن نظرات حسن والتقت نظراته بنظرات نيرة فشحبت ملامحه على الفور ولم يفهم ما يعنيه حسن.. فسأله بتوتر:


ـ عروسة!!.. عروسة مين دي؟!.. قصدك أيه يا حسن؟..


أشار حسن بعينيه نحو الفتاتين:


ـ أقصد علياء.. وكده يبقى زيتنا في دقيقنا زي ما بيقولوا..


جاء الدور على يزيد لتشحب ملامحه قليلاً وهو يقول بجدية:


ـ علياء إيه يا حسن.. إيه الكلام الفارغ ده!.. دي لسه عيلة صغيرة.. خلي بس نيرة تبعد عنها وتبطل لعب في دماغها..


التفت مازن بدهشة إلى ملامح يزيد التي زادت انقباضها بعد رؤيته لما ترتديه علياء.. والعيون التي ترمق جسدها الشاب بنهم.. وسمعه يغمغم بغضب:


ـ ماشي يا علياء.. حسابك بعدين.. أنا هعرفك ازاي تلبسي لبس زي ده تاني..


زادت دهشة مازن عند سماعه تلك الجملة.. وهز رأسه حائراً


"أرسى لك على بر يا صاحبي.. أنت عايز مين فيهم.. ريناد ولا علياء"؟..


سمع يزيد همس مازن لنفسه فقطب غاضباً:


ـ مازن!... أنت بتقول أيه؟!.. أنا..


قاطعه مازن:


ـ أنت مش عارف أنت عايز إيه..


أجاب يزيد بإصرار:


ـ ريناد طبعاً..


سأله مازن مشككاً:


ـ متأكد؟..


أشاح يزيد بنظره بعيداً وهو يجيب بخفوت:


ـ أيوه..


قاطع حسن حديثهما:


ـ أنتوا بتوشوشوا على إيه؟.. أنت صدقت بجد يا مازن وهتخطب علياء ولا إيه؟..


أجاب يزيد بخشونة:


ـ خلاص يا حسن.. أقفل الموضوع ده.. البنت جاية ومش لازم تسمع كلام زي ده.. زي ما قلت دي لسه طفلة..


اقتربت الفتاتان.. منهم وهنا انقلبت ملامح مازن وهو يرى ملابس نيرة وانتظر أي تعليق من حسن ولكنه بدلاً من ذلك سمع صوت يزيد وهو يصيح بعلياء:


ـ أيه اللي أنت لابساه ده يا هانم.. اتفضلي قدامي على البيت.. خليني أروحك بدل المسخرة دي اللي أنت عاملاها في نفسك..


واستأذن منهم وهو يسحب علياء من ذراعها بدون حتى أن يلقي التحية على نيرة أو يهنئها بالخطبة.. فهز مازن رأسه هازئاً..


ـ وبتقولي متأكد من اللي أنت عاوزه!!..


سأله حسن مستفهمًا عما يقصد.. فاعتذر مازن وانطلق هو الآخر راحلاً.. تاركاً حسن بصحبة نيرة.. عالفصل الثالث


انطلق يزيد بسيارته بسرعة تنم عن غضبه الشديد, بينما التزمت علياء الصمت وقد شعرت بالتوتر الشديد وهي تلمح اشتداد يديه على المقود في محاولة منه للتحكم بغضبه...


انتفضت بقوة عندما سمعت صوته يقول بغضب مكتوم:


ـ كام مرة قلت لك تاخدي بالك من طريقة لبسك؟


سكتت علياء وأخذت تفرك يديها معاً بتوتر فصرخ بها:


ـ ردي..


تلعثمت بشدة وهي تحاول الدفاع عن نفسها:


ـ بس أنا لبسي محترم.. مش قصير ولا مكشوف.


ـ علياء.. أنتِ فاهمة إني غبي.. ولا عايزة تستغبيني؟!..


ـ لا.. بس..


ـ من غير بس.. اللبس اللي أنتِ لابسة ده ما يتلبسش تاني.. اللبس المحترم يستر صاحبته مش يخلي عيون الخلق تنهش فيها.. مفهوم؟..


سكتت ولم ترد فأكمل هو مغلقًا الموضوع:


ـ انتهينا.. بطلي تمشي ورا نيرة.. أنا مش فاهم إيه اللي عجبك فيها؟..


كادت أن تصرخ به..


"لأنها الوحيدة اللي بتهتم بيا.. الوحيدة اللي بتسمعني وتساعدني من غير ما تحسسني إني حمل تقيل, أو انسانة غير مرغوب في وجودها"..


كانت الكلمات على لسانها ولكنها ابتلعتها كالعادة حتى لا تغضبه.. فهي لا تحتمل أن يكون على خلاف معها..


سمعته يسألها:


ـ وصلتِ امتى؟..


ـ النهارده الصبح بدري..


وأكملت وكأنها تبرر سبب حضورها من المزرعة:


ـ جيت علشان أقدم في مكتب التنسيق.. النهارده آخر يوم..


سألها بتأنيب:


ـ وأنتِ ايه اللي مأخرك لآخر يوم؟.. هو أنا مش بعت لك السواق من يومين ورجعتيه من غير ما تيجي معاه بحجة إنك لسه بتفكري..


رمقته بذهول.. فلم يحدث أي من هذا على الإطلاق.. وهل هي مجنونة لتفوت فرصة القدوم إلى الفيلا لتراه حتى ولو خمس دقائق!!..


لمح ذهول نظراتها فسألها بتشكك:


ـ ايه.. حصل ده ولا محصلش؟..


أدارت وجهها نحو النافذة ولم تجبه.. فهي إن أخبرته أن أي من هذا لم يحدث ستسبب الأذى للسائق المسكين, فمن المؤكد أن من أمره بعدم الحضور سهام هانم.. والرجل لن يستطيع مخالفة أوامرها...


كانت تلك الأفكار تدور أيضاً في رأس يزيد.. لذا سألها بخفوت:


ـ مين جابك النهارده؟..


التفتت له وهي تجيب في خفوت:


ـ نيرة.. مرت علي في المزرعة.. وأخدتني مكتب التنسيق.. وبعدين طلعنا على النادي..


زفر بغيظ:


ـ نيرة تاني!!


استاءت من ازدرائه لصديقتها فهتفت بغيظ:


ـ وإيه يعني؟!.. هو يعني كان في حد غيرها اهتم بيا ولا عبرني!..


وضعت يدها على شفتيها لتكتم باقي كلماتها.. فهي لا تريد الشكوى.. لن تطلب الاهتمام من عائلة عصام الغمراواي.. لن تكون مثيرة للشفقة أبداً... فهي أدركت منذ سنوات أنها لا تمتلك أي حقوق في ذلك المنزل.. فقط عليها أن تتلقى فتات الاهتمام التي يلقون بها إليها وتكون شاكرة على ذلك.. ولا تجرؤ على الشكوى حتى لا تكتسب عداوة سهام.. فهي عدو شرس.. لا ترغب في إثارته أبداً..


مرر يزيد كلماتها فهو يعلم أنه لن يستطيع تغيير قلب أمه نحوها وسألها بتقرير:


ـ كتبتِ فنون جميلة رغبة أولى, صح؟


هزت رأسها نفياً واجابت بصوت مكتوم:


ـ لا.. كتبت آداب..


التفت اليها بدهشة:


ـ إيه!!!.. آداب.. ليه؟!.. واللوحات والتصميمات اللي مليتي بيهم المزرعة دول إيه؟؟..


أدارت وجهها مرة أخرى نحو النافذة حتى تخفي الدموع التي ترقرقت في عينيها:


ـ آداب أفضل.. مش هكون مضطرة إني آجي من المزرعة يومياً.. ممكن مرة أو اتنين في الشهر لكن فنون جميلة.. لازم الحضور كل يوم.. وده هيكون مجهود كبير.. و..


قاطعها بغضب:


ـ إيه الكلام الفارغ ده!.. مجهود إيه وحضور إيه؟!!.. ما هو أنتِ طبيعي هتقعدي عندنا في الفيلا.. إيه اللي يخليكي ترجعي المزرعة؟


التفتت له بسرعة فلمح العبرات المتجمدة بعينيها.. فأعادت وجهها سريعاً نحو النافذة تتأمل الناس خارج السيارة.. كم واحد منهم استطاع تحقيق حلمه.. وكم منهم وأد حلمه في مهده مثلها.. فالمكالمة التحذيرية من سهام هانم والتي تلقتها وهي في طريقها إلى مكتب التنسيق _بعدما أخبرها جواسيسها في المزرعة بالطبع بوصول نيرة حتى تصطحب عليا وتقدم أوراقها_ ما زالت كلماتها ترن في أذنيها..


"اختاري أي كلية نظرية لو ليكي رغبة تكملي في الجامعة.. أنتِ عارفة إني مش هقبل وجودك في بيتي, فما تفرضيش نفسك عليّ عشان ما تندميش"..


هتافه باسمها جعلها تلتفت له لتخبره على عجل:


ـ خلاص.. أنا اخترت آداب وواثقة إني هقبل فيها.. ما فيش داعي لدوشة الكليات العملية..


كان يعرف أنها تكذب... لقد صدعت رأسه برغبتها في دراسة الفن.. تارة تتوق لدراسة الفن التشكيلي.. وتارة تحلم بأن تكون مصممة أزياء.. وأحياناً أخرى مصممة ديكور.. وأخيراً كانت تحلم بأن تكون مصممة جرافيك.. كان الرسم هو الهاجس المسيطر عليها.. لم تخلت عن حلمها؟.. وقررت اتباع الطريق السهل؟.. هل تلك إحدى الأعراض الجانبية لصلتها الوطيدة بنيرة؟.. أم أن والدته لها يد في ذلك؟..


هم بسؤالها ولكنهما كانا قد وصلا إلى الفيلا.. فأوقف السيارة لتقفز هي بسرعة خارجة منها قبل أن يتمكن من توجيه أي سؤال.. حاول اللحاق بها...


حتى يتأكد من شكوكه ولكن صوت أمه أوقفه وهو يسمعها تسأل علياء بكره:


ـ أنتِ!!.. ايه اللي جابك على الفيلا؟.. ما رجعتيش على المزرعة على طول ليه؟..


تلعثمت علياء في الرد وقد جمدتها الكراهية الخام في صوت سهام.. فاندفع يزيد يخبر والدته وقد تأكد إحساسه بأن والدته هي وراء تغيير رغبات علياء.. فعلى ما يبدو أنها تعلم بوجود علياء في المدينة:


ـ أنا جبت علياء معايا من النادي يا ماما..


سمع صوت رقيق يأتي من خلفه:


ـ ازيك يا بشمهندس.. إيه.. مش ناوي تسلم!!


التفت إلى صاحبة الصوت وهو يهتف بلهفة:


ـ ريناد!!..


مدت يدها إليه فتناولها بلهفة وهو يجذيها قليلاً مقبلاً وجنتها:


ـ ريناد عندنا.. يا ميت ألف أهلاً وسهلاً..


ضحكت ريناد برقة وهي تسير بجواره بعد أن طوق خصرها بذراعه واستئذن من والدته بنظرة سريعة.. انتهزتها ريناد لتمنح علياء نظرة مشتعلة بالغيرة.. وكأنها تحذرها من الاقتراب منه..


تلقت علياء نظرة ريناد بغيظ خاصة وهي تلمح ملابسها التي تشبه إلى حد بعيد ملابس علياء والتي أقام يزيد الدنيا عليها.. ولكن كل ما تفعله ريناد هو مقبول ومسموح به.. تمتمت علياء بغيظ..


"أنت محتاج فحص دماغ يا يزيد.. لأن اللي بتعمله ده اسمه شيزوفرينيا"..


ـ عليا...


أوقفها صوت سهام الصارم.. فالتفتت نحوها في تردد:


ـ هبعت لك غداكي في أوضتك.. وبعد كده هيوصلك السواق على المزرعة..


أومأت موافقة بصمت واتجهت إلى غرفتها بسرعة ولكن ليس قبل تلقي نظرة على الحبيبين اللذين كانا توغلا داخل حديقة الفيلا, ولكنها استطاعت أن تلمح ريناد وهي تحاول جاهدة التملص من عناق يزيد..


***************


جلست نيرة أمام حسن على المائدة التي فرغت تماماً إلا منهما وسألته بلوم:


ـ كده برضوه يا حسن.. أسبوع يعدي من غير ما تحاول تيجي تشوفني ولو مرة واحدة..


رد باقتضاب اغاظها:


ـ كان ورايا شغل كتير قوي..


سألته بدلال:


ـ يعني الشغل أهم مني؟..


ـ معلش يا نيرة.. أنا لسه ما تعودتش يكون عندي خطيبة والجو ده..


ـ ولا يهمك يا سيدي.. أنا مسامحاك.. بس بشرط.. اعزمني على الغدا..


ـ أيوه.. بس أنا لسه متغدي مع يزيد ومازن..


زمت شفتيها بفتنة:


ـ خلاص.. مش مشكلة أنا أساساً مش بتغدى إلا سلطة.. لازم أحافظ على رشاقتي.. أنت إيه رأيك؟.. تفتكر أنا محتاجة أنزل وزني شوية ولا كده كويس؟..


رافقت كلماتها بتمرير يدها على منحنياتها المثيرة.. وكأنها تملس على جسدها تبحث عن عيب ما..


تابعت عيناه حركة يديها لا إرادياً وهو يتأملها بتقدير ذكوري بحت.. فهو لا يستطيع الإنكار أنها جميلة بالفعل.. قد لا يستهويه جمالها إلا أنه لا يستطيع إنكاره..


لمحة نظراته التي تتأمل جسدها بنظرة تقدير لم تخطئها.. ابتسمت بخبث وقد حققت هدفها ولفتت نظره أخيراً إلى جمالها وأنوثتها..


أخبرته بلهجة مغوية:


ـ إيه رأيك اعزمك عزومة تحفة.. ديسكوتيك فظييع يا حسن.. الـ ـدي جى هناك تحفة.. هنرقص للصبح.. وإيه بيشتغل من بدري.. يعني عقبال ما أغير وآخد شاور يكون اشتغل..


سألها بلهجة ساخرة قليلاً:


ـ وأنتِ ما غيرتيش هدومك من بدري ليه؟..


ـ أووووه... حسن.. ما تغيرش الموضوع..


ـ الموضوع!.. آه قصدك الديسكو.. لا.. معلش.. أنا مش بتاع ديسكوهات..


ـ ازاي بقى!!.. أنت كنت بتروح قبل كده مع يزيد ومازن


ـ أنتِ قولتيها.. يزيد ومازن.. يعني شلة شباب مع بعض.. معلش اعذريني أنا أصلي دقة قديمة حبتين..


غيرت نيرة من تكتيكها وهي تخبره بدلال:


ـ دقة قديمة.. دقة قديمة.. وماله.. أنا أصلاً بعشقك في جميع أحوالك.. بس هتخرجني فين بقى؟..


نظر إلى ساعته نظرة سريعة:


ـ أنا أساساً اتأخرت.. لازم أمشي.. معاكِ عربيتك ولا أوصلك؟..


رمقته بغيظ.. فهي تحاول التقرب منه بكل الطرق ولكنه يصد كل محاولة منها.. لقد ظنت اليوم أنها تستطيع الانفراد به.. فهي علمت أنه استأذن من الشركة متعذراً بدعوة يزيد.. وها هو يزيد ينطلق بعلياء مثل الثور الأحمق.. فما الذي تأخر عنه حسن؟..


أخذ عقلها يعمل سريعاً.. هل تنتهز الفرصة وتطلب منه إيصالها وتقتنص بضعة دقائق أخرى معه.. أم تتركه يرحل وتتبعه لتعرف إلى أين سيذهب؟.. وما الذي أفرغ له جدوله لباقي اليوم؟..


ـ نيرة.. سرحتِ في إيه؟.. أوصلك ولا إيه؟


ـ هاااااه.. ولا حاجة.. لا يا حبيبي.. أنت شكلك مستعجل وأنا معايا عربيتي.. ما هو أنا روحت جبت عليا من المزرعة عشان تلحق تقدم أوراقها في مكتب التنسيق..


ـ بجد.. برافو عليكِ يا نيرة.. البنت دي مسكينة فعلاً..


ابتسمت نيرة وقد أدركت أن اهتمامها بعلياء أثار إعجاب حسن.. اذاً فلتستغل هذه النقطة, لتحاول أن تجعله يرى بعض الجوانب الإنسانية بها طالما لا تعجبه الجوانب الانثوية..


ـ تصدق مسكينة فعلاً.. تانت سهام مش بتسمح لها تقعد عندهم في الفيلا خالص.. دي حتى كان نفسها تحضر حفلة النادي الليلة.. بس مش هينفع عشان لازم ترجع المزرعة.. وأونكل عصام ويزيد مش هيوافقوا تيجي معايا لوحدها..


ابتلع حسن الطعم بسهولة:


ـ وهي فيها إيه الحفلة دي؟.. ليه مصرة عليها يعني؟..


ابتسمت نيرة بخبث وقد أدركت أنها قاربت على الوصول لغايتها, فلو طلبت منه الحضور معها إلى الحفل لوجد ألف عذر لعدم الحضور:


ـ لا دي حفلة عادية.. بس عليا كان نفسها تفرح.. تصدق أما نجحت في الثانوية العامة.. ما فيش حد قالها مبروك ولا احتفلوا بها..


كانت تكذب بالطبع ولكنها كانت واثقة أن كذبتها من الصعب أن تنكشف فلن يذهب حسن إلى يزيد أو والده ليعاتبهما على تقصيرهما المزعوم في حق اليتيمة التي تتربى في بيتهما..


ـ ياااه.. لدرجة دي.. أنا كنت فاهم إن يزيد بيخلي باله منها..


ـ أه.. هو بيحاول.. بس ريناد بتغير من عليا مووووت ومش بتمكنه إنه ياخد باله منها..


تعجب حسن لغيرة ريناد من علياء.. فمن المعروف تعلق يزيد بريناد منذ سنوات.. وهي التي كانت تؤخر ارتباطهما.. عقل النساء هذا لن يستطيع فهمه أي رجل..


عرض عليها ما كانت تخطط للحصول عليه:


ـ خلاص.. إيه رأيك لو أخدتك أنتِ وعليا علشان تحضروا الحفلة دي؟..


كانت صرخة السعادة التي أطلقتها نيرة صادقة للغاية:


ـ بجد.. بجد يا حسن.. دي عليا هتفرح قوي..


ـ خلاص.. أنا هكلم يزيد عشان عليا ما ترجعش المزرعة الليلة.. وهعدي عليكِ على الساعة 8.. كويس كده؟..


منحته أروع ابتسامتها:


ـ كويس قوي..


ـ طيب.. يا دوب أقوم أنا بقى عشان أخلص اللي ورايا قبل ميعاد الحفلة..


ـ ماشي يا حبيبي.. أنا هتمشى معاك لحد عربيتك.. وبعدين أروح آخد شاور..


وقفت لتتأبط ذراعه, ولكنه أخبرها بحزم:


ـ لا يا نيرة.. روحي الوقتي على طول غيري هدومك..


ـ ماشي يا حبي.. زي ما تحب.. بااااي


ثم رفعت له وجهها ليقبلها... فطبع قبلة سريعة على وجنتها وابتعد مسرعاً تاركاً إياها تغلي من الغيظ.. سيطرت على نفسها سريعاً.. وانطلقت خلفه حتى تستطيع اللحاق به.. وتتأكد من الشك الذي يموج بداخلها...


*********


صف حسن سيارته في جراج المول الكبير بوسط البلد والذي تعمل منى بأحد محلات الملابس الموجودة به..


التقط هاتفه بسرعة ليتصل بها.. فهي تتهرب منه منذ أسبوع.. منذ حفل خطبته, بل وقبل ذلك.. ولكنه لن يسمح بالمزيد من الهروب.. يجب أن تفهم دوافعه لخطبة نيرة.. وأن يفكرا معاً ليجدا حلًا ما..


أخيراً سمع صوت منى على الجهة الأخرى من الهاتف:


ـ منى.. أنا موجود تحت في الجراج.. انزلي أنا مستنيكي..


رفضت منى بحسم:


ـ حسن.. من فضلك.. امشي.. أنت عارف!!..


قاطعها:


ـ أنا مش عارف حاجة غير أنه لو ما نزلتيش دلوقتِ أنا هطلع لك ومش هتحرك من قدام المحل إلا لو جيتي معايا.. مش هينفع أنك تهربي مني أكتر من كده.. لازم نقعد ونتكلم.. أنا مستنيكي.. خمس دقايق.. وإلا هكون قدامك..


أغلقت منى الهاتف وهي تهتف بحنق:


"المجنون.. هو ليه بيصعبها علينا!.. أنا مش فاهمة!!.. مقابلتنا دلوقتِ هتفيد بإيه غير زيادة الوجع"..


تحركت لتلتقي به بسرعة قبل أن يأتي هو إليها.. فهي تدرك أنه لا يهدد عبثاً.. واستأذنت من صاحبة المحل لتأخذ وقت الراحة الخاص بها..


وقف حسن بجانب سيارته ينتظر ظهور منى, والتي ما أن لمحها حتى شعر بقلبه يقفز خارج صدره ليحيط بها كأنه يريد عناقها.. وحمايتها في نفس الوقت.. أخذ يتأمل شعرها الأسود الطويل الذي يحيط بوجه له شكل القلب.. تتوسطه عينان سوداوان كحيلتان.. خطفتا قلبه منذ سنوات.. لاحظ حركتها المألوفة برفع شعرها من فوق جبهتها.. وهي حركة تقوم بها عندما تتوتر.. فعلم أنها لمحته.. وأنها ما زالت معترضة على لقائهما..


تحرك ليقترب منها فالتقى بها قبل مسافة من سيارته ومد يده ليصافحها فصافحته بخجل وسحبت يدها سريعاً..


رحب بها بلهفة قائلاً:


ـ أهلاً.. بمنايّ


ابتسمت بخجل:


ـ ازيك يا حسن..


أجابها بلوم:


ـ ازيك يا حسن!.. بقى لي 10 أيام ما شوفتكيش.. وبعدين إزيك يا حسن!


تلعثمت بخجل:


ـ ما هو..


جذبها من يدها ليدخلا إلى السيارة:


ـ ما فيش ما هو.. إحنا مش هنتكلم في الشارع..


انطلق بالسيارة ولم يلحظ النظرات النارية التي انطلقت من عينين بلون الزبرجد.. ونيرة تلكم مقود السيارة بكل غضب الدنيا..


*********


وفي إحدى البواخر السياحية والتي ترسو على شاطئ نيل القاهرة جلست منى أمام حسن وهي تحاول التهرب من نظراته.. وتستمع إلى دوافعه لخطبة نيرة والتي حاول شرحها متجنباً تهديد والده بتلويث سمعتها.. وأوضح خطته للمماطلة في تحديد موعد الزواج حتى تنتهي منى من دراستها بعد سنة واحدة..


ظلت منى صامتة لعدة دقائق بعدما انتهى حسن من كلامه ثم ردت عليه بتردد:


ـ يا حسن.. أنت فاهم أنه ببعدي عنك بعاقبك.. أبداً والله.. أنا بس بحاول أوفر علينا ألم ووجع أكبر.. أنا مش بلومك على خطوبتك من نيرة.. أنا سبق وقلت لك إنها بتحبك وأنك لازم تحاول أكتر.. يا حسن احنا حكاية مستحيلة.. لازم نحاول ننسى..


قاطعها بغضب عاشق:


ـ يعني إيه يا منى؟.. عايزة تفهميني.. إنك ممكن توافقي تكوني لحد تاني غيري.. لو اتقدم لك دلوقتِ واحد وقالك أنه بيحبك.. هتوافقي عليه وتحاولي تنسي اللي بينا؟..


وضعت منى وجهها بين كفيها وهي تحاول كتم دموعها:


ـ لا طبعاً.. أنت بتقول إيه بس!!.. أنا مستحيل أكون لحد غيرك


هز رأسه بحيرة:


ـ أومال معنى كلامك إيه.. إني اتجوز نيرة وأعيش وأحاول أحبها كمان.. وأنتِ؟.. أنتِ هتعيشي على الذكرى!.. منى.. احنا مش في فيلم عربي قديم.. أنا إيه اللي يجبرني أرضى بصورة باهتة ممسوخة.. لما أنا عندي الأصل؟؟.. قولي علي أناني.. قولي طماع.. بس أنا عايز حياة كاملة طبيعية بس مع الشريكة اللي بحلم بيها من سنين..


ـ وإذا كان ده مستحيل.


ـ وليه مستحيل؟.. الحل في إيدك يا منى..


ـ أنا مش ممكن أتجوز من غير موافقة أبويا..


ـ ومين قال بس أننا هنتجوز من غير موافقته.. طبعاً هطلبك منه.. وهو كمان اللي هيسلمك لي بإيديه..


ـ أنت هتجنني يا حسن.. أومال إيه الكلام اللي قلتهولي من أول ما قعدنا..


ـ أنا عندي فكرة هحاول أحل بيها جزء من المشكلة.. اسمعيني بس..


استمعت منى إلى فكرة حسن بهدوء.. ثم التزمت الصمت بعدما انتهى من كلامه..


ـ إيه يا منى.. ساكتة ليه؟..


ـ مش عارفة يا حسن.. مش عارفة أقول لك ايه؟. مش قادرة أوافقك.. ومش قادرة برضوه اعترض.. لكن كل اللي هطلبوا منك.. أننا ما نتقابلش طول ما أنت خاطب واحدة تانية.. أنت عمرك ما كنت خاين يا حسن.. وأنا مش عايزك تتحول لواحد خاين حتى لو عشاني..


ـ أنتِ بتقولي ايه!!.. يعني عايزة تحرمني منك؟.. ما اقدرش يا منى.. أنا كنت هتجنن الأسبوع اللي فات..


ـ ده طلبي الوحيد.. وأوعدك أنه لو حصل وبقيت حر وجيت تطلبني من بابا.. هتلاقيني واقفة معاك بكل قوتي.. لكن لحد ما ده يحصل.. لازم تصون عهد صاحبة الدبلة اللي في ايدك...


خلع حسن دبلته بعنف وهو يضعها في كف يدها:


ـ شوفي يا منى.. شوفي أنا لابس دبلة مين..


أمسكت منى الدبلة بأناملها لتلمح النقش بداخلها باسمي حسن ومنى ويحيط بهما قلب صغير له أجنحة من الجانبين.. هطلت دموعها الحبيسة.. ولم يعد باستطاعتها حبسها أكثر من ذلك..


شعر بخناجر تنحر قلبه مع دموعها التي تتساقط.. فسألها بألم:


ـ بتعيطي ليه بس يا منى؟..


أجابته من وسط شهقاتها:


ـ كان نفسي ما اكونش ضعيفة كده يا حسن.. كان نفسي أقوي قلبي وأقسيه وأجبره أنه يبعد عنك.. لكن مش قادرة.. وكل ما بيمر الوقت الألم بيزيد..


أجابها بغضب:


ـ أنا اللي كان نفسي أكون أقوى.. وأقدر أدافع عني وعنك.. أنا كنت ساذج قوي لما افتكرت أن بابا هيكون اهتمامه الأول هو سعادتي.. لكن ملحوقة.. بس لو الخطة اللي في دماغي تمشي مظبوط, مش هيكون في أي حاجة يهددني بيها..


هزت رأسها بألم:


ـ ما تعملش في نفسك كده يا حسن.. مش بقولك كان نفسي أكون أقوى.. ما كنتش أتمنى أني أكون نقطة ضعفك..


أمسك بيدها بحنان:


ـ وأنا ما كنتش أتمنى أنه يكون لي نقطة ضعف غيرك..


سحبت أناملها من بين يديه بخجل:


ـ حسن..


ـ عيون وقلب وروح حسن..


نهضت فجأة وهي تتعثر في خطواتها:


ـ أنا لازم أمشي.. أنا.. اتأخرت.. و..


جذبها من يدها برفق لتجلس مرة أخرى:


ـ استني بس.. مش هنتغدى سوا؟..


تلعثمت:


ـ أصل.. بس..


أجاب حسن بحسم:


ـ من غير بس.. أنتِ حرمتيني منك أكتر من أسبوع.. أنا كنت هموت من غيرك..


جلست منى على مضض.. ولكنها نظرت إليه لتخبره بقوة مناقضة لخجلها السابق:


ـ هقعد أشرب عصير فراولة بس.. وبعدين همشي.. زي ما قلت لك يا حسن.. مش هنحول حاجة بريئة وحلوة زي حبنا لخيانة.. أرجوك.. تفهمني..


أومأ موافقاً:


ـ خلاص يا منى.. زي ما تحبي.. بس ما تحرمنيش من صوتك.. ماشي..


ابتسمت برقة:


ـ هيكون دايماً بينا.. "تصبح على خير.. لا اله الا الله"..


فرد عليها برقة مماثلة:


ـ "احلمي بيا يا ملاكي زي ما بحلم بيكي ليل ونهار".. .. "محمد رسول الله"


ابتسما معاً قبل أن يستدعي حسن النادل ليطلب لهما عصير الفراولة الذي تعشقه منى..


**************


وفي مكتب مازن جلس في كرسيه بعدما أغلق هاتفه للتو.. وقد تلقى المكالمة التي كان ينتظرها.. ثم استدعى سكرتيرته التي دخلت إلى مكتبه حاملةً بعض الأوراق تحتاج إلى توقيعه.. ولكنه أوقفها قائلاً:


ـ مش همضي حاجة دلوقتِ.. ابعتي هاتي لي عم نصر السواق بتاع بابا حالاً.. ع


الحلقة الثالثة 

الحلقة الرابعة 

💛💛💛💛💛💛💛💛💛

الحلقة الثالثة 


الفصل الثالث


انطلق يزيد بسيارته بسرعة تنم عن غضبه الشديد, بينما التزمت علياء الصمت وقد شعرت بالتوتر الشديد وهي تلمح اشتداد يديه على المقود في محاولة منه للتحكم بغضبه...


انتفضت بقوة عندما سمعت صوته يقول بغضب مكتوم:


ـ كام مرة قلت لك تاخدي بالك من طريقة لبسك؟


سكتت علياء وأخذت تفرك يديها معاً بتوتر فصرخ بها:


ـ ردي..


تلعثمت بشدة وهي تحاول الدفاع عن نفسها:


ـ بس أنا لبسي محترم.. مش قصير ولا مكشوف.


ـ علياء.. أنتِ فاهمة إني غبي.. ولا عايزة تستغبيني؟!..


ـ لا.. بس..


ـ من غير بس.. اللبس اللي أنتِ لابسة ده ما يتلبسش تاني.. اللبس المحترم يستر صاحبته مش يخلي عيون الخلق تنهش فيها.. مفهوم؟..


سكتت ولم ترد فأكمل هو مغلقًا الموضوع:


ـ انتهينا.. بطلي تمشي ورا  نيرة.. أنا مش فاهم إيه اللي عجبك فيها؟..


كادت أن تصرخ به..


 "لأنها الوحيدة اللي بتهتم بيا.. الوحيدة اللي بتسمعني وتساعدني من غير ما تحسسني إني حمل تقيل, أو انسانة غير مرغوب في وجودها"..


كانت الكلمات على لسانها ولكنها ابتلعتها كالعادة حتى لا تغضبه.. فهي لا تحتمل أن يكون على خلاف معها..


سمعته يسألها:


ـ وصلتِ امتى؟..


ـ النهارده الصبح بدري..


وأكملت وكأنها تبرر سبب حضورها من المزرعة:


ـ جيت علشان أقدم في مكتب التنسيق.. النهارده آخر يوم..


سألها بتأنيب:


ـ وأنتِ ايه اللي مأخرك لآخر يوم؟.. هو أنا مش بعت لك السواق من يومين ورجعتيه من غير ما تيجي معاه بحجة إنك لسه بتفكري..


رمقته بذهول.. فلم يحدث أي من هذا على الإطلاق.. وهل هي مجنونة لتفوت فرصة القدوم إلى الفيلا لتراه حتى ولو خمس دقائق!!..


لمح ذهول نظراتها فسألها بتشكك:


ـ ايه.. حصل ده ولا محصلش؟..


أدارت وجهها نحو النافذة ولم تجبه.. فهي إن أخبرته أن أي من هذا لم يحدث ستسبب الأذى للسائق المسكين, فمن المؤكد أن من أمره بعدم الحضور سهام هانم.. والرجل لن يستطيع مخالفة أوامرها...


كانت تلك الأفكار تدور أيضاً في رأس يزيد.. لذا سألها بخفوت:


ـ مين جابك النهارده؟..


التفتت له وهي تجيب في خفوت:


ـ نيرة.. مرت علي في المزرعة.. وأخدتني مكتب التنسيق.. وبعدين طلعنا على النادي..


زفر بغيظ:


ـ نيرة تاني!!


استاءت من ازدرائه لصديقتها فهتفت بغيظ:


ـ وإيه يعني؟!.. هو يعني كان في حد غيرها اهتم بيا ولا عبرني!..


وضعت يدها على شفتيها لتكتم باقي كلماتها.. فهي لا تريد الشكوى.. لن تطلب الاهتمام من عائلة عصام الغمراواي.. لن تكون مثيرة للشفقة أبداً... فهي أدركت منذ سنوات أنها لا تمتلك أي حقوق في ذلك المنزل.. فقط عليها أن تتلقى فتات الاهتمام التي يلقون بها إليها وتكون شاكرة على ذلك.. ولا تجرؤ على الشكوى حتى لا تكتسب عداوة سهام.. فهي عدو شرس.. لا ترغب في إثارته أبداً..


 مرر يزيد كلماتها فهو يعلم أنه لن يستطيع تغيير قلب أمه نحوها وسألها بتقرير:


ـ كتبتِ فنون جميلة رغبة أولى, صح؟


هزت رأسها نفياً واجابت بصوت مكتوم:


ـ لا.. كتبت آداب..


التفت اليها بدهشة:


ـ إيه!!!.. آداب.. ليه؟!.. واللوحات والتصميمات اللي مليتي بيهم المزرعة دول إيه؟؟..


أدارت وجهها مرة أخرى نحو النافذة حتى تخفي الدموع التي ترقرقت في عينيها:


ـ آداب أفضل.. مش هكون مضطرة إني آجي من المزرعة يومياً.. ممكن مرة أو اتنين في الشهر لكن فنون جميلة.. لازم الحضور كل يوم.. وده هيكون مجهود كبير.. و..


قاطعها بغضب:


ـ إيه الكلام الفارغ ده!.. مجهود إيه وحضور إيه؟!!.. ما هو أنتِ طبيعي هتقعدي عندنا في الفيلا.. إيه اللي يخليكي ترجعي المزرعة؟


التفتت له بسرعة فلمح العبرات المتجمدة بعينيها.. فأعادت وجهها سريعاً نحو النافذة تتأمل الناس خارج السيارة.. كم واحد منهم استطاع تحقيق حلمه.. وكم منهم وأد حلمه في مهده مثلها.. فالمكالمة التحذيرية من سهام هانم والتي تلقتها وهي في طريقها إلى مكتب التنسيق _بعدما أخبرها جواسيسها في المزرعة بالطبع بوصول نيرة حتى تصطحب عليا وتقدم أوراقها_ ما زالت كلماتها ترن في أذنيها..


"اختاري أي كلية نظرية لو ليكي رغبة تكملي في الجامعة.. أنتِ عارفة إني مش هقبل وجودك في بيتي, فما تفرضيش نفسك عليّ عشان ما تندميش"..


هتافه باسمها جعلها تلتفت له لتخبره على عجل:


ـ خلاص.. أنا اخترت آداب وواثقة إني هقبل فيها.. ما فيش داعي لدوشة الكليات العملية..


كان يعرف أنها تكذب... لقد صدعت رأسه برغبتها في دراسة الفن.. تارة تتوق لدراسة الفن التشكيلي.. وتارة تحلم بأن تكون مصممة أزياء.. وأحياناً أخرى مصممة ديكور.. وأخيراً كانت تحلم بأن تكون مصممة جرافيك.. كان الرسم هو الهاجس المسيطر عليها.. لم تخلت عن حلمها؟.. وقررت اتباع الطريق السهل؟.. هل تلك إحدى الأعراض الجانبية لصلتها الوطيدة بنيرة؟.. أم أن والدته لها يد في ذلك؟..


 هم بسؤالها ولكنهما كانا قد وصلا إلى الفيلا.. فأوقف السيارة لتقفز هي بسرعة خارجة منها قبل أن يتمكن من توجيه أي سؤال.. حاول اللحاق بها...


حتى يتأكد من شكوكه ولكن صوت أمه أوقفه وهو يسمعها تسأل علياء بكره:


ـ أنتِ!!.. ايه اللي جابك على الفيلا؟.. ما رجعتيش على المزرعة على طول ليه؟..


تلعثمت علياء في الرد وقد جمدتها الكراهية الخام في صوت سهام.. فاندفع يزيد يخبر والدته وقد تأكد إحساسه بأن والدته هي وراء تغيير رغبات علياء.. فعلى ما يبدو أنها تعلم بوجود علياء في المدينة:


ـ أنا جبت علياء معايا من النادي يا ماما..


سمع صوت رقيق يأتي من خلفه:


ـ ازيك يا بشمهندس.. إيه.. مش ناوي تسلم!!


التفت إلى صاحبة الصوت وهو يهتف بلهفة:


ـ ريناد!!..


مدت يدها إليه فتناولها بلهفة وهو يجذيها قليلاً مقبلاً وجنتها:


ـ ريناد عندنا.. يا ميت ألف أهلاً وسهلاً..


ضحكت ريناد برقة وهي تسير بجواره بعد أن طوق خصرها بذراعه واستئذن من والدته بنظرة سريعة.. انتهزتها ريناد لتمنح علياء نظرة مشتعلة بالغيرة.. وكأنها تحذرها من الاقتراب منه..


تلقت علياء نظرة ريناد بغيظ خاصة وهي تلمح ملابسها التي تشبه إلى حد بعيد ملابس علياء والتي أقام يزيد الدنيا عليها.. ولكن كل ما تفعله ريناد هو مقبول ومسموح به.. تمتمت علياء بغيظ..


"أنت محتاج فحص دماغ يا يزيد.. لأن اللي بتعمله ده اسمه شيزوفرينيا"..


ـ عليا...


أوقفها صوت سهام الصارم.. فالتفتت نحوها في تردد:


ـ هبعت لك غداكي في أوضتك.. وبعد كده هيوصلك السواق على المزرعة..


أومأت موافقة بصمت واتجهت إلى غرفتها بسرعة ولكن ليس قبل تلقي نظرة على الحبيبين اللذين كانا توغلا داخل حديقة الفيلا, ولكنها استطاعت أن تلمح ريناد وهي تحاول جاهدة التملص من عناق يزيد..


***************


جلست نيرة أمام حسن على المائدة التي فرغت تماماً إلا منهما وسألته بلوم:


ـ كده برضوه يا حسن.. أسبوع يعدي من غير ما تحاول تيجي تشوفني ولو مرة واحدة..


رد باقتضاب اغاظها:


ـ كان ورايا شغل كتير قوي..


سألته بدلال:


ـ يعني الشغل أهم مني؟..


ـ معلش يا نيرة.. أنا لسه ما تعودتش يكون عندي خطيبة والجو ده..


ـ ولا يهمك يا سيدي.. أنا مسامحاك.. بس بشرط.. اعزمني على الغدا..


ـ أيوه.. بس أنا لسه متغدي مع يزيد ومازن..


زمت شفتيها بفتنة:


ـ خلاص.. مش مشكلة أنا أساساً مش بتغدى إلا سلطة.. لازم أحافظ على رشاقتي.. أنت إيه رأيك؟.. تفتكر أنا محتاجة أنزل وزني شوية ولا كده كويس؟..


رافقت كلماتها بتمرير يدها على منحنياتها المثيرة.. وكأنها تملس على جسدها تبحث عن عيب ما..


تابعت عيناه حركة يديها لا إرادياً وهو يتأملها بتقدير ذكوري بحت.. فهو لا يستطيع الإنكار أنها جميلة بالفعل.. قد لا يستهويه جمالها إلا أنه لا يستطيع إنكاره..


لمحة نظراته التي تتأمل جسدها بنظرة تقدير لم تخطئها.. ابتسمت بخبث وقد حققت هدفها ولفتت نظره أخيراً إلى جمالها وأنوثتها..


أخبرته بلهجة مغوية:


ـ إيه رأيك اعزمك عزومة تحفة.. ديسكوتيك فظييع يا حسن.. الـ ـدي جى هناك تحفة.. هنرقص للصبح.. وإيه بيشتغل من بدري.. يعني عقبال ما أغير وآخد شاور يكون اشتغل..


سألها بلهجة ساخرة قليلاً:


ـ وأنتِ ما غيرتيش هدومك من بدري ليه؟..


ـ أووووه... حسن.. ما تغيرش الموضوع..


ـ الموضوع!.. آه قصدك الديسكو.. لا.. معلش.. أنا مش بتاع ديسكوهات..


ـ ازاي بقى!!.. أنت كنت بتروح قبل كده مع يزيد ومازن


ـ أنتِ قولتيها.. يزيد ومازن.. يعني شلة شباب مع بعض.. معلش اعذريني أنا أصلي دقة قديمة حبتين..


غيرت نيرة من تكتيكها وهي تخبره بدلال:


ـ دقة قديمة.. دقة قديمة.. وماله.. أنا أصلاً بعشقك في جميع أحوالك.. بس هتخرجني فين بقى؟..


نظر إلى ساعته نظرة سريعة:


ـ أنا أساساً اتأخرت.. لازم أمشي.. معاكِ عربيتك ولا أوصلك؟..


رمقته بغيظ.. فهي تحاول التقرب منه بكل الطرق ولكنه يصد كل محاولة منها.. لقد ظنت اليوم أنها تستطيع الانفراد به.. فهي علمت أنه استأذن من الشركة متعذراً بدعوة يزيد.. وها هو يزيد ينطلق بعلياء مثل الثور الأحمق.. فما الذي تأخر عنه حسن؟..


 أخذ عقلها يعمل سريعاً.. هل تنتهز الفرصة وتطلب منه إيصالها وتقتنص بضعة دقائق أخرى معه.. أم تتركه يرحل وتتبعه لتعرف إلى أين سيذهب؟.. وما الذي أفرغ له جدوله لباقي اليوم؟..


ـ نيرة.. سرحتِ في إيه؟.. أوصلك ولا إيه؟


ـ هاااااه.. ولا حاجة.. لا يا حبيبي.. أنت شكلك مستعجل وأنا معايا عربيتي.. ما هو أنا روحت جبت عليا من المزرعة عشان تلحق تقدم أوراقها في مكتب التنسيق..


ـ بجد.. برافو عليكِ يا نيرة.. البنت دي مسكينة فعلاً..


ابتسمت نيرة وقد أدركت أن اهتمامها بعلياء أثار إعجاب حسن.. اذاً فلتستغل هذه النقطة, لتحاول أن تجعله يرى بعض الجوانب الإنسانية بها طالما لا تعجبه الجوانب الانثوية..


ـ تصدق مسكينة فعلاً.. تانت سهام مش بتسمح لها تقعد عندهم في الفيلا خالص.. دي حتى كان نفسها تحضر حفلة النادي الليلة.. بس مش هينفع عشان لازم ترجع المزرعة.. وأونكل عصام ويزيد مش هيوافقوا تيجي معايا لوحدها..


ابتلع حسن الطعم بسهولة:


ـ وهي فيها إيه الحفلة دي؟.. ليه مصرة عليها يعني؟..


ابتسمت نيرة بخبث وقد أدركت أنها قاربت على الوصول لغايتها, فلو طلبت منه الحضور معها إلى الحفل لوجد ألف عذر لعدم الحضور:


ـ لا دي حفلة عادية.. بس عليا كان نفسها تفرح.. تصدق أما نجحت في الثانوية العامة.. ما فيش حد قالها مبروك ولا احتفلوا بها..


كانت تكذب بالطبع ولكنها كانت واثقة أن كذبتها من الصعب أن تنكشف فلن يذهب حسن إلى يزيد أو والده ليعاتبهما على تقصيرهما المزعوم في حق اليتيمة التي تتربى في بيتهما..


ـ ياااه.. لدرجة دي.. أنا كنت فاهم إن يزيد بيخلي باله منها..


ـ أه.. هو بيحاول.. بس ريناد بتغير من عليا مووووت ومش بتمكنه إنه ياخد باله منها..


تعجب حسن لغيرة ريناد من علياء.. فمن المعروف تعلق يزيد بريناد منذ سنوات.. وهي التي كانت تؤخر ارتباطهما.. عقل النساء هذا لن يستطيع فهمه أي رجل..


عرض عليها ما كانت تخطط للحصول عليه:


ـ خلاص.. إيه رأيك لو أخدتك أنتِ وعليا علشان تحضروا الحفلة دي؟..


كانت صرخة السعادة التي أطلقتها نيرة صادقة للغاية:


ـ بجد.. بجد يا حسن.. دي عليا هتفرح قوي..


ـ خلاص.. أنا هكلم يزيد عشان عليا ما ترجعش المزرعة الليلة.. وهعدي عليكِ على الساعة 8.. كويس كده؟..


منحته أروع ابتسامتها:


ـ كويس قوي..


ـ طيب.. يا دوب أقوم أنا بقى عشان أخلص اللي ورايا قبل ميعاد الحفلة..


ـ ماشي يا حبيبي.. أنا هتمشى معاك لحد عربيتك.. وبعدين أروح آخد شاور..


وقفت لتتأبط ذراعه, ولكنه أخبرها بحزم:


ـ لا يا نيرة.. روحي الوقتي على طول غيري هدومك..


ـ ماشي يا حبي.. زي ما تحب.. بااااي


ثم رفعت له وجهها ليقبلها... فطبع قبلة سريعة على وجنتها وابتعد مسرعاً تاركاً إياها تغلي من الغيظ.. سيطرت على نفسها سريعاً.. وانطلقت خلفه حتى تستطيع اللحاق به.. وتتأكد من الشك الذي يموج بداخلها...


                            *********


صف حسن سيارته في جراج المول الكبير بوسط البلد والذي تعمل منى بأحد محلات الملابس الموجودة به..


التقط هاتفه بسرعة ليتصل بها.. فهي تتهرب منه منذ أسبوع.. منذ حفل خطبته, بل وقبل ذلك.. ولكنه لن يسمح بالمزيد من الهروب.. يجب أن تفهم دوافعه لخطبة نيرة.. وأن يفكرا معاً ليجدا حلًا ما..


أخيراً سمع صوت منى على الجهة الأخرى من الهاتف:


ـ منى.. أنا موجود تحت في الجراج.. انزلي أنا مستنيكي..


رفضت منى بحسم:


ـ حسن.. من فضلك.. امشي.. أنت عارف!!..


قاطعها:


ـ أنا مش عارف حاجة غير أنه لو ما نزلتيش دلوقتِ أنا هطلع لك ومش هتحرك من قدام المحل إلا لو جيتي معايا.. مش هينفع أنك تهربي مني أكتر من كده.. لازم نقعد ونتكلم.. أنا مستنيكي.. خمس دقايق.. وإلا هكون قدامك..


أغلقت منى الهاتف وهي تهتف بحنق:


"المجنون.. هو ليه بيصعبها علينا!.. أنا مش فاهمة!!.. مقابلتنا دلوقتِ هتفيد بإيه غير زيادة الوجع"..


تحركت لتلتقي به بسرعة قبل أن يأتي هو إليها.. فهي تدرك أنه لا يهدد عبثاً.. واستأذنت من صاحبة المحل لتأخذ وقت الراحة الخاص بها..


وقف حسن بجانب سيارته ينتظر ظهور منى, والتي ما أن لمحها حتى شعر بقلبه يقفز خارج صدره ليحيط بها كأنه يريد عناقها.. وحمايتها في نفس الوقت.. أخذ يتأمل شعرها الأسود الطويل الذي يحيط بوجه له شكل القلب.. تتوسطه عينان سوداوان كحيلتان.. خطفتا قلبه منذ سنوات.. لاحظ حركتها المألوفة برفع شعرها من فوق جبهتها.. وهي حركة تقوم بها عندما تتوتر.. فعلم أنها لمحته.. وأنها ما زالت معترضة على لقائهما..


تحرك ليقترب منها فالتقى بها قبل مسافة من سيارته ومد يده ليصافحها فصافحته بخجل وسحبت يدها سريعاً..


رحب بها بلهفة قائلاً:


ـ أهلاً.. بمنايّ


ابتسمت بخجل:


ـ ازيك يا حسن..


أجابها بلوم:


ـ ازيك يا حسن!.. بقى لي 10 أيام ما شوفتكيش.. وبعدين إزيك يا حسن!


تلعثمت بخجل:


ـ ما هو..


جذبها من يدها ليدخلا إلى السيارة:


ـ ما فيش ما هو.. إحنا مش هنتكلم في الشارع..


انطلق بالسيارة ولم يلحظ النظرات النارية التي انطلقت من عينين بلون الزبرجد.. ونيرة تلكم مقود السيارة بكل غضب الدنيا..


                               *********        


وفي إحدى البواخر السياحية والتي ترسو على شاطئ نيل القاهرة جلست منى أمام حسن وهي تحاول التهرب من نظراته.. وتستمع إلى دوافعه لخطبة نيرة والتي حاول شرحها متجنباً تهديد والده بتلويث سمعتها.. وأوضح خطته للمماطلة في تحديد موعد الزواج حتى تنتهي منى من دراستها بعد سنة واحدة..


ظلت منى صامتة لعدة دقائق بعدما انتهى حسن من كلامه ثم ردت عليه بتردد:


ـ يا حسن.. أنت فاهم أنه ببعدي عنك بعاقبك.. أبداً والله.. أنا بس بحاول أوفر علينا ألم ووجع أكبر.. أنا مش بلومك على خطوبتك من نيرة.. أنا سبق وقلت لك إنها بتحبك وأنك لازم تحاول أكتر.. يا حسن احنا حكاية مستحيلة.. لازم نحاول ننسى..


قاطعها بغضب عاشق:


ـ يعني إيه يا منى؟.. عايزة تفهميني.. إنك ممكن توافقي تكوني لحد تاني غيري.. لو اتقدم لك دلوقتِ واحد وقالك أنه بيحبك.. هتوافقي عليه وتحاولي تنسي اللي بينا؟..


وضعت منى وجهها بين كفيها وهي تحاول كتم دموعها:


ـ لا طبعاً.. أنت بتقول إيه بس!!.. أنا مستحيل أكون لحد غيرك


هز رأسه بحيرة:


ـ أومال معنى كلامك إيه.. إني اتجوز نيرة وأعيش وأحاول أحبها كمان.. وأنتِ؟.. أنتِ هتعيشي على الذكرى!.. منى.. احنا مش في فيلم عربي قديم.. أنا إيه اللي يجبرني أرضى بصورة باهتة ممسوخة.. لما أنا عندي الأصل؟؟.. قولي علي أناني.. قولي طماع.. بس أنا عايز حياة كاملة طبيعية بس مع الشريكة اللي بحلم بيها من سنين..


ـ وإذا كان ده مستحيل.


ـ وليه مستحيل؟.. الحل في إيدك يا منى..


ـ أنا مش ممكن أتجوز من غير موافقة أبويا..


 ـ ومين قال بس أننا هنتجوز من غير موافقته.. طبعاً هطلبك منه.. وهو كمان اللي هيسلمك لي بإيديه..


ـ أنت هتجنني يا حسن.. أومال إيه الكلام اللي قلتهولي من أول ما قعدنا..


ـ أنا عندي فكرة هحاول أحل بيها جزء من المشكلة.. اسمعيني بس..


استمعت منى إلى فكرة حسن بهدوء.. ثم التزمت الصمت بعدما انتهى من كلامه..


ـ إيه يا منى.. ساكتة ليه؟..


ـ مش عارفة يا حسن.. مش عارفة أقول لك ايه؟. مش قادرة أوافقك.. ومش قادرة برضوه اعترض.. لكن كل اللي هطلبوا منك.. أننا ما نتقابلش طول ما أنت خاطب واحدة تانية.. أنت عمرك ما كنت خاين يا حسن.. وأنا مش عايزك تتحول لواحد خاين حتى لو عشاني..


ـ أنتِ بتقولي ايه!!.. يعني عايزة تحرمني منك؟.. ما اقدرش يا منى.. أنا كنت هتجنن الأسبوع اللي فات..


ـ ده طلبي الوحيد.. وأوعدك أنه لو حصل وبقيت حر وجيت تطلبني من بابا.. هتلاقيني واقفة معاك بكل قوتي.. لكن لحد ما ده يحصل.. لازم تصون عهد صاحبة الدبلة اللي في ايدك...


خلع حسن دبلته بعنف وهو يضعها في كف يدها:


ـ شوفي يا منى.. شوفي أنا لابس دبلة مين..


أمسكت منى الدبلة بأناملها لتلمح النقش بداخلها باسمي حسن ومنى ويحيط بهما قلب صغير له أجنحة من الجانبين.. هطلت دموعها الحبيسة.. ولم يعد باستطاعتها حبسها أكثر من ذلك..


شعر بخناجر تنحر قلبه مع دموعها التي تتساقط.. فسألها بألم:


ـ بتعيطي ليه بس يا منى؟..


أجابته من وسط شهقاتها:


ـ كان نفسي ما اكونش ضعيفة كده يا حسن.. كان نفسي أقوي قلبي وأقسيه وأجبره أنه يبعد عنك.. لكن مش قادرة.. وكل ما بيمر الوقت الألم بيزيد..


أجابها بغضب:


ـ أنا اللي كان نفسي أكون أقوى.. وأقدر أدافع عني وعنك.. أنا كنت ساذج قوي لما افتكرت أن بابا هيكون اهتمامه الأول هو سعادتي.. لكن ملحوقة.. بس لو الخطة اللي في دماغي تمشي مظبوط, مش هيكون في أي حاجة يهددني بيها..


هزت رأسها بألم:


ـ ما تعملش في نفسك كده يا حسن.. مش بقولك كان نفسي أكون أقوى.. ما كنتش أتمنى أني أكون نقطة ضعفك..


أمسك بيدها بحنان:


ـ وأنا ما كنتش أتمنى أنه يكون لي نقطة ضعف غيرك..


سحبت أناملها من بين يديه بخجل:


ـ حسن..


ـ عيون وقلب وروح حسن..


نهضت فجأة وهي تتعثر في خطواتها:


ـ أنا لازم أمشي.. أنا.. اتأخرت.. و..


جذبها من يدها برفق لتجلس مرة أخرى:


ـ استني بس.. مش هنتغدى سوا؟..


تلعثمت:


ـ أصل.. بس..


أجاب حسن بحسم:


ـ من غير بس.. أنتِ حرمتيني منك أكتر من أسبوع.. أنا كنت هموت من غيرك..


جلست منى على مضض.. ولكنها نظرت إليه لتخبره بقوة مناقضة لخجلها السابق:


ـ هقعد أشرب عصير فراولة بس.. وبعدين همشي.. زي ما قلت لك يا حسن.. مش هنحول حاجة بريئة وحلوة زي حبنا لخيانة.. أرجوك.. تفهمني..


أومأ موافقاً:


ـ خلاص يا منى.. زي ما تحبي.. بس ما تحرمنيش من صوتك.. ماشي..


ابتسمت برقة:


ـ هيكون دايماً بينا.. "تصبح على خير.. لا اله الا الله"..


فرد عليها برقة مماثلة:


ـ "احلمي بيا يا ملاكي زي ما بحلم بيكي ليل ونهار".. .. "محمد رسول الله"


ابتسما معاً قبل أن يستدعي حسن النادل ليطلب لهما عصير الفراولة الذي تعشقه منى..


                                   **************


وفي مكتب مازن جلس في كرسيه بعدما أغلق هاتفه للتو.. وقد تلقى المكالمة التي كان ينتظرها.. ثم استدعى سكرتيرته التي دخلت إلى مكتبه حاملةً بعض الأوراق تحتاج إلى توقيعه.. ولكنه أوقفها قائلاً:


ـ مش همضي حاجة دلوقتِ.. ابعتي هاتي لي عم نصر السواق بتاع بابا حالا 

 

🐰🐰🐰🐰🐰🐰🐰🐰🐰🐰

الحلقة الرابعة 


الفصل الرابع


أخذت علياء تتلاعب بقطع الخضروات في طبق السلطة ضمن الوجبة التي أرسلتها لها سهام..


فقدت شهيتها للطعام تماماً.. فمن يرغب في الأكل وحيداً كأنه جرذ منبوذ.. وهذه الرسالة التي ترغب سهام بتوصيلها لها بالضبط..


كانت قد قررت العودة إلى المزرعة فوراً وتفويت وجبة الغذاء.. فــمشهد يزيد وهو يحاول معانقة ريناد.. يتكرر في رأسها مثل التعويذة الشريرة تدفعها للقيام بعمل طائش, كأن تنزل لتتناول الغذاء على مائدة سهام هانم, لتخبر ولدها وزوجها التهديد الذي مارسته السيدة الأرستقراطية عليها حتى تمتنع عن تحقيق حلمها بدراسة الفنون..


ابتسمت لنفسها بسخرية.. من تخدع؟!.. فهي تعلم أنها أجبن من أن تقوم بهذا.. لذا قررت الرحيل إلى منفاها في المزرعة, لكن طرقات على باب غرفتها أوقفت قرارها حين دلف يزيد ليخبرها أنها لن تعود الليلة إلى المزرعة لأنها ستذهب إلى حفلة النادي مع نيرة وحسن..


 سألته بدهشة:


ـ حفلة!!.. حفلة إيه؟!..


سألها بسخرية طفيفة:


ـ مش عارفة حفلة إيه؟!.. مش دي الحفلة اللي أنا وبابا مش هنوافق نوديكي ليها.. ويا حرام صاحبتك أم قلب حنين هي اللي هتوديكي..


هزت علياء رأسها في حيرة:


ـ أنا مش فاهمة حاجة.. أنت بتقول إيه؟.. أنا أساساً كنت نازلة أقول للسواق يوصلني المزرعة دلوقتِ... أنا مش فاهمة أنت جبت الكلام ده منين!!


نظر إلى الحقيبة الصغيرة في كتفها وسألها بتشكك:


ـ يعني أنتِ ما اتفقتيش مع نيرة عشان توديكي الحفلة؟..


أرادت أن تلقي الحقيبة وتصرخ في وجهه أن يكُف عن ترديد كلمات والدته.. وما أوحته إليه هي وريناد.. لكنها للأسف لا تملك رفاهية الشجاعة.. تخشى على غضبه وليس من غضبه..


نفت اتهاماته بضعف:


ـ هي الحفلة دي مش بتحتاج فستان وكوافير وحاجات كتير... لو كنت ناوية أروح حفلة كنت هبقى هنا بعمل إيه؟..


ظهرت الحيرة على ملامحه.. بين ثورة كلمات والدته التي ما أن سمعت مكالمة يزيد وحسن حتى اندفعت تكيل الاتهامات لعلياء.. بأنها من دبرت تلك الخطة... وبين ما ظهر على علياء من ملامح الإنكسار وخيبة الأمل..


زفر بحيرة وهو يخبرها:


ـ بصي.. حسن اتكلم وقال لي أنه هيعدي عليكِ هو ونيرة على الساعة 8 ونص.. وأنا قلت له أنكِ هتيجي معايا أنا وريناد.. احنا كده كده رايحين..


صرخت بقوة:


ـ لا.. لا.. أنا مش عايزة أروح معاك أنت وريناد..


هي لا تتصور نفسها محبوسة في سيارة يزيد لتراقب نظراته المغازلة لريناد من هذا القرب.. وتتعذب من همساتهما والحسرة تتآكلها في كل لحظة أنها دائماً في المقعد الخلفي بينما ريناد جواره.


هتف بها بغضب:


ـ يعني ايه.؟..


استدركت بسرعة:


ـ أقصد خليني مع نيرة.. يعني لو عمو عصام وافق إني أروح الحفلة.. يبقى خليني مع نيرة.. عشان كمان لازم أشتري شوية حاجات وهي هتكون معايا..


ـ ما ريناد موجودة تحت.. هقولها تروح معاكِ.. و..


قاطعته بسرعة:


ـ لا.. أنا هكلم نيرة.. أكيد ريناد هتكون مشغولة.. و..


قاطعها:


ـ خلاص براحتك..


مد يده في جيبه ليخرج من محفظته إحدى بطاقات الإئتمان ليدفعها في يدها:


ـ خلي دي معاك عشان الحاجات اللي هتشتريها..


ـ لا.. لا.. أنا معايا بتاعتي..


ضغطها في يدها:


ـ خليها معاكِ.. بس خودي بالك.. أقسم بالله يا علياء لو جبتِ فستان قصير.. ولا عريان لأكون جرك من شعرك على المزرعة قدام الناس كلها ومش هيهمني.. فاهمة؟..


رفرفت برموشها وهي مأخوذة بالعنف في صوته.. فكرر بتأكيد:


ـ فاهمة؟؟؟


أومأت موافقة.. وهي ترتجف من الغيظ.. فها هو يعود لإلقاء الأوامر عليها مرة أخرى.. ويترك الحبل على الغارب لخطيبته الحسناء...


تمتمت بغيظ:


ـ أنت مش هتبطل الشيزوفيرنيا دي؟..


لسوء حظها وصله همسها فصرخ بها:


ـ ايه!!.. بتقولي إيه؟.. شيزوفرينيا إيه!!.. أنتِ اتجننتِ!!


عادت خطوتين للخلف وهي ترتجف من الخوف فقد أغضبته بدون أن تقصد..


حاولت تفسير كلماتها:


ـ أيوه.. أنت بهدلتني على هدومي.. وبتسيب ريناد اللي هي خطيبتك تلبس زي ما هي عايزة.. و.. وده يبقى اسمه ايه؟؟


ـ ريناد مش بتلفت الأنظار زيك..


خرجت الكلمات منه بسرعة وبدون أن يفكر بها.. ورمقته هي بذهول لا تدري ماذا يقصد بكلماته.. أيتهمها بمحاولة جذب الأنظار؟.. أم.. يعتقد أن خطيبته أقل جاذبية منها؟..


ظلت ترمقه بذهول وتساؤل.. بينما تجمدت الكلمات على لسانه ولم يستطع إضافة أي كلمة لتوضيح ما تفوه به للتو.. فما كان منه إلا أن خرج كالعاصفة مغلقاً الباب خلفه بعنف جعلها ترتجف في مكانها..


أخرجها من جمودها رسالة على هاتفها.. فتحتها لتجدها من نيرة..


"أنا قدام الفيلا.. انزلي.."..


********


ما أن أخبرته سكرتيرته بوجود عم نصر بالخارج في انتظار الإذن له بالدخول حتى تحرك مازن من خلف مكتبه ليفتح الباب ويستقبل سائق والده بود وترحاب:


ـ اتفضل يا عم نصر.. هو أنت برضوه محتاج إذن يا راجل يا طيب..


التفت مازن إلى سكرتيرته:


ـ اتنين شاي لو سمحتِ يا مدام كريمة..


ثم اصطحب نصر ليجلسا معاً على أحد الأرائك بعيداً عن المكتب ورسميته..


ربت مازن على ركبة نصر قائلاً بود:


ـ إيه.. إيه أخبارك يا عم نصر.. وأخبار صحتك ايه؟..


أجاب نصر بهدوء:


ـ بخير الحمد لله يا مازن بيه.. نشكر ربنا..


ـ إيه بيه دي بقى!!.. ده أنا متربي على إيديك.. وأنت أول واحد علمني السواقة.. حتى كان عندي 8 سنين..


ضحك نصر وهو يخبره بسعادة:


ـ علمتك إيه يا بيه.. ده أنت ما شاء الله عليك.. كنت طالع بالعربية لوحدك.. أنا يا دوبك قلت لك على شوية حاجات بسيطة كده...


شاركه مازن ضحكته قائلاً:


ـ أيوه.. وبقيت تداري علي قدام بابا.. وما بلغتوش إني باخد العربية..


سأله نصر بلوم:


ـ ودي معقولة يا بيه.. أنت فاكرني صغير ولا إيه!!.. طول ما أنا متأكد أنك في أمان.. يبقى خلاص.. أنا مطمن.. وأنت ما شاء الله عليك عاقل من يومك..


ربت مازن على كتفه بود:


ـ العفو يا عم نصر.. أهو كلامك ده بقى اللي هيشجعني أطلب منك اللي أنا عايزه على طول..


اعتدل نصر في جلسته وهو يسأل باهتمام:


ـ خير يا بيه؟..


ـ خير يا عم نصر إن شاء الله.. بقى أنا لي واحد صاحبي.. جمع قرشين كده.. وفكر أنه يشتري له تاكسي يشتغل عليه.. وفعلاً جاب عربية على الزيرو ورخصها تاكسي.. بس بقى..


سكت مازن قليلاً وهو يرمق تعبيرات وجه نصر وعندما لاحظ فضوله للقادم أردف:


ـ بس بقى جت له فرصة حلوة قوي أنه يسافر بره.. وهو مش عايز يبيع التاكسي خوفاً من أنه ما يتوفقش بره.. ففكرنا أنه يتفق مع واحد يشغل التاكسي في الفترة دي.. هيه.. ايه رأيك يا عم نصر؟..


سأله نصر بتعجب:


ـ رأيي في ايه يا بيه؟..


اقترب مازن منه وهو يخبره:


ـ بصراحة يا عم نصر.. هو قصدني أدور له على حد, وأنت أول واحد جه في بالي.. على فكرة.. هو هياخد ربع الإيراد بس.. والتلات أرباع هيكونوا من نصيبك.. إيه رأيك؟.


فوجئ نصر بالعرض الغير متوقع وسأل مازن بتردد:


ـ وشغلي مع أبوك يا بني؟.. هو اشتكى مني ولا حاجة؟.. أصل بقى له فترة متغير من ناحيتي..


نفى مازن بسرعة:


ـ لا طبعاً.. معقولة يشتكي منك برضوه؟!.. أنا بس قلت أنك أولى بالفرصة دي.. خاصة أنه عائدها المادي حلو قوي.. وأنت كمان هتكون حر نفسك..


وكمان دي خدمة هتعملها لي وعمري ما هنسى لك وقفتك جنبي في الحكاية دي.. أصل صاحبي ده عزيز علي قوي وله علي جمايل وأنا ما صدقت ألاقي فرصة أردها له..


هم نصر بالرفض ولكنه تذكر معاملة حاتم بيه في الفترة الأخيرة له.. ولومه وتوبيخه له على كل كبيرة وصغيرة.. كان الشك يراوده حول سبب تلك المعاملة؛ فهو يرى ويدرك ميل حسن إلى منى ابنته.. وبالطبع يدرك رفض حاتم بيه لتلك المشاعر.. لكن بعد خطبة حسن لنيرة ظن أن ذلك السبب قد زال.. ولكن حاتم بيه استمر في معاملته بجفاف قد يصل أحياناً إلى الإهانة وكأنه يدفعه دفع إلى ترك العمل.. هل لاحظ ابنه ما يقوم به والده فتحرك بدافع من شهامة يعلم نصر جيداً أنها متعمقة بداخل ولديّ حاتم العدوي.. أم ذلك عرض من الأب واستخدم ابنه كمرسال فقط.. على أي حال.. إنه عرض مغري للغاية.. ويجب أن يفكر به جيداً..


نهض نصر من فوق الأريكة فتبعه مازن بدوره وهو يتأمل وجه الرجل الأكبر سناً محاولاً معرفة ما يدور بداخله... لكن صوت نصر قطع تأمله وهو يردد:


ـ هو عرض مغري قوي يا مازن بيه.. بس!!!..


قاطعه مازن بسرعة:


ـ آه نسيت أقولك.. أن الكلام ده كله هيتكتب به عقد.. عشان نحفظ حقك يا راجل يا طيب.. وأنا همضي كمان كضامن للتنفيذ.. وكل الأمور المالية هتكون معايا.. لأنه زي ما قلت لك.. الراجل صاحب التاكسي هيكون مسافر..


أومأ نصر متفهماً ومد يده ليصافح مازن:


ـ أنا ما كانش قصدي يا بيه.. عقد إيه بس.. أنت كلمتك عقد.. أنا بس محتاج أشاور أم العيال.. وهرد عليك الليلة بأمر الله..


صافحه مازن بدوره وهو يخبره:


ـ هستنى تليفون منك يا عم نصر.. وياريت يكون الرد بالموافقة.. دي جميلة مش هنسهالك..


ربت نصر على كتف مازن وقد أدرك لباقة مازن حتى لا يبدو وكأنه يقدم له العرض كنوع من الاحسان أو الشفقة وأخذ يدعو له:


ـ ربنا يكرمك يا بني.. ربنا يكرمك وينولك اللي في بالك..


ثم خرج مغلقاً الباب خلفه ولسان حال مازن يردد..


"آمين"...


*************


انطلقت نيرة بسرعة جنونية فور أن دلفت علياء داخل السيارة.. مما دفع علياء إلى الصراخ:


ـ نيرة.. نيرة.. هدي السرعة شوية..


زادت نيرة من سرعة السيارة بينما سارعت علياء إلى وضع حزام الأمان وتشبثت بمقعدها بيأس.. وهي تحاول تهدئة نيرة التي كان الغضب يدور حولها مثل هالة مرئية:


ـ نيرة.. اهدي بس.. وقفي على جنب خلينا نتفاهم..


استمرت نيرة في سرعتها بدون أن تجيب على صديقتها حتى وصلت إلى منطقة وسط البلد.. فهدأت سرعتها قليلاً بفعل الزحام.. وأجابت علياء والغضب يلون نبرات صوتها:


ـ لسه بيشوفها يا عليا.. لسه بيقابلها..


ـ هو مين ده؟؟


صرخت نيرة بغضب:


ـ حسن يا عليا.. هيكون مين يعني؟..


ـ وأنتِ عرفتِ منين؟


ضغطت نيرة على اسنانها:


ـ شوفتهم بنفسي.. كنت هتجنن يا عليا.. حسيت إني مشلولة من القهر.. بقى يسبني أنا بسرعة ويجري جري عشان يقابلها..


ـ هدي نفسك بس يا نيرة.. يمكن كان بينهي اللي بينهم.. أو..


صرخت نيرة:


ـ بينهي اللي بينهم!!..إيه السذاجة اللي أنتِ فيها دي أنتِ كمان..


ـ أومال إيه بس يا نيرة؟.. أنتِ مش بتقولي إنكوا كويسين مع بعض..


أوقفت نيرة السيارة على جانب الطريق وهي تضرب بيدها مقود السيارة بعنف:


ـ أنا كنت فاهمة أنه هينساها.. هو بقى له أسبوع ما شفهاش.. أنا متأكدة.. لكن.. لا.. برضوه الصعلوكة دي لسه بتجري وراه.. وعارفة إزاي تجيبه لعندها على ملا وشه


تجنبت علياء سؤال صديقتها من أين لها تلك المعرفة.. فهي أدركت من زمن أن لنيرة وسائلها للوصول إلى ما تريده من معلومات..


التفتت نيرة لتفتح حقيبتها ويدها ترتعش من الغضب.. فأخرجت قداحة ذهبية صغيرة.. أشعلت بها إحدى السجائر التي سحبتها من علبة ذهبية مماثلة.. وظهر على وجهها التفكير العميق وهي تنفث دخان سيجارتها بغيظ..


أخذت تدق بطرف سيجارتها على العلبة بغيظ.. وهي تفرك شفتيها بين أسنانها.. ثم برقت عينيها بشدة وهي تنظر إلى العلبة الذهبية وتهمس بشماتة:


ـ ماشي يا منى.. أنا بقى عرفت إزاي اخليكي تبعدي عن حسن.. وما تفكريش تقربي منه تاني..


رمقتها علياء بقلق:


ـ ناوية على إيه يا نيرة؟..


هزت نيرة كتفيها بلامبالاة وهي تسأل علياء:


ـ أنتِ عارفة منى بتشتغل فين؟..


أومأت علياء موافقة:


ـ ايوه في محل فساتين سواريه في مول...


قاطعتها نيرة وعينيها تبرقان بخبث:


ـ طيب يلا بينا.. أنتِ أكيد محتاجة فستان عشان حفلة الليلة..


وانطلقت بسيارتها وهي تضحك بسخرية وشماتة مما تنوي فعله...


**************


دخل عامر إلى غرفة صبا ابنته الصغرى فوجدها تمسك بالهاتف وعينيها الجميلتين تلتمع بالدموع.. جلس بجانبها بهدوء وهو يملس شعرها الكستنائي المموج قليلاً.. وسألها بهدوء:


ـ كلمتِ فريدة؟..


أومأت برأسها في موافقة صامتة.. وظهر الحزن على ملامحها.. فضمها والدها إلى صدره وهو يخبرها:


ـ أنتِ عارفة إني مش همنعك أنك تروحي تعيشي معاها.. إحنا.. أنا وفريدة عمرنا ما اختلفنا على مصلحتك.. أو عارضنا في إنك تعملي اللي أنتِ عايزاه..


أومأت صبا مرة ثانية وهي تهمس لوالدها:


ـ أنا اخترت إني أكون هنا معاك يا بابا.. وأنا مقتنعة بكده.. وأن ده أفضل لي ولـــفريدة.. 


أبعدت رأسها قليلاً عن صدره وهي تمسح دموعها بظاهر يدها:


ـ حضرتك عارف أن فريدة صعب عليها تراعيني.. وهي بترسم.. وخاصة لو بتجهز لمعرض زي اليومين دول.. وأنا كمان مش بحب الحياة في باريس..


افتعل عامر ضحكة صغيرة وهو يخبرها:


ـ ما بتحبيش الحياة في باريس!!.. ما سمعتكيش نيرة.. كانت وقعت من طولها..


ضحكت صبا هي الأخرى.. ثم سكتت قليلاً.. وأخبرته بخفوت:


ـ هي سألت عليك وعلى أخبارك.. وطلبت مني أراعي صحتك..


أغمض عامر عينيه بألم لا يريد أن يظهره لطفلته الصغيرة.. تلك الفتاة التي يمزقها ولائها له وحبها لوالدتها.. فريدة


فريدة.. جنته وعذابه... فرحه وجرحه.. من أذاقته جنون الحب وآلامه.. من عرف معها روعة العشق ولوعته..


ظلمها.. ظلمها بشدة لا جدال.. ولكنها عاقبته بقسوة.. وتركته ليعيش على كل ذكرى له معها.. 


شعر بأنامل طفلته الصغيرة تمسح دمعة صغيرة خانته وسقطت على وجنته.. فربت على شعرها بحنان.. بينما هي ألقت نفسها بين ذراعيه وهي تضمه بقوة:


ـ أنا بحبك قوي يا بابا...


وبداخلها تتردد فكرة.. أنها لن تدع نفسها تسقط في الحب أبداً...


***************


وقفت علياء أمام المرآة تتأمل ثوبها الجديد الذي ابتاعته برفقة نيرة.. حسناً.. ليس تماماً.. فالثوب الذي اختارته نيرة وأصرت على علياء لتبتاعه معلق داخل الخزانة بأمان.. هذا لو أمكن اطلاق لفظة ثوب على قطعة القماش القصيرة والتي تتصل ببعضها عن طريق مجموعة من الشرائط والحبال المجدولة.. والذي تصر نيرة على أنه صمم خصيصاً لجسد علياء...


لا تنكر أنه يظهرها فاتنة ومغرية للغاية.. كأنها.. كأنها.. ساقطة.. نعم هذا أول ما خطر على بالها عندما رأت نفسها به أمام المرآة في محل الثياب وبالتأكيد هذا ما سيفكر به يزيد إذا رآها ترتديه.. لذا خلعته بهدوء وطلبت من البائعة أن توضبه في إحدى الأكياس وتجهز الفاتورة الخاصة به حتى لا تثير عواصف نيرة التي كانت مشغولة عنها بمراقبة وصول منى التي انتهت فترة راحتها ولم تصل بعد _ولله الحمد_... فانتهزت علياء تلك الفرصة وتوجهت إلى الثوب الذي خطف بصرها منذ اللحظة الأولى وقررت شرائه حتى بدون تجربته أولاً..


***********


التف ذراع يزيد حول خصر ريناد الرشيق وهو يحاول أن يضمها أكثر إلى صدره.. ليتمكن من مراقصتها كما يريد ولكن تلك الفراشة الكبيرة المثبتة على صدر ثوبها كانت تمنعه من تنفيذ ما يريد.. فهمس لها متأففاً:


ـ أنا مش فاهم أنتِ ليه بتحبي اللبس المكلكع ده.. إيه لازمة الفراشة اللي قاعدة تعضني دي..


ضحكت ريناد بتأنيب:


ـ الموضة يا حبيبي.. وبعدين أنت مش قلت أن نيرة هتحضر الحفلة.. عايزها تكون أشيك مني ولا إيه؟..


هز يزيد رأسه بتعجب لانشغال ذهن ريناد دائماً بالتفوق على نيرة.. وكأن هناك مسابقة ما بينهما لمن تتزعم درب الجمال والأناقة.. لا يعلم ما أسباب تلك المنافسة الغريبة.. فريناد ذات جمال مشرق يختلف عن جمال نيرة الوحشي.. فهي ذات شعر ذهبي وعيون بلون العسل.. وابتسامة أنثوية جذابة


حسناً قد تتشابه الفتاتان في شيء واحد فكليهما تعشق التفرد والتميز.. فريناد مثلاً ارتدت لتلك الحفلة ثوباً طويلاً من الساتان البرونزي, بلا أكتاف ولا أكمام.. يكشف عن ظهرها وصدرها الذي يكاد أن يختفي تحت الفراشة اللعينة والتي تنتهي بعقدة ذات لون ذهبي.. ثم يضيق الثوب ليظهر رشاقة قدها وبطنها المسطح, ووركيها الدقيقين والذي يبدأ الثوب في الاتساع بعدهما مباشرة في عدة ثنايات حتى يصل إلى ما بعد كاحليها... كانت مثالية في أناقتها.. وفاتنة بزينتها المتقنة.. وجاهزة تماماً لتكسب نقطة على نيرة في حفلة الليلة كما كانت تظن..


استمر يزيد في محاولة مراقصتها بوجود الفراشة الضخمة كحاجز بينهما.. وهمس في أذنها:


ـ أنتِ الليلة أجمل واحدة في الحفلة... لولا بس الفراشة دي..


ابتسمت ريناد في سعادة وقد عزز غزل يزيد من ثقتها بنفسها..


بينما عاد يزيد يسألها:


ـ مش ناوية بقى تحني علي وتكون الرقصة الجاية في فرحنا؟..


ـ أووه يا يزيد.. أنت مستعجل على إيه؟.. مش أنت وعدتني إنك هتصمم بيتنا مخصوص زي ما أنا عايزة..


زفر يزيد بضيق:


ـ ما هو أنا صممته يا ريناد.. ده اتصمم في وقت قياسي.. لكن أنتِ بقى لك أكتر من سنة بتغيري وتعدلي في الديكور.. ولسه ما فكرتيش في العفش..


أخبرته ريناد بسأم:


ـ هو احنا كل ما نشوف بعض لازم السيرة دي.. أنت عارف أنه بيتي لازم يكون بيرفكت.. ما فيش فيه غلطة.. أنت تكره يعني أنه بيتك يكون مثال للشياكة والأناقة..


هز رأسه بيأس:


ـ أنا كل اللي يهمني إننا نكون في بيت واحد..


ابتسمت ريناد له بعصبية بينما ظلت تترقب ظهور نيرة _غريمتها_ التي تتعمد بالطبع الحضور متأخرة عن الجميع حتى تحدث الأثر المطلوب في النفوس..


وعلى الرغم منه ترقب يزيد أيضاً وصول نيرة.. ليس اهتماماً منه بالنرجسية الحمراء.. ولكن حتى يطمئن على الجنية الصغيرة التي رفضت أن تأتي معه هو وريناد كما تعذرت بعدم انتهائها من ارتداء ثيابها حتى لا يرى ثوبها الجديد..


جمود ريناد بين ذراعيه مع الصمت الذي حل فجأة أخبره بوصول نيرة.. والتي تعلقت بذراع حسن مرتدية ثوب من الشيفون الأسود الشفاف.. يكشف عن أحد كتفيها ويترك الآخر عارياً.. بينما كانت البطانة الداخلية تغطي صدرها وحتى بداية وركيها.. تاركة باقي جسدها مغطى بطبقة شفافة وواسعة من الشيفون المشقوق كاشفاً عن إحدى ساقيها.. بينما كانت زينتها كاملة أبرزها طلاء شفتيها الأحمر الداكن..


بينما أنظار الجميع كانت مسلطة على نيرة بثوبها اللافت.. بحث يزيد بعينيه عمن تهمه حقاً.. وهو يتوعدها سراً بتنفيذ تهديده إذا خالفت أوامره..


 لمحها أخيراً وهي تدخل خلف نيرة, بثوب من الشيفون أيضاً ولكنه لم يكن شفافاً.. بل يحتوي على بطانة داخلية ومكون من عدة طبقات من القماش الناعم.. والذي تدرج لونه من الأبيض الناصع عند الصدر ثم تداخل درجات من اللون الرمادى عند الخصر وتبدأ تدرجات من اللون الازرق من بعد الركبتين لتتداخل مع درجات الابيض مع تعدد طبقات الثوب..


كان الثوب مطابق لما طلبه منها حتى أنه يحتوي على كُمين لهما نفس تدرجات الثوب ويضيقان عند المرفق ليتسعا بعد ذلك.. كان الثوب المثالي باستثناء فتحة الصدر المربعة..


لاحظ يزيد تحول الأنظار من نيرة إلى الجنية الصغيرة التي جذبت الجميع كعادتها.. رغم أنها لم تضع من الزينة إلا الكحل الأسود وطلاء الشفاه اللامع..


حسناً.. ماذا يستطيع أن يفعل بها؟.. لقد التزمت بتعليماته تماماً.. ورغم ذلك يستطيع أن يرى نظرات الإعجاب في عيون الرجال ممتزجة بنظرات الحسد لذلك الرجل الذي تعلقت بذراعه.. والذي لم يكن سوى مازن..


ضغط يزيد على أسنانه حتى كادت أن تتحطم.. وهو يتوجه إلى الوافدين مصطحباً ريناد معه..


صافح الرجال بعضهم بينما اكتفت ريناد بهزة رأس بسيطة كتحية عابرة..


كانت عينيّ علياء معلقة على يزيد تنتظر ردة فعله على ثوبها.. والتي لم تستطع تبينها من ملامح وجهه المبهمة.. بينما أخذت نيرة وريناد تتأمل كلا منهما الأخرى وكأنها تبحث عن خطأ ما في مظهرها..


بادر يزيد بالسؤال الذي يؤرقه:


ـ انتوا جيتوا كلكوا سوا ولا إيه؟..


أسرع مازن بالإجابة وابتسامة غامضة ترتسم على وجهه:


ـ لا.. احنا اتقابلنا على الباب..


وأضاف وابتسامته تتسع:


ـ أنا جبت عليا.. على ما حسن يجيب نيرة.. يعني قولنا نوفر وقت..


توجه يزيد إلى علياء:


ـ طب مش كنتِ جيتي معانا, بدل ما نتعب مازن..


أجابه مازن باستمتاع:


ـ يا سيدي ما فيش تعب ولا حاجة..


قاطعت ريناد الحديث الدائر وقد أزعجها أن تكون علياء هي محور الاهتمام:


ـ هو احنا هنفضل واقفين كده.. مش هندخل نقعد..


رمقتها نيرة باستفزاز:


ـ وهو أنتِ هتعرفي تقعدي بالفستان ده.. بيتهيألي صعب..


احتقن وجه ريناد غضباً وهي تجيب:


ـ ما تقلقيش يا نيرة.. أنا دايماً فساتنيني بتتصمم لي أنا مخصوص.. يمكن أنتِ مش متعودة على كده..


كادت أن ترد نيرة برد آخر مستفز حينما تدخل حسن ليصطحبها داخل القاعة:


ـ نيرة.. أنا تعبت من الوقوف يلا بينا ندخل..


واصطحبها مبتعداً عن ريناد قبل أن يتطور النقاش بينهما إلى شجار علني.. بينما اصطحب مازن علياء ليجلسا حول أحد الموائد تحت نظرات يزيد الرافضة...


عندما لاحظ مازن أن علياء تفرك يديها قلقاً.. سألها مندهشاً:


ـ في حاجة يا عليا؟..


ترددت قليلاً:


ـ أصل.. يزيد متضايق..


ابتسم مازن بخبث:


ـ متضايق!!.. لا أبداً.. ما هو بيرقص مع ريناد أهو..


أومأت علياء موافقة ونظراتها معلقة بيزيد.. بينما نظر إليها مازن مشفقاً عليها من مشاعرها الواضحة.. فحاول جذبها لتبادله حواراً بسيطاً حول حياتها في المزرعة.. حتى استطاع بلباقته وسرعة بديهته أن يحول عينيها بعيداً عن الثنائي الراقص.. وشيئاً فشيء أخرجها من خجلها وترددها.. وبدأت تتعالى أصوات ضحكاتهما.. وهما يتبادلان ذكريات طفولتهما وخاصة المشاغبة منها..


لاحظت ريناد عيني يزيد التي تتابع ما يحدث بين مازن وعلياء.. فازداد غضبها الذي لم يهدأ بعد.. وقالت ليزيد بغيظ:


ـ يزيد.. أنت هتفضل قاعد تراقب البنت دي كتير.. أنا تعبت من الرقص وعايزة أخرج الفرانده شوية..


لم يفهم يزيد ما أصابه.. ففي الظروف العادية هو من يسعى جاهداً حتى ينفرد بريناد بعيداً عن العيون, لكن الآن وهي من تطلب الانفراد به.. تكاد كلمات الرفض تخرج من شفتيه.. فكل ما يرغبه الآن أن يلكم مازن_صديقه المفضل_ على أنفه..


وهذا الشعور على وشك اصابته بالجنون.. لذا مرغماً وافق ريناد واصطحبها خارجاً حيث الهواء النقي الذي يرجو أن ينقي أفكاره ايضاً..


رمقت نيرة حسن بنظرات عاشقة وهي تسأله:


ـ برضوه لسه زعلان من الفستان؟..


سألته هذا السؤال لتطمئن على موقفه منها, فعندما وصل لاصطحابها كانت ترتدي ثوباً آخر.. يكاد يكون فاضحاً.. فكان طوله بالكاد يصل إلى أعلى ساقها..


أشاح حسن بوجهه عنها:


ـ نيرة.. أنا مش بحب أفرض رأيي.. بس أنتِ شايفة أنه كان عادي أسيبك تخرجي بالشيء اللي كنتِ لابساه ده؟..


اقتربت منه تمسك بيده بأناملها الطويلة:


ـ أنا مش زعلانة.. أنا مستعدة أعمل كل اللي أنت تطلبه.. أغير نفسي زي ما تحب.. المهم أنك ترضى عليّ..


رمقها بذهول:


ـ غريبة!!...


سألته بقلق:


ـ ليه؟..


ـ كلامك ده مخالف لنيرة اللي أنا أعرفها..


أجابت بتبرم وقد خشيت أن تفشل خطتها الجديدة لاجتذابه... فبعد ما فشلت في الإنتقام من منى عصر اليوم.. حيث أن الأخيرة لم تعد إلى عملها بعد فترة راحتها واتصلت تعتذر عن باقي اليوم.. فلم تتمكن نيرة من تنفيذ خطتها.. لذا قررت مؤقتاً تعديل معاملتها لحسن بأن تُظهر له الخضوع واستعدادها الكلي للتغيير من أجله:


ـ أوووه.. يا حسن.. أنا هكون اللي أنت عايزه.. ده عشان خاطرك أنت بس..


شعر حسن بالمرارة تجري في حلقه.. فالتظاهر ليس من طبعه.. وهو لا يريد التورط أكثر من ذلك مع نيرة.. ولا أن يزداد تعلقها به.. وفي نفس الوقت لا يريد والده أن يشعر بما يحاول تدبيره هرباً من تلك الزيجة..


يحاول جاهداً إظهار جوانب الإختلاف بينه وبينها حتى تتأكد هي من استحالة ارتباطهما.. ولكنها تناوره بمهارة شديدة..


سمعها تناديه:


ـ حسن.. حسن.. مش هنرقص إحنا كمان..


التفت إلى ساحة الرقص ليجد إن مازن يصطحب علياء للرقص.. بينما الفرقة الموسيقية بدأت تعزف أحد الألحان المميزة لرقصة التانجو..


هز حسن رأسه نافياً:


ـ لا.. مازن بيرقص تانجو أحسن مني.. خلينا للرقصة الجاية..


برمت شفتيها بغيظ بينما أخذت تراقب مازن وهو يمد ذراعه على طولها لتقف علياء مواجهة له وتقوم بالمثل.. ثم تضع يدها في يده ليجذبها قريباً منه بينما هي تفرد كفها الأيسر على ظهره وترفع وجهها لتواجهه.. ليدورا معاً عدة مرات حول ساحة الرقص قبل أن يفلتها مازن لتستند على ذراعه الأيسر حتى يتلامس كفاهما فيعود ليجذبها مطوقاً خصرها بذراعه ويضمها إلى صدره.. فيما ترفع هي ساقها اليسرى قليلاً لتلفها حول ساقه اليمنى.. ليعود ويلفها حوله لمرتين بينما طبقات ثوبها المتعددة تلتف حولهما ثم يضمها إليه جاعلاً ظهرها ملاصق لصدره.. فترتفع ذراعها لتطوق عنقه ويرفعها من خصرها لتواجهه ثانية ثم يطلقها مرة أخرى لتدور حوله عدة مرات لتكون بطيات ثوبها سحابة سماوية رائعة..


كانت عيون الجميع معلقة بهما.. بينما توقف باقي الراقصين واكتفوا بالالتفاف حولهما في حلقة واسعة فقد كان من الواضح أن الاثنين على درجة عالية من الاحتراف والمهارة.. فتابعهما الجميع يتأملان تلك الرقصة التي تصرخ بمختلف المشاعر.. حيث تعالت الهمهمات حول كونهما زوج من العشاق يعبران عن عشقهما بالرقص.. ولم تكن الظنون بعيدة عن الحقيقة.. فالواقع أن الاثنين عاشقان بالفعل ولكن ليس لبعضهما فكلاهما عاشق في مثلث حب مستحيل..


فكلا منهما ارتسم على وجهه بوضوح معاناة عاشق.. وكأنهما برقصتهما تلك يعلنان بوضوح عن عشقهما اليائس...


استمرت الرقصة عدة دقائق أخرى قبل أن ينهيها مازن حيث جذب علياء التي انثني جذعها فوق ذراعه حتى وصل شعرها إلى أرض القاعة..


تعالى التصفيق من الراقصين حولهما ومن الجمهور أيضاً تحية لهما على مهاراتهما الواضحة..


ساعد مازن علياء على الاعتدال فطوقها بذراعه حتى تستعيد اتزانها.. بينما تابعت عينيّ نيرة ما يحدث وقد انتابها غضب غير مفهوم..


غضب.. لو كان لمحه مازن لرقص قلبه فرحاً.. لكن ما جذب نظره هو عينيّ يزيد الذي كان يرسل إليه نظرات كفيلة بإثارة الرعب لقبيلة من الرجال..


فيزيد كاد أن يجن محاولاً تفسير ذلك الغضب الذي يشعر به من مراقصة مازن لعلياء..


علياء التي بدت الآن بريئة كالملاك.. ومغرية كالخطيئة..


💓💓💓💓💓💓💓💓💓💓💓💓


الحلقة الخامسة 

الحلقة السادسة 

💜💜💜💜💜💜💜💜💜💜

5


الفصل الخامس


جلست علياء على إحدى الأرائك الحجرية المنتشرة على الشرفة حيث اصطحبها مازن بعد انتهاء رقصتهما.. حتى تنعش نفسها قليلاً بالهواء النقي.. كما أخبرها مازن, الذي ارتسمت على شفتيه ابتسامة غامضة وهو يلمح محاولة يزيد للتقدم منهما, تلك المحاولة التي أحبطتها ريناد بفاعلية حينما تعلقت بعنقه استعداداً للرقصة القادمة... فما كان منه إلا جذب علياء نحو الشرفة الخارجية.. بعيداً عن جموع الشباب الذين بدءوا بالتحلق حولها طمعاً في مراقصة فراشة الحفل.. كما اطلقوا عليها...


وقف مازن أمامها وهي تتأوه بنزق بينما تخلع صندلها وتفرك أصابع قدميها في الأرض المكسوة برخام فخم:


ـ آآآآه.. يااااه.. أنت عارف أنا بقى لي قد ايه ما رقصتش تانجو.. يجي خمس سنين..


ضحك ضحكة خفيفة وهو يسألها:


ـ خمس سنين!!.. ليه هو أنتِ اتعلمتِ الرقص وأنتِ عندك كام سنة؟..


ضحكت علياء بسعادة وهي تسترجع أيام سعيدة بالنسبة لها:


ـ أنا اتعلمت الرقص قبل المشي.. ماما الله يرحمها قبل ما تتجوز كانت راقصة باليه محترفة.. علمتني حاجات كتيير.. ولولا الظروف كان ممكن احترف الرقص.. على الأقل الباليه.. لكن وفاة بابا.. وتحكم أعمامي.. أجبر أمي أنها تهرب منهم.. لكنها ما قدرتش تبعد عن الرقص.. ففتحت صالون لتعليم الرقص كان في جزء للبنات الصغيرين كانت بتعطيهم مبادئ للباليه.. وجزء تاني لرقص الصالونات.. والــ تانجو وسامبا وحتى سالسا.. وأنا بقى كنت معاها على طول.. أخرج من المدرسة.. جري... على قاعة الرقص.. أراقب.. وأتعلم.. وأما كبرت شوية بقيت أشارك في الدورات اللي ماما بتنظمها.. لحد ما اتجوزت عمو عصام.. و.. بدأت تتعب.. و..


أدرك مازن أن ذكرياتها السعيدة انتهت بوفاة والدتها فحاول تغيير الموضوع:


ـ بصراحة أنا اتفاجئت.. طول الوقت بتخيلك في المزرعة بين الخيل والزرع.. سرحانة في عالم لوحدك.. بترسمي لوحاتك.. زي ما يزيد بيقول.. بس أنتِ بترقصي روعة.. محترفة فعلاً..


أجابته بخجل:


ـ أنت كمان بترقص كويس قوي..


ضحك وهو يخبرها:


ـ آه.. هقولك سر.. جدتي كانت بتصر أننا ناخد دروس في الرقص.. حسن كان دايماً بيهرب.. وأنا اللي كنت بتدبس.. بس دلوقتِ.. زي ما أنتِ شايفة.. أكيد هو هيموت من الحسد.. وهو شايفني برقص مع فراشة الحفلة..


ابتسمت علياء بخجل ولم ترد على إطرائه الرقيق.. وعاودت ارتداء صندلها.. ووقفت تستعد للدخول الى القاعة.. فسألها بفضول:


ـ عايزة تدخلي ولا ايه؟..


أومأت موافقة:


ـ ايوه ما يصحش نتأخر بره أكتر من كده..


سكتت قليلاً.. ثم أخبرته بتردد:


ـ أنا متشكرة قوي..


أجابها بعجب:


ـ على إيه؟!..


ـ على الرقصة.. و..


احتارت ماذا تقول له.. فهو أنقذها من ليلة كانت ستقضيها وحيدة تراقب يزيد يراقص ريناد.. ونيرة تشاغل حسن.. كل شخص له من يؤنس وحدته ما عدا هي..


قالت بتردد:


ـ وعلى كل حاجة..


ربت على كتفها بمودة:


ـ أنتِ زي أختي الصغيرة يا عليا.. لو احتجتِ أي حاجة..


شدد على جملته ثانية:


ـ أي حاجة يا عليا.. أوعي تترددي تتصلي بيا.. ماشي..


أومأت موافقة وقد بدأت تترقرق دموع الإمتنان في عينيها لصدق كلماته, فتحركت حتى تدخل القاعة بسرعة, وتحرك ليدخل معها عندما رن جرس هاتفه.. فالتقطه ليرى من المتحدث.. اقتربت منه هامسة:


ـ على فكرة.. نيرة كانت متضايقة قوي من رقصنا سوا..


تجمدت يده على الهاتف وهو يلمح الصغيرة تدلف إلى القاعة وهي تشير له أنها ذاهبة إلى غرفة السيدات.. وبذهنه يتردد ألف سؤال..


" ما الذي تقصده الصغيرة؟.. وهل حقاً غضبت نيرة لرقصه مع علياء؟.. ولماذا تغضب؟.. "


دار عقله بدوامات من الأفكار بينما تعالى رنين هاتفه للمرة الثانية.. فأجابه وهو غائب مع أفكاره ليجد عم نصر على الهاتف ليخبره بموافقته على عرضه السابق بالعمل على السيارة الأجرة لصديقه..


أجابه مازن بارتياح:


ـ ألف مبروك علينا وجودك معانا يا راجل يا طيب.. العقد هيكون جاهز عشان تمضي عليه بكره إن شاء الله..


جاءه صوت نصر المحرج:


ـ بس.. مش الأول افاتح والدك في أني هسيب الشغل معاه.. دي الأصول يا بني ولا ايه؟..


ـ براحتك يا عم نصر.. العقد موجود والعربية كمان مفاتيحها معايا.. في الوقت اللي يناسبك.. نبدأ إن شاء الله..


أغلق مازن هاتفه والتفت ليفاجئ بيزيد في مواجهته.. وإمارات الغضب تبدو على وجهه..


***********


ما أن اقتربت علياء من الباب المؤدي إلى غرفة السيدات حتى سمعت النقاش الساخن الذي يدور بين ريناد ونيرة.. حيث سمعت صوت نيرة يسأل باستفزاز:


ـ صحيح يا ريناد.. هو انتوا لسه ما حددتوش الفرح؟.. ايه هو يزيد ناوي يقضيها خطوبة وبس..


ثم أطلقت ضحكة ساخرة عالية قطعتها على الفور عندما أجابتها ريناد باستخفاف:


ـ لو كان على يزيد كنا اتجوزنا من شهور.. بس في حاجة اسمها.. إنك تعززي نفسك عند خطيبك.. تخليه هو اللي هيتجنن علشان يجمعكوا بيت واحد.. بس يمكن أنتِ بس ما سمعتيش عن الحكاية دي..


دفعت علياء الباب بقوة لتدخل قبل أن تتهور نيرة وتقوم بقتل ريناد أو فقأ عينيها..


ـ مساء الخير..


ألقت التحية في هدوء.. فلمحت النيران المشتعلة في أعماق عينيّ نيرة.. وهي ترمق ريناد بنظرات كفيلة باحراقها حية..


أما ريناد فما أن رأت علياء حتى أخبرتها بهدوء يخفي وراءه غضب:


ـ حلوة الرقصة بتاعتك يا عليا..


شكرتها عليا في هدوء:


ـ متشكرة قوي..


صمتت الفتيات الثلاث بينما كان حديث النظرات أبلغ مما يمكن ان تعبر عنه أي كلمات..


وأخيراً استأذنت ريناد لتخرج تاركة علياء مع نيرة وحدهما.. فتكلمت عليا بتردد:


ـ هو حصل ايه؟.. شكلك متضايق قوي.. هي قالت لكِ حاجة ضايقتك؟


رمقتها نيرة بنظرة فاحصة.. لا تعلم إذا ما كانت سمعت تعليق ريناد المستفز حول وضعها مع حسن.. أم لا.. ولكنها تعلم تمام المعرفة أن علياء تحبها ولن تشمت بها أبداً.. ورغم أن رقصتها مع مازن أشعلت مراجل الغضب بأعماق نيرة.. ولكنها لا تستطيع الصراخ بها أو حتى الغضب منها.. لا تعلم ماذا يوجد بهذه الفتاة ويمنعها من إظهار طبيعتها السيئة معها..


أجابتها بهدوء:


ـ لا ما تقلقيش.. العادي اللي بيني وبين ريناد.. بس هي عندها حق.. رقصتك كانت حلوة وملفتة قوي..


قالت كلمتها الأخيرة بنبرة غير مفهومة.. فسألتها علياء بقلق:


ـ يعني إيه ملفتة؟.. قصدك إيه يا نوني؟..


أمسكت نيرة كتفي علياء وهي تخبرها بهدوء:


ـ أنا عارفة أني قلت لك تحاولي تخلي يزيد يغير.. بس مش لازم مع مازن..


رفعت عليا يديها إلى وجهها وهي تشهق بقوة:


ـ يا خبر.. لا يا نيرة.. أنا مش ده كان قصدي.. أنا بس حبيت أرقص.. رجعت لذكرياتي مع ماما.. صحيح كنت بفكر بيزيد.. لكن ما حاولتش استخدم مازن أبداً..


سكتت قليلاً وهي تنزل يديها لتخبر نيرة بلهجة رقيقة:


ـ مازن ده إنسان جميل قوي.. هو أخد باله إني لوحدي وكده.. فعرض علي نرقص..


لمعت شرارات غضب في عيني نيرة:


ـ وبعدين عملتوا إيه في الفرانده بعد كده؟..


أجابت عليا بنفس اللهجة الرقيقة:


ـ نيرة.. هو مازن يهمك؟.. أقصد..


أشاحت نيرة بيدها وهي تنفي بقوة:


ـ لا طبعاً.. أنتِ بتقولي إيه.. أنا بس مش عاوزة تحصل مشاكل.. خاصة أنه مازن ويزيد أصحاب قوي..


أومأت عليا برأسها بتفهم وشيء بداخلها يخبرها أن الأمر أكبر من هذا.. هي لا تجهل طبيعة نيرة الأنانية.. فهل غضبت نيرة لأن علياء جذبت منها الأنظار؟.. أم لأن عقلها الملتوي صور لها أن علياء تحاول خطف عاشقها المتيم...


************


ـ مازن.. أبعد عن علياء.. ما تدخلهاش في صراع هي ما لهاش فيه..


كانت تلك كلمات يزيد التي وجهها مباشرة إلى مازن فور إن التقى وجهيهما..


أجابه مازن بعجب:


ـ صراع!!.. صراع إيه..


ـ بص.. أنت عايز نيرة تغير.. وتفوق من هوسها بحسن.. بس..


قاطعه مازن بغضب:


ـ يزيد.. أوعى.. شوف أوعى يجي على بالك للحظة واحدة أني ممكن أعمل أي حاجة عشان ألفت انتباه نيرة.. خطيبة أخويا.. فاهم..


أجابه يزيد بقوة:


ـ خطيبة أخوك اللي هو مش عايزها..


ـ حتى لو هو مش عايزها.. لكنها في الأول والآخر شايلة دبلة عليها اسمه.. يعني شايلة اسمه.. ومش أنا اللي أطعن أخويا في ضهره..


ـ أومال ليه الرقصة؟..


أجابه بسخرية:


ـ يمكن عايز حد تاني يفوق!!


صرخ به يزيد:


ـ وبعدين معاك بقى في التلميحات دي؟


وضع مازن يده على كتف يزيد وهو يخبره بهدوء:


ـ يزيد.. فكر كويس قوي قبل ما تتسرع في جوازك لمجرد إنك بتهرب أو بتراضي أي حد على حساب نفسك.. دور شوف يكون في مشاعر جواك ناحية عليا.. البنت بتحبك.. أي أعمى ممكن يشوف مشاعرها في عينيها..


قبل أن يرد يزيد بأي كلمة دخل حسن إلى الشرفة ليجدهما يتهماسان معاً فصاح بهما في غيظ:


ـ أنتوا هنا!!!.. بتعملوا إيه... أنا قاعد لوحدي بقى لي ساعة..


افتعل يزيد ضحكة قصيرة:


ـ يعني الحق علينا اللي بنفضي لك الجو مع نيرة هانم..


دفعه حسن في كتفه بغيظ:


ـ أيوه.. اتريق اتريق.. ما هو أنا بقيت النكتة بتاعتك اليومين دول.. بس اطمن.. نيرة هانم راحت تصلح مكياجها..


ضحك يزيد وهو يخبره:


ـ أيوه.. وريناد كمان.. نفسي أعرف مين اللي كسره لهم..


 ضرب حسن كفه بجبهته وهو يتصنع الخوف:


ـ ريناد مع نيرة في مكان واحد.. لازم نستعين بقوات مكافحة الشغب..


ضحك الرجال الثلاثة معاً.. وهم يتبادلون المزاح قليلاً ثم تحول حوارهم إلى العمل وأحوال السوق وما إلى ذلك.. حتى نظر يزيد إلى ساعته واستأذن من صديقيه لليذهب بحثاً عن ريناد.. فأخبره حسن:


ـ أنا اتفقت مع نيرة أننا نوصل عليا..


فأشار له يزيد بابهامه علامة الموافقة.. ثم ذهب بحثاً عن خطيبته بينما التفت مازن إلى حسن:


ـ عم نصر وافق على العرض..


تنهد حست بارتياح:


ـ بجد يا مازن.. الحمد لله.. كده ابقى ارتحت من ناحية عم نصر.. وبعدته عن أذى بابا.. على الأقل مش هيكون مهدد بقطع عيشه..


ـ بس أنت عارف بابا.. وأنت فاكر باقي تهديداته.


أومأ حسن موافقاً:


ـ ايوه فاكر.. والحل الوحيد إني أتجوز منى بسرعة.. أنا كنت ناوي استناها أما تخلص الكلية السنة دي.. لكن كل ما اتحركت أسرع كل ما كان أفضل.. لأن بأي حال من الأحوال  بابا مش هيقدر ينفذ تهديده وهي مراتي.. هيخاف على اسمه..


ـ تفتكر يا حسن؟


ـ أيوه.. هو أهم حاجة عنده الاسم والسمعة.. لكن ده مش معناه أنه هيسكت.. أكيد هيقلب الدنيا.. بس خلي كل شيء لوقته.. أنا ماشي خطوة بخطوة.. وعندي ثقة كبيرة في ربنا إنه يساعدني..


ربت مازن على كتفه:


ـ ربنا معاك يا حسن..


****************


دلف يزيد إلى غرفته وأغلق الباب خلفه وهو يزفر بحنق.. لا يدري ماذا أصابه.. ولا يستطيع وصف مشاعره.. إنه غاضب..


 كلا.. بل أنه محبط..


كلا.. كلا..


 إنه غاضب لأنه محبط..


 بل غاضب لأنه غير قادر على إيجاد سبب وجيه لإحباطه ذاك..


وذلك يشعره باختناق شديد..


خلع سترته بغضب واتبعها بربطة عنقه.. وفتح عدة أزرار من قميصه ولكن شعوره بالاختناق لم يقل.. فاتجه نحو النافذة ليفتحها على مصرعيها ويأخذ نفس عميق.. ليطلقه بعد ذلك بزفير ساخن.. يحمل سخونة قبلاته لريناد منذ قليل..


ابتسم ابتسامة بلا معنى وهو يتذكر إيصاله لريناد إلى منزلها منذ قليل..


لقد توقف بالسيارة أمام الباب الداخلي للفيلا.. وأوقف السيارة ليسمعها تلقي عليه تحيتها المعتادة.. وانتظر خروجها من السيارة ولكنها ظلت جالسة بجواره ترمقه بنظرات طويلة.. ثم سألته أخيراً:


ـ مالك يا يزيد؟؟ أنت زعلان مني؟.


هز رأسه نفياً:


ـ لا طبعاً.. هزعل ليه؟..


ـ عشان موضوع تأجيل جوازنا.. وعشان تغييري المستمر في ديكور البيت.. والله أنا نفسي أكون معاك.. بس مش بقدر أسيطر على إحساسي أنه كل حاجة لازم تكون مثالية زي ما تخيلتها بالظبط.. أرجوك يا يزيد.. حاول تفهمني..


أطرق يزيد برأسه ولم يجب عليها.. إنه مدرك لذلك الهوس الشديد الذي تعاني منه حول فكرة المثالية والكمال في كل شيء.. ولكنه بحاجة إليها.. يريدها إلى جواره.. يحتاج حبها أن ينزع من تفكيره أي خيال عن فراشة الحفل.. نعم.. لقد سمع اللقب الذي أطلقه عليها جمهور الحفل الليلة.. كم يناسبها لقب الفراشة.. فهي ناعمة رقيقة.. سريعة العطب مثل الفراشة بالضبط..


سمع ريناد تناديه بدلال:


ـ يزيد.. زيزو.. رد علي..


التفت لها ليجيبها برقة:


ـ أيوه.. يا ريناد.. أنا فاهم كويس ومقدر والله.. بس عايزك جنبي..


شعر بأصابع ريناد الرفيعة وهي تتلمس كم بذلته وهي تهمس له:


ـ طيب ما أنا كمان عايزاك جنبي..


التفت لها وفوجئ بنظراتها المغوية والتي يلمحها في عينيها للمرة الأولى.. وأناملها التي مازالت تداعب ذراعه بإلحاح.. فما كان منه إلا أن أحنى رأسه ببطء ليقترب من شفتيها وهو يتوقع تهربها منه كالعادة.. ولكنها وعلى الغير المتوقع رحبت بقبلته, بل وبادلته إياها.. قبلة استمرت واستمرت.. بل إنها رفعت ذراعيها لتطوق عنقه وكأنها شعرت أن أفكاره جمحت بعيداً.. بعيداً عنها, فأرادت تطويقه بشبكة جاذبيتها وحبها الذي يستجديه منها في كل مرة وهي تقابله بالدلال والتغليّ..


 خبط يزيد إطار النافذة بغيظ.. أخيراً.. نال قبلة من حبيبته المتمردة.. لابد أن يكون في أقصى درجات السعادة والنشوى.. فلماذا يشعر بهذا الإحباط.. هذا الخواء الشديد بداخله.. وكأنه لم يحلم بتلك القبلة لسنوات.. فلماذا هذا الإحساس المقيت بداخله الذي يطالب بالاكتفاء.. لماذا تركته ريناد كالعطشان الذي أطفأ ظمأه بماء البحر.. لم يرتوي بل ازداد ظمأً.. فلا هو ارتوى.. ولا ظل على عطشه القديم.. بل أدرك أن ماء البحر لن يطفأ ظمأه أبداً..


ازداد إحساسه بالاختناق فخلع قميصه ليرميه بعيداً.. ودخل إلى الحمام حيث ألقى برأسه تحت الماء البارد حتى يهدأ من فوران أفكاره..


شعرت عليا بارتجاف كل خلية بجسدها.. دقات قلبها تدوي كطبول الحرب.. أنفاسها تتسارع وكأنها تعدو هاربة من خطر داهم.. وأخذت تلوم نفسها وتعنفها ألف مرة على تهورها الخطر فهي لا تعلم ماذا دهاها لتستمع لنصيحة نيرة...


"اضربي الحديد وهو سخن.. ده عينه كانت هتطلع عليكِ الليلة"


ونفذت علياء النصيحة بحذافيرها فلم تخلع ثوبها بعد عودتها من الحفل وظلت ساهرة بانتظار عودة يزيد بعدما قام بايصال ريناد.. وتوجهت إلى غرفته وطرقت الباب بخفة ثم فتحته ودخلت بسرعة قبل أن يلمحها أي من سكان المنزل...


  خرج يزيد من الحمام ليفاجئ بعلياء في غرفته فهتف بها في غضب:


ـ أنتِ بتعملي ايه هنا؟..


ما أن لمحته علياء عاري الصدر حتى هربت منها الكلمات.. ولم تعرف أين تذهب بنظرها أو ماذا تخبره.. فبدأت تتلعثم بكلماتها:


ـ أنا.. أنا.. أصل...


جذبها من مرفقها بقوة وهو يصيح بها:


ـ أصل إيه وفصل إيه!!.. إيه اللي جايبك أوضتي في الوقت المتأخر دا يا علياء؟


رفعت قبضتها تضغطها بين أسنانها وهي تحاول التحكم في رجفتها.. واسترجاع كلمات نيرة بأن تحاول استمالته والاقتراب منه, بل وملامسته إن أمكن..


حاولت تحريك يدها لتضعها على صدره لكنها تذكرت عريه فشهقت بقوة.. وأدركت أنها أضعف من أن تبدأ بالمحاولة فلم تستطع سوى التفوه ببضعة كلمات تافهة:


ـ أنت.. أنت ما قولتليش رأيك إيه في فستاني؟


ترك مرفقها وهو يزفر بغضب ويصيح بها:


ـ أنتِ بتهزري!!.. جاية أوضتي وش الفجر عشان تسأليني على فستانك؟.. أنتِ ناوية على إيه؟.. مش كفاية عرض الليلة مع مازن!!


سألته بتردد:


ـ أنت شوفت الرقصة؟.. عجبتك؟..


أمسكها من ذراعيها وهو يهزها بشدة:


ـ عايزة إيه يا علياء؟.. أنتِ هنا ليه؟..


استمر في هزها بقوة مما دفع الدموع للتقافز من بين أجفانها فبدأت تفتحها وتغلقها بسرعة.. وارتعشت شفتيها بشدة فعضت عليها بخوف..


تسارعت وتيرة أنفاسها فازداد ارتفاع وانخفاض صدرها... وتناثر شعرها على كتفيها ووجها وصدرها.. شهقت بعنف تحاول التقاط أنفاسها.. ولكن يزيد استمر في هزه لها وكأنه يريد التنفيس عن غضبه وإحباطه..


رفرفت برموشها محاولة إبعاد خصلاتها من على عينيها لتفاجئ بعينيه تبرقان بنظرات أرعبتها.. وهو يتأمل مظهرها وقد تناثر شعرها وبرقت عيناها بفعل ترقرق الدموع بهما واحمرار وجهها نتيجة هزه الشديد لها وارتجاف شفتيها الورديتين..


أرعبتها نظراته ولعنت نفسها لاستسلامها لخطط نيرة.. فهمست بخوف:


ـ يزيد..


كان صوتها هو القشة التي حطمت مقاومته فهبط برأسه سريعاً متناولاً شفتيها في قبلة قاسية متملكة وكأنه بالفعل ينفس عن إحباطه الذي تبخر في ثوانٍ.. وكأنه لم يكن.. ولكن غضبه اشتد من إدراكه لذلك فازدادت شراسة قبلته.. حتى شعر بملوحة دموعها بين شفتيه.. فدفعها بقوة بعيداً عن جسده الذي شعر به يكاد يحترق توقاً إليها.. وصرخ بها بعنف:


ـ اطلعي بره الأوضة دي دلوقتِ.. واستنيني في العربية.. أنت هتروحي المزرعة الليلة.. مش ممكن تنامي هنا الليلة.. مش ممكن..


نظرت له في ذهول وقد سقط أحد كتفي ثوبها فأظهر بشرتها اللامعة.. وتجمدت الدموع في عينيها وهي تضع أناملها على شفتيها المكدومة بفعل قبلته الشرسة..


صرخ بها ثانية وقد تمزق قلبه من مظهرها وصرخ به ضميره مؤنباً بينما جسده يصرخ مطالباً إياه بمعاودة تقبيلها:


ـ اخرجي دلوقتِ يا علياء...


انطلقت تعدو حتى وصلت إلى سيارته.. وهناك انطلقت دموعها ولم تتوقف حتى بعد أن أوصلها للمزرعة وانتظر حتى دخلت إلى منزل جده..


ليترك العنان لغضبه فأخذ يلكم مقود السيارة بجنون وهو يلعن نفسه ألف مرة لاستسلامه المخزي لأهوائه وغريزته البدائية.. فسبب الرعب لفتاة صغيرة..


لا ذنب لها..


"كيف لا ذنب لها؟"..


همس له شيطانه.. "إنها أتت بحثاً عن وصالك.. عن قبلاتك.. تستحق تماماً ما نالته"..


صرخ به ضميره..


"كلا.. هي مازالت طفلة ساذجة.. لقد أتت إليك لأنها تثق بك فحسب"..


"طفلة!!.. من ذابت بين ذراعيك ومنحتك تلك المتعة.. طفلة!!.. من شفت غليلك وروت ظمأك وأشعلت نيرانك.. طفلة!!.. ألا تريد الصعود إليها الآن وإكمال ما بدأته؟.. وخمن ماذا!!.. هي لن تمانع"..


ذلك ما همس به شيطانه..


صرخت أعماقه بعنف الصراع الدائر بها ليلقي برأسه فوق مقود السيارة..


"ريناد.. ليتك تنقذيني قبل فوات الأوان"...


                       *************


ألقت علياء بنفسها في أحد أركان غرفتها بعدما أوصدت بابها.. جمعت ثوبها حولها واحتضنت نفسها بقوة تاركة دموعها التي لم تتوقف منذ تركت الفيلا مع يزيد.. رفعت أناملها بضعف لتلمس شفتيها التي لا تزال متورمة بفعل تلك القبلة الشرسة التي انتهك بها يزيد براءة شفتيها..


"لقد سعيتِ لذلك.. ماذا كنتِ تنتظرين من ذهابك إلى غرفته؟.. هل كان سيربت على كتفك ويقص عليكِ حكاية ما قبل النوم!!"


صرخ بها عقلها..


"لم أكن أنتظر أن يكون بهذه القسوة.. لم أتخيل أن تكون قبلتي الأولى منه بتلك الشراسة.. ولكنني لست غاضبة منه.. فهو لم يقصد أذيتي.. بالتأكيد لم يقصد"


كان ذلك رد قلبها المهزوم بعشقه..


"أنتِ حمقاء.. ستجعلين من مشاعرك ممسحة لقدميه.. وجسدك متنفس لغضبه"


صرخ عقلها ثانية..


هزت رأسها برفض بينما يؤيدها قلبها الأحمق


"هو لم يقصد أذيتي.. لم يقصد أذيتي"..


*************


دلفت نيرة إلى المكتب الخاص بسكرتيرة حسن ورمقتها بنظرة متعالية.. ثم توجهت سريعاً نحو مكتب حسن بدون أن تتكبد عناء إلقاء التحية على سكرتيرته التي تحركت مسرعة محاولة منعها من الدخول على حسن:


ـ آنسة نيرة.. آسفة.. بس لازم أدي للبشمهندس حسن خبر الأول..


رمقتها نيرة بنظرة صاعقة:


ـ أفندم... أنتِ بتقولي إيه!!.. أنتِ عارفة أنا مين؟..


ـ أيوه والله عارفة بس دي الأوامر..


أبعدتها نيرة باستعلاء:


ـ الأوامر دي ما تمشيش عليَّ..


وفتحت الباب لتدخل على حسن الذي رفع رأسه على الفور وضاقت عينيه وهو يتأمل بلوزتها ذات فتحة الصدر الدائرية والتي كانت شفافة تماماً حتى أنه رأى حمالة صدرها بوضوح تام.. كانت ترتدي معها تنورة لم يكد طولها يصل لمنتصف فخذها مظهراً طول وجمال ساقيها الممشوقتين..


راقبها تتقدم نحوه حتى وصلت إلى مكتبه والتفت حوله لتقف أمام المقعد الذي يجلس عليه وتميل على وجهه لتقبله فحرك وجهه مانحاً إياها وجنته.. ليمنعها من تلقي القبلة التي تتوق إليها.. رفعت نفسها على مكتبه للتتكأ عليه بصورة جانبية مانحة حسن صورة في غاية الاغراء لجسدها المحني عليه وهي تهمس له وتداعب وجنته بأناملها الناعمة:


ـ إيه رأيك في المفاجأة دي؟..


تحرك حسن بعدم ارتياح في مقعده وحاول النهوض منه إلا أنها انزلقت من فوق المكتب لتحتك به تماماً في نفس اللحظة التي تمكن بها من النهوض..


ارتبك حسن قليلاً وحاول أن يبعدها عنه إلا أنها اقتربت لتطوق عنقه بذراعيها وهي تهمس له:


ـ وحشتني.. وحشتني قوي..


فك تشابك ذراعيها من حول عنقه وهو يجيبها برسمية:


ـ شكراً!..


ضربت نيرة الأرض بقدمها حنقاً وهي تتصنع الألم ولكن كان غضبها حقيقي:


ـ وبعدين بقى يا حسن في طريقتك دي..


أجاب بهدوء مستفز:


ـ وبعدين إيه يا نيرة.. إحنا في مكان شغل ما ينفعش فيه الحركات دي.. وبعدين إحنا مع بعض كل يوم.. مش معقول يعني لحقت أوحشك..


ـ هو أنت هتعد علي الساعات اللي بنقضيها سوا!!.. مش هو ده المفروض.. إننا نقرب من بعض أكتر..


مسح حسن وجهه بكفيه في تعب.. فهو مجهد.. مستنفذ.. عاطفياً وبدنياً فمنذ أسبوع كامل بالتحديد منذ ليلة الحفل ونيرة تصر على التواجد أمامه في كل وقت وكل لحظة.. وهو يحاول مجاراتها.. على قدر ما يستطيع.. ولكنه أوشك بالفعل على الانفجار غضباً وغيظاً.. خاصة إن منى تكتفي برسائلها المسائية فقط.. ولا تجيب على أي من مكالماته.. لقد اتصل بها فوق الألف مرة في هذا الأسبوع.. وهي مازالت متمسكة بصمودها ومبدأها.. ما يعزيه قليلاً أن عم نصر ترك العمل مع والده بالفعل وبدأ بالعمل على السيارة الأجرة التي ابتاعها من أجله..


رن جرس الهاتف الخاص بحسن بنغمة تمنى لو يسمعها منذ أسبوع كامل.. فالتفت بلهفة- لم تفت على نيرة- ليلتقط الهاتف بسرعة.. وهو يتأمله بفرحة ويخبر نيرة بعجلة:


ـ آسف يا نيرة.. تليفون مهم.. لازم أرد عليه..


رفعت حاجباً واحداً وهي ترد باستفزاز وقد أدركت هوية المتصل:


ـ ما ترد.. هو أنا منعتك؟!!


ارتبك قليلاً:


ـ أصل.. ده عميل مهم.. والشغل اللي بينا سري..


لوت شفتيها بسخرية بالغة:


ـ عميل!!.. والعميل بتخصص له نغمة "حبيبي يا عاشق"!!..


ـ قصدك إيه يا نيرة؟


ـ قصدي معروف.. وقصدك أنت كمان.. بس أنا مش هسكت.. ومش هستسلم.. باي يا خطيبي يا حبيبي..


  

💓💓💓💓💓💓💓💓💓💓💓

6


الفصل السادس


وقف عامر أمام نافذة مكتبه وهو يستعيد الحوار الذي دار بينه وبين صبا منذ عدة أيام..


 ابتسم بحزن وهو يتذكر همسها بأن فريدة سألتها عنه..


فريدة.. هل ما زالت تتذكره؟.. هل تحن إليه كما يحترق شوقاً إليها؟..


هل من الممكن أن تسامحه في يوم من الأيام؟!!..


 لقد هدم كل ما بينهما في لحظة حماقة.. وفشل في اختبار تمسكه بها.. استمعت أذناه لكلمات انطلقت من بين شفتيها وغفل قلبه عن صراخ روحها اليائس..


ابتسم ساخراً من نفسه.. كيف من الممكن أن تسامحه بينما هو غير قادر على مسامحة ذاته؟؟!!...


تحرك متوجهاً نحو أحد الأدراج ليخرج منه صورة حديثة لسيدة في منتصف الثلاثينات من عمرها.. كانت عينيها الفضية ترمق الفضاء بنظرات غامضة بينما أحاط شعرها الداكن الشقرة بوجهها وأراحت إحدى وجنتيها على يدها وهي تبتسم ابتسامة غامضة وحزينة.. وكأنها تدرك أن صغيرتها ستمنحه تلك الصورة لتكون زاده في سنين بعده عنها..


تلمست أنامله ابتسامتها الحزينة وهو يتذكر لقاءه الأول بها..


كان ذلك منذ أكثر من خمسة عشر عاماً.. وكانوا قد بدأوا بتنفيذ فكرة حاتم العبقرية بتولي أعمال الديكورات للمجمعات السكنية التي تتولى شركتهما بنائها.. فتعاقدوا مع مكتب لأعمال الديكورات لتلك المهمة وهو المكتب الذي كانت تعمل به فريدة..


كان هو مايزال يتخبط جراء فقده لزوجته وحبيبة عمره ورفيقة دربه منذ شهور قليلة فقط.. كان تقريباً يعيش على هامش الحياة معتزلاً الجميع وذاهلاً عن كل ما حوله.. فحاول حاتم معه بقوة ليخرج من تلك الحالة فقد مرت شهور وهو لا يزال يعيش في صومعة أحزانه.. فما كان من حاتم صاحب التفكير العملي إلا أن أجبره على تولي تصميم المجمع السكني الجديد الذي تعاقدوا على انشائه مؤخراً, وكذلك الإشراف على أعمال مكتب الديكورات حتى يتم تسليم الوحدات جاهزة تماماً..


في أحد الأيام ذهب لتفقد تقدم العمل بأحد الفيلات ليفاجئ بتلك الفتاة ضئيلة الجسم, قصيرة القامة وقد جمعت كتلة من الشعر الشقر تحت قبعة بيسبول ووضعت فرشاة للرسم بين أسنانها.. بينما أمسكت بأخرى وجلست القرفصاء منهمكة في رسم أشكال غريبة على أحد جدران الفيلا..


ألقى التحية بهدوء لينبهها لوجوده.. فانتفضت بشدة لتقف وتواجهه والفرشاة ما زالت بين أسنانها.. وسألته بعنف:


ـ أنت مين؟.. وبتعمل إيه هنا؟؟!!


نظر إلى مظهرها الصبياني وقال بلهجة متفكهة:


ـ أنا اللي مفروض أسأل السؤال ده.. أنتِ مين وبتعملي إيه هنا؟..


رفعت حاجباً متعجرفاً ومرسوماً بدقة وهي تسأله بسخرية متبادلة:


ـ ليه بقى؟.. سيادتك تبقى مين؟..


أغضبته سخريتها فصاح بغضب:


ـ إحنا هنزر!!.. ردي على السؤال..


رفعت القبعة من فوق رأسها فتناثرت خصلات بلون سنابل القمح, كلا.. بل أغمق قليلاً, خطفت نظراته على الفور فضيق عينيه وهو يتأملها بتقدير مختلف.. فلم تعد ذات هيئة صبيانية متشردة بعد الآن..


لم تخفِ نظراته عنها فابتسمت له بتحد مستفز.. لكنه فوت فرصة الشجار عليها عندما أخبرها بلهجة أقل غضباً:


ـ أنا المهندس عامر.. المهندس اللي صمم المجمع السكني ده..


كان يظن أنه سيبهرها بتلك الجملة إلا أنه فوجئ بهزة لامبالاة من كتفيها.. وهي تخبره بمنتهى الإستفزاز:


ـ تصميم سخيف جداً... على فكرة.. أنا مش فاهمة أنت فخور قوي كده ليه..


كانت تلك الجملة بمثابة شرارة البدء لعلاقة عاصفة استمرت عدة أشهر.. لم يهتما خلالها بفارق العمر فقد كانت فريدة فقط في التاسعة عشر.. بينما هو في بدايات أربعينياته...


كان أحياناً يُخضع جنونها لحبه, فيزدادا اقتراباً.. وأحياناً أخرى تتمرد عليه وتهرب منه ومن عواطفه التي تحكمت به بطريقة لم يظنها ممكنة, فقد كان يظن أنه سيعيش مع ذكرى حبه لزوجته الراحلة ما تبقى له من عمر ليفاجئ بقلبه يدق بقوة عاشقاً لفريدة وجنونها..


شعر وقتها أن لحظة لقاءه بها كانت فاصلة في حياته.. وأن ما عاشه سابقاً كان مجرد لحظات تمهيدية لعشقه لتلك المتمردة فضية العينين..


تزوجها أخيراً بعد معاناة لإقناعها بأنه لن يُحجم من طموحها الفني.. وعاشا معاً عدة شهور في سعادة مطلقة.. تخلت فيها فريدة طواعية عن عملها واكتفت بدراستها في كلية الفنون فقط.. وتناست طموحاتها الفنية من أجل عيون عامر ورغبة منها للتفرغ له, ابتعدا عن الناس والواقع في عالم يضمهما فقط.. حتى كانت العودة المتوقعة للحياة الطبيعية والتي كانت بالطبع تضم ابنته نيرة..


نيرة.. الطفلة الصغيرة ذات السنوات الست والتي ترفض بشدة وجود بديل لأمها.. أو بالأحرى رفضت المرأة التي سرقت منها والدها.. وسلبت لبه..


 فتفننت في افتعال المشاكل وإثارة المتاعب.. ونظراً لسن فريدة الصغيرة عجزت عن التعامل مع مشاكل ابنة زوج متمردة وحاقدة بشدة..


وفي وسط تلك المشاكل اختار عامر الهروب.. الهروب من اتخاذ موقف حاسم من ابنته المدللة.. فوجد في ذكرياته مع زوجته الراحلة متنفساً للهرب من حياته المتقلقلة.. فبدأ ينتابه شعور محرق بالذنب تجاه ذكراها.. وتعجب كيف استطاع نسيان حبه لها بتلك السرعة ليرتبط بعلاقة زواج سريعة مع فتاة تصغره سناً بعدد غير قليل من السنوات وغير قادرة على تولي مسئولية أمور بيته وابنته.. وبدأت تظهر المشاكل بينهما وهو يقارن بينها وبين زوجته الراحلة..


وازداد البعد والجفاء خاصة مع إعلان فريدة برغبتها في العودة إلى عملها فهي تشعر بالفراغ معظم الوقت خاصة مع ابتعاد عامر عنها مغموراً بشعوره الأحمق بالذنب.. وفي خضم تلك المشكلات ولدت صبا.. ذلك الملاك فضي العينين بخصلاتها الكستنائية الملتفة.. والتي فتنت والدها وسرقت قلبه وعقله معاً.. فعاد لفريدة معتذراً طالباً لمغفرتها عن تصرفاته الحمقاء نحوها.. وسامحته فريدة مانحة إياه أعمق ما تملك من مشاعر.. وراغبة بفتح صفحة جديدة من حياتها معه, وبالفعل هدأت المشكلات لفترة واضطرت فريدة لتناسي عودتها للعمل حتى تلازم صبا الصغيرة..


لكن وجود صبا لم يمر بسلام على نيرة.. فازداد تمردها وحقدها.. وامتد لتؤذي الصغيرة.. فكانت تصرخ بها حتى تجهش الفتاة ببكاء هيستيري.. أو تضربها أحياناً.. ورغم هذا لم يوجه عامر أي لوم أو عتاب إلى نيرة, بل عاد للابتعاد والهروب وكأنه يعاقب نفسه وقلبه على تناسيه السريع لزوجته الراحلة.. فتعمق إحساسه بالذنب ورفض معاقبة نيرة وكأنه بذلك يعتذر لروح الحبيبة الراحلة عن عشقه الجارف للزوجة الحالية...


وبدأ عامر التنفيس عن إحساسه الوهمي بالذنب على فريدة التي استطاعت إختراق قضبان قلبه فكان يدأب على توجيه اللوم لها وإخبارها أنها أم غير صالحة لأي من ابنتيه..


كانت فريدة تحتمله في صبر معتمدة على رصيد حبه في قلبها.. فكانت طبيعتها العاطفية وصغر سنها تدفعها لمسامحته في كل مرة يهينها أو يغضبها فيها, لكن تفاقم الأمر مرة واحدة عندما ضربت نيرة صبا الصغيرة حتى ظهرت علامات أصابعها واضحة على وجنتي الصغيرة .. كانت تبكي بهيسترية غير طبيعية.. فاضطرت فريدة إلى معاقبة نيرة بالضرب لأول مرة منذ زواجها من عامر... الذي ما أن علم هذا حتى توجه بسلسلة طويلة من الإهانات والصراخ في وجه فريدة مخبراً اياها بقسوة:


ـ أنا اللي غلطان اللي اتجوزت واحدة مهملة ومستهترة زيك.. لو كنتِ أم طبيعية زي أم نيرة الله يرحمها كنتِ عرفتِ تتعاملي مع البنت ومنعتيها أنها تأذي أختها زي ما بتقولي.. لكن أنتِ كل دماغك في الرسم والألوان والعبط ده..


جمدتها الكلمات فأخبرته بهدوء مستفز:


ـ وايه اللي يجبرك أنك تستمر في الغلطة دي؟.. طلقني.. طلقني يا عامر..


أطلق الرصاصة الأخيرة في علاقتهما:


ـ خلاص يا فريدة لو هي مش فارقة معاكي كده.. أنتِ طالق.. طالق..


عاد من ذكرياته على تلك الكلمة.. التي أخرج بها فريدة من حياته مصراً على ابقاء ابنته صبا معه بعدما قررت فريدة الابتعاد عنه للأبد والرحيل الى فرنسا..


أخذ يتلمس الصورة بحنين جارف.. ثم أعادها إلى الدرج مرة أخرى وأغلق عليها..


************


جلست علياء على المقعد الخلفي للسيارة وهي تضع قبضتها بين أسنانها.. تلك العادة المصاحبة لها كلما شعرت بالقلق والحيرة.. وهو ما تشعر به الآن.. فقد أرسل عصام الغمراوي السيارة لها صباحاً لتأتي بها من المزرعة.. ظنت في البداية أنه يريدها أن تتناول معهم الغذاء في الفيلا.. ولكن السائق أخبرها أنهما سيتوجهان إلى مقر مجموعة الغمراوي.. ظل القلق يعصف بها طوال المسافة الى المجموعة.. وانتابتها الحيرة مما يريده عصام منها..


هل أخبره يزيد بما حدث ليلة الحفل؟.. هل لهذا لم يأتِ هو أو يزيد إلى المزرعة طوال الأسبوع ولا حتى لتهنأتها بعيد ميلادها الذي مر منذ يومين ولم يتذكره أحداً سوى نيرة التي ملأت لها غرفتها بزهور القرنفل التي تعشقها علياء.. هل استدعاها اليوم ليخبرها أنه سيرسلها إلى أعمامها؟..


كانت ترتجف من هذا الإعتقاد عندما وصلت إلى مقر المجموعة وهناك التقت بعصام الذي اصطحبها إلى مكتبه..


ـ تعالي .. اقعدي يا عليا.. أخبارك ايه يا بنتي؟.. في أخبار عن نتيجة التنسيق؟..


ابتلعت علياء ريقها براحة وهي تتنهد بداخلها.. فيبدو أن يزيد لم يخبر والده بشيء.. فعصام يتحدث معها بطريقة طبيعية تماماً..


عاد عصام ليحدثها:


ـ إيه يا عليا.. سرحانة في إيه؟.. ولا أنتِ زعلانة مني؟..


نفت علياء بقوة:


ـ لا أبداً يا عمو.. هزعل ليه؟..


توجه عصام إلى أحد أدراج مكتبه وأخرج منه علبتين من المخمل الأزرق.. ثم تحرك نحو علياء ليجلس بجوارها..


ـ يمكن تكوني فاكرة أني نسيت عيد ميلادك..لا والله يا بنتي.. بس مشاغل الشغل بتاخد الواحد..


ـ أنا مقدرة مشاغلك يا عمو.. ومش زعلانة..


قدم إليها إحدى العلبتين:


ـ ماشي يا ستي.. اتفضلي.. دي هدية عيد ميلادك.. ولو أنها متأخرة.. كل سنة وأنتِ طيبة يا عليا.. كبرتِ وبقيتِ عروسة زي القمر.. وخلاص هتدخلي الجامعة.. لو كانت مامتك عايشة..


تهدج صوته قليلاً:


ـ الله يرحمها كانت بتحلم باليوم ده.. وبتتخيلك وأنتِ نازلة الصبح أول يوم.. وراجعة لها تحكي لها عن تجربتك في أول يوم ليكي في الكلية.. الله يرحمها.. أكيد هي حاسة بيكي دلوقتِ.. و...


لم يستطع عصام إكمال كلماته فقد خنقته غصة شديدة وهو يتذكر نادية الرقيقة الناعمة.. والتي رغم كل ما يقال عن ظروف زواجه بها من كونها أزمة منتصف العمر إلا أن الحقيقة أنها هي من أنقذته من تلك الأزمة..


تأمل تساقط الدموع على وجنتيّ علياء ومسارعتها لتمسحها..


فربت على كتفها وهو يحاول التحكم في أحزانه:


ـ هاه.. إحنا هنقلبها نكد ولا إيه.. يلا افتحي العلبة كده وقولي لي رأيك..


أومأت علياء بصمت وهي تمسح باقي دموعها وتفتح العلبة المخملية ليطالعها سوار غاية في الرقة.. كان يتكون من حلقات متداخلة من البلاتين والذي تزينه فصوص ماسية صغيرة..


شهقت عليا بقوة وهي تهتف:


ـ ده جميل قوي.. متشكرة قوي قوي يا عمو..


ابتسم بسعادة وهو يثبت لها السوار بمعصمها:


ـ العفو يا حبيبة عمو.. شوفتِ إزاي أني ما نسيتكيش.. ولا حتى يزيد..


همست عليا بخفوت:


ـ يزيد!!


ـ أيوه.. اتفضلي دي كمان يا ستي.. دي هدية من يزيد.. أنا كان المفروض أعدي على المزرعة يوم عيد ميلادك فأعطاني العلبة أوصلها لكِ.. بس ظروف الشغل عطلتني زي ما قلت لك..


أخذت منه علياء العلبة الأخرى وهي تتحرق من داخلها لترى هدية يزيد, ولكنها في نفس الوقت كانت تريد رؤيتها بمفردها بدون مراقبة عصام لها.. وكأن القدر استجاب لدعواتها.. فانطلق رنين هاتف المكتب ليتحرك عصام استجابة له..


وأخذ يتبادل مع محدثه حوار خاص بالعمل... بينما أنامل علياء تداعب العلبة بشعور متناقض بين توق لفتحها, وخوف من أن تصدمها الهدية بداخلها, فهو لم يعطها لها بنفسه بل أرسلها مع والده وكأنه يريد أن يخبرها أنه لا يرغب في رؤيتها ثانية..


التفت على صوت عصام وهو يستأذنها:


ـ عليا حبيبتي.. استأذنك.. خمس دقايق بس هروح أخلص المشكلة دي وهرجع على طول.. استنيني ما تمشيش.. أنا لسه عايزك في موضوع ضروري..


أومأت عليا برأسها وهي تسمع باب غرقة المكتب يغلق خلف عصام..


ظلت أناملها تداعب العلبة التي تحتوي على هدية يزيد لعدة دقائق.. ودقات قلبها تعلو.. خوفاً وتوقعاً.. ثم فتحتها بتردد لتجد سلسلة رفيعة من الذهب الأبيض وقد تدلت منها حبة من الماس لتشكل دَمعة صغيرة..


مدت يدها لتتلمس تلك الدَمعة وكأنها تسألها..


"لماذا اخترت إهداء الدموع لي؟.. هل هي مصادفة أم أنك تعمدتها يا يزيد؟"..


عادت تتلمسها برقة متناهية.. ثم لم تستطع مقاومة فضولها.. فنهضت متوجهة نحو زجاج النافذة.. لترتدي السلسلة وتتأمل صورتها المنعكسة على الزجاج اللامع ولم تنتبه إلى دخول يزيد للغرفة ووقوفه واجماً يتأمل بدوره هديته تزين جيدها.. والدمعة الماسية تبرق وقد توسدت تلك الفجوة الرقيقة بين عظام ترقوتيها.. كما تخيلها تماماً وهو يختار لها هدية مولدها التي أعطاها لوالده حتى يوصلها إليها.. فبعد ما حدث في غرفته ليلة الحفل أصبح لا يضمن نفسه وحيداً معها..


 أخذت عيناه تتابعها وهي تتلمس دمعته الماسية برقة.. لم يدرِ لم تصور أنها تهمس لها بشيء ما.. شيء أراد سماعه بشدة..


استمر في متابعة أناملها وهي تتحرك بخفة فوق السلسلة وشعر بعقله يشتعل بأفكار لم يرد أن يستمع لها, بل وجمحت به خيالاته الطائشة وهو يتصور شفتيه هي التي تتحرك على طول السلسلة حتى يصل إلى تلك الدمعة المتلألئة فيتذوقها وقد استمدت الدفء والعطر الخاص بفراشته الصغيرة.. عندما وصل به جموح أفكاره لتلك النقطة, آثر السلامة وقرر الابتعاد عنها ومغادرة الغرفة ولكن علياء التفتت في تلك اللحظة ولمحته وهو يمسك بمقبض الباب فهتفت بعجب:


ـ يزيد!!.. أنت هنا من امتى؟..


التفت إليها على مضض وهو يحاول إبعاد أي أفكار مجنونة تدور برأسه, ولكن يبدو أنه لم ينجح بذلك فما أن التقت عيناهما حتى وجدها ترفع أناملها بلا وعي لتغطي شفتيها وكأنها تحميها منه.. فأخفض بصره على الفور وحياها بهدوء:


ـ إزيك يا علياء.. أنتِ عاملة إيه؟..


تجمدت الكلمات على شفتي علياء.. فبعد أن مرت لحظات المفاجأة الأولى لوجوده معها بالغرفة.. ولمحت تلك النظرات المشتعلة بعينيه وجدت نفسها تتذكر قبلتهما الوحيدة وتلقائيا ارتفعت يدها إلى شفتيها بدون أي تفكير, ثم ما لبثت أن لعنت نفسها لحركتها تلك فلابد أنه سيظن أنها تريد منه تكرار تلك القبلة وخاصة بعدما وجدته يخفض بصره أرضاً هرباً من مواجهتها.. فحركت أناملها من شفتيها إلى الدمعة الماسية المعلقة بجيدها كأنها تذكره بهدية عيد ميلادها.. فبادرها مهنئاً:


ـ صحيح.. كل سنة وأنتِ طيبة يا علياء.. بابا وصل لكِ الهدية؟..


أومأت موافقة بدون أن تفتح شفتيها بكلمة.. فعاد يسألها محاولاً تبادل حوار طبيعي معها كأنه يسعى لمحو أي ذكرى تمر بعقلها بما قام به من قبل..


ـ إيه بقى لكِ مدة مختفية.. أنتِ ما بتروحيش النادي ولا إيه؟..


رفعت علياء عينيها إليه ولمعت زرقة عينيها بتساؤل حائر.. ولكنها أجابت بهدوء:


ـ أنا بروح النادي مع نيرة بس.. وهي كانت مشغولة الأسبوع ده مع حسن.. يا دوب بس جت زارتني يوم عيد ميلادي..


سكت يزيد قليلاً وهو يفكر إذا ما كان عليه مواجهة الأمر والإعتذار منها عما حدث ليلة الحفل.. لكن صوتها سبقه ليسمعها تخبره برقة:


ـ عمو قالي أنكوا انشغلتوا جامد عشان كده ما قدرتوش تيجوا يوم عيد ميلادي.. والله بجد أنا مش زعلانة.. ومتشكرة قوي على الهدية الرقيقة.. كفاية أنكوا افتكرتوني..


اندفعت فجأة الكلمات إلى شفتيه فهو لم يتحمل شعورها بالامتنان في حين أنها يجب أن تصرخ به معاتبة:


ـ بصي يا علياء.. أنا آسف قوي.. آسف على كل حاجة..


هزت علياء رأسها بحيرة:


ـ بتعتذر ليه يا يزيد؟.. أنا..


قاطعها:


ـ أنتِ أختي الصغيرة يا علياء.. وأنا غلطت في حقك غلط جامد ليلة الحفلة.. عشان كده ما اقدرتش آجي وأواجهك يوم عيد ميلادك.. أنا آسف مرة تانية ويا ريت تسامحيني..


حاولت علياء حبس دموعها التي هددت بالإنهمار وهي تسمعه يصفها بأنها مجرد أخت صغيرة له.. لم تعرف بم تجبه وهو يهدم كل أحلامها ويغتال مشاعرها نحوه بتلك الكلمات البسيطة.. بينما هو لعن في نفسه مازن وتلميحاته المستمرة.. وتلك الرقصة اللعينة.. التي أشعلت بركان كان يظن أنه نائم, بل ميت.. ولكنه يشعر به الآن يرسل حمماً مشتعلة تكاد تقضي على راحة باله للأبد..


عاد يلمح دموعها الحبيسة وتعمد إساءة فهم السبب وراءها.. فهو يريد إغلاق فوهة ذلك البركان بداخله.. فغمغم محاولاً إقناع نفسه قبلها:


ـ خلاص يا علياء.. هنرجع أصحاب وأخوات زي الأول؟؟


أومأت علياء في صمت, فهي تعلم أنها لو فتحت شفتيها فستشهق ببكاء لا ينقطع..


اقترب منها ليطبع قبلة أخوية على وجنتها كعربون للصلح..


لم يدرِ ماذا حدث بعد ذلك.. ففي لحظة كانت شفتاه على وجنتها.. ولكنه شعر بيدها على صدره.. لم يعلم إذا كانت تدفعه أو تداعبه.. كل ما يعلمه أنه في اللحظة التالية كان يضع خيالاته حيز التنفيذ متذوقاً دمعته الماسية وقد تشبعت بعبق فراشته الصغيرة..


                          ***********


لم يهتم حسن للحظة بخروج نيرة الدرامي من مكتبه.. كل ما كان يعنيه في تلك اللحظة هو سماع صوت منى..


فتح الخط على الفور وهو يهتف:


ـ منى.. أخيراً يا حبيبتي..


جاءه صوتها متلعثماً بخجل أذاب قلبه:


ـ وبعدين يا حسن!!.. مش قلنا بلاش مكالمات..


سألها بعتاب:


ـ وقدرتِ يا منى؟.. ما كونتش أعرف أنك قاسية كده!


ـ مش قسوة يا حسن.. بس..


ـ بس إيه؟..


ـ خوف يا حسن.. خوف..


ـ يبقى أنا ما أستحقش أعيش يا منى لو سيبتك تشعري بالخوف ده


هتفت بسرعة:


ـ بعد الشر عليك..


سألها بشقاوة:


ـ خايفة عليّ؟..


تهدج صوتها:


 ـ طبعاً.. خايفة عليك.. خايفة عليك من كل حاجة.. حسن.. أنا خايفة أني أعذبك وآلمك أكتر لو...


قاطعها:


ـ العذاب الحقيقي هو أني ما اسمعش صوتك يا حبيبتي.. أنا كنت محتاجك قوي.. قوي.. يا منى الفترة اللي فاتت.. كنت هتجنن وأشوفك أو حتى أسمع صوتك..


أجابته وقد تلون صوتها قليلاً بغيرة محببة:


ـ ليه يا حسن؟.. كنت محتاج لوجودي ليه؟.. أنت خايف أنك تضعف قدام جمال نيرة؟.. بدأت تحبها؟..


سألها وقد عادت الشقاوة لصوته:


ـ بتغيري عليّ يا عمري؟..


هتفت بسرعة تحاول نفي شعورها بالغيرة:


ـ لا أبداً.. أنا..


قاطعها بسعادة:


ـ أنتِ بتغيري.. وأنا هطير من السعادة.. بس عايز أقولك أنك مش محتاجة تغيري من أي واحدة في الدنيا.. لأن قلبي ما دخلتوش غير واحدة بس... دخلته وقفلت وراها والمفتاح معاها هي بس..


سكت قليلاً وهو يستمتع بأنفاسها المضطربة نتيجة كلماته المغازلة:


ـ عارفة دي تبقى مين؟.. تبقى حبيبة عمري كله.. وحلم عمري اللي قربت أحققه..


سألت منى وقد غمرها الأمل رغماً عنها:


ـ بجد يا حسن؟..


أجابها بثقة:


ـ بجد يا منى.. الحمد لله أن عمي نصر وافق على مشاركة صاحب مازن..


أجابته منى بتردد:


ـ أنا صحيح شجعت بابا على أنه يدخل في الشراكة دي.. بس برضوه مستغربة منها حبتين


سألها بتوتر:


ـ ليه يا منى؟..


ـ يعني.. العرض كان وقته مريب خاصة بعد ما قلت لي آخر مرة.. أنك بتفكر تبعد بابا عن والدك.. و..


قاطعها حسن سريعاً وقد خشي أن تصل بذكائها لحقيقة الأمر وهي أنه هو الصديق الغامض لمازن:


ـ يا منى.. العرض مش مريب ولا حاجة.. أنا لما سمعت من مازن عن صاحبه ده.. الفكرة ظهرت في دماغي.. والحمد لله.. عمي نصر وافق على العرض.. المهم بقى أنتِ عند وعدك؟..


ـ أكيد طبعاً.. بس وعد ايه؟..


ـ أنك هتكوني جنبي بكل قوتك.. لو اتقدمت لوالدك..


قاطعته:


ـ بس تكون حر يا حسن.. أنا مش هدخل في النص بينك وبين نيرة..


هتف بها بغضب:


ـ أولاً ما فيش حاجة اسمها بيني وبين نيرة.. ثانياً.. عايز أسمع منك يا منى أنك معايا.. حتى لو طلبت منك أننا نتجوز قبل ما تخلصي كليتك..


قاطعته:


ـ بس يكون بابا عارف وموافق..


ـ ده شيء مفروغ منه زي ما قلت لك قبل كده.. عايز وعد يا منى..


همست:


ـ أوعدك يا حسن.. أوعدك أني مش هكون غير لك.. أنت بس.. أنت بس يا حسن..


ـ هيحصل يا منى.. قريب قوي يا حبيبتي..


أرادت أن تسأله كيف سيتخلص من خطوبته من نيرة ولكنها جبنت.. هو لم يخبرها في آخر لقاء لهما إلا عن فكرته في إبعاد والدها عن براثن والده.. وهو ما تحقق بالفعل.. لكن كيفية تخلصه من الإلتزام بالزواج من نيرة لم يصرح لها عن كيفية تحقيقه.. وما لا تعرفه هو أنه يحاول جاهداً إبراز وجوه الاختلاف بينه وبين نيرة.. وإظهار وجه ممل وسخيف له في التعامل معها علها تيأس من إيقاعه في شباكها أو تقرر أخيراً أنه لا يستحق عبء مطاردتها له..


عادت تسمع صوته وهو يسألها بأمل:


ـ هشوفك إمتى؟..


ردت بحزن:


ـ مش هينفع يا حسن.. أرجوك احترم رغبتي.. أنا آسفة.. فترة راحتي انتهت ومضطرة أقول لك مع السلامة... لا إله إلا الله..


أجابها بهمس حزين:


ـ محمد رسول الله..


أغلق الخط.. وهو يفكر في خطوة قوية ليبعد بها نيرة عن كاهله.. ويجعلها هي من تطلب فك الارتباط.. لقد كان يعتمد على الصبر حتى تتبين هي بنفسها استحالة استمرار ارتباطهما.. ولكن صبره نفذ سريعاً خاصة وهي تحبط محاولته واحدة تلو الأخرى للابتعاد عنه, فكبريائها وغرورها يمنعاها من التسليم بأن حسن لن يسقط في شباكها..


كبريائها وغرورها!!..


ترددت الكلمتان في ذهنه وعقله يرسم له خطة على قدر بساطتها فهي ستكون شديدة الفاعلية.. وكلها تعتمد على كبريائها وغرورها...


ولم يدرك أن نيرة بنفسها هي من ستمنحه قريباً السكين ليقطع أي خيط يربط بينهما...


***************


لم تعلم علياء ما الذي حدث لها.. ففي لحظة شعرت بيزيد يمنحها قبلة أخوية بسيطة.. ولكن روحها وقلبها وكيانها بأكمله تمردوا على تلك الصلة الأخوية التي يفرضها عليها.. فوجدت أناملها تمتد بلا إرادة منها لتداعب زر قميصه الأعلى والقريب من بشرة صدره العارية فشعرت باتصال سريع لم يتعدَ ثوانٍ مع بشرته الساخنة.. ولكن ما لم تحسب له حساب هو رد فعله الفوري على هذا الاتصال والذي تمثل في ضمه لها بقوة حيث لف إحدى ذراعيه حول خصرها.. ورفع الأخرى ليثبت رأسها إلى الخلف حتى يتمكن من ضغط شفتيه فوق الدمعة الماسية ليتذوق عبق عليائه ممتزجاً ببريق الماس...


 لم تعرف علياء كيف تتصرف أو تتجاوب مع عاطفته التي كان يعتذر عنها منذ لحظات قليلة فقط, فتمسكت بكتفيه مستسلمة لشفتيه التي تمسح جيدها برقة شديدة..


صوت والده العالي خارج غرفة المكتب وهو يملي على سكرتيرته بضعة أوامر هو ما أفاقه من نشوته.. فابتعد عن علياء سريعاً.. واتجه نحو النافذة يحاول تهدئة جسده والتقاط أنفاسه الهاربة منه والتي سجنتها الدَمعة اليتيمة المعلقة بجيد الساحرة الصغيرة..


عاد يلعن مازن ألف مرة.. ويلعن ذاته ملايين المرات وهو يلمح نظراتها الزائغة وهي تستمع لإعتذار والده عن تأخره عنها وتركه لها وحيدة.. ثم ما لبث أن لمح يزيد فهتف بارتياح:


ـ يزيد.. طيب كويس أنك هنا.. أنا كنت لسه هبعت لك..


تنتح يزيد ليجلي صوته وهو يسأل والده:


ـ خير يا بابا في حاجة؟.


أشار عصام لهما ليجلسا.. فاتجهت علياء لتجلس على أحد الأرائك متجنبة الجلوس على المقعد المواجه لمكتب عصام فقد خشيت أن يلمح تشوشها وتخبط أفكارها.. خاصة وهي تغطي بيدها على دمعة الماس وكأنها تخفي قبلة يزيد عن أعين والده...


 فضل يزيد الوقوف كما هو مواجهاً للنافذة حتى لا يكشف عن ثورة جسده.. وفوران مشاعره..


سمع صوت والده:


ـ طبعاً يا عليا.. أنتِ عارفة اتفاقي مع أعمامك.. أنهم يعطوني الوصاية القانونية عليكِ في كل شيء ما عدا الأمور المادية اللي أصروا تكون في إيديهم.. وأنا ما اعترضتش وقتها عشان أقدر أوفي كلمتي لمامتك أنك تكوني تحت رعايتي.. الوقتي بقى أنتِ وصلتِ 18 سنة.. لو عايزاني أكلم المحاميين عشان نحرك الأمور.. وأحاول أسترد أرضك اللي تحت سيطرة أهل والدك.. وخاصة أنهم مش أشقاء له.. فأنا تحت أمرك.. إيه رأيك؟..


هزت علياء رأسها بحيرة فعقلها من الأساس يدور في دوائر مفرغة وما فعله بها يزيد منذ قليل جعل الضباب الوردي يغلف عقلها:


ـ أنا مش عارفة يا عمو.. بصراحة ما فكرتش في الموضوع ده قبل كده.. ممكن آخد شوية وقت عشان أفكر فيه..


أومأ موافقاً وهو يتجه بنظره ليزيد:


ـ وأنت رأيك ايه يا يزيد؟..


ـ طبعاً لازم تحاول تدور على حقها.. ده شيء مفروغ منه..


ردت علياء بتردد:


ـ بس.. بس.. أنا مش عايزة حاجة منهم.. الأرض دي بابا-الله يرحمه- سابها وساب البلد كلها عشان يبعد هو وماما.. حتى ماما.. ما فكرتش في أي وقت أنها تطالب بالأرض دي..


ـ بصي يا بنتي.. زي ما قال يزيد.. دي أرضك وده حقك.. فكري كويس.. وبعيد عن أي عواطف.. فكري بعقلك.. وأنا هنفذ لك أي قرار.. موافقة؟..


أومأت برأسها في موافقة صامتة.. فهز عصام رأسه راضياً:


 ـ نرجع بقى للسبب التاني اللي طلبتك عشانه..


ـ خير يا عمو؟؟


ـ خير يا حبيبة عمو.. مش قلت لك أنك كبرتِ وبقيتِ عروسة.. وعروستنا الحلوة مش متقدم لها عريس واحد.. لا.. دول تلات عرسان.. وإيه.. من أعرق العائلات.. يظهر يا شقية أنك سحرتِ شباب النادي يوم الحفلة..


💕💕💕💕💕💕💕💕💕💕💕💕💕


💋💋متاهه مشاعر💋💋


الفصل السابع.....  والثامن 


الحلقة السابعة 


دوي صوت ريناد في الهاتف وهي تصرخ مذهولة:


ـ أسبوعين!!.. أسبوعين إيه يا يزيد؟.. مش ممكن طبعاً ألحق أخلص أي حاجة في أسبوعين, مش أقل من ست شهور..


هتف بدوره بغضب يتزايد بداخله:


ـ إيه!!.. ست شهور!!.. احنا مخطوبين من سنة ونص.. سنة ونص تبديل وتغيير في كل ركن في البيت وياريت في الآخر بترضي عنه.. خلاص.. احنا نتجوز وابقي اعملي التباديل والتوافيق براحتك واحنا متجوزين..


سألته ريناد بهدوء وقد استشعرت غضبه:


ـ هو في إيه يا يزيد؟.. احنا كنا لسه مع بعض امبارح .. الكلام ده جديد عليّ..


سألها يزيد والغضب مازال يلون صوته:


ـ أنا مش فاهم إيه اللي يزعلك في أننا نعجل من جوازنا؟..


أجابته بنزق:


ـ وإيه اللي جد عشان العجلة دي كلها؟..


ضرب سطح مكتبه بقبضة يده.. حتى شعر أنه على وشك تحطيمها..


ماذا يستطيع أن يخبرها؟.. أنه كان على وشك خيانتها.. ليس مرة, بل اثنتين.. هذا على أرض الواقع.. أما عدد مرات خيانته لها في خياله فهي لا تحصى.. ففراشته الراقصة لم تبرح خياله منذ قبلتهما في غرفته ليلة الحفلة.. يراقصها ويحتضنها.. ويقبلها كما تستحق وكما يشتهي هو.. فلم يتذوق ملوحة دموعها بأحلامه, بل شهد شفتيها الذي لا يكتفي منه.. كل تلك الخيالات انفجرت بوجهه لحظة أن لامست شفتيه وجنتها.. فلم يدري بنفسه إلا وهو يضمها.. يقبلها.. يتذوقها.. وقد اعتلت دمعته جيدها.. وما يثير جنونه.. ويأجج مشاعره.. أنها لا ترفضه.. لا تبعده أو تقاومه, بل تذوب بين أحضانه.. تستسلم له في خضوع عاشقة وكأنها ولدت لتحيا بين ذراعيه..


 لم لا تشعر ريناد به؟.. باحتياجه لها ولحبها.. لتواجدها بجواره.. يريدها أن تنقذه من خيالاته.. من أوهامه حول علياء..


نعم..


أنها خيالات وأوهام.. فوران هرمونات ورغبات جسد..


بالطبع ذلك ما يشعر به.. يجب أن يكون كذلك.. لا يهم ما شعر به منذ قليل وكلمات والده تخترق أذنيه كالخناجر السامة... كالأحجار المسننة التي تمزق تماسكه الهش وهو يلمحها تغطي بيدها فوق قبلته.. ووالده مستمر في تعداد مزايا كل زوج محتمل من الذين فتنوا بالفراشة الأثيرة..


هرب من سماع كلمات والده وخرج مندفعاً من الغرفة قبل أن يخونه تماسكه ويصرخ به.. أن ولده خان أمانة اليتيمة المعلقة بأعناقهما.. أراده أن يمتنع عن ذكر كل اولئك الرجال الذين يرغبونها.. فذلك يزيد من تأجج رغبته بها.. ويضيف إلى جنونه جنون آخر.. جنون الامتلاك.. يريدها له وحده.. ولكنه لا يستطيع أن ينالها.. فأي وجود لها في حياته كفيل بتحطيم أعز الناس إلى قلبه.. أمه.. فيكفيها ما نالها من والده.. منذ سنوات.. وكانت السبب فيه نادية والدة علياء.. تلك السيدة الرقيقة التي عجز عن كراهيتها عندما أخبره والده عنها وعرفه بها.. مخبراً إياه أنه يدين لها بالكثير.. ولم يزد عن ذلك.. فقد كانت نادية في أقسى مراحل مرضها..


الذنب الذي شعر به لعجزه عن كراهية السيدة التي حطمت سعادة والدته وأمانها.. تحول إلى حقد على علياء.. ابنتها الصغيرة.. فعلى مدار سنوات كان يتفنن في إغاظتها والتضييق عليها.. حتى أفاقه مازن بتلميحاته المتكررة على حقيقة مشاعره وأن كل تصرفاته تعود إلى أنانيته الخالصة ورغبته التامة في اخفائها عن العيون لتكون له وحده, لقد التقط عقله الباطن مدى هشاشتها ورقتها فتحول تلقائياً لحمايتها من الجميع وأولهم والدته.. ولكنه للأسف فشل في حمايتها من نفسه..


أعاده صوت ريناد إلى الواقع وهي تقول:


ـ البيت مش جاهز و..


قاطعها:


ـ شهر واحد يا ريناد.. هو شهر.. ما فيش يوم واحد زيادة..


حاولت ريناد مجادلته إلا أنه أنهى المكالمة بحسم:


ـ أنا هكلم ماما عشان تتفق مع خالتي.. وأنتِ حاولي تخلصي اللي تقدري عليه.. والباقي بعد الجواز.. ده آخر كلام عندي..


أغلق الخط وهو يزفر بحنق واضعاً وجهه بين كفيه.. ليفاجئ ببعض شعيرات سوداء قد تعلقت بأصابعه..


اللعنة.. أنها تنتمي إلى علياء..


خلص أصابعه منهم بعنف.. وهو يصرخ من أعماقه..


اللعنة.. لقد أصبحت لعنته وهاجسه..


قطع رنين الهاتف استرسال افكاره.. فرفعه إلى أذنه مرحباً بالمقاطعة.. ليجد حسن هو المتصل يطلب منه مقابلته في النادي.. لأمر هام...


**************


ظلت علياء تستمع إلى ثرثرة نيرة بذهن غائب.. فعقلها قد توقف عن العمل في اللحظة التي أحاطها يزيد بذراعيه.. فهو له ذلك التأثير المخدر على حواسها وإدراكها.. أنها حتى لا تتذكر ما حدث بعدما أطلقها من بين ذراعيه..


كل ما يمر في ذهنها خيالات عن حوار ما.. كانت هي أحد أطرافه, بل كانت تجيب عمها عصام أيضاً على أسئلته.. الشيء الوحيد الواضح الذي يلمع في ذهنها هو صوت رأس يزيد يصطدم بزجاج النافذة.. بعدما أخبرها عصام عن خطابها المحتملين.. ثم اندفاعه خارج الغرفة متعذراً بأشياء لا تتذكرها..


ثم تكرار عصام لعروض الزواج.. ولكنها اعتذرت بسرعة مستخدمة دراستها كعذر صلب لتختفي خلفه..


قاطع شرودها صوت نيرة النزق:


ـ عليا.. أنتِ فين؟.. إيه سرحانة في إيه؟.. من لحظة ما دخلتِ العربية وأنتِ مش هنا..


أجابتها علياء بشرود:


ـ هااه.. لا أبداً ولا حاجة..


ـ إزاي ولا حاجة!!... في إيه؟.. يزيد زعلك في حاجة؟.. أنتِ ما قولتليش إيه اللي حصل ليلة الحفلة؟..


تلعثمت عليا.. ولم تعرف بم تجيب نيرة.. فهي تريد الاحتفاظ لنفسها فقط بما يدور بينها وبين يزيد.. تشعر أنه شيء خاص جداً.. ولا تريد إطلاع أي شخص عليه حتى لو كانت نيرة.. حتى لو كانت تحتاج إلى مشورتها بشدة.. فهي لا تعلم كيف تتعامل معه بعد الآن.. فهو يخبرها بشفتيه أنه يعتبرها كأخت صغيرة.. ثم تجده بعد لحظات يقبلها بنفس الشفتين..


ماذا يريد منها؟.. وماذا يظن بها؟..


 هي لا تعلم.. حتى رد فعله الغريب على كلام والده لا تعرف ماذا يعني..


هل تشعر بخيبة الأمل لأنه لم يصرخ رافضاً؟.. نعم..


ولكنها كانت تقريباً تتوقع هربه من المواجهة.. ولم يفاجئها ذلك.. أنها لا تريد إلا حبه فقط.. حتى أنها لم تفكر ماذا ستفعل لو بادلها مشاعرها بالفعل!.. وكأن أقصى أمانيها هي حبه فقط.. بل أنها وللعجب لم تفكر لحظة في إزاحة ريناد من طريقها.. لا تدري أتلك سذاجة منها؟.. أم أن قلبها يعلم أن المشكلة لا تكمن بريناد, بل بيزيد نفسه...


أعادها صوت نيرة للواقع مرة أخرى:.


ـ عليا!.. في إيه؟.. لا!!.. أنتِ مش عجباني نهائي..


هزت علياء رأسها بقوة لتحاول تركيز أفكارها وأجابت نيرة بأول ما جاء على لسانها:


ـ أصل.. أصل عمو عصام بلغني أنه في ناس عايزة تتقدم وتخطبني..


صرخت نيرة بحبور:


ـ والله.. دي أخبار عظيمة..


التفتت علياء إليها بذهول:


ـ عظيمة!!.. عظيمة إزاي يا نيرة؟.. ويزيد؟..


ـ أيوه طبعاً عظيمة.. دي فرصة هايلة أنه يشوفك مع واحد تاني.. يشوف أنك ممكن تضيعي منه.. ساعتها هيحس بقيمتك..


هزت علياء رأسها برفض:


ـ قصدك إني أوافق وارتبط بشخص تاني فعلاً؟!..


أومأت نيرة موافقة:


ـ أيوه طبعاً..


أجابتها علياء برفض تام:


ـ بس دي كده تبقى خيانة.. أنا كده هخون الشخص ده وأنا برتبط به ومشاعري مع غيره, وخاصة أني مش هكمل معاه.. وكمان بخون نفسي ومشاعري..


لوحت نيرة بيدها:


ـ عليا.. بلاش كلام الشعارات ده.. أهم حاجة ازاي توصلي للي أنتِ عايزاه..


ـ خلاص يا نيرة.. الموضوع انتهى.. أنا بلغت عمو عصام.. أني مش بفكر في الجواز.. ومش هفكر فيه إلا بعد ما أخلص دراسة..


سكتت قليلاً وهي تلمح علامات الامتعاض على وجه نيرة ثم سألتها:


ـ إحنا رايحيين فين؟.. ده مش طريق النادي..


ارتسمت ابتسامة جذلى على شفتي نيرة وهي تجيب:


ـ أيوه.. إحنا رايحيين البوتيك اللي بتشتغل فيه منى..


اتسعت عينا علياء بخوف:


ـ ليه؟.. بلاش يا نيرة..


تركت عينا نيرة الطريق قليلاً لتلتفت لعليا وقد ارتسمت على ملامحها كل معالم الكراهية:


ـ أيوه.. أيوه يا عليا.. لازم أنهي الموضوع ده النهارده.. والليلة بنت السواق هتكون مشرفة في السجن..


شهقت عليا:


ـ إيه!!.. السجن!!.. نيرة.. الموضوع ما يوصلش للدرجة دي؟.. أنتِ ناوية على إيه؟..


ضغطت نيرة على أسنانها بغيظ:


ـ يعني إيه ما يوصلش للدرجة دي؟؟.. هي اللي بدأت.. وبتحاول تسرق مني حسن.. خلاص يبقى العقوبة على أد الجريمة.. ولو عليّ كنت محيتها من الدنيا..


ـ هتعملي إيه يا نيرة؟..


هزت نيرة كتفيها بلامبالاة:


ـ أبداً.. أنا الفترة اللي فاتت كنت بروح البوتيك يومياً.. بس في وقت هي بتكون مش موجودة فيه.. بقيت زبونة... في آي بي... النهارده بقى أما نروح هقول أن الولاعة وعلبة السجاير الدهب بتوعي ضاعوا.. أنتِ عليكِ أنك تحطيهم في شنطتها من غير ما تاخد بالها.. وهوووبا... هتشرف الهانم في السجن.. بس عشان تتعلم أنها ما تبصش لفوق...


برقت عينا عليا برعب وهي تستوعب ما قالته نيرة وما تنوي عليه بينما ارتسمت على شفتي نيرة ابتسامة متشفية وهي تتخيل منى بالفعل خلف القضبان..


************ 


طرق حسن غرفة جدته باحترام.. وانتظر حتى سمحت له بالدخول..


دخل غرفتها ليجدها تجلس على أريكتها المريحة الموجودة بمواجهة فراشها.. وقد وُضعت أمامها مائدة صغيرة وعليها المصحف الخاص بها.. وكتاب المأثورات وأذكار الصباح والمساء.. بينما أمسكت بين أصابعها مسبحة طويلة وأخذت تسبح في صمت..


تنحنح حسن.. حتى يلفت انتباهها لوجوده وحياها بهدوء:


ـ صباح الخير يا جدتي..


ابتسمت له:


ـ صباح الخير يا روح جدتك روح..


وضحكا معاً لتحيتها المعتادة له.. فــــ روح هو اسمها...


أشارت له:


ـ تعالى أقعد جنب روح واشتكي لها همك..


جلس بجوارها واحتار كيف يخبرها ما يريد فسألها:


ـ حضرتك فطرتِ؟..


أجابته بصبر:


ـ أنت عارف أني بصحى من قبل الفجر.. ادعي وأصلي.. وأشرب الليمون بالعسل.. وكمان.. آخد الثوم المفصص والمقطع بتاعي.. أنت عارف هو حلو قوي للمناعة.. وبعدين أفطر فتة اللبن بالعيش.. نظامي وعمري ما هغيره أن شاء الله..


ضحك حسن:


ـ ربنا يديكي الصحة..


ربتت على ركبته:


ـ احكي لي عن همك يا ابن حاتم.. قلبك اللي تاعبك.. وأبوك رماك للنار.. وهو عارف أنك مُغرم بنسمة هوى رقيقة..


ـ حضرتك عارفة كل حاجة أهو يا جدتي..


أومأت:


ـ أيوه يا حبيبي.. وأبوك بسرعة عمل الخطوبة وأنا في رحلة الحج.. عشان ما اتدخلش.. بس لو عايزني أدخل.. أنا هساعدك يا حبيبي..


اندفعت الكلمات على لسان حسن وهو يخبرها أنه يحتاج لرأيها فيما يفكر به..


وبدأ يحكي لها عن الخطة التي توصل لها..


عندما انتهى سألته:


ـ ما فيش طريقة تانية يا حسن؟..


هز رأسه:


ـ ما فيش قدامي غير أني أتقمص شخصية حاتم العدوي.. وأفكر زيه.. عشان أحمي منى.. وفي نفس الوقت برضوه ما أسببش أذى كبير لنيرة..


هزت رأسها وهي تخبره بحزن:


ـ هقول لك ايه يا ابني!.. حاول على أد ما تقدر أنك ما تأذيهاش كتير.. ولو عايز مساعدة مع نصر.. أنا هكون جانبك.. لأنه أكيد هيرفض جواز بنته بدون موافقة أبوك.. نصر بيحترمني.. أنا أعرفه من هو صغير..


أمسك حسن يد جدته وقبلها بحب شديد:


ـ ربنا يخليكي يا روح.. يا روح حسن..


ضحكت جدته وهي تسأله:


ـ بقى روح.. هي روح حسن!!.. أومال منى تبقى ايه يا شقي؟!!..


ضحكا معاً وهو يشعر بالارتياح يغمره فقد اكتسب حليف قوي..


***********


جلس حسن مع يزيد بمدرجات التنس وبديا للجميع وكأنهما يتابعان المبارة التي تدور بين نيرة وريناد.. حيث بدت نيرة في مزاج رائق وهادئ تكاد تكون منتشية.. مما مكنها من السيطرة على المبارة بكل سهولة بعكس ريناد التي كانت في مزاج متفجر..


مما دفع حسن إلى سؤال يزيد:


ـ مالها ريناد؟.. شكلها هتفجر الملعب باللي فيه!..


ابتسم يزيد بسخرية:


ـ إيه خايف إنها تخبط الكورة في نيرة؟


هز حسن كتفيه:


ـ مش معنى أني مش بحبها بالطريقة اللي هي عايزاها.. أني أتمنى لها الأذى.. بالعكس.. أنا أتمنى لها كل خير.. بس يكون بعيد عني.. برضوه ما قلتش.. أنت لك دخل بمزاج ريناد؟..


ـ أخيراً أخدت موقف من موضوع تأجيلها للجواز.. وحددت له ميعاد بعد شهر.. وده طبعاً مش جاي على هواها.. سيبك أنت.. خلينا في الخطة الجهنمية بتاعتك دي..


ـ أنا ما كنتش عايز ألجأ لكده.. وحاولت معاها كتير.. أنا حسيت أني بقيت حد بايخ وسخيف عشان هي تبعد من نفسها.. لكن ما فيش فايدة.. وأنا تعبت.. مش قادر أتحمل أكتر.. ومنى رافضة أني حتى أشوفها.. أنا عاذرها طبعاً.. لكن خلاص بقى.. كل شيء وله حد.. وأنا جبت آخري..


شردتا عينا يزيد للحظة وهو يتابع دخول مازن إلى أحد المدرجات كان لا يراهما من موقعه.. لكن يزيد كان يراه بوضوح حيث جلس ليتابع المباراة وبدا أنه في انتظار شخص ما.. فأخذ ينظر في ساعته أكثر من مرة..


وما أن لفت انتباه حسن لوصول مازن.. حتى انتفضا لسماع صرخة نيرة القوية.. فقد قامت ريناد بارسال الكرة بقوة مبالغ فيها لم تتوقعها نيرة فارتطمت الكرة برأسها بقوة.. ولكن ما جذب انتباه حسن الشديد هو رد فعل مازن الذي انتفض فزعاً وقلقاً وبدا الهلع الشديد على ملامحه وهو يتابع نيرة التي أمسكت رأسها لعدة ثوانٍ ثم بدأت تدلكها وتنظر إلى ريناد بغيظ.. وبدأت في توجيه مختلف الاتهامات لها.. وبعد أن انتهت من تفريغ غضبها اتجهت نحو غرف تغيير الملابس وهي تشير إلى علياء التي كانت جالسة في الملعب تراقب المباراة أن تنتظرها في المطعم..


 حينها هدأ انفعال مازن وهو يراقب تحركات نيرة بنظرات رقيقة.. وملامح عاشقة, ولم يكن يدري بالطبع أن حسن يراقب كل ما حدث حيث تحجرت نظراته على وجه شقيقه وهو يقرأ عشقه المحروم والمحرم.. عشق لا يستطيع قراءته إلا عاشق..


 أخذ يشير ليزيد بكلمات متعثرة:


ـ أنت كنت عارف؟.. كنت عارف يا يزيد..


تابع يزيد نظرات حسن ليلمح وجه مازن وقد ظهرت إمارات العشق والإشتياق على ملامحه بوضوح.. فحاول تهدئة حسن:


ـ اهدى بس يا حسن.. مازن عمره ما حاول يلفت انتباه نيرة أو..


قاطعه حسن:


ـ أنت بتقول إيه يا يزيد.. أنت فاكر أني بشك في أخويا.. أخويا اللي كان بيتعذب طول الوقت وأنا مش واخد بالي.. وقاعد أشكي له همي.. وأطلب منه يساعدني.. وهو.. هو مش قادر حتى يلمح لي باللي واجع قلبه.. إزاي.. إزاي ما اتكلمش.. طيب أنا أتصرف إزاي دلوقتِ.. أواجهه؟.. أكلمه؟.. ألمح له؟.. طيب هقول له إيه؟.. اللي أنت بتحبها أنا بموت وأنا بخطط عشان أبعدها عني.. أنا.. أنا مش عارف أعمل إيه!!!..


لم يستطع يزيد الرد على كلمات حسن العاطفية.. وأخذ يربت على كتفه بمؤازرة..


بينما استطرد حسن:


ـ آااااه.. أنا تعبان قوي.. مش قادر أرفع راسي.. مش قادر أفكر.. أنا كنت الأول بحاول أحافظ على كرامة نيرة وشعورها.. باجاريها أحياناً في تصرفاتها.. لكن دلوقتِ.. إزاي.. إزاي.. إزاي وأنا عارف إنه في كل لحظة بجاريها فيها بموت أخويا بالبطئ..


ـ خلاص يا حسن.. هانت.. واللي أنت ناوي عليه هيعطي لمازن فرصة كويسة أنه يتدخل.. أنت ناوي تنفذ خطتك امتى؟..


ـ أنا كنت ناوي يوم عيد ميلادها.. بعد شهرين.. لكن دلوقتِ.. مش هنتظر لحظة زيادة.. بس هحتاج مساعدة من ريناد..


لم يسمع أي رد من يزيد الذي تعلقت عيناه بالشخص الذي كان مازن في انتظاره.. ولم تكن سوى علياء التي كان يبدو عليها الإضطراب الشديد وهي تتوجه نحو مازن الذي أمسك بيدها ليصطحبها إلى أحد المقاعد ويجلس بجوارها.. وبدا أنه يحاول تهدئتها بينما هي كانت تلوح بيديها وتحركها في انفعال شديد..


ظل تركيز يزيد موجهاً نحو جلسة مازن وعلياء.. بينما استمر حسن في شرح ما يريده من ريناد.. حتى فوجئ بشرود يزيد.. وابتعاده بأفكاره كلية..


وكزه حسن في كتفه:


ـ يزيد.. أنت سمعت حاجة من اللي قلتها؟.. يزيد.. أنت روحت فين؟..


التفت يزيد إليه وكأنه تذكر وجوده:


ـ في إيه يا حسن؟.. أنت عايز حاجة؟..


ثم عاد ليراقب الثنائي الذي أطار عقله من رأسه.. تابع حسن نظراته ليلمح علياء وهي تجلس مع مازن.... فهتف بتعجب:


ـ هي إيه حكاية علياء مع مازن؟.. أنا مش فاهم حاجة!!..


نهض يزيد فجأة وهو يتمتم:


ـ أنا هعرف حالاً في إيه بالظبط..


**********


حاول مازن تهدئة علياء التي كانت في قمة انفعالها وهي تخبره في خوف:


ـ نيرة أكيد هتزعل مني لو عرفت أني قلت لك.. بس أنا مش عارفة ألجأ لمين؟.. أو أحكي لمين؟.. أنت قلت لي أني اتصل بيك لو احتجت لأي حاجة و..


قاطعها مازن مهدئاً:


ـ اهدي بس شوية يا عليا.. تحبي نروح نشرب حاجة؟..


هتفت بفزع:


ـ لا.. أنا لازم أحكي لك قبل ما نيرة تخلص الشاور بتاعها..


ـ طيب اهدي كده وفهميني بالراحة..


أخذت علياء نفس عميق وبدأت تحكي لمازن غضب نيرة الشديد من وجود منى في حياة حسن.. وكيف أنها ترددت على مكان عملها بمحل الملابس حتى أصبحت من أهم زبائنه ثم وصلت لخطة نيرة للزج بمنى في السجن.. بتهمة السرقة.. هنا صاح مازن في غضب ممتزج بالذهول:


ـ إيه.. أنتِ بتقولي إيه يا عليا!!.. مش ممكن توصل الأمور للدرجة دي!!..


بدأت علياء تنشج بالبكاء وهي تخبره:


ـ والله يا مازن أنا حاولت أمنعها.. والحمد لله أنه ربنا هداني لفكرة وقفتها عن خطتها دي..


سأل مازن بسرعة:


ـ فكرة إيه؟..


أجابته علياء بخجل:


ـ قلت لها أنها لو نفذت خطتها وفعلاً منى اتحبست, حسن هيعرف أنها هي اللي ورا الحكاية دي.. وده هيزود الجفا بينهم أكتر.. وهيقربه من منى أكتر وأكتر..


سألها بلهفة:


ـ هيه واقتنعت؟..


أومأت برأسها:


ـ أيوه.. بعد إلحاح شديد مني.. ومحاولات كتير اقتنعت أنها كده هتزود مشاكلها مع حسن مش هتقللها.. بس.. بس..


واختنقت علياء بغصتها وهي تجهش في البكاء مرة ثانية.. مما دفع مازن لأن يربت على كتفها مهدئاً:


ـ طيب اهدي بس يا عليا وفهميني حصل إيه بعد كده.. عشان أقدر أساعدك..


ـ لا بعد ولا قبل يا مازن.. لو علياء عندها مشكلة, أنا كفيل بحلها.. شكراً على تعبك ووقتك....


كان ذلك يزيد الذي ظهر فجأة خلفهما ليجذب علياء من ذراعها.. ويجرها خلفه بينما مازن يهتف خلفه:


ـ استنى بس يا يزيد.. استنى يا مجنون..


لم يستمع يزيد إليه وهو يتحرك بسرعة جاذباً علياء خلفه بدون أن ينتظر لحظة واحدة حتى يستمع إلى تفسيرات مازن الذي تمتم بحيرة:


ـ وبعدين في المجنون ده!!.. طيب أنا دلوقتِ هعرف باقي الحكاية إزاي!!..


************


ضمت منى ركبتيها إلى صدرها وقد كومت نفسها فوق فراشها.. وانهمرت دموع القهر من عينيها..


كانت كل شهقة تخرج منها كأنها خنجر يمزق صدرها وهي تتذكر الموقف الذي وضعتها به نيرة.. وكلفها في النهاية عملها..


 لم تهتم بخسارة ذلك العمل بقدر ألمها وهي تحاول تحريك شفتيها وتستدعي بعض كلمات الإعتذار الذي أمرتها بتقديمه صاحبة البوتيك... ولكنها عجزت.. شعرت وكأن لسانها يرفض أن يخضع لأوامر عقلها ويقدم اعتذار عن اساءة وهمية لم تصدر منها..


أغمضت عيونها لتسقط الدموع على وجنتيها.. دموع حبستها طويلاً والآن بدا أنها بدأت في الانهمار ولن تتوقف.. لقد عاهدت نفسها ألا تبكي من بعد تلك الليلة التي أعلن فيها حسن خطبته على نيرة, واحتفظت بتماسكها طويلاً.. لم تتنازل ولم تخضع لحبها.. حافظت على كرامة أبيها وحرصت على مبادئها, ولكن أي من هذا لم يشفع لها.. عندما قررت نيرة أنه حان الوقت للتخلص منها..


استمرت دموعها بالهطول وهي تتذكر دخول نيرة إلى البوتيك وكأنها الملكة المتوجة للمكان وبصحبتها علياء صديقتها الحميمة.. حيث توجهت نيرة على الفور إلى صاحبة البوتيك السيدة نسرين.. ودار بينهما حوار ضاحك أظهر عمق العلاقة بينهما..


ثم بدأت نيرة تتجول بين حوامل الملابس وكأنها تنتوي الشراء بالفعل.. فأشارت السيدة نسرين إلى منى لتقوم بعملها وتبدأ بعرض الثياب على الزبونة الهامة..


تحركت منى بتثاقل نحو نيرة وألقت عليها التحية:


ـ مساء الخير يا نيرة.. بتدوري على حاجة معينة؟..


رفعت نيرة حاجبها بعجرفة:


ـ نيرة كده!!.. من غير هانم ولا حتى آنسة..


ثم رفعت صوتها لتسمعه صاحبة البوتيك وأكملت حديثها مع منى:


ـ إيه الأشكال دي.. مش عارفة تتعاملي مع الناس.. يبقى شوفي شغل تاني.. تنضفي الأرض أو تمسحي الغبار..


انسحب اللون من وجه منى وهي تلمح نظرة متشفية ومتوعدة في نفس الوقت في عينيّ نيرة.. بينما ارتسم الحرج على وجه علياء وهي تمنح منى نظرة معتذرة ومشبعة بالذنب..


فغمغمت منى بحرج:


ـ حضرتك بتدوري على حاجة معينة يا نيرة هانم؟..


وضغطت على حروف هانم بشدة.. فعادت الابتسامة المتشفية للظهور على وجه نيرة وهي تطلب منها:


ـ أيوه.. عايزة فستان سواريه لمناسبة خاصة.. خاصة جداً.. أنا عايزة أعمل مفاجأة لخطيبي.. بس يا ريت يكون الفستان لونه أبيض.. هو بيحب اللون ده عليّ قوي.. وآه.. يكون مقفول لأنه بيغير عليّ مووووت..


أغمضت منى عينيها لتخفي ألمها عن عينيّ نيرة..  وابتلعت تلميح تلك الأخيرة عن عمق علاقتها بحسن.. فهي تعد له سهرة خاصة تحرص فيها على ارتداء ما يحب.. هل معنى ذلك أنها بدأت تنجح في غزو قلب حسن؟.. غيرة عاصفة شعرت بها منى.. شعور لا إرادي لم تستطع التحكم به.. وهي تفكر أن حسن يهتم بنيرة بأي طريقة.. غضبت من نفسها لذلك الشعور.. ولكنها ليست ملاك حتى تسمو على تلك المشاعر.. وتتغاضى عنها.. حبها لحسن وغيرتها عليه.. رغم أنها لا تظهرها.. لكنها تحدث رغماً عن إرادتها...


ومجبرة بدأت تعرض على نيرة مجموعة من الثياب توافق طلباتها.. ومع كل ثوب كان تذمر نيرة يزداد.. كما كان يرتفع صوتها بالشكوى من العاملة المهملة والغبية.. وكانت تقصد منى بالطبع..


 تذرعت منى بالصبر.. وتسلحت بالهدوء ورفضت أن تنقاد الى محاولات نيرة المستميتة لاستفزازها..


وأخيراً قررت نيرة انهاء اللعبة.. فأسقطت علاقة مفاتيحها ثم نظرت لمنى بكل عجرفة الدنيا لتطلب منها إحضارها من الأرض..


التمعت نظرات منى بالقهر وهي تلمح نظرات التشفي في عيون نيرة والشفقة والذنب بعيون علياء.. لم تعلم لم ذبحتها شفقة علياء أكثر من شماتة نيرة.. ولم تحتمل أن تكون في ذلك الموقف.. شعرت بجسدها وقد تخدر بفعل الألم.. ورفضت عضلاتها الاستجابة لأوامر عقلها باتخاذ أي حركة.. دموعها كانت تخزها من تحت رموشها.. وهي تحاول منعها من الانهمار.. ملامح وجهها تجمدت حاملة قناع من عدم التصديق المؤلم..


صوت نيرة العالي هو ما أخرجها من جمودها وهي تنادي السيدة نسرين.. لتحكي حكاية وهمية عن تطاول منى عليها, بل وادعت أن منى طلبت منها بعض الأموال حتى تعرض لها المزيد من الثياب.. وأنهت تمثيليتها بنبرة غضب برعت في ادعائه وطالبت باعتذار ورد اعتبار لمكانتها التي أهدرتها عاملة بسيطة بالبوتيك..


بالطبع سارعت السيدة نسرين تحث منى على تقديم اعتذار محترم للزبونة الهامة.. وهو ما رفضت منى القيام به..


فدوى صوت نيرة الغاضب:


ـ مدام نسرين.. بنت زي دي بتعطي دعاية سيئة عن البوتيك.. دي لازم تمشي..


وإرضاءً لنيرة قامت نسرين بطرد منى من العمل بدون تردد مؤكدة أن العاملات من أمثالها يسهل العثور عليهن ولكن زبونة هامة مثل نيرة غيث لا يمكن إغضابها.. 


التقطت منى حقيبة يدها وتحركت لتخرج من البوتيك وهي تحاول أن تحتفظ برأسها مرفوع قدر ما يمكنها ولكن صوت نيرة عاد يدوي:


ـ دي قرصة ودن بسيطة.. عشان ما تبصيش تاني لفوق يا شاطرة.. فاهمة..


لم تحتمل منى نظرات الانتصار في عينيّ نيرة فتوجهت مسرعة للخارج وهي تكاد لا ترى الطريق أمامها وأخذت تركض حتى وصلت إلى بيتها فتكومت على فراشها تبكي كرامتها وقهرها وحبها..

💜💜💜💜💜💜💜💜💜💜

8


الفصل الثامن


انطلق يزيد بسيارته في سرعة غاضبة.. بينما علياء ترتجف على المقعد بجواره ولم تكف عيناها لحظة عن البكاء.. ولكنها كانت تكتم شهقاتها بداخلها خوفاً من الغضب العاصف الذي ارتسم على ملامحه..


وضعت قبضتها بين أسنانها كعادتها عندما تتوتر.. وحتى تمنع نفسها عن تبادل أي حوار معه.. ولكنها وجدت نفسها مجبرة على محادثته عندما وجدته يتخذ الطريق نحو الفيلا:


ـ يزيد.. بلاش نروح الفيلا.. أرجوك.. أنا مش هقدر أواجه تانت سهام دلوقتِ..


التفت لها بغضب:


ـ ليه بقى مش هتقدري تواجهيها؟.. أنتِ عملت ايه؟.. وإيه المشكلة اللي كان مازن بيحلها لكِ؟..


سكتت تماماً وازداد تدفق الدموع بعينيها.. مما أثار المزيد من غضبه لكنه غير اتجاه السيارة في صمت وهو يخبرها بحسم:


ـ مش هنروح المزرعة.. أنا عايز أفهم الأول في إيه.. هنروح مكتبي في الشركة.. مفهوم؟..


رغم أن ذكره للشركة جلب لذهنها وجودها بين ذراعيه صباحاً في مكتب والده, إلا أنها أومأت موافقة, فهي لا تريد أن تتلاقى مع سهام بأي طريقة خاصة وهي في تلك الحالة المشتتة..


وصلا إلى مبنى المجموعة ولاحظت وجود عدد بسيط من الموظفين ولم تتعجب فقد تأخر الوقت بالفعل..


اصطحبها يزيد إلى مكتبه مباشرة وأدخلها مغلقاً الباب خلفهما ووقف مستنداً عليه مكتفاً ذراعيه على صدره ليسألها بغضب لم يخف بعد:


ـ فهميني بقى في إيه؟..


بدأت الدموع تترقرق في عينيها وتعالت شهقاتها فصرخ بها:


ـ من غير بُكى.. مش عايز دموع فهميني... في إيه بالضبط؟؟..


تلعثمت الكلمات على شفتيها:


ـ كان في مشكلة وكنت محتاجة رأي مازن فيها.. هو قالي..


صرخ بها وهو يتحرك ليجذبها من ذراعها:


ـ مازن قال لك!!.. قال لك إيه إن شاء الله؟.. واشمعني هو اللي عايزاه يحل لك مشاكلك؟.. إيه عايزة تاخدي رأيه في الخطاب اللي بيترموا تحت رجليكِ!!..


هزت رأسها برفض لكلماته القاسية:


ـ ومازن إيه علاقته بالحكاية دي!.. الموضوع يخص نيرة وحسن..


ابتعد عنها قليلاً ولكنه ظل متمسكاً بذراعها وهو يردد:


ـ نيرة وحسن!!.. إزاي يعني؟..


اندفعت كلماتها سريعاً وهي تقص عليه كل ما حدث من نيرة وكيف خططت ودبرت حتى تسبب الأذى والإحراج لمنى.. وحين أنهت قصتها صرخ بها بغضب وهو يهزها بقوة:


ـ أنتِ إيه؟... واللي اسمها نيرة دي فاهمة نفسها إيه!!.. تتحكم في مصاير الناس وأكل عيشهم.. إيه كمية الشر دي!!..


انهمرت الدموع من عينيّ علياء وهي تخبره:


ـ والله أنا ما كنت موافقة يا يزيد.. أنا بالعافية لما قدرت أمنعها أنها تتهمها بالسرقة زور.. بس أنا ما أقدرش أعمل حاجة.. هي برضوه بتدافع عن حقها في خطيبها وحبيبها و..


دفعها بعيداً وهو يخبرها باشمئزاز:


ـ حقها إيه وزفت إيه!.. ده كلام بتقنعي به نفسك عشان تبرري اشتراكك في التمثيلية الحقيرة دي.. بذمتك أنتِ تقدري تبصي لنفسك في المرايا من غير ما تحسي بالقرف والاشمئزاز أنك شاركتِ في تدمير بنت بريئة..


أجهشت علياء ببكاء مرير وانهارت على الأريكة التي خلفها وهي تخبره:


ـ غصب عني.. والله غصب عني.. نيرة عدت أخدتني من هنا الصبح من غير تعرفني هي ناوية على إيه.. وأما قالت لي حاولت أمنعها.. والله حاولت.. بس هي شايفة أنه لها حق.. وطول الوقت كنت بفكر إزاي أعوض منى عن اللي حصل.. أنا ما قصدتش اآذيها.. والله ما أقصد..


تحرك ليقف بجوارها وهو يسألها بسخرية:


ـ وأنتِ كنتِ ناوية تعوضيها ازاي بقى؟.. هتبعتي لها قرشين تخدري بيهم ضميرك اللي صحي فجأة..


هزت رأسها ورفعت له عينين مغرورقتين بالدموع:


ـ لا.. طبعاً.. أنت ليه فاكر أني تافهة وسطحية قوي كده؟!.. أنا فكرت أنها تشتغل في الصالون بتاع ماما الله يرحمها.. أنا حتى كلمت تانت آمال اللي اشترت الصالون وهي وافقت أن منى تيجي تشتغل معاها وتمسك لها الحسابات.. يعني كنت بدور على حل..


تحرك ليجلس بجوارها وهو يأمرها بحزم:


ـ خلاص.. كفاية بُكى.. أنا هكلم حسن.. و...


قاطعته صارخة:


ـ لا.. ما تحكيش لحسن حاجة.. الله يخليك.. كده نيرة هتعرف و..


صرخ بها:


ـ وأنتِ خايفة منها ليه؟..


هزت رأسها بينما ازداد انهمار دموعها:


ـ ما هي تبقى صاحبتي زي ما حسن صاحبك.. ولا لازم أفقد كل حد بيهتم بيا....


هز رأسه رافضاً:


ـ حسن لازم يعرف..


أجابته بحزن:


ـ أنا كنت متأكدة أن ده هيكون رد فعلك.. عشان كده طلبت مساعدة مازن.. هو كان هيستوعب الموقف أكتر..


صاح بغضب:


ـ أفندم!!.. ورد فعل مازن هيكون مختلف ليه؟.. إيه اللي هيخليه يقدر موقفك ويفهمك أكتر..


رفعت عينيها له ببراءة:


ـ لا.. أقصد موقف نيرة.. هو بيحبها.. وعمره ما هيسمح أنها تتعرض للأذى..


سألها بغموض:


ـ وهو بقى اللي قال لك أنه بيحب نيرة؟..


هزت رأسها نفياً وهي تخبره بخجل:


ـ لا.. أنا أخدت بالي لوحدي.. من نظراته ومعاملته لها..


هتف بها بغضب:


ـ أنتِ إزاي تقولي كلام زي ده!!.. أنتِ لسه صغيرة وما تفهميش في الكلام ده.. بس أقول إيه على واحدة واخدة نيرة غيث مثل أعلى لها..


انهمرت دموعها بغزارة وهي تسأله بحزن:


ـ هو ما فيش أي حاجة بعملها بتعجبك أبداً!!


زفر بغضب.. غضب نابع من تورطها في موقف أساء لها.. وسبب الأذى لإنسانة أخرى بريئة.. ولكن ما أُلحق بمنى من أذي فحسن قادر على إصلاحه.. ولكن تورط علياء المستمر مع نيرة هو ما يغضبه بشدة..


لقد أصبح من الواضح الآن أن علاقة الصداقة بين علياء ونيرة تسبب الدمار لعلياء حتى لو كانت تظن أن نيرة تهتم لأمرها.. لكن تلك الصداقة يجب أن تنتهي.. بأي طريقة..


 أدرك أن علياء ستقاوم أي محاولة لإبعادها عن صديقتها.. لذا فكر أن يحاول تدريجياً معها حتى تقتنع بالابتعاد التام عن نيرة..


التفت إلى علياء التي أخفضت رأسها أرضاً بينما لم تتوقف دموعها عن الانهمار.. ورفع ذقنها بأنامله فبرقت زرقة عينيها من خلف ساتر من الدموع:


ـ بصي يا علياء.. اللي حصل النهارده ده.. ممكن أوصفه بجريمة.. وأنتِ اتورطتِ فيها.. وبإرادتك.. ما تقاطعنيش.. كان ممكن تنهي المهزلة دي لو اتكلمتِ وقلتِ لصاحبة المحل.. أن منى مظلومة.. لكن أنتِ سكتِ واشتريتِ خاطر صاحبتك.. يعني أنتِ طرف في اللي حصل.. وده كله نتيجة أنك عايزة تحمي نيرة.. وكانت النتيجة أنك أتورطت معاها.. ويا عالم المرة الجاية هتوقعك في إيه.. أنا مش هطلب منك غير أن الصداقة دي لازم يكون لها حدود.. لازم تفكري بعقلك أنتِ وبعدين تنفذي اللي يرضي ضميرك.. كلام نيرة مش قانون ولا ملزم.. مفهوم؟..


شهقت علياء لتتغلب على دموعها وهي تومئ برأسها موافقة على كلامه وهل تستطيع معارضته..؟ خاصة وهو يكلمها بذلك الهدوء وتلك النبرة اللينة!!..


ابتسم لها راضياً عن موافقتها مما جعل قلبها ينتفض فرحاً.. ولكنه لم ينتبه لانفعالاتها وأكمل ليصل إلى ما يؤرقه بالفعل:


ـ وبعدين مشكلة زي دي ليه تلجأي لمازن؟.. هو مين الأقرب لك والأقدر أنه يحل مشاكلك؟..


أجابت بخجل:


ـ أنا ما كنتش عايزاك تزعل مني..


مد أنامله ليمسح دموعها التي غطت وجنتيها وهو يخبرها بهمس:


ـ وأنا مش زعلان منك.. بس آخر مرة تطلبي مساعدة راجل غريب.. مفهوم؟..


أرادت تخبره أن مازن ليس بالغريب ولكن أنامله التي كانت تتجول على وجنتها بحميمية أوقفت ذهنها عن العمل كالعادة فوجدت نفسها تهمس:


ـ أنا رفضت أشوف العرسان اللي عمو عصام كان بيقول عليهم..


لم يدرِ لم ذلك الشعور بالارتياح الذي سرى بداخله, فرغم يقينه من رفضها إلا أنه كان يريد التأكد.. أن يسمع الرفض بأذنيه.. لقد كان يصارع نفسه منذ أن أدخلها سيارته حتى لا يسألها عن خاطبيها وماذا أخبرت والده بشأنهم.. وها هي تمنحه الإجابة بدون حتى أن يسأل..


 كيف تعلم ما بداخله بتلك الطريقة؟.. كيف شعرت بحاجته للاطمئنان أنها لن تكون ملكاً لرجل آخر؟..


لقد كان يتمزق طوال اليوم وهو يحاول منع نفسه من محادثة والده والسؤال عن الموضوع.. حتى أنه هنأ نفسه أنه لم يبادر لسؤاالها عندما أحضرها إلى مكتبه..


 يبدو أن ما عاناه من فوران رغبته بها قد هدأ بعد أن حدد موعداً لزواجه.. فهي معه منذ ما يزيد عن الساعة ولم يحاول لمسها.. رغم أنها قريبة منه.. قريبة للغاية.. ولكنها لم تعد تثيره أو تحرك شيئاً بداخله, حتى لو أحاط كتفيها بذراعه هكذا.. وقربها منه أكثر هكذا.. وأجال أنامله في شعرها هكذا... ورفع وجهها ليقابل وجهه هكذا.. حتى وهو يميل عليها ليتمكن من شفتيها.. هكذا.. فهو لن يشعر سوى.. سوى.. بشعور لا يمكن وصفه إلا بالكمال وهو يستمر في تقبليها واحتضانها وشفتيه تتحرك ببطء تاركة شفتيها ليلتقط دموعها ويهمس لها:


ـ خلاص يا علياء كفاية بُكى..


غابت نظراتها في نظراته وهي تراه يميل برأسه ثانية ليقبلها.. ويضمها بقوة لصدره حتى أنه انتزعها من جلستها على الأريكة لتستقر على ركبتيه وهو يحكم من احتضانها بينما هي ترفع ذراعيها للتطوق بهما عنقه وتدعم نفسها حتى لا تسقط أرضاً..


استمر في تقبيل شفتيها.. وجنتيها.. جفنيها المغلقين.. ذقنها وعنقها.. وهي ذائبة تماماً بين ذراعيه.. كل ما فيها خاضع ليديه وشفتيه اللتين عادتا لتذوق دمعته الماسية مراراً وكأنها تكتسب في كل مرة مذاقاً جديداً ومختلفاً..


رنين هاتفه النقال هو ما أنقذهما تلك المرة.. فانتفض كلاهما عند سماع الرنين.. وحاولت علياء النهوض من فوق ركبتيه.. ولكن قدميها لم تدعماها, فساعدها لتجلس على الأريكة, بينما أسرع هو مبتعداً نحو الحمام الملحق بالغرفة ليضع رأسه تحت الماء البارد وهو يردد بداخله.. أنه يجب أن يبتعد عن علياء للأبد.. لقد كان على وشك تدميرها.. لو تأخر رنين الهاتف لثوانِ لكان وصل إلى مرحلة اللاعودة.. لن ينفرد بها أبداً بعد الآن.. سيذهب بها إلى المزرعة ويبقيها هناك حتى يقضي على افتتانه بها تماماً.. البُعد كفيل بالقضاء على ذلك الإنجذاب.. لا يجب عليه رؤيتها أو محادثتها على الأقل حتى يتمم زواجه بريناد..


عاد إلى الغرفة بعد أن جفف شعره ولكنه كان مازال يلهث متأثراً بوجودها بين ذراعيه.. ولم يساعده اطلاقاً رؤيتها منكمشة على الأريكة وهي تحتضن جسدها الذي كان ينتفض بشدة..


حاول إجلاء صوته ليقول أي شيء لها لكنه لم يستطع مواجهة عينيها الحائرتين وقد لمعت زرقتهما بشدة.. حاول ألا ينظر إلى عنقها وما ظهر عليه من آثار لما كان يفعله بها لكنه لم يستطع الابتعاد بنظره عن شفتيها الشهيتين والمنتفختين بسببه.. فوجد قدميه تتحركان نحوها بلا إرادة منه.. يريدها..


 لا يستطيع الإنكار أكثر.. يحتاج أن يضمها إلى صدرة مرة أخرى..


 فليحظى بقبلة أخيرة قبل أن ينفيها إلى المزرعة.. قبلة واحدة فقط وسيبتعد عنها..


تعالى رنين هاتفه مرة أخرى لينقذها منه قبل يضع أفكاره حيز التنفيذ.. فتناوله ليجد أن المتصل كان مازن.. فرد بهدوء ليخبره أنه قام بايصال علياء إلى المزرعة وسيعود للقائه هو وحسن بعد ساعتين في مطعم النادي..


أغلق الخط والتفت نحو الباب وهو يخبرها بدون أن يلتفت إليها:


ـ يلا يا علياء هوصلك المزرعة..


**************


جلس عم نصر على أحد المقاهي الشعبية مع مجموعة من أصدقائه وأهل منطقته.. عندما وجد من يربت على كتفه:


ـ مساء الخير يا عم نصر..


رفع نصر عينيه بتوقع ليواجه عيني حسن وبرفقته مازن.. فابتسم لهما محيياً:


ـ اتفضلوا يا بهوات.. نورتونا والله..


ربت حسن على كتفه:


ـ المكان منور بأهله يا عم نصر.. بس أنا كنت عايز أعزم نفسي على كوباية شاي عندك في البيت..


نهض نصر من فوق كرسيه وهو يشير إلى حسن ومازن ليتقدماه ويقول لهما بترحيب:


ـ يا ألف أهلاً وسهلاً.. ده احنا يزيدنا شرف..


تحركوا معاً حتى وصلوا إلى منزل نصر... وهنا طلب منه حسن أن يسبقهما حتى لا يدخلا على أهل البيت بدون استئذان.. فشكره نصر ممتناً له ومقدراً تصرفه..


جلس الرجال الثلاث في غرفة الضيوف والتي رغم بساطتها وقدم أثاثها إلا أنها كانت غاية في الدفء والحميمية.. يشعر أنها تشبه منى في بساطتها وأصالتها بنفس الوقت..


منى التي عانت بسببه أقسى معاناة.. وتسببت لها نيرة بإهانة جسيمة تكاد تبلغ مقام الجريمة في نظره.. لا يدري كيف تمالك أعصابه حين قص عليه يزيد ما قامت به نيرة  نحو منى.. لولا أن يزيد استطاع تكبيله حرفياً لتوجه من فوره إلى نيرة ليرد لها الإهانة مضاعفة مغامراً بخسارة كل شيء.. ولم تهدئ ثائرته إلا بحضور مازن الذي اقترح عليه أن يذهب لوالد منى ويطلبها رسمياً, بدلاً من الذهاب إلى نيرة وتحطيم الخطة التي أوشكت على بلوغ هدفها..


وهذا ما فعله ويفعله على مدى خمسة أيام كاملة.. يذهب لوالد منى في كل مكان يعلم بتواجده به... ويطلب يد منى للزواج.. ويقابله عم نصر برفض محرج.. فهو يعلم علم اليقين.. رفض حاتم العدوي لهذا الزواج.. وهو لن يزوج ابنته لعائلة لا تريدها فرداً منها..


واستمر حسن في الطلب ودأب نصر على الرفض..


حتى اصطحب حسن مازن معه وقرر الذهاب إلى منزل منى.. وبداخله أملٌ خفي أن تقف بصفه.. وتنفذ وعدها بأن تسانده بكل قوتها وحبها.. يخشى فقط أن يكون لتصرف نيرة الأحمق تأثير عكسي على منى.. وترفض الزواج منه إلى الأبد..


خرج حسن من تأملاته على دخول أمل الشقيقة الصغرى لمنى وهي تحمل صينية معدنية رُص فوقها ثلاثة أكواب من الشاي وطبق به عدة قطع من الكيك الشهي..


ابتسم لها مازن بطيبة:


ـ تسلم ايديكي يا أمل..


وضعت الصغيرة الصينية وركضت مسرعة في خجل.. بينما التفت حسن إلى نصر:


ـ أنا جاي النهارده يا عمي.. ومش هتحرك قبل ما أقنع حضرتك بالموافقة..


ابتسم نصر بمودة:


ـ يا بني.. أنا متأكد أنك شاري بنتي.. وشاري خاطرها.. وإذا كان على اللي حصل لها من الآنسة نيرة..


قاطعه حسن:


ـ يا عمي.. أنا ما يهمنيش غير منى.. نيرة كل علاقة لي بها هتنتهي بكره.. وده رسمي وقدام الناس.. لكن أنا بيني وبين ربنا عمري ما فكرت في نيرة أنها شريكة حياتي..


رد نصر باحراج:


ـ يا حسن دي حاجة تخصك أنت والآنسة نيرة..


ـ يا عمي.. أرجوك اسمعني.. أنا كل اللي أتمناه من دنيتي.. أن منى تكون مراتي.. أنا عارف وجه اعتراض حضرتك.. وهو عدم موافقة والدي.. بس ده شيء خارج عن إرادتي.. اعتراض بابا بس عشان التجارة والشراكة.. لكن ده كله مش هيتأثر إن شاء الله.. وأنا كفيل بموافقته بعد كده.. بس أرجوك اعطني كلمة بالموافقة..


أطرق نصر في حيرة.. حيرة أب بين الموافقة على شاب يجمع كل ما يطلبه الرجل في زوج ابنته.. وبين ما قد تلاقيه تلك الابنة الرقيقة من تعنت من والد الزوج القاسي..


أكمل حسن وقد استشعر أن نصر بدأ يلين قليلاً:


ـ أنا مش عايزك تقلق على منى.. منى كرامتها هي كرامتي.. ما حدش هيقدر يدوس لها على طرف وهي مراتي.. أنا كان ممكن انتظر لحد ما أنهي ارتباطي بنيرة نهائي.. لكن اللي حصل منها ناحية منى هو اللي خلاني آجي لحضرتك مرة واتنين..


قاطعه نصر بابتسامة:


ـ اتنين بس قول وعشرة وعشرين..


أكمل حسن:


ـ ومستعد آجي ألف.. ألفين .. حتى مليون مرة بس منى تكون ليا..


كانت منى تستمع إلى الحوار الدائر بين حسن وأبيها _اللذان يتكلمان بصوت مسموع_ وهي جالسة في غرفة المعيشة.. تتأمل عدد مرات الاتصال والرسائل التي حاول حسن عن طريقها الوصول إليها منذ ذلك اليوم المشئوم الذي أهانتها به نيرة..


وصلها صوت حسن الدافيء وهو يتوسل والدها الموافقة.. وشعرت بميل والدها لذلك ولكن الأصول والعادات كانت تقف كعائق أمامه.. فكرت سريعاً فيما يحاوله حسن من أجلها.. من أجل أن يكونا معاً..


أنه يعشقها منذ سنوات.. صرح لها بحبه ونيته في جعلها زوجة له منذ أن فكت ضفائرها ووخطت أعتاب الأنوثة.. كان واضحاً وصريحاً.. لم يتلاعب بها أو يخدعها.. حتى خطبته لنيرة وضح لها أسبابها.. ولم يوفر جهداً للتخلص منها..


وجدت نفسها تتساءل.. ماذا فعلت هي من أجله؟.. أنها تحبه.. لا شك.. ولكن ماذا فعلت ليتوج هذا الحب ويقدس بالزواج؟..


تحركت تلقائياً نحو غرفة الضيوف وسمعت والدها يخبر حسن بتردد:


ـ بص يا بني.. ما فيش أب في الدنيا ما يتمناش شاب زيك يكون زوج لبنته.. بس عدم موافقة أبوك..


قاطعه مازن تلك المرة:


ـ يا عمي.. والدي في النهاية أب.. وأكيد لما يشوف سعادة حسن ومنى هيوافق.. هو بس عنيد حبتين.. لكن أنا أهوه كأخ لحسن يشرفني أن تكون منى مرات أخويا وأخت ليا.. حتى جدتي.. لو كانت تقدر تيجي كانت جت معانا.. ثواني هتصل بيها على التليفون..


اتصل مازن على جدته السيدة روح _والدة أبيه_.. والتي لها في قلوب ونفوس الجميع مقام كبير.. ويعرفها نصر منذ أن كان طفلاً وكان والده هو السائق الخاص بها..


ردت السيدة روح على الفور وكأنها كانت بانتظار الاتصال.. فأعطى مازن الهاتف لنصر.. وعلى الفور انطلقت السيدة روح في الكلام:


ـ ازيك يا نصر وإيه أخبار ولادك؟..


أجاب نصر باحترام:


ـ إحنا بخير.. حسك في الدنيا يا روح هانم.


ضحكت السيدة بتساهل:


ـ إيه هانم دي!.. هو احنا لسه هعرفك ولا ايه يا نصر!!..


تنحنح نصر بحرج:


ـ بس.. أصل..


قاطعته بحزم مصطنع:


ـ لا بس ولا أصل.. أنا اللي بطلب منك.. بنتك لحفيدي.. وأنت عارف لو كنت أقدر.. كنت جيت بنفسي.. أنا مش هلاقي لحسن زوجة زي منى.. أنا عارفاك وعارفها كويس.. واللي حصل من حاتم ده أنا ما عرفتش به إلا لما رجعت من الحج.. لكن ملحوقة.. والغلط مردود.. وحسن عارف ازاي هيصلح غلطه.. نرجع بقى.. للموضوع الأساسي.. امتى الفرح؟..


ضحك نصر بحرج:


ـ فرح مرة واحدة!!.. طب مش لما أعرف رأي البنت..


في تلك اللحظة دخلت منى إلى غرفة الضيوف وهي تنظر إلى الجميع وأخيراً سقطت عيناها على والدها لتخفض نظراتها أرضاً وتقول بصوت خافت ولكن واثق:


ـ أنا موافقة يا بابا.. بعد موافقة حضرتك طبعاً..


شعر حسن بعد كلمات منى الخجولة بحمل كبير ينزاح من على كتفيه.. فيكفيه أن يشعر بدعمها ومؤازرتها له.. ابتسم لها في سعادة بينما توردت وجنتاها بقوة ولم تعرف كيف واتتها الجرأة لتقوم بذلك.. فركضت هاربة إلى غرفتها.. يراقبها والدها بغرابة.. لا يدري تصرفها نابع من رغبة في الانتقام أم رغبة للمواجهة مع الجميع..


سمع صوت روح على الهاتف:


ـ خلاص يا نصر.. البنت وافقت.. أنا سمعت موافقتها.. خلي أم منى تسمعنا زغروطة..


أجاب نصر بحرج ولكن بحسم أيضاً:


ـ حسن قالي أنه هينهي ارتباطه مع الآنسة نيرة بكره.. يبقى نأجل الزغاريط لبكره إن شاء الله..


أجابته السيدة روح بتقدير:


ـ وده حقك يا بني.. مبروك علينا منى...


أغلق نصر الخط والتفت لحسن قائلاً:


ـ أنا مش هقدر أقول حاجة بعد كلام الست روح.. وبنتي أمانة في رقبتك يا حسن..


أجابه حسن:


ـ اطمن يا عمي.. منى في عينيا...


***********


تحرك حسن بخطوات واثقة نحو يزيد الذي وقف في أحد الأركان يتابع تحركات ريناد النشيطة وهي تضع آخر لماساتها ليخرج الحفل _الذي أراده حسن وطلب من ريناد مساعدته_ في أروع صورة..


وكان حسن محقاً في اختيار ريناد لمساعدته.. فهي اختارت أرقي قاعة في أغلى فنادق المدينة.. وبدأت في إعادة ديكورها حسب ما رأته مناسب.. حيث أخبرها حسن أنه يقيم حفلاً مفاجئاً لنيرة بمناسبة مرور شهرين على ارتباطهما..


ورغم أنها لا تطيق نيرة نهائياً, لكنها لم تستطع مقاومة فكرة أن تكون مسئولة عن الحفل وأن تخرجه في النهاية بصورة أفضل من حفل الخطبة الأصلي الذي تولت نيرة تنظيمه..


طلبت من حسن إطلاق يدها لتفعل ما تشاء وهو لم يعترض لكنه وضع لها أسبوعاً واحداً لتنتهي من تجهيز الحفل.. فانطلقت تصل الليل بالنهار لتنتهي قبل الموعد المحدد.. غيرت الستائر وبدلتها بأخرى من الحرير النبيذي اللون.. والذي استخدمته أيضاً كمفارش للموائد.. بدلت السجاد.. وألوان الأبواب والنوافذ.. لم تهتم بسخرية يزيد وهو يخبرها..


"أنتِ عارفة أنه القاعة ملك للفندق.. يعني مش أوضة الصالون في بيتنا ولا حاجة"..


اختارت نظام الإضاءة والصوت.. تعاقدت مع أشهر دي.جي.


ولم يمانع حسن.. فقط أخبرها بطلب واحد:


ـ عايز كل أصحاب ومعارف نيرة يكونوا موجودين.. حتى أصحاب أصحابها.. أي حد يعرفها يكون موجود.. آه.. كمان الأغنية اللي هندخل عليها تكون أغنية..".................."..


رغم ذهول ريناد إلا أنها نفذت ما اتفقا عليه وأبدعت ريناد في اخراج حفل من الأحلام.. وهو ما عبر عنه حسن ليزيد:


ـ والله برافو عليها ريناد.. الحفلة رائعة..


هز يزيد رأسه باستخفاف وأجاب بكلمة واحدة:


ـ بيرفكت..


رمقه حسن بتعجب فحاول يزيد تغيير الموضوع:


ـ ما تاخدش في بالك... المهم أنت مظبط أمورك تمام.. اتفقت مع والد منى؟..


زفر حسن بقوة:


ـ ياااه يا يزيد.. أسبوع أهوه وأنا رايح جاي عليه.. بروح له في اليوم يمكن أكتر من خمس مرات.. فهمته كل الوضع.. حتى كشفت له عن مشاعري أنا ومنى.. وهو في قمة العناد.. ورافض تماماً ارتباطي بمنى.. امبارح أخدت معايا مازن.. وكمان خليت جدتي تتدخل.. رغم أني كنت عايزها تبقى بره الموضوع.. بس كان لازم آخد موافقة عم نصر قبل الليلة.. مش هينفع أتأخر.. أي فرق في ترتيب التوقيت هيعمل مشاكل..


ربت يزيد على كتفه:


ـ ربنا معاك وييسر لك الأمور..


التفت حسن حوله يتفحص الموجودين ثم سأل يزيد بتعجب:


ـ هي عليا ما جاتش ليه؟.. ولا هي هتيجي مع نيرة..


تصلب جسد يزيد عند سماعه اسمها.. وذكرى قبلاتهما وذوبانها بين يديه يجعل الدماء تجري في شرايينه كالحمم البركانية.. لم يرد أن يتذكر ما قام به في سيارته نحوها قبل أن يتركها في المرة الأخيرة.. فهو يحتقر نفسه كلما مرت الذكرى بعقله ويزداد احتقاره لرغبته في تكرار الأمر مراراً ومراراً..


عاد حسن للسؤال وقد وضح غياب ذهن يزيد:


ـ يزيد.. هي عليا..


قاطعه يزيد:


ـ مش هتيجي... مش ممكن تكون بتظن أن ريناد هتعزمها!!.. وغير كده.. نيرة مش عارفة أنك عامل حفلة.. أنت قلت لها.. مفاجأة وبس..


نظر حسن إلى ساعته وهو يتأفف:


ـ أيوه وأهي اتأخرت كالعادة.. أنا عايز انتهي من الموضوع..


ما أن أنتهى من جملته حتى رن هاتفه المحمول.. ليجد رسالة من نيرة تعلمه أنها في بهو الفندق وأنها في انتظاره كما طلب منها..


توجه مباشرة إليها وكل أعصابه متحفزة.. والأدرينالين يضخ في عروقه حتى ينتهي من هذا الفصل بحياته.. وصل إليها ليجدها ترتدي ثوب من تلك الأشياء القصيرة التي تستهويها.. كان من الدانتيل الأسود ومبطن باللون الذهبي_حمد الله بداخله لوجود البطانة_ ولكنه بالطبع كان عاري الصدر والظهر.. لم يكن له أكمام أيضاً فأظهر بشرة ذراعيها الوردية.. والتصق الثوب بجسدها كأنه جلدٍ ثانٍ لها فأشعل لونه الأسود خصلاتها الحمراء.. وبدت كشعلة نارية متأججة.. وقادرة على اشعال الحرائق بقلوب الجميع..


اقترب منها ليرفع يدها مقبلاً إياها:


ـ مساء الخير يا نيرة..


ابتسمت له بفتنة وهي تكاد تطير من السعادة لتغيره الملحوظ نحوها:


ـ مساء النور يا حبيبي.. هنسهر فين الليلة؟..


قدم لها ذراعه لتتعلق به وأشار بيده فتحركا معاً نحو قاعة الاحتفال.. وعندما وصلا إلى مدخل القاعة صدح صوت الــ دي. جي. بأغنية عمرو دياب.."وهي عاملة ايه دلوقت"..


تجمدت نيرة قليلاً عند سماع الأغنية.. ورمقت حسن بتساؤل إلا أنه حثها على الحركة.. فتحركت قليلاً لتبهر بالقاعة واقد انهت ريناد وضع آخر لمسات الإضاءة.. فظهر اسم نيرة يتلألأ لثوانِ وينطفيء ثم يعود ليتلألأ ثانية.. وهكذا.. وقد شكلت مجموعات من الورود اسم نيرة وتناثرت على جميع الموائد.. التي اضيئت فقط بشموع عطرية انتشرت رائحتها في أرجاء القاعة..


صاحت نيرة بفرح:


ـ حسن.. مش ممكن القاعة تحفة.. إيه الجمال ده!!..


أشار حسن إلى ريناد التي تحركت باتجاههما:


ـ الجمال ده تشكري عليه ريناد.. هي المسئولة عن الحفلة من أيه تو زد..


وصلت ريناد وهي تحيي نيرة ببشاشة مصطنعة:


ـ مبروك الحفلة يا نيرة..


أجابتها نيرة من تحت أسنانها:


ـ ميرسي أوي يا ريناد.. أردها لك إن شاء الله في يوم فرحك..


جاء يزيد وقام بتحية نيرة بهدوء.. واصطحب ريناد ليبتعد بها قبل أن تشتبك مع نيرة بأحد شجاراتهما المألوفة.. بينما اصطحب حسن نيرة إلى أحد الموائد التي تتوسط القاعة.. وسحب لها المقعد حتى استقرت فيه ثم لف حول المائدة التي وضع عليها علبة مخملية صغيرة لفت بصورة هدية.. ولفتت انتباه نيرة على الفور..


ما أن جلس حتى سألته نيرة بانفعال:


ـ هو ما فيش غير ريناد اللي لقيتها تنظم الحفلة؟..


أجابها بهدوء مستفز:


ـ العفو يا حبيبتي!..


أجابت بحرج:


ـ آسفة.. بس أنت عارف أنا وريناد مش بنتفق.. شوفت الأغنية اللي شغلتها لما دخلنا!..


أجاب بنفس الهدوء:


ـ بس ده كان طلبي أنا!!..


سألته بذهول:


ـ إيه!!.. ليه؟.. تقصد بها إيه؟..


اقترب برأسه منها وهو يهمس لها:


ـ أقصد بها منى طبعاً.. أنتِ فاهمة أني مش عارف أنتِ عملتِ إيه؟..


ارتسم قناع من الذهول على وجهها.. وسرعان ما انتابها الغضب الشديد.. وحاولت النهوض فجذب يدها بسرعة ليجلسها بالقوة:


ـ اقعدي.. لسه بدري على المشهد ده.. لسه أما تسمعيني للآخر..


صرت على أسنانها وهي تخبره بغضب:


ـ أسمع إيه!.. أنت بتعرض أغنية لغريمتي.. وعايزني أقعد وأكمل معاك السهرة!..


أبعد يده عن ذراعها وهو يخبرها بقسوة:


ـ منى عمرها ما كانت غريمتك..


ارتسمت ابتسامة غرور على شفتيها سرعان ما اختفت عندما أردف:


ـ منى عُمر ما هيكون لها غريمة أو شريكة في قلبي.. هي امتلكته بالفعل ومن زمان..


كتفت نيرة ذراعيها وهي تضجع في مقعدها:


ـ أوك يا حسن.. أنت عايز تعاقبني على اللي عملته في منى.. برافو.. نجحت.. نجحت جداً.. بس مش لازم تسمعني الموال بتاع منى حبيبة عمرك وملكة قلبك.. بلا بلا بلا..


سألها بتعجب:


ـ أنتِ ما عندكيش أي إحساس بالندم على اللي عملتيه؟..


هزت كتفيها بلامبالاة:


ـ لأ طبعاً.. اللي عملته ده من حقي.. أنا بدافع عن حقي في حبيبي.. عن حياتنا سوا.. ووجودي في حياته..


رفع حاجبه بعجب وقبل أن يرد عليها أكملت هي:


ـ أنتوا يا رجالة قمة في التناقض.. أي واحد فيكوا لو راجل غريب قرب بس ناحية البنت اللي بيحبها على طول بيتحرك حامي الحمى ومسموح له أنه يعمل أي حاجة.. ضرب.. أذى.. حتى لو آذاه في شغله أو حياته.. وبتصقفوا له.. وبرافو ورجولة.. ليه بقى أنا لما اتصرفت كده.. بقيت شريرة.. و.. و.. ولازم أندم وأعتذر.. عشان أنا بنت ولازم أكون هادية ورقيقة وآخد على دماغي واسكت.. صح؟..


سألها بعدم تصديق:


ـ الكلام ده اللي بتبرري به لنفسك تصرفاتك الغبية والمؤذية؟.. أنتِ إيه بالضبط؟..


أجابته بصوت مبحوح وهي تقترب من المائدة وتمسك بأنامله:


ـ أنا بحبك..


أبعد يده وهو يعود إلى الوراء في مقعده:


ـ حتى لو أنا مش بحبك؟!..


ـ هعلمك إزاي تحبني.. وبعدين الحفلة دي بتقول إني بدأت أوصل..


ابتسم لها بسخرية لم تلحظها فقد فتنتها ابتسامته.. وسألته بأمل وهي تشير إلى العلبة الملفوفة:


ـ حتى أنت جايب لي هدية..


ضحك بقوة حتى أن معظم الحضور التفتوا لهما.. فنظر حوله راضياً وامتدت يده نحو العلبة وفك لفتها ليفتحها ويقدمها لها..


أخذت منه العلبة ونظرت بداخلها.. لترتسم أقصى علامات الذهول على وجهها وهي تسحب منها حلقة ذهبية يبدو من حجمها أنها تنتمي لرجل..


تأملت الحلقة جيداً لتدرك أنها خاصة بحسن.. وعلى وجه الدقة الدبلة التي وضعتها بإصبعه يوم خطبتهما.. نقلت نظرها إلى أصابعه لتجد إصبعه يحمل دبلة أخرى..


سألته بتعجب وهي تحاول التحكم في أعصابها:


ـ ايه معنى الهدية دي؟.. والدبلة اللي في إيدك دي بتاعة مين؟..


اقترب من المائدة ليرتكز عليها بذراعيه:


ـ الدبلة اللي في ايدي.. دي دبلة منى.. ومعنى الهدية واضح.. أنا بأنهي خطوبتنا السعيدة..


ابتسمت بسخرية:


ـ أونكل حاتم..


قاطعها بإشارة من يده:


ـ آسف.. تصحيح صغير.. أنا مجهز لك المسرح عشان تقومي بنفسك بإنهاء خطوبتنا.. ومسموح لك تسمعيني كل الكلام اللي أي خطيبة مش طايقة خطيبها ممكن تقوله.. وممكن كمان تقولي إني أجبرتك على الخطوبة.. يلا.. أنا حاسس إني كريم الليلة..


هزت رأسها بعدم تصديق:


ـ أنت بتقول إيه!!


جذب ذراعها بقوة وهو يقول بقسوة:


ـ بقول أني زهقت من مسرحية خطوبتنا.. وأن الستارة هتنزل الليلة.. بأي طريقة هتنزل..


بدأت تحاول جذب ذراعها من يده إلا أنه أطبق عليها مثل الكلابات وهو مستمر في قسوته:


ـ عارفة الغلطة كانت فين يا نيرة؟.. إنك فكرتِ أنه ممكن أتنازل وأتنازل للأبد.. وأعيش في دور الشاب الشهم الكيوت اللي مش بيكسر كلام أبوه, لكنكوا نسيتوا برضوه أني ابن أبويا.. وأعرف كويس قوي امتى أهدي قدام الموجة العالية لحد الوقت المناسب فأركبها بسرعة وأوصل للشط.. وده اللي حصل.. بصي بقى.. الحفلة دي اتعملت عشان أنهي مسرحيتنا.. قدامك حاجة من الاتنين.. إنك تقومي من كرسيكِ وبمنتهى الشياكة ترمي الدبلة في وشي.. وزي ما قلت لك.. قولي كل اللي أنتِ عايزاه.. بس طبعاً لو جبتي سيرة منى مش هيحصل طيب.. وهتشوفي مني وش يا نيرة.. أقسى من أبويا في عز جبروته..


أجابته بتحدي:


ـ ولو ما عملتش كده؟؟


أجابها بسخرية:


ـ وقتها بقى هنكون قدام اختيار نمرة اتنين... ورغم أني ما كونتش أحب ألجأ له.. لكن..


هز كتفيه بمعنى أنه لا يهتم.. فسألته وصوتها بدأ يرتجف:


ـ ايه الاختيار نمرة اتنين؟


أمسك الحلقة الذهبية وهو ينظر لها وابتسامته تتسع:


ـ وقتها أنا اللي هرمي الدبلة دي في وشك.. قدام كل أصحابك ومعارفك اللي في القاعة.. كل الموجودين هيعرفوا أني برفض نيرة هانم غيث.. وأني مش طايقها.. وطبعاً لازم بهارات للفضيحة والذي منه وده طبعاً لما أقول بأعلى صوتي.. إني لقيتك بضاعة مستعملة..


هتفت به بغضب:


ـ أنت حقير وسافل و..


أشار لها لتصمت:


ـ وفري كل ده لحد ما ترمي الدبلة في وشي.. وزي ما قولت لك.. أنتِ غلطتي لما فكرتِ أني الشاب الكيوت الأمور اللي ممكن يجري ورا ديل فستانك.. أنا اتعلمت من حاتم العدوي.. أحسن مهندس صفقات.. يلا يا حلوة.. قعدتنا طولت.. مين فينا اللي هيرمي الدبلة؟.. زي ما بيقولوا هعد لحد تلاتة وبعدها..


همست بتوسل:


ـ حسن..


أخذ يبرم الحلقة الذهبية وهو يقول:


ـ واحد..


عادت تحاول إمساك يده:


ـ أرجوك اسمعني..


حرر يده وهو يقول:


ـ اتنين..


بدأت تشعر بالدموع تهدد بالنزول وهي تلمح شفتيه على وشك التحرك...


الفصل التاسع

والعاشر 

"أنا حسن حاتم حسين العدوي قبلت زواج موكلتك الآنسة منى نصر الدين عبد الله البكر الرشيد على كتاب الله وسنة رسوله ومذهب الإمام أبي حنيفة النعمان وعلى الصداق المسمى بيننا"..


رفع المأذون المنديل الأبيض من فوق يديّ حسن ونصر المتعانقتين وهو يبارك لهما الزواج الميمون وشرع في اكمال بيانات كلا العروسين, بينما تقدم يزيد ومعه أحد أعمام منى ليمهرا وثيقة الزواج بتوقيعهما كشاهدين للعقد..


وتعالت الزغاريد في أرجاء البيت بل في أرجاء الحارة التي تسكنها منى وقد شاركت سيدات المنطقة بالفرحة التي انبعثت من منزل العروس الذي قام حسن بتزيين واجهته بعناقيد ملتفة من الأنوار الملونة كما اعتاد أهل المنطقة في أفراحهم.. وأقيمت خيمة كبيرة في وسط الحارة.. اصطفت بها عشرات المقاعد وتلألأت بداخلها الأنوار الباهرة وتناثرت باقات الزهور.. وفي صدر الخيمة أقيمت كوشة للعروسين وقد زينت بأكملها بوريقات الفل الأبيض وعدد لانهائي من المصابيح المتلألئة الصغيرة.. وقد تعالت الأغاني الخاصة بالأفراح وامتزجت مع أصوات الزغاريد المتناثرة من بيوت الحي..


ما أن انتهى المأذون من اجراءات الزواج وأغلق دفتره ليصطحبه يزيد للخارج حتى نهض حسن بقوة حتى بدا وكأنه يقفز من مكانه وتوجه نحو عم نصر مخاطباً اياه برجاء:


ـ عمي.. هي منى هتتأخر؟.. كنت عايز أبارك لها.. و..


قطع جملته ارتفاع صوت الزغاريد مرة أخرى وابتسامة السعادة والفخر ترتسم على وجه نصر وهو يتجه نحو ابنته التي وقفت على عتبة غرفتها وقد ارتدت ثوب الزفاف الذي اختاره لها حسن وأرسله لها صباح اليوم..


أخذ حسن يتأملها وهي تتقدم نحوه وقد تأبطت ذراع والدها.. وهي ترفل في ثوبها الخلاب الذي احتضن صدرها والتف حوله في ثنايات رقيقة من قماش التول الأبيض وزين خصرها حزام من الألماس لتسترسل تنورة الثوب في طبقات عديدة من نفس التول الأبيض الرقيق الذي تناثرت عليه العديد من حبات الألماس البراقة.. كان الثوب عاري الصدر والذراعين ولكن منى تمكنت من وضع شال من الشيفون الأبيض لتغطي به ما ظهر من صدرها وظهرها..


تحركت قدما حسن بلا إرادة منه لتتجه نحو ملاكه الرقيق.. حلمه الذي كاد أن يفلت من بين أنامله.. لم يصدق نفسه وهو يقف أمامها.. ووالدها يسلمها له.. وهو يوصيه بالمحافظة عليها... لم تكن أي من كلمات نصر تصل إليه.. فهو كان هائماً في عيون مليكته بعد أن رفع الطرحة عن وجهها وظل لثوانٍ عديدة يتأمل جمالها النقي والرقيق.. فقد التزم طاقم التجميل الذي اتفق معه بكل أوامره ولم يسرفوا في زينة وجهها.. بل اهتموا بإبراز روعة وجمال عينيها بالكحل العربي الأسود.. فاظهروا اتساع عينيها الفاتن وهام هو في براءة نظراتها التي التقت بنظراته للحظات قبل أن تخفض عينيها أرضاً هرباً من الشوق العاصف بعينيه.. وطليت شفتيها بطبقة رقيقة من أحمر الشفاه الوردي والذي أضاف براءة لشفتيها اللاتين كانت تمضغهما بتوتر فجذبا نظره كالمغناطيس وهو يحلم بامتلاكهما تلك الليلة.. وسرح بصره نحو خصلاتها الداكنة التي أنطلقت على كتفيها وظهرها في تعرجات خفيفة تناديه ليجري أنامله بها... وكاد أن يضمها لصدره بجنون لولا صوت نصر الذي أخرجه من هيامه:


ـ مش هتبارك لعروستك ولا ايه يا حسن يا بني؟!


التفت إليه بإحراج ثم اقترب ليطبع شفتيه فوق جبهة منى هامساً:


ـ مبروك علي يا منى..


توردت وجنتيها بشدة تحت وطأة نظراته العاشقة والتي كانت تلتهم ملامحها الرقيقة حتى لكزه يزيد بخفة وهو يهمس له:


ـ خف شوية يا بني.. الناس عينيها عليكوا..


تنحنح حسن ليخرج نفسه من حالة الهيام التي أصابته وتحرك ليتأبط ذراع منى ويتحركان معاً خارج الشقة وسط الزغاريد والأغاني حتى وصلا إلى الكوشة المُعَدة لهما في صدر خيمة الزفاف..


أمسك حسن بيد منى وهو يضغط عليها برقة:


ـ مبروك يا حبيبتي.. أنا مش مصدق نفسي..


تلعثمت منى وتعثرت الكلمات على شفتيها, ولكنها كانت تريد أن تسأل.. أن تعرف.. فأخرجت نفسها من حالة الخجل التي تصيبها بها نظراته وسألته بصراحة:


ـ حسن.. ايه اللي حصل مع نيــ...


وضع إصبعه على شفتيها:


ـ هشششش.. خلاص الليلة دي بتاعتنا.. مش عايز أفكر في أي حاجة..


أزاحت أصابعه برفق وهي تهمس بتوسل:


ـ عايزة أفهم..


ـ تفهمي ايه بس؟..


وأخفض عينيه قليلاً:


ـ أنا عملت اللي كان المفروض يتعمل من زمان.. حتى أقل من اللي هي تستحقه على اللي عملته معاكِ.. بس للأسف في ظروف قيدتني..


قال كلمته الأخيرة بخفوت وهو يتذكر نظرات الألم في عينيّ شقيقه وهو يتابع ما كان يدور على مائدته هو ونيرة..


همس لنفسه..


"اللعنة.. لولا نظراتك تلك يا مازن لنالت تلك المتكبرة ما تستحقه.. آه لو أعلم ماذا بها لتعشقه؟"..


أفاق على لمسة بسيطة من منى وهي تسأله:


ـ ووالدك؟..


هز رأسه:


ـ ما تشغليش بالك يا منى.. أرجوكِ خلينا نعيش أحلى ليلة.. ده أنا ما صدقت..


أخفضت منى عينيها بخجل وهمست:


ـ عايزة أطمن..


ضغط على يدها برقة:


ـ اطمني.. طول ما أنا معاكِ اطمني..


*********


جلست علياء على السور العريض لشرفة غرفتها وهي تمسك دفتر الرسم الكبير.. وأخذت أناملها تتحرك بمهارة لتشكل لوحة لملامح يزيد..


حيرتها تلك النظرة التي تلمحها بعينيه مؤخراً.. خليط من الغضب والتوق والذنب والشوق مع عاطفة أخرى لم تستطع تحديدها, ولكن أناملها سجلتها بمهارة لتبدأ معالم وجهه في الظهور على الصفحة البيضاء.. فأخذت تحرك أناملها عليها بحب وتتلمس الدمعة الماسية المعلقة بعنقها بيدها الأخرى.. لا تعلم سر شغفه بتلك الماسة فهو كان يدأب على تلمسها بشفتيه في كل مرة قبلها فيها.. حتى في تلك المرة الأخيرة التي رأته فيها..


منذ أسبوع كامل..


أسبوع كامل لم يحاول رؤيتها أو الاتصال بها..


تساءلت بحيرة إن كان يشتاق لها أو يفكر بها كما تتحرق هي شوقاً حتى لسماع صوته الذي ضن به عليها فهو حتى لا يجيب على أي من مكالماتها..


لا تعرف بماذا تفسر ما يصدر منه نحوها.. فهو يقربها ليعود لإبعادها مرة أخرى, ولكنه تلك المرة إلتزم بكلمته تماماً وابتعد نهائياً ولم يحاول رؤيتها ولو مرة..


هل رخصت نفسها له؟؟.. وسلمت بسهولة لذلك أقبل لينال كل ما تمنحه له بسخاء؟.. هل صحيح سيتمم زواجه بريناد مثلما أخبرها؟..


لقد صدمها في الواقع فهي لم تتخيل بعد تلك العواصف التي يثيرها بها أن يصمم على اتمام زواجه.. هل كان يتلاعب بها؟.. أم أنها كانت تسلية متاحة؟.. هل سيعود مرة أخرى ليغوص بها لبحار حبه؟.. أم أنه ابتعد تلك المرة إلى الأبد؟...


أخذت أناملها تداعب ملامحه المرسومة وهي تتساءل بحيرة عن مشاعره.. وإن كانت نظرة التوق التي تلمحها في عينيه حقيقية أم لا؟..


تكاد تجزم أنها لم تلمحه ولا مرة واحدة يرمق ريناد بتلك النظرة.. ولكن ماذا تعرف هي عن لحظاتهما المنفردة معاً؟..


لم تعرف أن في تلك اللحظة بالذات كانت ريناد ترمق يزيد بتأمل وهي تسأله:


ـ مالك يا يزيد؟.. أنت متغير اليومين دول..


ـ أنا متغير!!.. لا أبداً بيتهيألك... أنتِ عملت ايه في الفيلا؟.. خلصتِ ولا لسه؟..


شهقت بقوة:


ـ خلصت؟.. خلصت ايه؟.. أنت مش عارف أني طول الأسبوع ده كنت مشغولة بحفلة حسن صاحبك.. وبعد كل التعب والمجهود اللي عملته.. يطلع كان عامل الحفلة عشان يفركش خطوبته..


ازدرد يزيد لعابه بتوتر:


ـ ايه اللي أنتِ بتقوليه ده؟.. هي مش نيرة رمت له الدبلة قدامك وقدام الناس كلها..


هتفت به بحنق:


ـ يزيد.. ما تضحكش عليّ.. أنت عايز تفهمني أنه نيرة فسخت خطوبتها لحسن وبعد ساعة واحدة بس هو اتجوز بنت السواق.. وعمل لها الفرح اللوكال ده!..


ازداد توتر يزيد وهو يسألها:


ـ قصدك ايه؟..


ـ قصدي أن كل حاجة كانت مترتبة.. لعبة وحسن لعبها صح.. وللأسف أنا ساعدته على كده من غير ما أعرف.. وأنت خدعتني عشان أساعده..


ـ أنا؟..


ـ أيوه أنت.. مش أنت اللي اتوسط له عشان أجهز له الحفلة وأنت عارف كويس قوي هو ناوي على ايه؟؟.. وبعد ده كله جاي تشهد على عقد جوازه من البنت اللي اسمها منى دي.. وجاي الوقتِ تسألني على تجهيزات بيتنا؟..


ابتسم يزيد بسخرية:


ـ آه.. قولتِ لي.. يعني المحاضرة دي كلها مش عشان نيرة.. لا عشان تفهميني أن تجهيزات البيت محلك سر.. وأنك عاوزة تأجلي الجواز طبعاً.. بس يكون في علمك.. ميعاد الفرح مش هيتغير حتى لو البيت على البلاط..


هتفت ريناد بغيظ:


ـ يزيد.. أنا مش بتحجج.. ولا بهرب.. فعلاً أنا متضايقة من الموقف اللي اتحطت فيه نيرة.. رغم أنها مش صاحبتي.. وأن علاقتنا مش قوية.. لكن اللي حصل لها النهارده ما يرضنيش أبداً.. وكونك جزء من المؤامرة دي.. بيضايقني أكتر..


تأملها للحظات.. وهو يدرك أن أفكارها القوية.. ونظرتها المباشرة للأمور والتي تعبر عنها بمنتهى الصراحة والوضوح هي ما جذبته إليها من البداية.. قد يفتقد ذلك الشغف المجنون الذي يستشعره مع علياء.. ولكنه واثق أنه سيشعر به مع ريناد بمجرد زواجه منها..


وضعت ريناد يدها على ذراعه وهي تسأله:


ـ في ايه يا يزيد؟؟. أنت برضوه سرحان!!


ـ لا أبداً.. بالنسبة لموضوع حسن ونيرة له خلفيات كتير.. لكن تأكدي أنه ما ظلمهاش.. بالعكس.. هو كان كريم جداً معاها.. وبعدين الفرح اللوكال اللي مش عاجبك ده أنتِ اللي أصريتِ تيجي معايا..


هزت كتفها بدلال:


ـ أومال كنت عايزني أسيبك تيجي هنا لوحدك؟.. أنا كنت حاسة أنه في حاجة مخبيها عليّ وطلع عندي حق..


داعب أنفها بلطف:


ـ ماشي يا ست شيرلوك هولمز!..


ضحكت برقة وهي تتعلق بذراعه وتلصق نفسها به أكثر... بينما هو يراقبها بتأمل..


"قد يرفض الرجل لمسة امرأة ما في حالة نفوره من تلك المرأة.. أو تأثره الشديد بها, ولكن في الحالة الأخيرة فإن ما يرفضه حقاً هي تلك الأحاسيس التي تفجرها تلك اللمسة"..


لا يدري هل قرأ تلك العبارة في مكان ما أم أنها قفزت إلى ذهنه وهو يستشعر الهدوء التام بأعماقه وأنامل ريناد تتشبث بذراعه الآن.. وتذكر انتفاضته كالملسوع من الجمر بعدما مست أطراف أنامل علياء ركبته في آخر مرة رآها فيها...


وكان ذلك بعدما غرقا معاً في عاطفة عاصفة بمكتبه, ثم تمالك نفسه بأعجوبة ليتظاهر بالبرود ويقرر اصطحابها إلى المزرعة..


لم يوجه إليها أي كلمة طوال الطريق حتى اقتربا من الوصول إلى المزرعة.. فأوقف السيارة على جانب الطريق قبل بوابة المزرعة بعدة أمتار والتفت لها... فابتسمت له برقة زلزلت مشاعره.. وكادت أن تحطم قناع التماسك الذي يرسمه على وجهه.. ولكنه قرر مواجهتها وانهاء الأمر قبل أن يسقطا معاً إلى عمق لن يستطيعا الهروب منه..


أخبرها بهدوء يحاول استدعائه:


ـ علياء.. أنا.. أنا.. بعد شهر هيكون فرحي أنا وريناد..


بهتت ملامحها ولاحظ الدموع التي تجمعت في مآقيها على الفور وهي ترفع أناملها إلى شفتيها المنتفختين من إثر قبلاته لها.. وحاولت استدعاء أي كلمات لتسأله بتعثر:


ـ فرحك!!.. و.. و..


هزت رأسها بحيرة وهي عاجزة عن تكوين سؤال واضح.. فزفر هو بيأس:


ـ أنا آسف.. أنا عارف أني تجاوزت معاكِ كتير الأيام اللي فاتت.. حتى كلمة آسف ما لهاش معنى قصاد غلطي في حقك..


خبط رأسه في مقود السيارة بعنف وهو يهتف:


ـ علياء.. أنتِ عارفة كويس أنه صعب.. لا ده مستحيل مش صعب بس.. وجودك بأي شكل في حياتي.. علياء..


رفع رأسه ليلمح دموعها التي بدأت تجري على وجنتيها فهتف بتوسل:


ـ علياء.. من غير بُكى..


استمرت دموعها بالانهمار:


ـ بس.. أنا.. أنا بحبـــ


قاطعها صارخاً:


ـ لا.. لا يا علياء.. أرجوكِ.. ما تصعبيش الموضوع علينا أكتر ما هو صعب..


تعالت شهقاتها واستمرت دموعها بالهطول وهي تستمع الحكم بإعدامها يخرج من بين شفتيه:


ـ علياء.. أنتِ مش عارفة ماما حصل لها ايه بعد ما عرفت بجواز بابا من والدتك.. أنا.. أنا أساساً خاطب ريناد من.. من زمان.. و..


قطع كلماته وهو يضرب المقود بقبضته وهو يرى دموعها وقد أغرقت وجهها..


فهتفت هي بتوسل من بين دموعها:


ـ وأنا ذنبي ايه في اللي حصل بين ماما وعمو عصام ووالدتك.. ليه كلكم مصرين أني أدفع التمن ده لوحدي..


عادت دموعها تجري بلا توقف وهي تهز رأسها بألم وتصرخ:


ـ ذنبي ايه؟؟؟


جذبها لصدره ليضمها بقوة وهو يدفن رأسه بتجويف عنقها ويهمس:


ـ كفاية بُكى.. أرجوكِ مش بتحمل دموعك..


تمسكت بكتفيه لتنخرط في نوبة بكاء قوية بينما هو أخذ يمسح على شعرها برقة.. يواسيها بصمت غير قادر على كسره.. فهي محقة بصراخها عليه فالجميع يحملها ذنب لم تقترفه ولكنها حملته على كتفيها بصمت.. قد تكون أحد الضحايا, ولكن والدته هي أكثر من تأذت وهو غير قادر على تجاوز ذلك..


ظل يضمها إلى صدره لفترة منتظراً أن تعود لهدوئها.. ولكن كما يحدث معه في كل مرة تكون فيها قريبة منه.. بدأت سيطرته على مشاعره تخونه خاصة وهو مازال متأثراً بما حدث بينهما منذ قليل في مكتبه.. ووجد نفسه يبعد شعرها خلف أذنها ويجمعه على أحد كتفيها ليظهر لعينيه جانب عنقها الطويل وقد تناثرت عليه مجموعة من الشامات الصغيرة مشكلة خط طويل متعرج بدأ من خلف أذنها وتابعه هو بأطراف أنامله حتى وصل إلى نهاية عنقها حيث اختفت باقي الشامات خلف ياقة قميصها فتوقفت أنامله حول عنقها لتداعب الماسة الدامعة برقة وشعر بها ترتجف بين ذراعيه استجابة للمساته.. وترفع رأسها وتواجه عينيه ونظراتها تصرخ بحبها له..


ضمها له وهو يهبط برأسه إلى شفتيها بعجز.. متنقلاً بشفتيه بين وجنتيها وشفتيها وتلك الماسة التي تفقده عقله..


ظلا يتبادلان القبلات بشغف لدقائق لم يعرفا عددها حتى سمعها تهمس:


ـ بحبك يا يزيد.. والله بحبك..


أبعدها عنه بقوة وهو يهز رأسه بعنف صارخاً:


ـ جنوووووون.. اللي بيحصل ده جنون ولازم يوقف..


حاولت لمس ركبته بأناملها.. فصرخ بها كالملسوع:


ـ لا..


أبعدت يدها تضمها إلى صدرها وعادت شفتيها ترتجف بالبكاء.. فأخذ يتأملها لثوانٍ غير قادر على اتخاذ أي قرار.. يدرك أنه لو لمسها مرة أخرى لن يتوقف.. لن يتوقف أبداً إلا بعد أن يمتلكها تماماً..


أخيراً حرك العربية ليقف أمام بوابة المزرعة ويهمس لها وهو ينظر إلى الفراغ:


ـ احنا وصلنا يا علياء..


سألته بحيرة:


ـ وصلنا!!.. أنزل يعني؟..


أومأ لها موافقاً.. فهمست من وسط دموعها:


ـ مع السلامة يا يزيد..


خرجت من السيارة وأغلقت الباب خلفها بهدوء فالتفت برأسه يتابعها بنظراته حتى دخلت إلى باب الفيلا وهمس لنفسه:


ـ الوداع يا عليائي.. مش هقدر أشوفك تاني.. يمكن.. يمكن الزمن يكون هو الحل...


أفاق على ضغط أنامل ريناد على ذراعه ليفاجئ أنه ضاع في ذكرياته مع عليائه بينما ريناد معلقة بذراعه.. كاد أن يبتسم ساخراً من نفسه.. فهو لا يستطيع الإنكار أنه يفتقدها بشدة.. ابتعاده عنها ومقاومة الذهاب لرؤيتها كان من أصعب ما قام به حياته.. يشعر بجسده يتألم وخلاياه تصرخ طالبة وصالها.. ولكنه للأسف لا يستطيع التلبية..


دوى صوت ريناد في أذنيه وهي تشير نحو حسن وعروسه:


ـ يزيد.. حسن بيشاور لك..


التفت لحسن فوجده يشير له برغبته في الذهاب.. فتحرك نحو الفرقة الموسيقية يتفق معها لتصدح نغمات الزفة الشعبية.. "دقوا المزاهر"..


فتحرك حسن مع منى ليتوجها نحو والدها ووالدتها.. التي أخذت توصيه بابنتها وتطلب منه أن يطمئنها عليها باستمرار.. فارتمت منى بين ذراعيها وبدا أن الدموع ستصبح سيدة الموقف..


ضم حسن منى إلى صدره بعدما رفعت نفسها من بين ذراعي أمها.. ليطمئن والديها:


ـ ما تقلقوش على منى.. مش هقولكوا منى في عينيه.. لا منى هي عينيه اللي بشوف بيها.. وهي قلبي اللي بيدق.. وهي عقلي اللي مش بيفكر غير فيها..


تضرجت وجنتي منى بشدة وهي تهمس بخجل:


ـ حسن!!!..


ضحك والدها بسعادة بينما شعرت والدتها بخجل ابنتها ولكنها ابتسمت براحة وهي تدعو لهما:


ـ ربنا يسعدكوا يا بني ويهدي سركوا..


وعادت لتضم منى إليها بقوة فابتعد حسن قليلاً ليسمح لهما بوداعها..


اقترب منه يزيد ليضع في راحته علاقة مفاتيح..


سأله حسن بتعجب:


ـ ايه ده يا يزيد؟.. مفاتيح ايه دي؟..


ـ مفاتيح الشاليه بتاعنا اللي في المعمورة.. أنا جهزته ومليت التلاجة.. وكمان هتلاقي في عشا ليكم.. مبروك يا كبير.. وما تنساش الجمايل دي..


ـ أنا متشكر قوي يا يزيد.. بس أنا كنت مخطط نروح الشاليه بتاعنا في الساحل..


شهق يزيد بذهول:


ـ تروح فين؟.. ووالدك؟.. أنت فاكر أنه هيعدي اللي حصل ده بالساهل.. روح الشاليه بتاعنا أفضل.. هو مش هيفكر يدور عليك هناك.. افرح وفرح عروستك يومين.. قبل ما المواجهة معاه..


أومأ حسن موافقاً:


ـ أنا عارف أنه مش هيسكت.. أكيد وصله كل اللي حصل الليلة, وطبعاً مفاجأته من تصرف نيرة لخبط له حساباته.. وكمان معرفته بجوازي في نفس الليلة.. أنا متوقع إعصار.. بس ربنا يستر..


ردد يزيد:


ـ ربنا يستر..


ـ ما فيش أخبار عن مازن؟..


هز يزيد رأسه نفياً:


ـ ما اعرفش أي حاجة.. آخر مرة كلمته قبل ما أمضي على قسيمة جوازك.. قالي.. أنه مش هيقدر يوصل في الميعاد.. وطلب مني أكون الشاهد مكانه..


ربت يزيد على كتف حسن وأردف:


ـ أنا عارف وجوده جنبك الليلة كان يفرق معاك قد ايه.. بس يا سيدي اعتبرني زي أخوك..


ـ أنت أكتر من أخ يا يزيد.. ووقوفك جانبي الليلة جميل فوق راسي.. وأنا مش متضايق من عدم وجود مازن.. بالعكس.. وجوده كان هيأثر جامد على صورته قدام نيرة.. هو ساعدني كتير.. من حقه بقى يحاول يظبط أموره شوية..


ـ يعني أنت مش متضايق من اللي نيرة عملته؟..


هز حسن رأسه:


ـ لا.. أبداً.. يمكن فوجئت.. بس كان لازم أتوقع أنها بتحب تكون الكلمة الأخيرة لها.. بس أهوه.. كله جه في مصلحة مازن..


سأله يزيد بحيرة:


ـ تفتكر فعلاً أن اللي حصل كان في مصلحته؟..


تبادلا النظرات الحائرة ولم يعلما بأن مازن نفسه كان في ذلك الوقت يرمق نيرة الجالسة بجواره بحيرة بالغة.. يتساءل عن صحة تصرفه.. عندما وافق على هذيانها المجنون..


فمنذ أن قرر حسن الرضوخ لوالده وإعلان خطبته على نيرة وهو يحرص بشدة على أن يبقى بعيداً في خلفية الصورة ويحاول اخفاء مشاعره بداخله حتى لا تسبب شرخاً بينه وبين شقيقه حتى وهو يعلم بابتعاد حسن بعقله وقلبه عن نيرة.. ولكنه الليلة وهو يلمح دموعها تبرق في عينيها وحسن يتلاعب بالدبلة الذهبية بين أصابعه لم يحتمل البقاء في الخلفية, وظهرت مشاعره واضحة على ملامحه رغماً عنه وهو يحاول منع نفسه من الاقتراب منهما ومنع حسن من التسبب بإيلامها, حتى لو تسبب ذلك في ابتعاده عنها للأبد.. حركة خافتة من يزيد وهو يمسك بذراعه أوقفته عن التقدم, فالتفت له وملامح وجهه تصرخ بالصراع الدائر بأعماقه..


لم يعلم إذا كان حسن لاحظ ما حدث ولكن الأكيد أن نيرة لمحته.. فتبدلت ملامحها في ثوانٍ وتحول بريق الدموع في عينيها إلى بريق تحدي وهي تنهض بكبرياء وتنزع خاتم خطبتها من يدها بهدوء لتلقيه في وجه حسن وهي تهتف بصوت مسموع:


ـ أنا آسفة يا حسن.. مش هقدر أكمل مسرحية خطوبتنا أكتر من كده.. أنا وافقت على الخطوبة دي بس عشان كنت عايزة أعقاب الراجل اللي بحبه.. لكني مش قادرة أكمل معاك.. أرجوك ما تجبرنيش على حاجة مش عايزاها..


وصمتت قليلاً لترقب أثر كلماتها على الحضور الذين صمتوا تماماً وكأن على رؤسهم الطير..


ثم رفعت رأسها نحو مازن وهي ترسم ملامح الأسف والعتاب:


ـ مازن.. حبيبي.. أنا آسفة على تصرفاتي المجنونة.. أرجوك سامحني.. أنا أتعلمت الدرس خلاص يا حبيبي.. مش قادرة أبعد عنك أكتر من كده..


سمعت الشهقات تتردد في كل مكان بالقاعة تقريباً وهي تعلن حبها وأسفها لشقيق خطيبها..


استمر تبادل النظرات بينها وبين مازن الذي لمح وسط بريق التحدي بعينيها نظرات استغاثة خفية.. أو ربما ذلك ما أوهم نفسه به فتخلص من ذراع يزيد وتحرك نحوها بخطوات بطيئة حتى وصل إليها ووقف أمامها تماماً ليرى نظرات الانتصار بعينيها.. ويلمح نظرات حسن الذاهلة..


شعر بجميع من في القاعة ينتظر خطوته القادمة..


هل سيوافقها في ادعائاتها ليظن الجميع أنها هي من تركت حسن بسبب حبها اليائس لشقيقه؟.. أم سيخذلها ليحافظ على كرامة أخيه ورباط الأخوة الذي يجمعهما..


أدار نظراته في القاعة ليلمح العيون المتوسعة بترقب.. وسمع الهمهمات الخافتة بين الموجودين.. ما بين شامت وحاقد ومتعاطف ولكنه مترقب للفضيحة المقبلة..


أعاد نظره إلى نيرة مرة أخرى ليلمح خفوت نظرة الانتصار بعينيها.. وظهور صرخة الاستغاثة مرة أخرى.. فما كان منه إلا أن مد يده نحوها يجذبها لصدره ويحني رأسه مقبلاً شفتيها بقوة.. عالفصل العاشر


أوقف مازن سيارته في إحدى البقع الهادئة أمام كورنيش المعادي.. والتفت إلى نيرة التي ظلت على حالة الصمت التي تلبستها بعد ما تلقت تلك القبلة المجنونة منه.. وكأن تلك القبلة كانت بمثابة مخدر لها فانساقت خلفه بهدوء وهو يسحبها خارج القاعة ويضعها بسيارته.. وكلما اقترب من منزلها.. تهز رأسها رافضة.. وتطلب منه أن يستمر في تحريك السيارة...


لقد منحه القدر الليلة فرصة لا تعوض ليكون مع حبيبته أخيراً.. بعد ما كان يفكر في أي طريقة ليتمكن من الاقتراب منها بعد انهاء شقيقه تلك الخطبة البائسة, وكان كل مرة يجد خطأ ما.. يجعله يعيد النظر مرة أخرى.. حتى قدمت هي له الطريقة المثلى ليكون معها.. بدون أن يكون في موقف ضعف أمامها والأهم أنه لن يجرح شقيقه..


فقط عليه التعامل معها حالياً بهدوء شديد حتى يمتص غضبها ويحجم من كل الأفكار السوداء التي تموج في عقلها الآن وأغلبها تتمحور حول شقيقه مذبوحاً.. أو مشنوقاً...


أخيراً التفت لها يتأمل وجهها الفاتن الذي يعشق به ملامح الكبرياء التي تحاول أن تستدعها الآن بكل قوتها..


سقطت نظراته على شفتيها, تلك التي تذوقها لأول مرة منذ قليل.. ليجد أن طلاء شفتيها يلطخ تلك المنطقة الرقيقة حولهما.. فسحب المنديل من جيب بذلته وقدمه لها بهدوء..


نظرت نيرة إلى المنديل بتعجب.. ثم لمحت اتجاه نظرات مازن.. فانطلق كل غضبها وحقدها المكبوت منذ اللحظة التي واجهها حسن بحقيقة الحفل الذي أقامه لها وحتى سحبها مازن كالشاه العاجزة بلا حول ولا قوة.. وتمثلت مشاعرها كلها في قبضتي يديها اللتين انطلقتا نحو مازن كالقنابل وهي تصرخ به:


ـ أنت خدعتني.. استغلتني.. خدعتني.. وخلتوني نكتة بين الناس..


تنهد ببرود:


ـ أنتِ قلتِ خدعتني مرتين على فكرة..


كادت أن تصرخ من جديد فعاد يخبرها بهدوء:


ـ وبيتهيألي أني لا خدعتك.. ولا ضحكت عليكِ.. بالعكس.. أنا..


صرخت مقاطعة:


ـ أنت بوستني!!..


هز كتفيه بلامبالاة:


ـ بيتهيألي برضوه أنك ما كنتيش ممانعة..


كتفت ذراعيها تسأله بغضب:


ـ والحل؟..


أعاد كلمتها باستفزاز:


ـ الحل!!


صرخت به بجنون:


ـ مازن.. أنت ناوي تجنني.. هنعمل إيه في الورطة دي؟


أخذ يتأملها لوهلة وعادت عينيه تتجه إلى طلاء شفتيها الملطخ فأمرها بحسم:


ـ نضفي الروج من على شفايفك..


مسحت شفتيها بعنف وألقت المنديل نحوه بعنف صارخة:


ـ خلاص.. ارتحت!..


هز كتفيه بخفة وهو يجيب سؤالها السابق بهدوء:


ـ أعتقد أنه أفضل حل أننا نهدى خالص ونسيب العاصفة تمر.. وبعد فترة الناس هتنسى وهيلاقوا حاجة تانية تشغلهم..


ـ قصدك فضيحة تانية؟..


هز كتفيه بهدوء مستفز.. فصرخت به:


ـ معقولة هتسكت وتسيب الناس يجيبوا سيرتي.. ويقولوا..


قاطعها بجدية:


ـ هيقولوا أن الأخين لعبوا بيكي.. ونقلوكِ بينهم.. وفي الآخر رموكِ.. بعد ما اتبسطوا شوية وبعدين زهقوا منك..


اتسعت عيناها بذعر تستشعره للمرة الأولى.. فلم تتصور في أي وقت أن تكون نيرة غيث مضغة تلوكها أفواه النميمة وجلسات السيدات التافهات.. ولكن.. هذا لن يحدث.. مازن لن يسمح بهذا.. أنه يحبها.. أم تراها قد أخطأت في قراءة مشاعره.. كلا.. كلا.. أنها متأكدة..


اعتدلت في جلستها بهدوء وهي تخبره بعجرفة:


ـ ما فيش حاجة من دي هتحصل!


سألها بتعجب:


ـ ليه بقى؟..


أشارت له بسبابتها:


ـ أنت مش هتسمح بكده!


ـ والسبب؟..


ـ أنت بتحبني..


رمتها في وجهه بقوة وكأنها تصمه بسُبة ما, فدفعه ذلك للابتسام بسخرية..


صرخت متهمة اياه:


ـ أنت بتحبني, صح؟..


أجابها بهدوء:


ـ لازم يكون في حد بيحب نيرة.. مش كده؟..


سألته بتردد:


ـ يعني إيه؟..


ـ يعني أنك دايماً بتدوري على اللي بيحب نيرة.. وإذا كان في حد لا سمح الله اتجرأ ومحبهاش يبقى لازم يحبها.. حتى ولو بالعافية!!!


ارتبكت بشدة وتعثرت الكلمات بين شفتيها:


ـ أنت عايز توصل لإيه؟


ـ عايز أعرف... ليه نيرة مش بتحب نيرة؟!..


توسعت عيناها بدهشة.. فأردف وهو يلوح بيده:


ـ كل اللي حواليكِ وبيتعاملوا معاكِ فاهمين أنك بتحبي نفسك لدرجة النرجسية.. لكن الحقيقة غير كده..


أدار وجهه لها ومد يده ليرفع وجهها ويحدق بعينيها:


ـ الحقيقة أنك مش بتحبي نفسك.. دايماً بتدوري على أي حد يحبها بدالك.. ليه؟.. ليه يا نيرة؟..


ارتسم الذهول على ملامحها.. فهي لم تعتقد أبداً أنه سيستطيع قراءة أعماقها بمثل ذلك الوضوح.. فجذبت وجهها من بين أنامله وهي تصرخ به:


ـ كفاية فلسفة يا مازن.. وقولــ..


قاطعها بهدوء وهو يبدأ تشغيل السيارة:


ـ هحدد ميعاد الجواز مع والدك وأبلغك.. أنا لحد الوقتِ ما طلبتكيش منه.. وما يصحش أنه يسمع من بره أن بنته بدلت خطيبها!..


سألته بوجل:


ـ يعني..


ـ يعني.. هنتجوز على طول يا نيرة.. لا خطوبة ولا كلام فارغ من ده..


والتفت إليها ليضغط على كل حرف:


ـ يعني ما فيش حسن.. ما فيش منى... تطلعيهم من دماغك اللي عاملة تدور على أي مصيبة تسببها لهم ولا أي كارثة تفرقهم عن بعض..


رددت بتوتر:


ـ تفرقهم!!


أجابها بهدوء:


ـ حسن ومنى اتجوزوا.. وهما دلوقتِ في طريقهم لشهر العسل..


صرخت بذهول:


ـ إيه!.. لا.. لا مش ممكن مستحيل..


جذبها من ذراعها بقوة:


ـ نيرة.. بقولك لآخر مرة.. تنسي كل حاجة عن اللي فات.. أنا مش هعرض نفسي واسمي وكرامتي لأي كلام سخيف عشان حضرتك ترضي نزعة الإنتقام اللي جواكِ.. وخليكِ فاكرة.. أني قدام أبويا وأبوكِ بقدم لهم خدمة.. يعني لو تراجعت عن جوازنا في أي لحظة نتيجة أي تصرف متهور منك.. ما فيش حد هيقولي تلت التلاتة كام.. فهماني؟..


رددت بتأكيد:


ـ بس أنت بتحبني..


أغمض عينيه بقوة.. واجابها بهدوء:


ـ أيوه.. بحبك يا نيرة.. وعارف أنك عارفة من زمان..


فتح عينيه فجأة والتفت لها:


ـ بس مش هسمح تاني أنك تستخدمي الحب ده عشان تستردي كرامتك أو تنتقمي.. كفاية قوي اللي حصل الليلة.. ولو عاوزة الحق.. أنتِ اللي استغلتيني.. مش العكس..


أدار السيارة بحركة عنيفة.. وهو يسألها:


ـ هتروحي دلوقتِ؟..


هزت رأسها نفياً:


ـ وديني عند عليا في المزرعة..


أومأ بصمت متفهم بينما هي ترمقه مذهولة بشخصيته.. بمازن الرجل الذي تواجهه للمرة الأولى وقد أدركت أنها دخلت بقدميها إلى حياته, بل هو من جرها جراً إليها..


ذلك الرجل الذي اكتشفت أنها لا تعلم عنه شيئاً.. ولكنه يعلم عنها الكثير..


****


حمل حسن منى برقة ليدخل بها إلى الشاليه الخاص بعائلة يزيد.. بينما هي تمسكت بعنقه لا إرادياً خوفاً من سقوطها أرضاً ولمحته وهو يغلق الباب بكعب قدمه.. ويتوجه بها نحو السلم الداخلي.. فهمست بخفوت:


ـ خلاص يا حسن بقى نزلني..


هز رأسه نفياً وهو يلمح تخضب وجنتيها بالاحمرار وهمس بجوار أذنها:


ـ لسه ما وصلناش للمحطة الأخيرة!..


شهقت بخجل وأخفضت بصرها لتتأمل حبات الألماس المتراصة في حزام فستانها.. قبل أن تشعر بحسن يهبط بها برقة على الفراش..


رفعت عينيها بخجل لتتلاقى بعينيه التي ترمقها بنظرة حارة وأنامله تتجول على وجهها برقة حتى أمسك بذقنها ليرفع وجهها إليه ويهمس بين أنفاسها:


ـ أخيراً.. أخيراً يا منى..


هبط برأسه ليقبل شفتيها.. فقفزت من الفراش فجأة واقفة على قدميها واتجهت نحو النافذة تثرثر بكلمات بلا معنى:


ـ الشاليه موقعه حلو قوي.. على البحر على طول.. و..


تحرك ليقف خلفها مباشرة ويضمها إلى صدره هامساً في أذنها:


ـ ما تخافيش..


التفتت لتواجهه وهي تردد بارتباك:


ـ أنا.. مش خايفة.. أنا..


أحاط خصرها بذراعه وهو يسألها بهدوء:


ـ ممكن بس نرفع الطرحة..


أومأت موافقة.. فحرك يده ليخلص خصلاتها من الطرحة الطويلة.. ومرر أنامله باستمتاع في شعرها, فشعر برجفتها الخفيفة بين ذراعيه..


ـ برضوه خايفة!!.. لا.. أنا لازم أطمنك على الآخر!!..


همس بتلك الكلمات أمام شفتيها ثم أخذهما في قبلة طويلة عبر بها عن حبه وشوقه وتملكه لحبيبته ومليكة قلبه منذ الأزل..


شعرت منى بأنفاسه الساخنة تداعبها وهو يمرغ شفتيه مقبلاً عنقها الناعم وأنامله تزيح الشال الذي يغطي كتفيها بلهفة.. وهو يسألها بتوسل:


ـ منى...


دفنت منى وجهها المشتعل في صدره وهي تمنحه إجابتها:


ـ بحبك يا حسن..


هتف حسن بفرحة وحملها بسرعة ليتوجه بها نحو الفراش.. ليبدأ تعليمها.. أبجديات الحب.. هاتفاً بعبث:


ـ دلوقتِ بقى نبدأ أول دروس.. من حبيبك وجوزك حسن العدوي..


*********


أوصل مازن نيرة إلى مزرعة الغمرواي ووجدا علياء بانتظارهما بعدما اتصل بها مازن ليخبرها بقدومهما..


نزلت نيرة من السيارة بسرعة بدون أن تنتظر مازن ليفتح لها.. وألقت بنفسها بين ذراعي علياء التي تفاجاءت من تصرفها.. فرغم طول فترة صداقتهما إلا أن نيرة لم تبادر بتصرف مثل ذلك أبداً..


سألت علياء بقلق:


ـ حصل إيه يا نيرة؟.. هي الحـفــ...


قاطع مازن كلماتها بسرعة:


ـ هسيبك مع عليا.. ما يصحش أدخل في وقت متأخر زي دا.. وزي ما اتفقنا.. هكلم والدك ونحدد ميعاد الفرح..


سكنت نيرة بين ذراعي علياء التي رمقت مازن بذهول.. وهي تردد في بلاهة:


ـ فرح مين!!


هم مازن بالاجابة ولكن سبقته نيرة عندما نزعت نفسها من بين ذراعي علياء وتوجهت لداخل الفيلا وتهتف من خلف كتفها:


ـ فرحي أنا ومازن..


ثم التفتت له بغيظ:


ـ عايزة فرح ولا ليالي ألف ليلة.. مش عايزة أسمع همسة عليّ من أي واحدة مريضة..


ثم تحركت مسرعة لتختفي من أمام أعينهما تاركة علياء غارقة في ذهولها.. بينما تحرك مازن نحو سيارته وقبل أن يدخلها سأل علياء بتهذيب:


ـ عليا.. ممكن أطلب منك تطمنيني عليها.. أنا عارف أنها مش هترد على تليفوناتي..


ـ بس.. إيه اللي حصل؟..


ـ اللي حصل يخصها لوحدها.. وهي أكيد هتحكي لك عنه.. بس لما تهدى.. قولي لها بس أنه فرحنا هيكون بعد شهر بالكتير.. تصبحي على خير..


**********


حركة خفيفة على وجنة منى كانت سبباً في إفاقتها من نومها.. فحركت يدها لتبعد ما يزعجها.. ولكن تلك الحركة استمرت بإلحاح أكبر.. فبدأت تستيقظ بالفعل, لتتذكر أن الليلة السابقة كانت ليلة زفافها وأن الذي يجاورها بالفراش الآن..هو حسن.. زوجها..


فتحت عين واحدة لتلمحه يراقبها باستمتاع فأغلقتها سريعاً.. ثم عادت تفتح عينها الأخرى لتفاجئ بقبلة ناعمة على جفنها المغلق.. فهتفت بعفوية:


ـ بلاش تبوسني في عينيه..


قهقه ضاحكاً وهو يقلد عبد الوهاب:


ـ دي البوسه في العين تفرق..


ابتسمت بدورها وهي تضع أناملها على شفتيه:


ـ ربنا ما يجيب فراق..


تحرك ليضمها لصدره وهو يهمس عابثاً:


ـ خليكِ فاكرة.. أنتِ اللي رفضتِ البوسة في العيون!!..


ثم أنقض لينهل من حبها الذي اشتاق له كثيراً..


وبعد وقت طويل كانت منى تجلس في شرفة الشاليه لتتناول غذاءً متأخراً مع حسن.. وتراقب غروب الشمس.. تمسك بيدها الوردة التي كان يوقظها بها حسن صباحاً.. وسمعته يخبرها ضاحكاً:


ـ يزيد مالي البيت أكل.. وجايب لنا وردة واحدة بس.. رومانسي قوي الواد ده!..


ابتسمت منى برقة:


ـ بس الجنينة كلها ورد.. حلوة قوي..


قرب مقعده منها وهو يمسك يدها ويقبلها.. برقة:


ـ إن شاء الله هيكون عندك جنينة زيها وأحلى منها كمان.. أنا عندي كام منى..


أخفضت منى عينيها بخجل ليهتف هو:


ـ يووووووه على الكسوف ده.. ايه رأيك أعطيكِ درس تاني من دروس حسن يمكن الكسوف يخف شويه..


ضحكت برقة.. واللون يتدافع إلى وجنتيها بسرعة شديدة.. فنهض حسن ممسكاً بيدها:


ـ طيب خلاص.. نأجل الدرس شويه.. تحبي نتمشى على البحر..


هزت رأسها نفياً وهي تخبره بخجل:


ـ عايزة أرقص معاك رقصة سلو.. زي الأفلام.. بس أنت اللي هتعلمني..


ابتسم حسن بسعادة وهو يشاكسها:


ـ وماله.. آهي كلها دروس..


تحرك ليبحث بين مجموعة الأغاني التي يحتفظ بها يزيد.. ليجدها تقف بجواره:


ـ عايزة أغنية.. باعترف..


ـ من عينيه..


أدار الأغنية.. وضمها إلى صدره ليغيبا سوياً مع كلمات الأغنية وكل منهما يهمس بها للآخر..


*********


جلس يزيد خلف مقود سيارته في شرود.. يتساءل بداخله عما دفعه للقيام بتلك الرحلة الحمقاء.. هل يرغب برؤيتها حقاً؟.. ولماذا؟.. ماذا سيستفيد برؤيته لها؟.. والأهم هل يضمن سيطرته على مشاعره إذا رآها؟..


رفع بصره إلى الشرفة البعيدة والمضيئة.. يعلم أنها مازالت مستيقظة وأن نيرة ستكون برفقتها بالطبع.. ربما هذا ما شجعه على المجئ.. أنه لن ينفرد بها.. فقط سيراها ويروي عطش عينيه بزرقة عينيها وتلك النظرة التي تحتويه بها وتصرخ بحبها له..


يدرك أنها أنانية منه.. بل أنه يستحق لقب الوغد الأكبر في الكون.. فما يفعله بها وما يرسله لها من رسائل متناقضة تقلب كيانها وتجعلها غير مدركة لمشاعره المتقلبة نحوها, لهو أكبر خطيئة قد يرتكبها على الإطلاق.. ولكنه عاجز عن فعل أي شيء سوى رؤيتها.. وإشباع روحه قبل عينيه بنظرة الحب في عينيها...


لقد مر بأسبوع كالجحيم.. فبعد ما مضى الأسبوع الأول من ابتعاده عنها بهدوء وهنأ نفسه على حُسن اختياره لقرار البعد.. إلا أن مع مرور الوقت وزيادة شعوره بالاشتياق لها جعله كالقنبلة الموقوتة يخشى جميع من حوله أن تنفجر به في أي لحظة.. فأعصابة مشدودة على الدوام.. صوته عالٍ على الجميع.. حتى ريناد نفسها لم تسلم من إحدى نوبات غضبه.. والده يرمقه بنظرة مفكرة بينما والدته تظن أن ما به توتر ما قبل الزفاف حتى أنها سخرت منه يوماً قائلة:


ـ إيه يا يزيد.. أنا أعرف أن العروسة هي اللي بتكون قلقانة ومتوترة مش العريس..


لم يجد يومها ما يجبها به سوى تبرير واهٍ حول رغبته في الإنتهاء من العمل حتى يستطيع القيام بإجازة شهر عسله بارتياح..


وبعد عدة ثورات أخرى في العمل اقترح والده عليه ببساطة أن يبدأ إجازته مبكراً حتى تهدأ أعصابه قليلاً, ولكنه رفض بقوة.. وحاول قدر استطاعته التحكم بنوبات غضبه والسيطرة على ثوراته المتعددة, وكان ذلك سبباً إضافياً في الضغط على أعصابه التي تحترق من الأساس..


لذا فقد أخذ قراره.. متخذاً من وجود بعض الأوراق الهامة بخزينة مكتب والده بالمزرعة كعذر واه للحضور إلى المزرعة, لإحضار الأوراق, ظاهرياً ومن داخله كان يتمنى أن يراها ولو من بعيد.. فقط يلمحها.. مرة.. مرة واحدة..


عاد يرفع عينيه إلى الشرفة المضاءة ليلمحها تتحرك بها.. وشعر للحظة وكأنها تتجمد وهي تلمح سيارته قرب البوابة المعدنية الكبيرة.. ثم التفت لتدخل حجرتها بسرعة..


صارخة بذهول:


ـ نيرة.. بيتهيألي عربية يزيد بره!!..


زفرت نيرة بنفاذ صبر وهي تتصفح إحدى دفاتر الرسم الخاصة بعلياء:


ـ وبعدين يا علياء.. هو كل ليلة الموال ده.. أسبوع من يوم ما جيت وأنتِ أي عربية تعدي جنب المزرعة تقومي تجري وتقولي أنك حاسة أنه سي يزيد.. خلاص.. لازم تنسيه.. جوازه مش باقي عليه إلا أسبوعين.. وريناد بتوزع الدعوات فعلاً..


أخفضت علياء وجهها أرضاً في حزن:


ـ خلاص يا نيرة.. مش لازم تفكريني كل شويه..


تحركت نيرة وتركت الدفتر ليسقط من يدها وتمسكت بكتفي علياء بقوة:


ـ أنا بفكرك عشان تكوني أقوى.. عشان ما تضعفيش.. لازم تجهزي نفسك ليوم فرحه.. وعقلك هو اللي يكون له التصرف.. ما تخليش حد يشمت فيكي.. فاهماني..


قالت جملتها الأخيرة وكأنها تذكر بها نفسها..


أومأت علياء في حزن:


ـ هو أنا أقدر أعمل حاجة غير كده..


تركت نيرة كتفي علياء والتفتت لتجلس على أحد المقاعد المريحة.. هاتفة بغيظ:


ـ أيوه تقدري.. تقــدري.. تنســـ...


قطعت كلماتها عندما لمحت الصفحة التي فتح عليها دفتر الرسم ووجه يزيد يطالعها بملامح.. غامضة.. وعينيه تلتمع بهما نظرة توق ممزوجة بنظرة رغبة واضحة.. فانحنت لتلتقط الدفتر وسألت علياء بخوف:


ـ عليا.. أنتِ رسمتِ الصورة دي ليزيد امتى؟..


رفعت علياء لها عينين تحتبس بهما الدموع وهي تتساءل بدورها:


ـ هاه.. أي صورة؟..


حركت نيرة الدفتر أمام علياء لتواجهها عينيّ يزيد تتألق بهما النظرة التي تلازمه مؤخراً كلما نظر إليها.. فهزت كتفيها بمعنى لا أدري.. فعادت نيرة لتسألها بإلحاح:


ـ هو فعلاً بيبص لك بالطريقة دي؟.. ولا دي مجرد لوحة...


ابتلعت علياء ريقها بارتباك وهي ترد على السؤال بسؤال:


ـ مش فاهمة قصدك إيه يا نيرة.. وهي هتفرق في إيه يعني؟..


قبل أن ترد عليها نيرة دوي صوت إغلاق الباب الخارجي للفيلا.. فقفزت علياء بسعادة واختفت علامات الحزن من ملامحها في ثوانٍ وهي تصيح أثناء خروجها من غرفتها:


ـ الباب.. سمعتِ الباب.. يبقى أكيد يزيد..


وانطلقت تعدو تاركة خلفها نيرة فاغرة فمها بذهول لسرعة تبدل حال صديقتها إلا أنها أجبرت نفسها على التحرك خلفها بسرعة.. فبعد رؤيتها لنظرة عينيّ يزيد في اللوحة.. لن تأمن أبداً وجوده منفرداً مع علياء.. فخرجت وهي تتمتم في غضب..


ـ لو نظرة عينيه دي حقيقية.. يبقى مش لازم ينفرد بعليا لوحدهم أبداً..


وصلت علياء إلى الطابق الأسفل من الفيلا بينما كان يزيد على وشك الدخول إلى غرفة المكتب.. فهتفت بحنين:


ـ يزيد..


تجمد يزيد لحظة أن سمع صوتها واشتدت يده على مقبض الباب وهو يحاول التحكم في جسده الذي انتفض بقوة لسماع صوتها.. فبرغم أنه حضر خصيصاً لرؤيتها والتمتع بنظرة الحب في عينيها إلا أنه خشيّ للحظة أن يلتفت لها ليجد أن تلك النظرة اختفت.. أو الأصعب أن يجدها تحتويه بحبها فيعجز عن الابتعاد عنها بدون أن يروي ظمأه منها..


عاد صوتها يناديه بتردد:


ـ يزيد؟..


التفت لها ببطء لتواجهه نظراتها المشعة وقد تناثر شعرها حولها وتضرجت وجنتيها باللون الوردي الجميل وتعالى صوت تنفسها بفعل نزولها الدرج بسرعة شديدة لملاقته..


فُتن بطلتها كالمعتاد وتحرك نحوها كالمنوم مغناطيسياً.. عندما دوى صوت نيرة لينزل عليه كدشٍ بارد يفيقه من هذيانه:


ـ حمد لله على السلامة يا يزيد.. الوقت متأخر.. كنت محتاج حاجة ضروري ولا إيه؟..


التفتت علياء لنيرة التي وقفت في منتصف السلم وهي تضع يدها بخصرها وتنظر ليزيد بتحفز.. ففسرت علياء نظراتها تلك بغضبها من دور يزيد في فسخ خطبتها من حسن.. بينما أدرك يزيد نظرات التحذير التي تلتمع في عيني نيرة بسهولة فغمغم بسرعة:


ـ كان في ورق مهم في المكتب هنا.. ومحتاجينه ضروري..


وتحرك بسرعة ليدخل غرفة المكتب ويغلق الباب خلفه.. بينما جذبت نيرة علياء الهائمة من يدها بعنف واصطحبتها إلى غرفتها بالطابق العلوي.. وأغلقت الباب خلفهما بقوة والتفتت لتصيح بها:


ـ عليا.. إيه حدود علاقتك بيزيد؟..


تلعثمت علياء وهي تجبها:


ـ مش.. أنتِ اللي قلتِ لي أقرب منه و..


قاطعتها نيرة بغضب:


ـ ايوه.. أنا قلت كده.. بس كنت فاكرة أنك فاهمة قصدي.. أنك تقربي من غير ما تتحرقي بالنار.. فاهماني يا عليا؟..


رفعت علياء لها عينين حائرتين فتنهدت نيرة بحنق:


ـ عليا في علاقة بينك وبين يزيد؟..


شهقت علياء بقوة وهي تهتف بحرج:


ـ أنتِ بتقولي إيه يا نيرة!!


تنهدت نيرة بارتياح ونصحتها بهدوء:


ـ طيب.. خلاص يا عليا.. بس دلوقتِ مش هينفع تقربي من يزيد.. خلاص فرحه ما بقاش عليه حاجة.. يعني هو قرر عايز مين.. لازم تخرجيه من دماغك وتنسيه خالص..


أجابتها علياء بحزن:


ـ إزاي بس؟.. أنا بحبه.. و..


قاطعتها نيرة بقوة:


ـ انسي الحب ده خالص.. ودوسي على قلبك.. ودوري على اللي بيحبك..


سألتها علياء بألم:


ـ زي ما أنتِ عملتِ؟.. اخترتِ مازن عشان بيحبك؟..


أشاحت نيرة بوجهها بعيداً وهي تتمتم:


ـ اخترت!!.. أيوه.. مازن بيحبني.. وهو الإنسان اللي هكمل حياتي معاه.. أنا كنت فاهمة نفسي غلط لما أوهمتها بحب حسن..


سألتها علياء بتعجب:


ـ أومال مش بتردي على تليفوناته ليه؟.. ده بيتصل بيكي كل يوم.. وأنتِ من يوم ما جيتِ من أسبوع ما ردتيش عليه..


كتفت نيرة ذراعيها أمام صدرها وهي تبحث عن إجابة لسؤال علياء.. فهي بالفعل تتهرب من الرد على مازن ليس رغبة منها في تأجيج عواطفه, ولكن خوفاً منه.. نعم.. هي تخاف مازن بشخصيته الجديدة عليها والتي لم تظن يوماً أنه يمتلكها.. لقد ظنت لوهلة وهي تلمح نظرات الحب والألم في عينيه عندما كان يخيرها حسن.. أو بالأحرى يهددها.. ظنت أنها وجدت المخرج لنفسها لتصفع حسن بشقيقه.. ولكن مازن.. أظهر لها وجهاً آخر وجهاً مختلفاً تماماً عما ظنت.. لقد هربت من الجميع ومن الأقاويل إلى مزرعة الغمراوي لتكون برفقة علياء.. ولكنها غير قادرة على الهروب من التفكير به.. وبحوارهما معاً قبل أن يصطحبها إلى المزرعة.. والذي أوضح بجلاء.. أن مازن لن يكون الرجل الذي تستطيع لفه حول إصبعها بسهولة كما تخيلت..


أخرجها من شرودها صوت علياء:


ـ نيرة!!.. روحتِ فين؟


ألتفتت نيرة لتخبر علياء بهدوء:


ـ عليا.. زي ما قلت لك.. انسي يزيد خالص.. وابعدي عنه نهائي.. أنا.. أنا هروح أنام.. أنا تعبانة وعندي إحساس أني بقالي سنين ما نمتش..


وهربت نيرة بسرعة من أمام علياء.. فهي رفضت مناقشة أي شيء يخص فك ارتباطها بحسن وقرارها السريع بالارتباط بمازن مع أي شخص حتى والدها.. الذي أخبرته أنها تريد البقاء مع علياء لفترة.. وتركت له ولأول مرة مهمة تحديد زواجها الوشيك..


استقرت نيرة بغرفتها وأغلقت بابها لتنفرد بنفسها وأفكارها حول مازن..


*******


انتظرت علياء بصبر في شرفتها حتى تستطيع رؤية يزيد قبل أن يذهب.. ولكنه لم يظهر مرة أخرى بعد دخوله إلى غرفة المكتب.. انتظرت ساعة.. وساعة أخرى.. ولكن لا أثر له..


أخيراً سحبت مئزراً منزلياً لترتديه فوق منامتها القصيرة.. وارتدته على عجل ونزلت مسرعة إلى غرفة المكتب..


وقفت ثوانٍ تلتقط أنفاسها.. ثم طرقت الباب بخفة وانتظرت لتسمع أي رد.. ولكن لم يقابلها سوى الصمت التام..


ابتلعت ريقها بقوة وأخذت نفساً عميقاً قبل أن تفتح الباب بهدوء وتدلف إلى الغرفة لتفاجئ بيزيد وقد افترش الأريكة العريضة الموجودة بالغرفة.. وذهب في نومٍ عميق..


أغلقت الباب بهدوء حتى لا توقظه, واقتربت ببطء وهي تقدم خطوة وتأخر أخرى.. حتى وصلت إليه ووقفت تتأمل ملامحه الوسيمة ولكنها كانت منقبضة بشدة وكأنه يتألم من شيء ما..


سمعته يهمس بشيء.. فهبطت على ركبتيها أمام الأريكة حتى تستطيع سماع ما يهمس به في نومه...


عاد يهمس في نومه ثانية وعقد حاجبيه بشدة.. فمدت يدها لتمسد جبهته برقة حتى تنفرج ملامحه وتعود لهدوئها.. وأخذت أناملها تتجول على وجهه برقة وكأنها تريد رسمها في خيالها.. تريد حفظها بين حنايا قلبها لتكون زادها في بعاده بعد ما قرر بحسم الإستمرار في زواجه...


ـ علياء.. علياء الفراشة..


جمدت أناملها على وجهه وهي تسمعه يهمس باسمها.. وقطبت حاجبيها في حيرة.. هل يناجيها في أحلامه؟.. إذاً لم الهجر والبعاد؟.. لم زواجه من أخرى؟..


عاد اسمها يتردد بين شفتيه:


ـ فراشتي.. عليائي.. مش قادر..


تجمدت كل خلية بجسدها وهي تلمح عينيه المفتوحة تحدق بها.. وترمقها بنظرات هائمة.. سرعان ما تحولت إلى تلك النظرة التي أصبحت تألفها في عينيه مؤخراً... وقبل أن تفكر بالتحرك وجدت ذراعه تطوق كتفيها وعنقها لتجذبها فوق صدره وهو يقبلها بشغف ورقة ويهمس باسمها بتوق شديد..


فوجدت نفسها تستسلم لعواطفه المشبوبة كعادتها دائماً.. وتحرك ذراعيها للتتمسك بكتفي يزيد الذي كان غارقاً في قبلاتها ظناً منه إنه يعيش واحدً من أحلامه التي لازمته مؤخراً..


يحلم بها.. يختطفها ليذهبا بعيداً عن الجميع.. عن كل ما يفصلهما ويمنع وجودهما معاً.. يحتضنها ويقربها منه.. يضمها إلى صدره ويقبلها كما يفعل الآن.. إلا أن تلك المرة كان الحلم حيٌ أكثر مما ينبغي.. ملموس بقوة كملمس نعومة خصلاتها بين أنامله.. ودافئ برقة كرقة شفتيها بين شفتيه.. كان حلم قريب من الواقع وهو يسمع همسها:


ـ بحبك.. بحبك يا يزيد.. ليه بتبعد عني؟..


انتفض بقوة وهو يشعر بأناملها تنغرز بين خصلات شعره.. وصوتها الهامس يتردد بين أنفاسه.. شعر أن الحلم اختلط بالواقع وأنه الآن يعيش واقعاً ملموساً..


نهض جالساً من رقدته.. وأمسك بذراعيها ليثبتها أمامه فارتكزت بكفيها على الأريكة في حين ظلت متكئة على ركبتيها وهي تلهث بقوة من عنف المشاعر التي جمعتها به..


سمعته يسألها بخشونة:


ـ أنتِ إيه اللي مصحيكِ لحد دلوقتِ؟..


علمت بسهولة أن خشونته مصطنعة فأخذت تنهل من ملامحه الحبيبة لعينيها بجوع وهي ترد بخفوت:


ـ قلقت عليك وجيت أشوفك..


تخللت أنامله بين خصلاته بقلق:


ـ أنا.. أنا.. كنت بدور على الورق.. وتعبني على ما لقيته فقلت أريح عينيه شوية قبل ما أرجع تاني القاهرة.. بس يظهر أني روحت في النوم..


رفعت أناملها لتمر بها على جانب وجهه برقة:


ـ أنت شكلك فعلاً مرهق أوي.. أنت مش بتنام؟..


مد يده ليمسك بيدها ويبعدها عن وجهه وهو يهتف بخفوت:


ـ علياء.. بلاش جنون.. احنا اتفقنا من المرة اللي فاتت أن كل ده لازم ينتهي..


رددت ببراءة:


ـ بس أنت كنت بتبوسني دلوقتِ!


أجابها بسرعة:


ـ كنت بحلم.. و..


ارتسمت على شفتيها ابتسامة رقيقة وهي تسأله:


ـ كنت بتحلم أنك بتبوسني؟..


عادت أنامله تعيد خصلاته للخلف وهو يحاول أن يتماسك من أجلهما معاً.. تلك الفراشة تتلاعب حول اللهب ولا تعلم أنه سيحرقها قبل أن يحرقه هو..


حاول أن يطلب منها بحزم ولكن طلبه خرج كتوسل رقيق:


ـ اطلعي أوضتك يا علياء.. اطلعي أوضتك واقفلي عليكِ بالمفتاح..


هزت رأسها بالنفي وهو تعاود ملامسة وجهه:


ـ قولي الأول أنت جيت ليه الليلة؟..


رفع يديه ليمسك يدها قبل أن يذوب تحت لمسة أناملها واحتفظ بها تلك المرة في كفه.. وحاول أن يتذكر سؤالها.. ليجمع بعض كلمات بلا معنى:


ـ ورق.. مهم.. كان لازم أجيبه الليلة..


هزت رأسها وكأنها غير مقتنعة بكلماته فهي تشعر بأنامله تداعب كف يدها التي يحتضنها بدفء شديد.. وأنبأتها غريزتها الأنثوية أن تلك الأوراق ما هي إلا عذر حتى يأتي إلى المزرعة ليراها.. فوجدت نفسها تلقي بذراعها خلف عنقه وتقف على ركبتيها ليكون وجهها مواجهاً لوجه وهمست بتوسل أمام شفتيه:


ـ يزيد.. أنا مش حلم.. أنا حقيقة.. يزيد.. خدني في حضنك.. حتى ولو لآخر مرة.. حتى لو كان وداع..


لم يدعها تكمل توسلها فهو يحتاجها بين أحضانه أكثر مما يحتاج الهواء الذي يتنفسه.. لقد أضناه بعاده عنها وحرقه شوقه إليها..


اعتصر جسدها الشاب بين ذراعيه.. وشفتيه تعزف لها مقطوعة من الشغف المجنون.. تتنقل بجنون بين شفتيها ووجنتيها وجفنيها ليعود ويلتهم شفتيها بقسوة جعلتها تئن بين ذراعيه وتبعد شفتيها عنه لتمرغ وجهها كالقطة في تجويف عنقه بينما سقطت شفتيه على شاماتها الصغيرة يقبلها برقة.. ويعود إلى شفتيها برقة أذابتها لترفع ذراعيها تحيط بهما عنقه مستسلمة لقدرها بين ذراعيه حيث أصبحت المقاومة بالنسبة لها خيار غير وارد, وخضع هو لسحر وجودها بين ذراعيه ومتعة الإحساس بحبها السرمدي فكانت المقاومة بالنسبة له رفاهية هو عاجز عن تحملها..


وأخيراً هدأت عاصفة حبهما وسكنت علياء بين ذراعيّ يزيد..


لم تتفتح الأبواب.. لم تتكسر النوافذ.. وبالتأكيد لم تهطل الأمطار أو تفور القهوة لتطفئ شعلة النار..


فقط كُسِرت الفراشة وحُطِمت أجنحتها... 


الفصل الحادي عشر

والثاني عشر

جلس حسن بجوار منى حول مائدة على شكل نصف دائرة بإحدى الملاهي الليلية الشهيرة والملحقة بفندق خمسة نجوم.. وأمسك يدها ليضغط عليها هامساً:


ـ إيه رأيك.. أعملك امتحان دلوقتِ في دروس الأسبوع اللي فات؟..


تورد وجه منى بروعة سلبت لبه وقد ظهرت صدمتها جلية.. وهي تسأله بذهول:


ـ حسن!.. أنت بتقول إيه!!


قهقهة بشقاوة وهو يجيبها ببراءة مصطنعة:


ـ أنا قصدي دروس الرقص.. هو أنتِ قصدك حاجة تانية!


زمت منى شفتيها بفتنة تدعي الغضب.. وتجيبه بدلال أدركت عشقه له بغريزتها:


ـ أنا كمان أقصد الرقص.. بس هتكسف أرقص قدام الناس..


جذبها من يدها ليتوجها نحو حلبة الرقص:


ـ ما تفكريش في الناس.. المهم أننا سوا..


رفعت ذراعيها ليطوقا عنقه وبدآ يتحركان على أنغام الموسيقى الهادئة برشاقة..


ابتسمت منى بخجل بينما أراح جبهته فوق جبهتها وسألها بجدية:


ـ سعيدة يا منى؟..


أغمضت عينيها بحالمية وهي تهمس:


ـ سعيدة دي كلمة قليلة على اللي بحس به وأنا معاك.. حسن.. أنت أحلى حاجة في دنيتي..


ضمها إلى صدره بقوة وهو يخبرها بشقاوة:


ـ يعني المفروض أنا أعمل إيه دلوقتِ.. الكلام الحلو ده تقولهولي واحنا في بيتنا بس.. وإلا أنا مش مسئول عن تصرفاتي!..


ضحكت برقة وهي تلقي برأسها على كتفه لتستمتع بدقات قلبه التي تدوي عالياً.. سعيدة بتأثيرها عليه فهو له تأثير مماثل عليها..


ظلا يتمايلان على الموسيقى وهما بين ذراعي بعضهما.. وحسن يطلب منها كل خمس دقائق العودة إلى الشاليه وهي تضحك له بإغاظة:


ـ خلينا شوية.. أنا مبسوطة وأنا بطبق دروسك عملي.. أقصد دروس الرقص.. أنت أستاذ شاطر..


توقف عن الرقص وجذبها هامساً:


ـ أنا قلت الكلام ده يبقى في البيت.. يلا قدامي.. عندك امتحان مفاجئ في دروس تانية..


ضحكت برقة وعادا ليجلسا على مائدتهما حيث أشار حسن إلى النادل ليأتي له بالفاتورة..


عادت منى تضحك وهي تسأله:


ـ إيه رأيك أما نروح تعلمني السباحة؟..


نظر إليها نظرة غامضة:


ـ ما ينفعش.. إلا لو اشتريت لكِ بحر خصوصي!..


ضحكت بذهول:


ـ ازاي يعني مش فاهمة؟..


ـ يعني أنا مراتي مش هتلبس مايوه والناس تتفرج عليها.. أما نرجع بيتنا هعلمك في حمام السباحة بتاع الفيلا..


سألته بقلق:


ـ احنا هنعيش في الفيلا بتاعة باباك؟.. أنا كنت فاهمة غير كده..


تنهد بألم حاول أن يخفيه عنها:


ـ الأول هنعيش في شقتي.. أنا كنت بجهزها طول الفترة اللي فاتت.. لحد ما نصلح الأمور مع بابا..


مدت يدها لتتمسك بكفه وهي تخبره بدفء:


ـ إن شاء الله يا حسن كل الأمور هتتحسن..


عاد النادل وهو يخبر حسن بحرج أن البطاقة غير صالحة.. تعجب حسن بشدة ومنحه بطاقة أخرى ليعود النادل بنفس الرد.. تكرر الوضع مع بطاقتين آخرتين.. حتى شعر حسن بوجود شيء غير طبيعي.. وانتابه الحرج من الموقف وقد أدرك أن والده بدأ الحرب بالفعل..


لمح تبرم النادل الواقف أمامه.. فمد يده ليخرج بطاقة أخرى.. وهو يشكر يزيد بأعماقه, فقد أصر عليه يزيد ليأخذها منه قبل لحظات من انطلاقه بالسيارة ليلة زفافه وهو يخبره أنها لن تضره, بل قد تنفعه فالظروف غير مضمونة..


ارتسمت ابتسامة ساخرة على شفتيه وهو يفكر بأن يزيد كان محقاً وكما يبدو أنه توقع تصرف والده بتلك الطريقة..


انتهى الموقف المحرج وخرجت منى تتأبط ذراع حسن وهي تسأله بقلق:


ـ حسن.. هو في إيه؟..


ربت على يدها مطمئناً:


ـ ما تقلقيش يا منى..


ـ إزاي بس؟.. طيب واللي حصل ده معناه إيه؟


أطرق حسن بحزن:


ـ معناه أن قدامنا حرب جامدة مع حاتم بيه العدوي..


ثم رفع رأسه وحرك ذراعه ليحيط كتفيها به ويضمها بشدة.. فضمت نفسها له أكثر وهي تطمئنه:


ـ أنا معاك وجنبك يا حسن.. دايماً معاك..


طبع قبلة رقيقة على جبينها.. واصطحبها إلى شاليه يزيد وهو يشكره للمرة الثانية فيبدو أن والده لم يعلم مكانه بعد.. وإلا كان شرفه بالزيارة.. فحاتم العدوي.. لا يتهرب من المواجهة قط...


***********


استيقظت نيرة في التاسعة تتأفف من آشعة الشمس التي تزعجها كل صباح وأخذت تتساءل للمرة المائة.. لم تشرق الشمس مبكرة هكذا في تلك المزرعة؟!..


تثاءبت للمرة الخامسة وهي تحاول العودة للنوم مرة ثانية ولكنها ما لبثت أن شعرت بافتقاد إزعاج من نوع آخر.. فــعلياء عادة ما تأتي لإيقاظها في السابعة.. نعم السابعة... من يصدق أن تلك الصغيرة قادرة على سحب نيرة غيث من الفراش في السابعة!!.. وذلك حتى يمتطيا الخيل معاً.. ثم تعودان لتناول الطعام سوياً..


"فين عليا؟"..


سؤال تردد بذهنها مع انقباضة مفاجئة بقلبها.. فأزاحت الغطاء من فوقها بقوة وقد قررت الذهاب إليها لتعرف سبب تأخرها..


طرقت باب غرفة علياء عدة مرات ولم تتلقَ أي إجابة.. ازداد قلقها وفتحت الباب لتجد الغرفة خالية تماماً.. ولكن ما جعل عينيها تتسعان بخوف هو الفراش ذو الغطاء الوردي المرتب تماماً.. والذي يعلن صراحة أن علياء لم تمضي الليلة بغرفتها..


حاولت دفع الهاجس الذي يتردد بذهنها بالبحث عن علياء في غرفة يزيد.. فهي لا تتخيل أن تجرؤ علياء على ذلك.. ولكنها لم تستطع.. فتوجهت مسرعة لتفتح كل غرفة موجودة بالطابق العلوي, ولكن جميع الغرف كانت خالية كما عهدتها طوال الأسبوع.. فــجد يزيد يقطن في غرفته في الطابق الأرضي.. ولا يغادرها مطلقاً, بل لا يغادر فراشه من الأساس..


قررت التوجه نحو الإصطبل علها تجدها الطفلة الحمقاء هناك.. ولكن لمحة خاطفة من أحد نوافذ الطابق السفلي أكدت لها أسوأ مخاوفها والتي حاولت جاهدة ألا تفكر بها.. فسيارة يزيد ما زالت بالخارج, التفتت لتحدق بفزع بباب غرفة المكتب المغلق..


تحركت ببطء شديد نحو الباب وصوت دقات قلبها التي تعالت وتيرتها يكاد يصم أذنيها, وأمسكت بمقبض الباب.. كادت أن تتراجع عن فتحه.. لكنها عادت وقررت أنه يجب عليها القيام بتلك الخطوة, فبعد كل شيء قد تكون مخطئة..


حركت المقبض وفتحت الباب ببطء لتجد المشهد الذي توقعته وحاولت الهرب منه بقوة فأغلقت عينيها عن مشهد الجسدين المتعانقيين والغارقيين تماماً في نومٍ عميق..


أغلقت الباب ببطء وهي تتنفس بسرعة.. لا تدري ما الذي عليها فعله.. هل تدخل لتجر علياء من بين ذراعي يزيد قبل أن يراهما أحد؟.. أم تنتظر علياء في غرفتها؟.. لا تدري!!.. فقط تريد الصراخ وهي تشعر بموجات هائلة من الغضب العاصف.. غاضبة من الحمقاء التي تجاهلت حديثهما ليلة أمس.. ومن الحقير الذي تود قتله لاستغلاله شغف علياء به بتلك السفالة.. ومن مازن الذي طاوعها وأتى بها إلى المزرعة من البداية.. الأحمق لم لم يأتِ حتى الآن؟.. هل صرف نظر عن خطبتهما أم ماذا؟.. يكتفي بمكالمة تليفونية يعلم أنها لن تجبها.. لقد ظنت أنه قد يأتي لرؤيتها.. أو..


يا إلهي.. ما الذي تفكر به؟.. هزت رأسها بعنف.. تحاول تنقية أفكارها.. والتركيز على الكارثة خلف باب المكتب.. عندما سمعت صوت يأتي من خلفها..


ـ صباح الخير يا نيرة.. واقفة عندك بتعملي إيه؟..


**********


دلف مازن إلى غرفة جدته بدون استئذان بعد أن جذبته الأصوات العالية بالغرفة.. فوالده على ما يبدو يخوض في نقاش حامٍ مع جدته..


وصله صوت الجدة روح وهي تهتف بابنها:


ـ حاتم.. بلاش قسوة قلبك دي.. حسن وخلاص اتجوز.. والبنت كويسة.. وبنت ناس..


سخر حاتم بقسوة:


ـ بنت السواق!!.. اللي طمعانة في اسم العدوي وفلوسه استحالة تكون مرات ابني..


هتفت روح بدورها:


ـ بس هي خلاص فعلاً بقت مراته.. وأظن هو أثبت قد إيه هو عاوزها ومتمسك بيها..


لمعت عينا حاتم بمكر:


ـ أما نشوف هيقدر يتمسك بيها للآخر ولا لأ.. وهي كمان هيكون تصرفها إيه بعد ما كل امتيازات العدوي تختفي فجأة..


سألته روح بتوجس:


ـ أنت عملت إيه يا حاتم؟..


رد عليها مازن الذي توسط الغرفة مواجهاً والده:


ـ بابا وقف حساب حسن البنكي وحسابي كمان.. ولغى توقيعي من على الشيكات..


رد والده بقوة:


ـ أيوه.. حتى الشقة بتاعته بعتها بموجب التوكيل اللي معايا.. وأما تشوفه ابقى بلغه أنه مالوش شغل عندي.. وكمان يسلم مفتاح عربيته في أقرب وقت..


رمقه مازن بقهر بينما سألته روح بذهول:


ـ جبت القسوة دي كلها منين يا ابني؟.. ومازن ذنبه إيه هو كمان؟..


ـ دي مش قسوة يا أمي.. ده إجراء ضروري عشان حسن يرجع لعقله.. وأول ما يطلق البنت اللي اتجوزها دي.. كل شيء هيرجع لأصله..


وتوجه إلى مازن بالكلام:


ـ أنا وقفت كل امتيازاتك المادية عشان عارف أنك هتساعده من غير تفكير.. وما تفتكرش أنك ممكن تتهرب من جوازك من نيرة.. الفضيحة اللي عملتوها لازم تتلم بسرعة.. وأبوها عايز يشوفك بأسرع وقت..


قاطعت روح حديثه وهي تأمره بحسم:


ـ حاتم.. رجع كل شيء زي ما كان.. وسيب ابنك ومراته في حالهم.. بلاش الظلم.. وإلا أنت عارف غضبي هيكون شكله إيه..


ـ يعني إيه يا أمي؟.. هو حسن ده مش ابني برضوه وأنا عايز مصلحته..


ـ لأ.. أنت عايز أوامرك تتنفذ بس.. وأوامر بأوامر بقى يا حاتم.. اسمع كلامي وابعد عنه وعن مراته.. وبلاش أذية..


أجابها حاتم بحسم قبل أن يخرج من الغرفة:


ـ أوعدك أني مش هأذي البنت ولا أهلها.. لكن فلوس لأ.. خلاص هو اختار.. يتحمل نتيجة اختياره.. وده اللي أقدر عليه.. غير كده ما أقدرش أقولك غير زي ما حضرتك بتطلبي مني أنفذ أوامرك, أنا من حقي برضوه أطلب من ابني أنه يسمع كلامي.. عن إذنك..


تهاوت روح على أريكتها فسارع مازن لاسنادها وسمعها تغمغم:


ـ رحمتك يا الله.. رحمتك يا الله..


***********


التفتت نيرة ببطء لتواجه القادم.. وهي ترد التحية بكلمات متعثرة:


ـ صباح الخير يا أونكل عصام... أنا.. أنا..


شعر عصام بالحرج وقد ظن أن تلعثم نيرة يعود إلى الزوبعة التي أثيرت حول ارتباطها الحديث بمازن العدوي.. فغمغم مرتبكاً:


ـ مبروك خطوبتك أنتِ ومازن..


لفت نيرة يديها خلف ظهرها وهي تضغط على المقبض بقوة حتى ترك بعض العلامات بكفيها.. وبالكاد استطاعت الرد على تهنئة عصام.. فكل ما كانت تفكر به أن تبعده عن الكارثة الموجودة بغرفة المكتب..


فسألته بلهفة:


ـ حضرتك فطرت؟.. أنا لسه ما فطرتش.. تحب تشرب شاي؟..


وتحركت بسرعة محاولة جذبه وتشتيت انتباهه بعيداً عن غرفة المكتب.. إلا أنه اعتذر منها بلطف.. وتحرك ليمسك مقبض الباب.. فوقع قلبها بين قدميها وهي تسمعه يسألها:


ـ أومال عليا فين؟.. ما صحيتش معقولة لحد دلوقتِ؟..


ابتلعت ريقها بصعوبة ولم تستطع الرد فعاود سؤالها:


ـ ويزيد كمان؟.. أنا شايف عربيته بره.. أكيد وصل متأخر فنام هنا ليلة امبارح.. بس غريبة أنه لسه نايم؟.


كان على وشك فتح الباب فلم تجد نيرة بداً من محاولة جذب ذراعه بشدة وهي تكاد تصرخ:


ـ عمو.. اتفضل حضرتك معايا نشرب شاي وبعدين ندور عليهم..


تسبب صوت نيرة العالي في ايقاظ يزيد.. ففتح عينيه ليجد علياء نائمة بين ذراعيه.. وشعرها متناثر بعبث يغطي وجهها الذي دفنته بصدره العاري..


انسحب الدم من أطرافه عندما أدرك هول ما قام به.. وعاودته ذكريات الليلة الماضية بقوة.. تتزاحم برأسه صور ثلاثية الأبعاد.. قبلاتهما الشغوفة والتي تحولت إلى جنون مطلق وهو يشعر بها بين ذراعيه.. دقات قلبها تدوي كصدى لقلبه هو.. ويديه تتجول على جسدها وقد أفلتت سيطرته عليهما بينما هي تلامسه بخجل وبخبرة ضئيلة اكتسبتها منه هو شخصياً.. انهارت مقاومته أخيراً.. ووجودها أمامه راغبة في منحه كل ما يرغب لم يساعده.. وما ظنه حلم في البداية كان واقعاً ملموساً ومغرياً حد الجنون.. لم يستطع مقاومة أخذها, فهي له.. خلقت من أجله وها هي تعترف بذلك هامسة له بحبها.. وبملكيته لقلبها.. هو وحده.. من يستطع مواجهة امرأة تجعله السيد الأول على كلٍ قلبها وعقلها وجسدها.. أنه لم يخلق من صخر حتى لا يخضع لسحر اللحظة.. ذلك السحر الذي انقلب في نور الصباح إلى لعنة.. وهو يدرك فداحة ما قام به..


عاد صوت نيرة يدوي مرة أخرى.. وسمع صوت والده يجيبها بشيء ما.. فجف حلقه وهو يحاول ايقاظ علياء.. بينما فُتِح باب الغرفة ليدلف والده الذي تجمد على عتبة الغرفة وهو يرى ربيبته الصغيرة بين ذراعي ابنه وقد بدا جلياً ما حدث بينهما..


لم يستطع يزيد مواجهة عينيّ والده.. فهو لم يتخيل يوماً أن يوضع في موقف كهذا.. شعر بطاقة رهيبة من الغضب تجري بعروقه.. وظهرت بوضوح وهو يحرك علياء بقسوة حتى تستيقظ..


ـ علياء..


ثم رفع صوته أكثر ورفع شعرها عن وجهها:


ـ علياء.. اصحي..


فتحت علياء عينيها ببطء لتلتقي بالقسوة الخالصة في عينيّ يزيد المطلة عليها.. فحدقت به للحظات قبل أن تدرك وضعها.. بين ذراعيه.. فأطلقت صرخة قصيرة قبل أن تحاول الابتعاد عنه بحركة سريعة.. أحبطها هو على الفور بعد أن ضغطها بين ذراعيه.. فقد كان ما يغطي جسدهما معاً هو القميص الخاص به فقط.. بينما رقد ردائها الممزق في مكانٍ ما بالغرفة..


لم يحتمل عصام المشهد الذي كاد أن يصيبه بأزمة قلبية.. فصرخ بقسوة:


ـ نيرة.. هاتي لها أي حاجة من أوضتها تلبسها..


شهقت علياء بعنف بعدما سمعت صوت عصام ولم تستطع لف رأسها لمواجهته ورؤية الصدمة وخيبة الأمل بعينيه.. بينما ارتفع صوته بهيسترية وهو يصرخ بيزيد وقد اقترب منهما.. والتقط بنطال ابنه ليلقيه بوجهه:


ـ ابعد عنها حالاً..


ثم أدار وجهه عنهما.. وهو عاجز عن قول المزيد..


عادت نيرة بسرعة ومعها مئزر طويل لعلياء التي لفت نفسها به بسرعة..


ومرت لحظات في صمت تام.. وعلياء منكسة وجهها بالأرض.. بينما يراقبها يزيد بنظرات غامضة ممتزجة بغضب مستعر.. قطع والده الصمت بأن طلب من نيرة بصوت حاول جهده التحكم به:


ـ نيرة.. من فضلك.. خدي عليا فوق..


ثم أخفض صوته بشبه توسل:


ـ اللي شوفتيه يا بنتي.. يا ريت يفضل بينا إحنا بس..


أومأت نيرة بصمت وهي تحتضن علياء لتحركها خارج الغرفة تكاد تحملها حملاً.. وما أن خرجتا وتأكد عصام من ابتعادهما حتى أغلق الباب والتفت إلى ابنه بغضب عاصف.. بينما رفع يزيد رأسه محاولاً الكلام:


ـ بابا... أرجوك.. أنا..


قطع والده كلامه بصفعة قوية نزلت على وجهه وهو يهتف به:


ـ أنت حيوان.. ابني أنا.. لحمي ودمي.. حيوان بيلعب بأعراض بنات الناس.. ويعتدي على حرماتهم..


وضع يزيد كفه فوق مكان الصفعة بينما تكورت قبضته الأخرى في قبضة غاضبة..


ـ بابا..


قاطعه والده بصراخ:


ـ أنا مش عايز أسمع صوتك.. ولا حتى أشوف وشك..


وخبط على المكتب بعنف:


ـ من إمتى؟..


رمقه يزيد بحيرة.. فأعاد السؤال مرة أخرى:


ـ أنت على علاقة بها من إمتى؟..


غمغم يزيد بخفوت:


ـ امبارح بس.


تغاضى عصام عن النظر إلى الأريكة التي تحمل الدليل على صحة كلام ابنه.. وصاح به في غضب:


ـ إزاي؟.. وليه؟.. فجأة كده عليا اللي كنت مش طايق وجودها ونازل فيها أوامر وشخط وزعيق.. فجأة احلوت في عينيك؟.. ولا كنت بتسلي نفسك لحد ما تتجوز؟..


هتف يزيد بقوة محاولاً الدفاع عن نفسه:


ـ بابا...


قاطعه والده:


ـ ده أنت فرحك بعد أسبوعين.. إيه مش عارف تتحكم في نفسك أسبوعين!!.. ذنبها إيه المسكينة اللي أنت نهشت لحمها دي..


صرخ به يزيد وقد فلت غضبه من عقاله:


ـ بلاش نتكلم عن الذنوب!


ـ قصدك إيه يا ولد..


ـ لو اتكلمنا على الذنوب.. فأنت أول واحد لازم يتحاسب.. ذنبها إيه أمي في جوازك عليها بعد عشرتها ليك فوق الخمستاشر سنة يكون جزائها زوجة تانية.. ذنبي إيه أنا أسمع شكوتها وألمها من ظلمك وخيانتك ليها.. ذنبي إيه وأنا مش عارف إزاي أراضيها ولا أواسيها.. ذنبي إيه وأنا بحاول معاها ترحم نفسها من المهدئات اللي كانت هتدمرها.. ذنبي إيه وأنا بمنعها أكتر من مرة أنها تنهي حياتها.. مرة قطع شرايين.. ومرة جرعة منوم زايدة.. وكل ده لأنك قررت أنها مش كفاية لك كزوجة.. كـــست.. وأنثى واتجوزت عليها.. وبعد ده كله.. جبت علياء.. وعملت حواليها ألف سور وألف جدار.. وتحذيرات كأنك بترسم لي وضع معين ما ينفعش أغيره.. دي أختك الصغيرة.. أختك الصغيرة.. أختي إزاي ومنين؟.. مش فاهم!..


قاطعه والده بذهول:


ـ ده انتقامك مني ومنها على جوازتي من أمها؟!.. أنك تحطم الأسوار وتكسر الجدران اللي عملتها عشان مصلحتك قبل مصلحتها.. أنك تغتصب البنت الأمانة اللي في رقابتي واللي أنا مسئول عنها قدام ربنا..


توسعت عينا يزيد بذهول وهو يهتف بغضب:


ـ اغتصبها!!..


لم يلتفت عصام إلى ذهول ابنه وواصل اتهامه له:


ـ ده انتقامك مني.. أنك تدمر البنت!.. عشان كده أصريت أنك تيجي امبارح المزرعة.. عشان تنفذ اللي بالك.. ويا ترى الست والدتك عارفة بخطتك؟.. أكيد لأ.. وإلا ما كانتش جننتني من امبارح عشان ابنها الحيلة اللي بات بره البيت!..


هتف يزيد بعنف:


ـ لا.. ده مش انتقام.. يا ريته كان كده.. بس كمان مش اغتصاب..


سخر والده بعنف:


ـ بعد كده هتقولي أنه هي اللي اعتدت عليك!


رفع يزيد رأسه وهتف بوالده بصرامة:


ـ اللي حصل.. حصل.. وأنا مش هتكلم عنه.. كل اللي عايزه أنك تبعت تجيب المأذون.. هتجوز علياء حالاً..


صمت والده للحظات.. ثم قال:


ـ ما هو أنت أكيد هتتجوزها.. أنت فاهم أني هرضى بحل تاني؟..


رمقه يزيد ساخراً وغاضباً من نفسه فقد سقط في الفخ كالأحمق.. وصمت وهو يتوعد علياء سراً.. الصغيرة المغوية اللعينة.. لم تنصت إليه واستدرجته بهمساتها حتى عجز عن مقاومتها أو مقاومة نفسه..


تنهد يزيد بيأس عندما سمع والده يسأله:


ـ وهتعمل إيه في ريناد؟.. وفرحك ووالدتك؟..


تهالك يزيد على أقرب مقعد:


ـ مش عارف.. مش عارف..


خيم الصمت عليهما لفترة قطعه والده برفع سماعة الهاتف ليقوم بعدة اتصالات.. التفت بعدها ليزيد:


ـ المأذون هيكون هنا حالاً..


أومأ يزيد في صمت.. فعاد والده يسأله ثانية:


ـ هتكمل جوازتك من ريناد؟


أغمض يزيد عينيه بألم ولم يجب على سؤال والده الذي هز رأسه بغيظ:


ـ يعني هتجوز الاتنين؟


فتح يزيد عينيه ورفعهما إلى والده ساخراً:


ـ من شابه أباه فما ظلم!..


ـ وأنت مش هتظلم يا يزيد؟


رد عليه يزيد بجواب غامض:


ـ ما حدش عارف مين الظالم ومين المظلوم!


*************


تكومت علياء في ركنٍ منزوٍ بأحد الأرائك في غرفة نيرة ودموعها تهطل بلا توقف منذ أن صعدت بها نيرة من غرفة المكتب ورغم صراخ نيرة عليها ونعتها لها بالغبية الحمقاء التي أضاعت كل شيء.. لكنها لم ترد عليها إلا بجمل مبهمة.. أخذت ترددها كالتعويذة.. "هي عندها حق".. "أنا فاجرة".. "بس أمي ما كانتش كده".. "أمي مظلومة"..


لم تفهم نيرة ما تردده علياء.. وحاولت الاقتراب منها وإخراجها من هذيانها.. ولكن أوقفتها جملة أخيرة خرجت من شفتي علياء.."سهام عندها حق.. أنا فاجرة"..


صرخت بها نيرة بغضب:


ـ اسكتي يا عليا.. ما تقوليش على نفسك كده..


أخذت علياء تردد بشرود.."أنا فاجرة.. أنا فاجرة"..


تحركت نيرة وجذبتها من جلستها بقوة:


ـ قلت لك اسكتي.. أنتِ خلاص بقيتِ مراته.. وما فيش مخلوق هيعرف باللي حصل..


رفعت علياء عينيها إلى نيرة بانكسار:


ـ هو عارف.. وأنا عارفة..


وحررت نفسها من قبضتي نيرة وهي تتهاوى على الأريكة وتنكس رأسها أرضاً هامسة:


ـ أنا فاجرة..


صرخت بها نيرة مرة أخرى:


ـ أنتِ ضحية.. هو اللي مجرم مغتصب..


ـ مش كفاية أفكار وخطط بقى يا نيرة هانم!!..


سمعت نيرة صوت يزيد من خلفها فالتفتت إليه بعنف:


ـ إيه اللي جايبك هنا؟.. وبعدين المفروض تخبط قبل ما تدخل...


أحنى رأسه في أسف ساخر:


ـ آسف كنت عايز المدام بتاعتي في كلمتين..


رفعت علياء عينيها إليه لتطالعها نفس النظرة القاسية التي لمحتها في عينيه من قبل.. خيل إليها للحظات ظهور لمحات من حنان ورقة على ملامحه فرمشت لتجلي عينيها من الدموع ولكن ما رأته كان تعابير مبهمة لا توضح الأفكار التي تجول برأسه.. ورغم ذلك تعلقت عينيها بعينيه تبحث عن نظرات التوق واللهفة التي أذابتها الليلة الماضية.. ولكن ما لمحته كان الغضب.. الغضب الخام الممزوج بقسوة ظاهرة..


قطعت نيرة تواصلهما البصري هاتفة:


ـ لو كنت فاهم أني هسيبها لوحدها معاك تبقى غلطان.


ابتسم ساخراً وأخبرها بتهكم:


ـ متأخر قوي الشو ده.. ودلوقتِ عن إذنك عايز أقول لمراتي كلمتين على انفراد..


خرجت نيرة كالعاصفة وتجاهلت إغلاق الباب ووقفت أمام عتبة الغرفة مكتفة ذراعيها, فذهب هو وأغلق الباب في وجهها بمنتهى البساطة.. والتفت إلى علياء التي عاودت النظر إلى الأرض بشرود فهتف بها:


ـ إرفعي راسك..


هزت رأسها نفياً وكأنها قررت بينها وبين نفسها أنها تستحق البقاء منكسة الرأس إلى الأبد..


تحرك نحوها ليرفعها من كتفيها وهو يسألها من بين أسنانه:


ـ أنتِ ضحية وأنا مجرم مغتصب!!.. دي خطتكوا الجديدة؟.. بس ليه ما الخطة الأصلية نجحت.. بعد ما نيرة هانم سحبت أبويا لحد المكتب وظبطنا بالجرم المشهود.. برافو.. نجحتِ وبقيتِ مراتي.. صحيح مبروك يا مدام.. نسيت أبارك لك..


وحرك إحدى يديه ليجذبها من شعرها مقبلاً شفتيها بقسوة.. قبل أن يدفعها بقوة فتسقط على الأريكة التي خلفها بعنف وهي تضع وجهها بين كفيها.. وتنخرط في موجة جديدة من البكاء لتخبره من وسط دموعها:


ـ حرام عليك يا يزيد.. ليه بتقول الكلام ده..


هتف بغضب بها:


ـ ليه!!.. يعني تدخلي عليا وش الفجر.. وتصحيني من نومي.. ترمي نفسك في حضني.. وأنتِ عارفة كويس إيه اللي ممكن يحصل بينا.. وأنا نبهت عليك وطلبت منك تبعدي.. وأنتِ مصرة.. وبعد ما اللي حصل حصل.. افتح عينيه آلاقي أبويا في وشي.. وعايزة تفهميني أن دي مش خطة عشان تبوظي جوازي من ريناد!!..


هزت رأسها بألم وقد خنقتها الدموع وهي تردد بعذاب:


ـ حرام عليك.. والله حرام عليك..


صرخ بجنون وقد أصابته دموعها في مقتل فهو لا يحتمل رؤية دموعها.. لابد أنه جن بالفعل:


ـ وقفي الدموع دي.. حالاً..


هزت رأسها بيأس وكأنها غير قادرة على ايقاف دموعها بينما سمعته يخبرها:


ـ بالنسبة لأمي.. هنبلغها أن جوزانا.. مؤقت وعلى الورق حماية ليكي من أعمامك.. لحد ما أوصل لها الحقيقة تدريجي.. مفهوم؟..


أومأت موافقة.. بينما تردد هو قبل أن يخبرها بكلمات موجزة ولكن حاسمة:


ـ جوازي من ريناد.. هيتم في ميعاده.. هي ما لهاش ذنب في الجنون اللي حصل..


رفعت عينيها إليه وقد ظهر الألم فيهما بوضوح.. والتمع سؤال حائر بهما قرأه بسهولة ولكنه لم يمتلك له إجابة.. فهو غير قادر على تحديد وضعها من حياته.. فهرب من عينيها ليكمل باقي كلماته:


ـ أهم حاجة.. علاقتك بنيرة دي تتقطع نهائي.. أظن كفاية قوي اللي حصل لحد دلوقتِ..


ـ نيرة!!.. وهي دخلها إيه؟..


ـ عايزة تفهميني أنها مش صاحبة الفكرة والتخطيط؟!.. يمكن كانت فاهمة أنها بتضرب عصفورين بحجر واحد تنتقم من ريناد.. وبالمرة نتجوز أنا وأنتِ..


لم تحتمل نيرة_التي ألصقت أذنها بباب الغرفة_ سماع المزيد من اتهماته الظالمة.. وانتابتها نوبة غضب مجنونة فالتقطت أقرب ما وصل إليه يدها وكان تمثال خشبي صغير لحصان يمتطيه فارس ملثم.. وفتحت باب الغرفة بقوة فأصدر صوتٍ عالٍ فالتفت يزيد على الفور لتفاجئه بإلقاء التمثال في وجه مباشرة ليصيب أنفه بقوة.. وترتد رأسه للخلف قليلاً.. حتى كاد أن يفقد توازنه بينما هي تصرخ به:


ـ هي مين دي اللي خططت ورسمت؟.. الخطط دي تعرفها أنت وأصحابك والهانم خطيبتك المحترمة.. ولا أنت ناسي؟.. أنت عايز ترمي غلطتك على أكتاف أي حد غيرك وخلاص!.. خططنا إزاي أنا وعليا؟.. هااه.. فهمني!!.. هو مين كان يعرف أنك هتيجي المزرعة؟.. ولا أنه أونكل عصام هيجي وراك؟.. وأيوه أنت مجرم.. أنت هتكدب الكدبة وتصدقها.. ولا هي كانت شربتك حاجة أصفره قبل ما ترمي نفسها في حضنك.. زي ما بتقول..


تجمد يزيد من هجوم نيرة المفاجئ ولم يجد ما يجبها به بينما سمع صرخة خافتة من علياء وهي تهتف:


ـ يزيد أنت بتنزف.. مناخيرك بتنزف..


رفع يده إلى أنفه ليشعر بتدفق الدماء وألم حارق بدا أنه شعر به للتو.. وأحس بعلياء تجذبه من ذراعه لتجلسه على الأريكة وهي تخبره من وسط دموعها التي لم تجف:


ـ ميل راسك لقدام.. لا .. لا.. قدام مش ورا.. عشان الدم ما ينزلش في حلقك.


صرخت بها نيرة:


ـ أنتِ خايفة عليه!!.. سامعة كل الكلام الفارغ اللي بيقوله وما ردتيش بــأي كلمة.. ودلوقتِ خايفة عليه.. أنتِ هتجنينني!!..


تحركت علياء بسرعة لتجهز له كمادة باردة وهي تخبر نيرة بتعجب:


ـ ده بينزف يا نيرة!


نظرت نيرة إليها بذهول وهي تضع الكمادة الباردة على أنفه وتحاول إسناد رأسه برقة بينما بدا على الحقير الإستمتاع باهتمامها به.. وكأنه يريد الاثبات لنيرة أنه هو الأهم عند علياء..


صاحت نيرة بغيظ وهي تخرج من الغرفة:


ـ يا ربي.. أنتِ مجنونة.. والله العظيم مجنونة.. أنا هكلم مازن يجي ياخدني من بيت المجانين ده..


ظلت علياء جالسة على ركبتيها أمام يزيد تحاول ايقاف نزيف أنفه.. أما هو فكان يتأمل كلمات نيرة التي صدمته أكثر من صدمة التمثال الطائر..


بأعمق أعماقه يدرك أنها محقة بطريقة معينة.. ولكن ترتيب الأحداث بتلك الطريقة يشعره أنه أحمق سقط في الفخ بأقدم الطرق.. وذلك يدفعه إلى الجنون.. كما تفعل جلستها الآن بين يديه كما فعلت ليلة أمس تماماً.. يبدو أن نيرة محقة.. فالحمقاء الصغيرة مهتمة بإيقاف نزف أنفه فقط وغير مدركة لما تفعلها جلستها تلك به.. هل تظن أن الجنون الذي قد عصف بهما قد انتهى بما حدث الليلة الماضية؟.. حاول بصعوبة السيطرة على فوران جسده الذي يحثه على ضمها إلى وتقبيل كل إنش في وجهها وجسدها.. وتلك المرة سيأخذ وقته بالكامل.. فهي أصبحت له.. صوت خافت من أعماقه هتف به أن يترك الفتاة وشأنها ويكفي ما حدث.. ولكنه أسكته على الفور.. لقد تزوجتها للتو.. أليس كذلك؟.. أين الخطأ إذاً؟..


قطعت همستها أفكاره بعد أن نجحت في ايقاف نزف أنفه:


ـ خلاص النزيف وقف..


حاولت النهوض من جلستها فمنعتها يديه التي تشبثت بذراعيها وهو يتأمل وجهها الذي أغرقته الدموع.. مد يده ببطء ليمسح دموعها برقة شديدة أصابتها بالذهول.. ما الذي يفعله؟.. هل ينوي القضاء على عقلها وقلبها الذي ينتفض تحت تأثير لمساته.. وتلك النظرة.. آه.. أنها تلتمع في عينيه مرة أخرى..


رفعها يزيد ليتمكن من احتضانها جيداً وهو يخبر نفسه.. أنه لم يخطئ فهي أصبحت زوجته بالفعل.. بينما هي رفعت ذراعيها لتطوق بهما عنقه وتبادله قبلاته كما تعلمت منه وهي تفكر أنها كانت محقة فيزيد يعاني بالتأكيد من الشيزوفيرنيا!.. عالفصل الثاني عشر


تأمل يزيد وجه والدته والذي ظهرت عليه علامات الشحوب والألم.. أغمض عينيه محاولاً الهروب من عينيها التي ترمقه بذهول غير مصدقة الخبر الذي ساقه لها منذ دقائق فقط... جسد وجهها المعنى الحقيقي للألم والصدمة وهي تحاول استيعاب كلماته.. غير قادرة على تكوين جملة واحدة تعبر بها عما يجول بصدرها وعقلها من شعور قاسٍ بالخيانة.. كيف يفعلها ابنها؟.. كيف تخونها قطعة منها؟.. كيف تفقد زوجها وابنها لنفس المرأة؟.. نعم نفس المرأة.. بأعماق سهام لا فرق بين نادية وعلياء ابنتها..


لقد عانت منذ سنوات الشعور القاتل بإهمال زوجها لها.. بأنها غير كافية له.. كانت تسمع منه تذمره وشكواته المتتالية من انشغالها في جمعياتها الخيرية.. أو حفلاتها وإهمالها في حقوقه.. تلك الحفلات التي كانت تقيمها له ومن أجله حتى تتسع أعماله وتتعمق علاقاته تحولت لتصبح عذره وذريعته ليخونها بدلاً من المرة.. مرات.. وهو يظنها غافلة عن عبثه ومجونه.. لكنها كانت تعرف.. في كل مرة يفعلها ويخون عهود زواجهما كانت تعرف.. وهل هناك أقرب للرجل من امرأته لتشعر بوجود أخرى, بل أخريات في حياة زوجها..


ومع كل خيانة يأتي إليها باكياً معتذراً.. طالباً عفوها وغفرانها متعذراً بأزمة منتصف العمر التي يحاول جاهداً التخلص منها.. لكنها مع كل صك عفو تمنحه يموت بداخلها جزء.. تتجمد مشاعرها ويتحول حبها له إلى لامبالاة كريهة.. فلم يتبقَ لها إلا كبرياء أنثوي أجوف اغتاله بإعلانه خبر زواجه من نادية.. وسحب منها كل حق لاختيار الابتعاد والمحافظة على ما بقي من كرامتها عندما أخبرها بما تعانيه نادية من مرض عضال.. فالزوجة الجديدة.. الجميلة والرقيقة.. تصارع الموت.. الذي يطرق بابها كل يوم..


كيف يمكنها صب غضبها على امرأة تحتضر؟.. كيف تصرخ بزوجها وتطالبه بالاختيار بين وفاء لزوجة أولى.. رفيقة الدرب وأم الولد.. وشفقة على زوجة ثانية تسحب منها أنفاس الحياة؟.. لابد أن تكون شيطان حتى تفعل هذا!.. حتى اختيارها لتكون ذلك الشيطان سلبها إياه عندما اصطحبها بخدعة لتقابل نادية.. التي أصرت على مقابلتها طالبة عفوها قبل أن تسلم روحها إلى خالقها..


وبعد موت نادية بعدة أيام دخل عليها عصام مصطحباً طفلة ضئيلة الحجم ليفاجأها بصدمة جديدة:


ـ سهام.. دي تبقى عليا.. بنت نادية الله يرحمها.. وهتعيش معانا من النهادره


نظرة واحدة إلى علياء لتجدها نسخة مصغرة من أمها.. وأيقنت أن القدر رحمها أخيراً ومنحها رفاهية الكراهية.. الكراهية في أقسى صورها للطفلة الصغيرة التي لم ترى فيها سوى خيانة عصام وفجور نادية..


أساءت معاملتها.. لا تنكر.. أهملتها وهمشتها.. وأخيراً نفتها إلى المزرعة لترافق الجد القعيد..


مرت السنوات وهي تحاول أن تتناسى الجرح والصفعة المؤلمة لأنوثتها, ليأتي ابنها اليوم ويطعن أمومتها بإخبارها أنه تزوج من الفتاة الصغيرة!..


لم تهتم لسماع تفسيره لتلك الزيجة أو تبريره لما قام به.. لم تدري بنفسها إلا وصراخها الهيستيري قد ملأ المنزل رفضاً واعتراضاً..


كلا لن ترضخ تلك المرة.. لن تترك ابنها لتلك الفتاة لتلف حبائلها حوله لتفقده مثلما فقدت أباه..


حاول التوضيح لها بهدوء:


ـ ماما.. يا ماما أرجوكِ اسمعيني..


دفعت يده بعيداً وهي تهمس بغضب:


ـ عايز مني إيه؟؟.. روح للهانم اللي اتجوزتها..


ابتلع ريقه بصعوبة وهو يلقي بكذبته المفضوحة:


ـ قلت لك ده كتب كتاب بس عشان نحميها من طمع أعمامها.. ونرجع أرضها..


وأضاف بعجلة:


ـ ده كان رأي المحامي.. عشان تتنقل الوصاية المالية من أعمامها..


سخرت أمه وادعت تصديق كذبته قائلة:


ـ وهو ما فيش غيرك!.. أي واحد بيشتغل عند أبوك كان قام بالمهمة.


انقبض قلبه بشدة لمجرد تخيل علياء تنتمي لرجلٍ آخر.. فغمغم قائلاً:


ـ ما ينفعش طبعاً.. لازم حد يكون ثقة..


قاطعته أمه:


ـ وريناد؟..


تردد قليلاً فهتفت أمه بغيظ:


ـ ايه هتلغي جوازك من بنت خالتك عشان الهانم ولا إيه؟!.. أنت مش كنت هتجنن عشان نقدم ميعاد الفرح؟..


ـ أيوه يا ماما.. بس..


صرخت أمه بقوة:


ـ عايز تفضح بنت خالتك بعد ما وزعنا دعوات الفرح والبيت بيتفرش.. عايز تسيبها وتخلى بيها؟..


ـ لا يا ماما.. أنا ما قلتش كده.. أنا بس خايف أن ريناد ترفض.. ده قصدي.. لكن أنا هكلمها وأقنعها و..


قاطعته أمه بحسم:


ـ لا.. أنا اللي هكلمها وهقنعها كمان.. بس جوازك من اللي اسمها عليا دي.. ما فيش حد يعرف عنه أي حاجة.. أنت فاهم ولا لأ؟..


ـ لأ طبعاً.. جوازه من عليا هيكون معلن.. ومعروف للجميع.. ولا أنت لك رأي تاني يا يزيد؟


ألقى عصام جملته وهو يدلف إلى حجرة سهام متجاهلاً معالم الانهيار البادية على وجهها ومركزاً نظراته على يزيد فقط الذي غمغم بهدوء:


ـ لا يا بابا.. حضرتك عندك حق.. الجواز لازم يكون معلن..


قاطعه عصام بغضب مكبوت:


ـ أيوه.. أنا حتى كنت ناوي أعملها فرح, بس هي رفضت..


صرخت سهام بهلع:


ـ إيه.. فرح!!.. مش هو كتب كتاب وبس عشان الأراضي..


أجابها عصام وهو يرمق ابنه بنظرة نارية:


ـ اسألي ابنك!..


عاد صوت سهام يعلو وهي تلتفت ليزيد الذي رمق والده بنظرة متوسلة.. فهو أدرك أن والدته على وشك الإصابة بإحدى النوبات الهيستيرية.. والتي اعتاد عليها بعد زواج والده.. فحاول عصام حل الموقف قائلاً:


ـ لازم إشهار.. علشان نقدر نرفع القضية ونرجع أرضها.. وعشان كمان لو اتقدم لها حد تاني يكون في عندنا سبب للرفض.. البنت كبرت وبيجيلها كل يوم عرسان.. وخلاص.. أنا أساساً اتصرفت ونشرت خبر جوازهم في كام مجلة اجتماعية..


شحب وجه سهام وهي تتصور شقيقتها وابنتها تتلقيان الخبر عن طريق المجلات.. فهتفت:


ـ اخرجوا بره انتوا الاتنين.. وسيبوني أدور على طريقة أتفاهم بيها مع أختي..


أومأ عصام وخرج بهدوء بينما ترافقه نظرات القهر والألم من عيني سهام.. فهو لم يتغير.. يجرح قلبها ويطعن كرامتها ولا يتذكر حتى أن يراضيها بكلمة إلا بعد أن تنهار حزناً..


لمح يزيد والدته تسحب بعض أقراص من قارورة صغيرة وتبتلعها.. فتحرك بسرعة نحوها:


ـ أقراص إيه دي يا ماما؟


ربتت على كفه بهدوء:


ـ ما تخافش يا يزيد.. دي هتخليني أنام شويه.. بس أعصابي تهدى عشان أعرف أكلم ريناد واتفاهم معاها..


*************


جلس مازن على الأرجوحة الخفيفة بشرفة الفيلا الخاصة بعامر غيث.. ينتظر وصول نيرة وهو ينفث دخان سيجارته بكسل عندما سمع صوتها يأتي من خلفه:


ـ ما كنتش أعرف أنك بتدخن..


لف رأسه نحوها ليراها قادمة بقامتها الهيفاء وقد ارتدت فستان فيروزي قصير التصق بجسدها متمسكاً بعنقها بشريط يلتف حوله.


أخذ يتأملها بنظرة تقدير ذكورية جعلت معدتها تنقبض وهي تلمح عينيه تجري على شعرها الأحمر الذي جمعته بطريقة عشوائية تاركة بعض خصلات تداعب بشرة عنقها الطويل, وأكملت عينيه جولتهما على بشرة كتفيها الوردية وصدرها الممتلئ الذي أظهره نحافة خصرها ووركيها الدقيقين.. مروراً بساقيين مرمريتين وملفوفتين باغراء.. ثم عادت عينيه لترتفع إلى عينيها.. وتلك النظرة مازالت تسكنهما..


تساءلت في صمت عن تلك النظرة التي تلمحها في عينيه لأول مرة أم ربما كانت موجودة من قبل وهي لم تنتبه لها..


سألته مرة ثانية لتقطع الصمت:


ـ من إمتى بتدخن يا مازن؟


هز كتفيه بلامبالاة:


ـ يمكن من... وأنا في ثانوي.. ليه في حاجة؟..


توسعت عيناها بشدة.. ما بال هذا الرجل!.. هل كانت عمياء لتغفل عن تفاصيله؟.. أم أن حبها لحسن أعمى عينيها عن أي شيء آخر..


هزت كتفيها تحاول تبني لامبالاة مماثلة:


ـ لا ما فيش حاجة.. بس دي أول مرة أشوفك تدخن!


ـ في حاجات كتير ما تعرفيهاش عني يا نيرة.. بس بكره هتعرفيها.. أنا هعلمك..


برقت عيناها بقوة وهي تفهم التلميح المزدوج الذي سبب لها رعشة خفيفة, وبخت نفسها بشدة.. ماذا أصابها لتتفتت أعماقها تحت تأثير ذلك الرجل؟.. ألم تقرر في لحظة مجنونة وحسن يهدد ويتوعد أن تنتقم منه ومن أخيه سوياً..


هل لاعترافه بحبها أثر في ذلك الإرتباك الذي أصبح يصيبها في وجوده؟..


هزت رأسها لتنفض عنها ذلك الضباب الذي سبب لها نوعاً من الغباء.. وتحركت لتجلس ملتصقة به على الأرجوحة وتحركها بخفة.. شعرت على الفور برد فعل جسده استجابة لجسدها الملتصق به مما عزز ثقتها بتأثيرها عليه..


اقتربت منه لتلف كفيها حول ذراعه وتلقي برأسها على كتفه.. بينما يراقبها من أسفل رموشه بصمت.. منتظراً خطوتها التالية.. ولم تتأخر بالفعل وهي تسبل له برموشها وتسأله بصوت ناعم:


ـ هو صحيح اللي أنا سمعته؟.


أمسك يدها قبل أن تصل أصابعها العابثة إلى زر قميصه العلوي.. وحاول التحكم في أنفاسه اللاهثة وهو يسألها:


ـ سمعتِ إيه؟


ترددت قليلاً:


ـ امممم.. أن أونكل حاتم حرم حسن من كل حاجة حتى الشغل؟


نغزة قوية شعر بها في قلبه عند سماعه اسم حسن يخرج من شفتيها.. شعور لا إرادي بالغيرة اجتاح عروقه.. يعلم أنه تقدم لخطبتها وهو مدرك تماماً لمشاعرها أو لما تظنه مشاعر ناحية شقيقه.. ولكنه لا يعلم إذا كان سيمكنه التغلب على ذلك الألم في كل مرة ستنطق بها اسمه..


أفاقه صوتها المتألم وهي تهمس:


ـ آه.. مازن سيب إيدي..


نظر بذهول ليجد أصابعه تضغط على يدها المستريحة على صدره بقوة كادت أن تحطم أناملها النحيلة..


نهض من مكانه فجأة يتأملها وهي تفرك أناملها حتى تخفف من الألم.. فغمغم بسرعة:


ـ أنا آسف.. ما قصدتش..


لم تهتم بألم يدها.. بقدر اهتمامها بالوصول إلى غايتها.. فنهضت بدورها لتقترب منه وهي تحط بكفيها على كتفيه وتلتصق به هامسة:


ـ وأنا كمان ما قصدتش اللي أنت فهمته..


ثم سمحت لأناملها بالتجول قليلاً على وجنته وذقنه وأكملت:


ـ أنا أقصد أن دي فرصتك دلوقت عشان تكون الكل في الكل وتسيطر على إدارة الشركة..


لمحت نظراته المستنكرة فاستدركت:


ـ تحت إشراف أونكل حاتم طبعاً..


أخذ مازن يتأمل ملامحها.. التصاقها الشديد به.. أناملها التي تسعى إلى إغوائه وإلهائه بلا هوادة حتى يغيب عنه المغزى الحقيقي لسؤالها أو لاهتمامها بأمور عمله.. إنها تريد الإنتقام لكرامتها.. يكاد أن يقرأ غرضها الحقيقي بأحرف كبيرة لامعة مرسوم في عينيها.. وهي تغطي ذلك بغطاء محترم يمثل لهفة الخطيبة على مصلحة خطيبها..


لفها بذراعه ليضغطها على جسده قليلاً ويرفع ذقنها لتواجه عيناها عينيه.. وأخذ يرمقها للحظات بنظرات غير مفهومة قبل أن يمد يده ليمسك كفها الذي يتجول على وجهه بلا رادع ويدس به شيئاً ما.. هامساً في أذنها:


ـ شبكتك يا حبي!


بسطت يدها لتجد بها علبة مخملية صغيرة.. فتحتها فلمحت خاتم من الذهب تعتليه ياقوتة حمراء دائرية الشكل تحيطها عدة ماسات صغيرة.. لتشكل حبة الياقوت قلب زهرة وقطع الماس الصغيرة هي أوراقها...


شهقت نيرة إعجاباً بالخاتم وأسرعت تضعه في إصبعها وتتأمل شكل يدها به..


ـ وااااااو.. مازن.. ده تحفة.. كأنه متصمم علشاني..


وافقها قائلاً:


ـ فعلاً.. هو اتصمم علشانك..


رمت ذراعيها حول عنقه هاتفة:


ـ وااااو.. ميرسي يا حبيــ..


وضع أصابعه على فمها ليمنعها في الاسترسال:


ـ أما تقولي كلمة حبيبي.. لازم تقصديها.. دي مش كلمة تتقال بدل شكراً ولا ميرسي.. ماشي..


رمقته بغيظ.. فهو يدللها بيد وبالأخرى يمسك لها العصا.. ولكن رغم هذا.. لن يستطيع الإفلات من سحرها.. لن تكون نيرة غيث إن لم تجعله كخاتم آخر في إصبعها بجوار خاتمه المذهل هذا..


زمت شفتيها قائلة:


ـ أنا زعلانة منك..


ـ ليه؟..


ـ يوم ما كلمتك من المزرعة عند عليا وقلت لك عايزة أروح.. فاكر؟..


ـ أيوه.. قلتِ عايزة أروح بعت لك السواق وروحك.. فيها إيه دي؟..


ابتعدت عنه فجأة وهي تضع يدها بخصرها وقد انساها بروده دور المغوية الذي تحاول تقمصه وهتفت بحنق:


ـ ليه بعت لي السواق؟.. ما جيتش أنت ليه؟..


تحرك ليواجهها وهو يخبرها باستفزاز:


ـ كنت مشغول..


برقت عيناها بغضب وسمعته يسألها:


ـ أنتِ كمان ما ردتيش على تليفون واحد من تليفوناتي..


همست بغيظ:


ـ كنت مشغولة..


أرجع رأسه للخلف وهو يطلق ضحاكات عالية.. ثم مد يده ليداعب ذقنها:


ـ مشغولة بتكسري مناخير يزيد!


سألته بتوجس وهي تبعد ذقنها عن متناول يده:


ـ هو قالك ايه؟..


ـ قالي على اللي حصل..


شهقت بخوف وهي تتلعثم:


ـ ايه.. قالــ..


قاطعها:


ـ قالي إن خطيبتي المجنونة اتنرفزت عليه وكسرت مناخيره.. علشان رفض يرجعها معاه في العربية.. مش هو ده اللي حصل برضوه؟


ضغطت نيرة على أسنانها بعنف.. فلولا ولائها لعلياء لكانت فضحت هذا اليزيد.. ولكنها لا تستطيع المجازفة بسمعة الغبية الصغيرة..


كادت أن تومئ موافقة على الكذبة التي أخبره بها يزيد.. إلا أنه سبقها قائلاً:


ـ خلاص يا نيرة.. أنا مقدر إخلاصك لعليا.. هي بنت كويسة وأكيد يزيد هيقدر يحميها بعد ما بقيت مراته..


هزت رأسها بعجز.. كيف تخبره أن علياء بحاجة لمن يحميها من يزيد وجنونه خاصة بعد زواجه منها وامتلاكه الحق في التواجد بحياتها بكل الطرق الممكنة.. والأدهى من سيحميها من جنون سهام عندما تعرف الحقيقة..


شعرت بيده تربت على كتفها:


ـ ما تقلقيش على عليا.. صدقيني.. يزيد كفيل بأنه يحافظ عليها كويس قوي..


ثم نظر في ساعته ليتحرك معها نحو باب الفيلا مردفاً:


ـ بكره.. هعدي عليكِ نروح نشوف الفيلا اللي اخترتها.. وبالمرة ننقي العفش..


ـ إيه!!.. بسرعة كده..


ـ نيرة.. أنا وضحت لك قبل كده أني مش عايز الكلام يكتر.. كل ما هنطول مدة الخطوبة كل ما الأسئلة هتزيد..


ودعها بقبلة دافئة على وجنتها قبل أن يتوجه إلى سيارته وينطلق بها.. تاركاً إياها تفكر أنها استمتعت حقاً بأول لقاء لها مع خطيبها الجديد.. وأنها أيضاً لم تحصل منه على إجابة تخص استيلائه على إدارة الشركة.. حتى تضمن أن تضع رقبة حسن تحت أصابعها.. لتلويها فتكسرها.. أو تعفو عنه بعد أن يعود معترفاً بخطئه..


***********


جلست منى تنتظر عودة حسن في قلق.. تخشى أن يعود من مقابلة العمل وهو يحمل نفس الرد.. اعتذار مُحرج من صاحب الشركة مع نصيحة ودودة بتسوية خلافاته مع والده..


أسبوع كامل منذ عودتهما من الأسكندرية.. وحسن يخرج يومياً باحثاً عن عمل بلا جدوى.. وبدا من الواضح أن والده أغلق أمامه جميع المنافذ بإحكام.. فالمؤسسات الكبيرة رفضت استقباله من البداية.. بينما أصحاب الشركات الأصغر اكتفوا باعتذار مقتضب عن مقابلته.. ولم يبق إلا المكاتب الصغيرة والمبتدئة والتي بدأ حسن بطرق أبوابها منذ يومين ولم يحقق نتيجة إلى الآن..


تذكرت قول حسن لها بأنهما على وشك الدخول في حرب ضروس مع والده.. وأيقنت أنه بالفعل عدو شرس لا يرحم.. فبخلاف إيقافه لكل الامتيازات المالية لحسن.. وتدخله الواضح لمنعه من العمل في أي مكان.. فقد سلبه شقته التي أعدها حسن من أجل زواجهما.. واضطرهما ذلك للمكوث في إحدى الشقق المفروشة.. والتي اقترض حسن إيجارها من جدته.. السيدة روح.. والتي تمده سراً بالأموال وتحاول مساعدته خفية عن والده.. وذلك يسبب غضب حسن الشديد.. فهو رافض لمبدأ الاقتراض وطلب المساعدة.. ولكن يده مغلولة ووالده يحكم عليه الخناق مع مرور الوقت.. حتى سيارته.. تم سحبها منه.. ولجأ حسن للمواصلات العامة في بحثه اليومي عن عمل لائق..


سمعت صوت الباب يغلق فتحركت مسرعة لتستقبل حسن الذي بدا على وجهه ملامح الإحباط الشديد.. فاقتربت منه لتحيطه بذراعيها بقوة وقد أدركت أنه في حاجة إلى المواساة:


ـ معلش يا حسن.. بكره الظروف هتتحسن..


ضمها إلى صدره وهو يغمر وجهه في شعرها.. مستمتعاً بنعومة ملمسه ومستمداً من دفئها وحنانها قوة هو في أمس الحاجة إليها..


همس لها:


ـ أنا لقيت شغل..


ابتعدت عنه قليلاً:


ـ بجد يا حسن!.. أومال مالك؟.. شكلك زعلان!..


أحاط كتفيها بذراعه واصطحبها ليجلسا على إحدى الأرائك:


ـ هو مكتب هندسي صغير.. ومش هشتغل باسمي.. هجهز التصميم.. وصاحب المكتب هو اللي هيحط عليه اسمه..


ـ بس كده يا حسن مجهودك وشغلك كله هيضيع.. ما فيش حل تاني؟..


ـ الحمد لله إني قدرت أوصل لكده.. بس..


ـ بس إيه يا حسن؟..


ـ المرتب مش هيكون كبير قوي.. يعني مش هيكفي حتى إيجار للشقة دي..


ترددت منى قليلاً قبل أن تهمس بخفوت:


ـ يا حسن أنا ممكن أشتغل وأساعد.. بلاش تنشف دماغك.. إحنا لازم نساعد بعض..


انتفض حسن هاتفاً بغضب:


ـ منى.. اقفلي على الموضوع ده نهائي.. أنا مش ممكن أسمح أن مراتي تتبهدل عشان أنا مش قادر أصرف عليها.. أنتِ متجوزة راجل.. فاهمة!..


اقتربت منه تحتوي غضبه برقة وهي تطوق عنقه بذراعيها وتداعب ذقنه بعبث:


ـ تعرف أني كده هزعل منك.. أنا فاهمة أني متجوزة راجل وسيد الرجالة كمان, لكن أنت ما تنساش أني كنت بشتغل قبل ما نتجوز وده لا قلل مني ولا قلل من أبويا.. ولا إيه؟..


أحنى رأسه خجلاً:


ـ أنا ما اقصدش طبعاً يا منى.. أنا كل اللي بفكر فيه أني لازم أحميكِ وأكون قادر على أني ألبي كل طلباتك.. افهميني.. احساسي أني مقصر..


رفعت أناملها لتضعها أمام شفتيه لتقطع كلماته:


ـ يا حبيبي.. أنا يكفيني اللي أنت عملته عشان نكون مع بعض..


رفعها بين ذراعيه لتصبح عينيه في مواجهة عينيها:


ـ أنتِ بس تقوليلي يا حبيبي.. وهموم الدنيا كلها تختفي في ثواني...


همست أمام شفتيه:


ـ حبيبي..


ضغط شفتيه على شفتيها بتوق يزداد مع اقترابه منها.. مع وجودها بين ذراعيه.. عمق قبلته ليرتوي من شهد حبها.. وكأنه سيرتوي يوماً!..


**************


فتحت عينيها لتجد نفسها وحيدة في الفراش.. تثاءبت بكسل وهي تلمح أثر رأسه مازال مطبوعاً على الوسادة بجوارها.. ثم ما لبثت أن وصلتها رائحة التبغ لتدرك أنه مازال معها في الغرفة..


دعكت عينيها بظاهر يدها لتلمح قامته بطولها المميز وقد وقف يدخن سيجارته في النافذة مرتدياً بنطاله فقط.. وبدا بعيداً بأفكاره..


سحبت نفسها من الفراش ولفت جسدها العاري بالمفرش الحريري.. وتوجهت نحوه لتحيط صدره بذراعيها وتمرغ أنفها في ظهره بعبث.. ثم تسحب اللفافة المحترقة من بين أصابعه لتضعها بين شفتيها مطلقة عدة أنفاس قبل أن تهمس جوار أذنه:


ـ ايه اللي شاغلك؟.. برضوه بتفكر فيها؟..


سمعت صوته ينهرها بعنف:


ـ دنيا.. احنا اتفاقنا كان واضح.. أنتِ حاجة وهي حاجة تانية.. ومافيش داعي تجيبي سيرتها كل شويه..


لفت جسده بين ذراعيها وهي تضمه إليها بشغف وتهمس بتوسل:


ـ آسفة.. يا حبي..


سكت ولم يرد عليها.. فأحاطت عنقه بذراعيها وهي ترفع نفسها لتطبع على شفتيه قبلة استجاب لها بعد عدة لحظات.. بينما هي تهمس بين أنفاسه:


ـ مازن.. بات الليلة هنا.. عشان خاطري ما تروحش... 


الفصل الثالث عشر

والرابع عشر

دخلت سهام إلى فيلا شقيقتها بعدما اصطحبها يزيد إليها واشترطت هي عليه الانتظار في السيارة حتى تقوم باستدعائه..


استقبلتها ريناد بوجه شاحب واجم.. ودموع متجمدة في مقلتيها.. فتحت سهام ذراعيها فارتمت بينهما ريناد على الفور لتنفجر عاصفة الدموع المحتبسة خلف أجفانها..


احتضنتها سهام لفترة حتى شعرت بها تهدأ بين ذراعيها.. فأبعدتها قليلاً.. ومسحت بعضاً من عبراتها.. واصطحبتها بحنان لتجلسها على إحدى الأرائك وتجلس بجوارها.. تربت على كتفها برقة:


ـ في إيه بس يا حبيبة خالتو؟.. هو أنا مش كلمتك وفهمتك.. ليه بقى الدموع دي؟..


أجابتها ريناد من وسط دموعها:


ـ بتسأليني برضوه يا خالتو!.. ده التليفون ما بطلش رن من الصبح وكل صحباتي بيسألوني.. والباقي إما شماتنين أو صعبانة عليهم..


ـ هو أنا مش فهمتك كل حاجة.. والحكاية مجرد لعبة عشان يردوا للبنت دي أرضها..


برمت ريناد شفتيها بنزق:


ـ يعني أنا المفروض أقعد أفسر لكل واحد أصل الموضوع ولا إيه؟


اقتربت منها سهام وهي تخبرها ببطء ضاغطة على كل حرف:


ـ لا طبعاً.. سيبيهم يقولوا اللي يقولوه..


انتفضت ريناد من مكانها بعنف:


ـ ازاي بس يا خالتو.. يعني أسمع بوداني التريقة والشماتة.. وإن حتة عيلة صغيرة خطفت مني خطيبي قبل جوازنا بأسبوعين واسكت!


وتحركت لتمسك مجموعة من العلب المخملية.. لتضعها أمام سهام وهي تشير اليها بحزن:


ـ خلاص يا خالتو.. دي الهدايا بتاعته وشبكته.. وربنا يهنيه معـ.. معها..


جذبتها سهام من ذراعها بعنف لتجلسها بجوارها على الأريكة مرة أخرى:


ـ اقعدي كده.. واعقلي.. بلاش الاندفاع ده.. حكمي عقلك يا ريناد.. عايزة تهدي كل حاجة عشان جوازه فشنك.. وتأكدي الكلام اللي بيتقال.. وإنها قدرت تاخده منك فعلاً.. وأنك بعد فترة الخطوبة دي كلها معرفتيش تحافظي على خطيبك؟؟!!.. ولا نتمم الفرح في ميعاده.. وساعتها الناس هتتكلم عليها هي.. والعيب هيكون فيها هي.. وخاصة لما المصلحة تخلص ويطلقها.. وتبقي أنتِ وقتها اللي عرفتِ تحافظي على بيتك وجوزك.. والناس زي ما اتكلمت هتسكت وهتنسى..


تأملت ريناد خالتها في دهشة.. فهي لم تفكر في الموضوع بتلك الطريقة أبداً..


فلو تم الأمر مثلما تقول خالتها.. فمن ستكون مضغة في الأفواه علياء, وليست هي.. و..


لكن.. لا.. لا.. حتى هذا لا يجعلها توافق على أن تكون زوجة ثانية على الأقل في عيون الناس.. حدثت نفسها بعنف:


"لا.. لا.. مش ممكن.. مستحيل أوافق!"


لم تدرك أنها تكلمت بصوتٍ عالٍ إلا بعد أن سمعت خالتها تجاوبها بقوة:


ـ إيه يا ريناد؟.. ناوية تسيبي يزيد لها ولا إيه؟.. والنهارده جواز على ورق بكره يبقى حقيقي.. ويبقى يزيد ضاع مني.. أقصد مننا.. ده غير الإشاعات اللي هتطلع عليكِ.. والكل هيدور على الغلط اللي فيكي اللي خلا خطيبك يسيبك قبل جوازكوا بأسبوعين!


شهقت ريناد بقوة وهي تنهض مرة أخرى وتهتف بخالتها بعنف:


ـ أنتِ اللي بتقوليلي الكلام ده يا خالتو, أومال باقي الناس هتقول ايه!.. وكمان عايزاني أقبل أكون زوجة تانية.. إزاي ترضيهالي بس!.. إزااااي!!..


تحركت سهام لتضمتها إلى صدرها وهي تهمس لها باقناع:


ـ فين التانية دي!.. ما قلنا جواز صوري.. على ورق.. يعني أنتِ هتكوني الأولى في كل حاجة.. أنتِ أول حب.. وأول خطيبة.. وأول فرحته.. أنتِ ناسية هو كان هيتجنن قد إيه عشان يقدم ميعاد الفرح.. ده كان قرب يتهبل وأنتِ بتسويه على نار هادية..


رددت ريناد بتردد:


ـ أيوه يا خالتو.. بس اهوه اتجوزها.. و..


قاطعتها سهام تحاول اقناعها بما تظن أنه الحقيقة:


ـ عصام هو اللي أجبره.. لو تشوفيه وهو واقف قدام باباه مش قادر يعارضه وهو بيقوله أنه أعلن خبر الجواز, كان صعب عليكِ.. يزيد اتعذب بيني وبين أبوه كتير.. كل ما يقرب مني ويراضيني يحس أنه بيظلم أبوه, وكل ما يطاوع أبوه.. آجي أنا وأعمل أزمة.. يزيد محتاجك يا ريناد.. لازم تقفي جنبه.. حتى عشان يقدر يتخلص من مصيبة عليا اللي عصام أجبره عليها دي..


حاولت ريناد أن تتكلم ولكن عادت سهام لمقاطعتها:


ـ شوفي.. هو مستني بره الفيلا.. قاعد على نار منتظر أنك تسامحيه.. أنا هكلمه وأقوله ياخدك يعزمك على العشا في مطعم فايف استارز.. لسه فاتح امبارح.. وهكلم كام صحفي من اللي بيغطوا لي أخبار الجمعيات الخيرية عشان ياخدوا كام لقطة حلوة وأنتوا سهرانين مع بعض.. وبكده هيكون كأنه تكذيب لخبر جوازه المشئوم ده.. ولو حد سألك عن الخبر اضحكي.. واسكتي.. وبكده.. أي حد شمتان ولا حاقد ولا.. ولا.. هيكون مش قادر يصدق خبر ارتباطه بعليا.. وهيكون كأنه إشاعة هتعدي وتمر.. خاصة لو أكدتِ على ميعاد جوازكوا.. فاهماني يا ريناد؟.. ما تخليش الناس تشمت فيكي ولا تضحك عليكِ..


سألتها ريناد بخفوت وقد بدا أنها اقتنعت بكلامها:


ـ طيب وأتعامل معاه إزاي؟.. هقوله إيه؟..


ـ ولا تجيبي سيرة البنت دي نهائي.. ولا تفكريه بيها.. ما هو أنتِ كل ما هتسألي.. كل ما الموضوع ممكن يكبر في دماغه.. اتعاملي عادي.. اضحكي وابتسمي.. وأنا هقوله أنك سامحتيه وقدرتِ ظروفه... وده من شدة حبك له.. كمان هخليه ياخد أجازة من الشغل الكام يوم اللي جايين دول ويكون معاكِ في كل حاجة عشان تجهزوا الفيلا بتاعتكم.. ماشي يا رورو؟..


أومأت ريناد موافقة وقد اتسعت عيناها قليلاً وهي تتخيل اللحظة التي تنتهي تلك الأزمة وتعود هي الوحيدة في حياة يزيد..


وبالفعل نفذت ما اتفقت عليه مع سهام بالحرف فضغطت على أعصابها حتى لا تصرخ بوجهه أو تفاتحه بشيء.. كان عقلها يحترق بكثير من الأسئلة تخشى أن تعرف اجابتها.. أو لعلها تعرفها ولكنها تكذب احساسها..


حاولت قدر استطاعتها التعامل معه بطريقة عادية, بل أنها زادت في دلالها وغنجها معه ولكن تلك المرة كان بناء على نصيحة من أمها والتي أوصتها أن تشغل عقله بكل الطرق حتى لا يفكر لحظة في استغلال الزواج الصوري بينه وبين علياء..


كانت قد قررت أن تقوم بذلك بالفعل, ولكن ما يقلقها أنه لم يعد يتلقى دلالها وحبها الذي بدأت تظهره له بوضوح بنفس اللهفة والشغف القديم.. بل تشعر أنه يفتعل الانسجام والتفاعل معها.. ولكنه في أحيانٍ أخرى يكون غاية في الرقة والحنان.. لعلها تظلمه فهي لا تنكر أنها أصبحت تنفعل عليه وبشدة.. وتصرخ به بعصبية زائدة.. لأتفه الأسباب.. والآن والزفاف قد أصبح على بعد عدة أيام عادت الهواجس تنتابها من جديد.. ولم تجد لها أذناً لتسمع إلا خالتها سهام.. التي كانت بدورها تفكر بكل الطرق كيف تبعد يزيد عن علياء.. ومعاً.. توصلتا لفكرة ماكرة.. وبقي فقط التنفيذ..


**************


تجمدت ملامح عامر وهو يقرأ الكارت الذي قدمته له مديرة مكتبه.. وهي تخبره بأن سيدة في الخارج ترغب في رؤيته..


تأمل حروف اسمها بحنين قاتل.. ولولا وجود مديرة مكتبه لقبل الكارت..


فريدة هنا!.. في مكتبه وتريد رؤيته!.. هل عادت أخيراً؟.. من ملكت قلبه وهربت به.. تاركة له جزء منها.. ابنتها صبا..


أشار إلى مديرة مكتبه:


ـ قولي للمدام تتفضل..


خطت فريدة داخل مكتبه بثقة.. لمحة سريعة جعلته يدرك التغيير الذي حل بها.. بداية من كعبيها الشاهقيين إلى تنورتها القصيرة.. وصولاً إلى البلوزة الحريرية ذات الأكمام الطويلة وقد جمعت شعرها الأشقر في ربطة متحفظة خلف عنقها.. لقد تغيرت الفتاة الصيبيانية ذات السروال الجينز والتيشيرتات القطنية.. وتحولت إلى امرأة ناضجة, رائعة قادرة على ايقاف قلبه ولعاً بها.. لكن ذلك التغيير لم يؤثر على الجاذبية التي تجمعهما معاً, والتي شعر بها فور دخولها إلى المكتب..


نهض من خلف مكتبه ليرحب بها:


ـ أهلاً يا فريدة.. حمد لله على السلامة.. اتفضلي..


وضعت فريدة يدها بيده الممدودة وهي تتوقع الرعشة التي سرت في جسدها للملامسته لها..


له ذلك التأثير عليها.. هي تدرك ذلك, ولكن ما يعزيها قليلاً أنها تملك نفس التأثير عليه.. ولم يخب ظنها وهي تشعر بإرتجافه خفيفة من جسده..


جلست على المقعد المواجه لمكتبه بينما عاد هو إلى مقعده يسألها بصوت حاول أن يجعله ثابتاً:


ـ أخبارك إيه؟.. صبا بتقولي أنك مرتاحة في باريس..


أومأت موافقة:


ـ الحمد لله.. فعلاً أنا مرتاحة في باريس قوي.. ده غير كمان أن شغلي هناك كويس جداً..


ـ والله!!.. طب كويس.. بس إيه حكاية اللي اسمه غسان ده؟!.. ده لازق لك في كل حتة؟..


هزت كتفيها بلامبالاة:


ـ عادي.. هو يبقى مدير أعمالي.. مش صبا قالت لك؟..


ـ أيوه قالت لي.. بس ده مش مبرر أنه يظهر في كل صورة ويكون موجود معاكِ في كل مكان!


رفعت فريدة حاجباً واحداً وهي تسأله باستمتاع:


ـ ياااه.. أنت متابعني للدرجة دي؟..


ـ أنتِ ناسية أنك أم بنتي؟!


ـ لا مش ناسية طبعاً.. وعشان كده أنا جيت النهارده..


ـ أنتِ رجعتِ مصر خلاص ولا دي زيارة؟


ـ لا كده ولا كده..


ـ أومال إيه؟..


ـ يعني.. تقدر تقول شغل.. موضوع معرضي الجاي.. عن المرأة الشرقية.. وهقوم بجولة كده على كام محافظة.. في حاجة معينة في دماغي وعارفة إني هالاقيها على ملامح ستات مصر..


سأل بتعجب:


ـ وإيه بقى الحاجة دي..


ابتسمت بسخرية:


ـ القهر!.


ردد خلفها مذهولاً:


ـ القهر!!


أومأت:


ـ أيوه.. الست هنا.. دايماً مقهورة.. البيت, الأهل, الزوج, المجتمع, عادات وتقاليد.. ولو قدرت تتغلب على كل ده.. بتيجي مشاعرها هي اللي تقهرها..


ـ قصدك أنها ضحية في كل الأحوال؟..


ـ أكيد مش في كل الأحوال, بس في معظمها.. وعامة أنا بعمل معرض فني.. مش تحقيق صحفي..


ـ تمام.. بس برضوه ما فهمتش.. إيه علاقة صبا بده كله؟..


ـ عايز آخد صبا معايا..


ـجاء رفضه قاطعاً:


ـ لأ طبعاً.. أنتِ ما بتقدريش تراعيها وهي معاكِ في نفس البيت.. هتاخديها وتلفي بيها بلاد الله..


هبت بغضب:


ـ أنت بس اللي معتقد أني مش هقدر أراعيها.. ومانعها أنها تيجي تقعد معايا في باريس.. بتنتقم مني بيها..


أجابها بغضب مماثل:


ـ والله أنتِ اللي سبتيها من البداية وما بصتيش وراكِ وسبتيني وبعدتِ.. وبعدين ده كلامها هي.. مش مجرد اعتقاد مني..


تهالكت على مقعدها بألم:


ـ إيه!.. صبا بتقول أني مش بعرف أراعيها.. هي اللي بترفض تيجي لي؟..


تحرك ليربت على كتفها وقد قتله حزنها ولام نفسه لتسرعه الشديد ولكنه حمد ربه على عدم انتباهها لزلة لسانه:


ـ أكيد هي مش قصدها كده بالظبط.. بس هي بتحس أن وقتك مشغول ووجودها بيسبب لك حمل زيادة..


رفعت فريدة إليه عينين دامعتين وهي تتوسله:


ـ أرجوك يا عامر.. أرجوك وافق أنها تيجي معايا في الجولة دي.. أنا فعلاً حاسة أنها بعيد عني.. محتاجة أني أقرب منها..


ـ يا فريدة.. أنتِ هتكوني مشغولة قوي.. هتقدروا تقربوا إزاي؟


ـ مش هكون مشغولة للدرجة.. أنا مش هرسم اللوحات هنا.. أنا بس بدور على موضوعات.. لو رسمت هتكون اسكتشات مبدئية.. أرجوك يا عامر..


تنهد عامر مستسلماً:


ـ طيب.. إيه رأيك تيجي تتغدي معانا النهارده ونعرض عليها الموضوع ونشوف رأيها؟..


أومأت موافقة بامتنان:


ـ إن شاء الله هتوافق.. أنا هقنعها..


**********


كاد يزيد أن يفقد أعصابه وصوت ريناد الصارخ يكاد يصم أذنيه وهي توجهه ليعدل من وضع إحدى اللوحات التي يقوم بتعليقها بينما هو معلق على سلم متحرك.. يحاول التحكم في اللوحة الضخمة التي أصرت هي على شرائها وتعليقها على ذلك الحائط بالذات..


حاول أن يعدل من وضعها.. فعاد صوتها يدوي:


ـ لأ.. لأ يا يزيد.. اللوحة معوجة..


التفت لها وهو يهتف بحنق:


ـ ريناد.. دي تالت مرة أطلع أعدلها.. خلاص أنا زهقت..


وترك اللوحة كما هي ونزل ليواجهها:


ـ أنا تعبت.. كفاية لوحات وأنتيكات بقى.. أنا حاسس أني في متحف مش بيت!


هتفت ريناد به في غضب:


ـ وأنت زعلان ليه؟.. في حد يكره الشياكة والفخامة.. ولا أنت عايز تعيش في الـــ...


قطعت كلامها فجأة والتفتت لتبتعد عنه إلا أن يده تمسكت بذراعها بقوة قبل أن تتحرك وهو يسألها:


ـ سكتي ليه؟.. كملي كلامك..


ترددت قليلاً:


ـ أنـــا.. أنـ..ا.. ما اقصدش حاجة..


قاطعها قائلاً:


ـ لا.. تقصدي يا ريناد.. وبلاش نقعد نلف حوالين المشكلة بدون ما نواجهها.. ماما طلبت مني أني ما اتكلمش ولا أفاتحك في أي حاجة.. وأكيد طلبت منك كده.. والنتيجة خناقات وخلافات يومية بدون سبب.. لأننا سايبين جوهر المشكلة من غير ما نتكلم فيه.. أنا مش بحب نظام تخبية الراس في الرمل.. ده أساس المشاكل بين بابا وماما.. يا ريت يا ريناد نتكلم بصراحة..


التفتت له ريناد ببطء:


ـ أنا ما عنديش كلام..


ضيق عينيه متعجباً:


ـ ريناد.. بلاش تدي ودانك لماما وخالتي.. أنتِ مش كده.. دي مش شخصيتك.. مش ريناد اللي عرفتها طول حياتي.. اتكلمي معايا.. واسمعيني.. و..


قاطعته بقوة:


ـ ياااه يا يا يزيد.. ريناد بتاعة زمان!!.. أنت متوقع تلاقيني نفس ريناد القديمة.. طب إزاي؟.. أنا لسه بحاول استوعب اللي حصل.. بحاول أكون ريناد اللي بتحكم عقلها وتفكر كويس وتقرر بدون تهور ولا اندفاع.. بحاول أكون فعلاً ريناد اللي أنت أعجبت بشخصيتها دي.. مش فاهمة أنت كنت عايز إيه؟.. عياط وهيستريا وموقف عنيف.. ما انكرش أن ده رد فعل طبيعي.. وفعلاً فكرت أني آخد الموقف ده.. لكن على رأي خالتو.. معقولة أخسر خطيبي وحياتي عشان جوازه فشنك!.. عارف أكتر حاجة ضايقتني إيه؟؟ إنك لغيتني خالص من تفكيرك.. حتى لو أونكل عصام أجبرك على الموضوع فكان لازم تيجي تكلمني ونتفاهم ونتفق.. مش تاخد قرارك من نفسك..


أشاح يزيد بوجهه بعيداً.. فكما يبدو أن والدته أقنعتها أنه مجبر على الوضع, لذلك هي راضية صامتة.. ولكن شيء ما بأعماقه شعر بنفور شديد من منطقها وعقلانيتها.. نفور جعله يفكر للحظة أن يخبرها أنه ليس مجبراً وأن الزواج تم بإرادته, وأنه زواج دائم وليس لفترة كما يبدو أنها تعتقد, ولكنه وجدها قسوة شديدة منه.. وبكل الأحوال هو غير راغب في التعامل مع هيستريا أنثوية في تلك اللحظة..


زفر بحنق وهو يمسح وجهه بكفه فسمعها تسأله:


ـ يزيد.. لو عايز تفسخ الخطوبة قول على طول وما فيش داعي للف والدوران؟..


هز رأسه نافياً:


ـ لا.. أنا مش عايز أفسخ الخطوبة.. بس كنت أتمنى أننا نتكلم ونواجه بعض بصراحة.. تسمعيني واسمعك..


ـ أنا مش عايزة أفتح أي كلام في الموضوع ده.. أنا بحاول أتجاهله على قد ما أقدر.. أرجوك ما تجرحنيش أكتر من كده.. واحترم قراري ده..


ـ ما عندكيش أي فضول؟.. أي سؤال؟..


هزت رأسها بألم:


ـ السؤال اللي عندي مش عايزة أسمع اجابته..


ـ وأنا تحت أمرك لما تحبي تسألي وتسمعي الأجوبة.. وتأكدي إني مش هقولك إلا الحقيقة..


************


تأفف مازن بحنق وهو يحاول تسوية قميصه بعدما فصل بين يزيد وشاب ما.. كان يزيد يكيل له اللكمات بعنف.. واضطر مازن أن يغير طريقه بعدما كان متوجهاً إلى مطعم النادي ليلاقي نيرة هناك.. فتحرك مسرعاً ليبعد يزيد عن هذا الشاب الذي لا يدري بماذا أغضبه حتى يلكمه بمثل هذا العنف..


وما يثير غيظه أن يزيد التفت نحوه بغضب وهو يهدر به:


ـ أنت السبب.. أنت ورقصتك الملعونة..


ثم ابتعد عنه مسرعاً بدون أي كلمة أخرى.. بينما ضرب مازن كفيه ببعضهما وهو يتحسر على عقل صديقه الذي طار بالفعل منذ الرقصة الملعونة كما يسميها...


دلف إلى مطعم النادي المكيف وهو يبحث بعينيه عن شعلته الحمراء.. فلمحها على الفور.. جالسة مع فتاة ما على إحدى الموائد الجانبية.. ظن في البداية أنها علياء حيث كانت توليه ظهرها ولكن ما أن تقدم منهما.. حتى أدرك أنها لم تكن علياء, بل كانت دنيا.. دنيا خاصته..


**************


وصل يزيد إلى المزرعة وشياطين الإنس والجن تتلاعب أمام وجهه.. يتذكر ذلك الشاب الأحمق.. رمق قبضته للحظة وهو يتذكر لحظة أن أقحمها في وجه الشاب بغضب شديد.. ولكنه يستحق.. ذلك الأحمق يستحق.. فذاك أبسط عقاب لمن يجرؤ على خطبة امرأة من زوجها!..


نعم.. فالأحمق تقدم منه ليخبره أنه لا يهتم بما ذكر من شائعات عن علياء.. وأنه معجب بها جداً ويريد التقدم لخطبتها.. فهي شغلت عقله وقلبه منذ أن رآها ترقص مع مازن!..


الأحمق يريد خطبة زوجته!!.. إن اللكمة التي تلقاها أقل مما يستحق..


ولكن عن أي شائعات يتحدث!!.. هل تحول خبر زواجه من علياء الذي أشرف والده على توزيعه على المجلات إلى شائعة؟.. كيف؟..


زفر بحنق.. لو وافقت الحمقاء على إقامة حفل زفاف.. لعلم الجميع أنها له.. ملكه.. وتراجعوا على الفور.. ولكن.. ماذا عن أمه؟.. وريناد..


كيف يحل تلك المعضلة؟.. كيف يعلم الجميع أنها له؟.. لقد أدرك الآن حكمة والده من إعلان الخبر.. وعليه الآن أن يوصل الحقيقة إلى أمه بالتدريج.. قبل أن يحاول أحمق آخر خطبتها..


بدأ يبحث عنها في المزرعة وقد انتابه القلق.. فهي غير موجودة بأي مكان... ساورته الشكوك وهاجمته المخاوف.. أين ذهبت الحمقاء الصغيرة.. لقد مر على اصطبل الخيل ولم يجدها هناك.. يعلم أنها غاضبة منه.. ولها كل الحق.. فإذا كان يشعر بالغضب والحنق من نفسه ومما يفعله بها.. فهو الآن لا يستطيع تخيل مشاعرها نحوه..


تذكر كلمات والده بأنها رفضت أن يقام لها زفاف.. لقد ذُهل وقتها من رفضها.. فهو كان يحاول اقناع نفسه بكل الطرق أنها نصبت له الفخ وسحبته ليقع به بكامل إرادته, ولكن جاء رفضها القاطع للحفل الزفاف كصفعة مؤلمة له.. تنبهه أن يكف عن إلحاق الظلم بفتاته الصغيرة..


حاول بعدها الاتصال بها مرات عديدة, ولكن هاتفها كان مغلقاً.. ويبدو أنها ترفض استقبال أي مكالمة منه.. لا يلومها.. فمَن تلك التي سترغب في سماع صوته أو رؤيته بعد الطريقة التي غادرها بها آخر مرة..


وصل أخيراً إلى غرفة بخلفية الفيلا.. كانت قد استأذنت والده أن تستخدمها كغرفة للرسم.. وبالفعل حولتها إلى غرفة تحمل بصمتها في كل شيء.. وزعت بها شتلات القرنفل الذي تعشقه.. وتناثرت به بعض وسائد بعدة أحجام ونقوش مميزة.. مقاعد صغيرة مريحة وعدة بُسط بألوان ناعمة.. ذلك بخلاف اللوحات المتناثرة والتي تدل على موهبة علياء التي قررت تجاهلها منذ فترة.. خضوعاً لأوامر والدته..


كما ظن وجدها جالسة في حجرتها الصغيرة حيث كومت نفسها على أريكة متوسطة الحجم بدون ظهر وقد ألصقتها بالنافذة التي كانت تحدق إليها في شرود وصوت نجاة الذي تعشقه علياء يصدح في الخلفية..


"القريب منك بعيد والبعيد عنك قريب..


أخذ يتأملها وهي شاردة تردد كلمات الأغنية بقلبها قبل شفتيها..


بينما تتذكر آخر مرة رأته بها بعدما أوقفت نزيف أنفه, حيث لم يستطع مقاومة رغبته بها واكتسحها بعاطفة مجنونة لم تستطع مقاومتها أو حتى تذكر سبب واحد لرفضها لها.


وعندما أفاقت من غفوة بسيطة لم تجده بجوارها بل كان يرتدي ملابسه في صمت.. أخذت تراقب جسده الضخم الذي كان يحتويها منذ دقائق.. بينما يهمس في أذنيها بكلمات لم تحلم للحظة أن تسمعها منه.. وهو يعاملها بعاطفة مشحونة بالجنون والرقة معاً.. لكنه الآن يرحل في صمت!..


كل ده وقلبي اللي حبك لسه بيسميك حبيب.."


شهقة خفيفة ندت عنها جمدت جسده بالكامل قبل أن يلتفت لها وهو يخفض رأسه أرضاً ويهرب بعينيه بعيداً عن نظراتها المتسائلة والحائرة..


وأخيراً همس:


ـ آسف.. يا علياء..


رددت بذهول:


ـ آسف!!..


عدل كلماته:


ـ أقصد إني آسف عشان أزعجتك.. أنا مضطر أمشي الوقتِ..


عادت تردد كلماته كالببغاء الأبله:


ـ أزعجتك!.. أمشي!


أومأ برأسه موافقاً.. وتحرك ببطء حتى وصل إلى باب الغرفة تحت نظراتها المتجمدة.. ثم التفت فجأة وعاد إليها بسرعة ليطبع قبلة طويلة ودافئة على شفتيها ويهمس لها:


ـ خدي بالك من نفسك..


"حبيب عينيّ حبيب أحلامي حبيب دموعي وهنا أيامي..

أهون عليه أسهر بألامي وأتوه نجوم الليل بظلامي..."


أغمضت علياء عينيها وسمحت لبعض دمعاتها بالتسابق على وجنتها تتذكر خروجه السريع في ذلك اليوم.. لم تره من بعده لعدة أيام, ولكن على ما يبدو أنه كان يشغل وقته كله مع خطيبته الرسمية.. حيث أرسلت لها سهام عدة مجلات تحتوي على عدة لقطات مختلفة ومقالات صفراء تتساءل عن صحة خبر زواجه بها.. وهل كانت مجرد نزوة عابرة عاد بعدها وريث الغمراوي إلى خطيبته الحسناء؟.. أم أن الفتاة التي يكفلها عصام الغمراوي قد حاولت نسج شباكها حول ابنه لتنهج مسلك أمها في اختطاف رجل من زوجته أو تلك المرة خطيبته؟..


كانت تلك كلمات سهام.. هي متأكدة.. كلمات حقيرة.. تهين أمها وتتنال من شرفها.. تنتقم من أمها بها.. وهي من منحتها الوسيلة..


تلعن نفسها مرة على حبها له وألف مرة لاشتياقها المجنون لرؤيته.. تحلم به في الليلة ألف مرة.. وفي النهار تتخيل مئات الصور لهما معاً.. تتأمل صوره مع ريناد وتشعر بآلام غير مفهومة.. لم بدأت تغار من ريناد؟.. الوضع لم يتغير.. تجاهلت أحاسيس لم تدرك كنهها وهي تخبرها أن الوضع تغير وأنها بدأت تشعر نحوه بالتملك.. لذا ظهرت الغيرة.. لكن لا.. لا يحق لها أن تغار.. أنها هي من جارت على حق ريناد وليس العكس.. فعشقها لمن ليس لها لعنتها وحدها ويجب أن تدفع ثمنها بمفردها.. لذا فكرت بأن تبتعد ولكن إلى أين؟.. فأغلقت هاتفها هرباً منه وهرباً من الجميع..


كيف تكون بتلك العقلانية وذلك الجنون في نفس الوقت فهي تنتظر زيارته التالية.. لا.. لا تنتظرها.. بل تتوقعها.. فقد بدأت مقاومتها بالتلاشي.. وصمودها الواهي اختفي.. وهي على وشك تشغيل هاتفها والاتصال به..


"يا رايح للي فايت لي عيوني سهرانة ولا داري

أمانة اوصف له دمع عيوني طول ليلي ونهاري"


وهو.. هو لاه عنها أو على أقصى تقدير يتناساها.. معتقداً أنه قام بما عليه نحوها.. فهي أغوته وهو تزوجها.. هذا ما يعتقده.. متناسياً ما حدث في الليلة المشئومة.. تراجعها المذعور.. وهمسه المسعور بأن آوان التراجع فات..


"آه منك آه منك"


ورغم ذلك تدرك أنها لو اتصلت به الآن طالبة حضوره.. سيأتي.. ليغرقها بلحظات مجنونة يعقبها عقاب لها ولذاته.. ولكنها لا تملك سوى أن تحبه.. تعشقه.. تنتظره..


" "كل ده وقلبي اللي حبك لسه بيسميك حبيب


هزت رأسها ببؤس فتناثرت المزيد من الدمعات مع تناثر خصلاتها.. ولمح شفتيها تردد الجملة الأخيرة.. فانطلق منه السؤال لا إرادياً:


ـ ويا ترى أنا لسه حبيبك يا علياء؟..


انتفضت في مكانها وهي تلف وجهها نحوه فعاد شعرها يتناثر مرة أخرى مسبباً تشتيت انتباهه ومشاعره.. تأملته لفترة وهي تشعر بقلبها ينتفض وكأنه عجز عن مجاراة حبها المجنون وفرحتها برؤيته.. فسألته بخفوت:


ـ أنت جيت امتى؟..


رد عليها بآخر ما تتوقعه:


ـ ليه رفضتِ يتعملك فرح؟..


أشاحت بوجهها بعيداً لتواجه النافذة مرة أخرى:


ـ أنا ليا أسبابي!


كتف ذراعيه وهو حريص على أن يظل بعيداً:


ـ أقدر أعرفها؟..


التفتت له ولاحظ ارتجافة شفتها السفلى فأدرك أنها تقاوم نوبة من البكاء.. فنادى بتحذير:


ـ علياء..


هزت رأسها وهي تخبره بخفوت:


ـ مش هتفهمني.. عمو عصام اعتبرني واحدة مجنونة.. ويمكن عنده حق..


ـ طيب جربي تقنعيني؟..


ـ أنت جاي عشان كده بس؟..


وضعت يدها على فمها بسرعة بعدما أدركت المعنى الغبي لسؤالها الأحمق وهي تلمح نظرة عينيه اللامعة وتسمع إجابته:


ـ جاي اطمن عليكِ.. أنتِ قافلة الموبايل ومش بتردي على التليفون الأرضي..


همست:


ـ فيك الخير..


هتف:


ـ ليه؟


ـ ليه قافلة التليفون؟


ـ ليه بتهربي من الواقع؟.. خلاص جوازنا واقع.. و..


قاطعته بغيرة تظهرها للمرة الأولى:


ـ وجوازك من ريناد واقع..


وتحركت لتمسك مجموعة من المجلات المكومة في أحد الأركان لتضعها بين يديه.. وهي تكمل:


ـ تانت سهام وصلتِ لي المعلومة كويس قوي.. أنا عارفة أني غلطانة.. بس ما كانش له لازمة تيجي سيرة ماما في الموضوع..


ألقى المجلات بعنف وقد فهم أخيراً كيف تحولت الحقيقة إلى شائعة:


ـ دي شوية ناس تافهة.. وده كله حصل عشان أنتِ رفضتِ الفرح اللي كان هيقطع ألسنة الناس..


سألته بذهول:


ـ أنت موافق على فكرة الفرح؟.. أنا..


قاطعها بذهول أشد:


ـ أنتِ رفضتِ عشان خفتِ أني أنا اللي أرفض؟..


هزت رأسها نفياً:


ـ لا.. مش عشان كده.. أنا رفضت عشان ماما..


هز رأسه بعدم فهم:


ـ مامتك!!.. إزاي؟..


ـ مش هتفهمني.. و..


قاطعها وقد بدأ يشعر بالغضب:


ـ اتكلمي يا علياء..


كورت يدها في قبضة لتضعها بين أسنانها كعادتها كلما توترت وأخذت تتحرك بلا هدف في الغرفة وكأنها تحاول ترتيب أفكارها.. وأخيراً تكلمت لينتابه الذهول وينتفض قلبه مع كل كلمة تقولها:


ـ أنا.. أنا أما كنت صغيرة وماما الله يرحمها كانت عايشة.. زي أي طفلة ماما كانت تكلمني إزاي نفسها تشوفني عروسة.. وأنها هتفصلي فستاني بإيدها.. ماما كانت خياطة شاطرة.. حتى أنها اشترت القماش قالت أنها هتعينه لأنه كان حلو قوي.. وصممت كمان موديله.. وأنها يوم فرحي.. هتلبسني بايدها.. هتعدلي الطرحة.. هتسلمني لعريسي وهي بتوصيه عليّ.. وتوصيني كمان عليه.. وبعد أما.. ماما ماتت..


سكتت لحظة لتبتلع عبراتها واكملت:


ـ بعد موتها.. بقيت أقول أنها ما سابتنيش ومش هتنساني يوم فرحي.. وإنه أكيد روحها هتكون معايا.. بتبتسم لي.. وفرحانة بي.. وأني هبقى حاسة بيها حواليا.. يمكن كمان أشم ريحتها أو أحس ببوستها على جبيني.. لكن.. بعد اللي حصل مني..


سكتت وهي تاخذ نفس عميق:


ـ بعد اللي حصل استحالة أقدر ألبس فستان فرح.. هقول لأمي إيه؟.. هنتظر روحها يومها إزاي وأنا.. أنا.. فرطت في أمانتها..


وانخرطت في بكاء حاد قطع نياط قلبه فضمها لصدره بقوة.. وبداخله رغبة عارمة في محو بكائها وتحويله لفرحة ولكن كيف؟.. كيف وهو من سرق منها أمانتها؟.. سلبها باسم الحب ثم ألقى بالذنب فوق كاهلها لتتحمله وحدها.. ولكنه يحترق هو الآخر بذنبه نحوها.. وذنبه نحو أمه..


همس في أذنها:


ـ خلاص يا علياء.. أنتِ سلمتِ الأمانة لصاحبها.. وأنا الوقتِ المسئول عنك.. انسي الليلة دي.. انسيها وأنا هنساها.. ونبدأ من جديد..


ازداد بكائها ونحيبها.. كيف يبدآن من جديد؟.. كيف وهو سيتزوج من ريناد؟..


عاد يهمس:


ـ علياء.. كفاية.. أنتِ عارفة أن دموعك نقطة ضعفي..


رفعت رأسها عن صدره وهي تحركه غير مصدقة ما سمعته للتو وتحركت بعيداً عنه.. بينما تجمد هو الآخر وكأن كلماته خرجت بدون إرادته..


ـ أنت عايز تجنيني يا يزيد.. صح.. قبل كده قلت لك بطل الشيزوفيرنيا دي.. وزعلت مني؟.. بس أنت فعلا هتجنني.. نبدأ إزاي؟.. وفرحك اللي بعد كام يوم؟.. أنا كنت فاهمة أن جوازنا مؤقت.. وأنك هتنتظر لحد ما عمو عصام يهدى وتطلقني..


رفض بعنف:


ـ لا.. ما فيش طلاق..


ـ وتانت سهام.. وريناد.. و..


مسح وجهه بكفه وهو يزفر بحيرة:


ـ كل شيء هيتحل في وقته.. لكن طلاق.. ما فيش.. فاهمة.. واستعدي بعد ما تخلص قصة الفرح دي.. أنك هتتنقلي القاهرة.. أنا وصيت مازن يدور على شقة كويسة..


فتحت عينيها بذهول غير مصدقة ما يقوله:


ـ أنت بتتكلم جد!


ـ أكيد مش بهزر في حاجة زي كده..


ـ بس..


ـ ما فيش بس.. ده اللي هيحصل.. وعلى ما نكون جهزنا الشقة هتكون الصورة وضحت عند الناس كلها..


صمتت ولم تعرف بم ترد.. فما يقوله يعني أنها ستصبح زوجة ثانية.. أو أولى.. لا تعرف ماذا تطلق على نفسها؟.. ولكنها تعلم أن سهام ستقتلها وستقيم حفل شواء على جسدها وستساعدها ريناد بلا شك!..


كانت غارقة في أفكارها فلم تشعر أنه اقترب إلا بعد أن لف خصرها بذراعه وهو يهمس لها:


ـ وباقي إجابة سؤالك.. أنا جيت لأنك وحشتني.. وحشتيني قوي..


وعاد صوت نجاة يصدح..


"ياللي آمر من بعدك لقاك ياللي أمر من هجرك رضاك

يا غربتي وأنت بعيد عني يا غربتي وأنت قريب مني"


ضمت نفسها لجسده أكثر وهي تجيبه بمثل همسه:

ـ واجابة سؤالك أنت هتفضل حبيبي لآخر لحظة في عمري..


"يا حب.. أقول له ايه؟.. يا حب.. أسامحه ليه؟.

دا العذاب هو اللي يسامحه والسهر هو اللي يسامحه

والدموع هي اللي تسامحه" عالفصل الرابع عشر


وقف مازن وقد فرج ساقيه وكتف ذراعيه على صدره تشع من حوله طاقة من الغضب تعكسها عيناه بوضوح وهو يتأمل دنيا التي جلست على أحد المقاعد وقد شبكت أناملها, تهز ساقها بلامبالاة وقد وضعتها فوق الأخرى فانكمش طول التنورة القصيرة من الأساس فكانت تصل بالكاد إلى منتصف فخذها...


قطعت دنيا حلقة الصمت وسألته بهدوء بارد:


ـ هتفضل ساكت كده كتير؟


خرج صوته يضج بغضب مكتوم:


ـ بحاول أفهم إيه اللي حصل النهارده ده؟..


نهضت بغتة من جلستها وواجهته بغضب مماثل:


ـ أوعى عقلك يوديك لحتة غلط.. أنت عارفني كويس.. وعارف أنه مش أنا اللي أعمل كده..


فك ذراعيه ولم يرد بأي شيء بينما أظهرت عيناه غضب مشتعل.. فرفعت دنيا سبابتها ووكزته بها في صدره عدة مرات وهي تهتف به:


ـ علاقتك بها ما تهمنيش في حاجة.. وبكررها تاني أنا ما اعملش كده.. لو كنت من النوع ده صدقني كانت حاجات كتير اتغيرت وأنت عارف كده..


فك ذراعيه وقلل من تحفزه قليلاً وقد شعر بالندم لأنه جدد جراحها من جديد:


ـ أنا آسف يا دنيا.. بس لازم أفهم.. إزاي أنتِ ونيرة اتقابلتوا وليه؟


ـ نيرة هي اللي اتصلت بيا وحددت الميعاد.. عايزاني أصمم لها فستان الفرح


ـ هه..


قالها بسخرية مستفزة جعلت درجات غضبها ترتفع للسماء فهتفت به:


ـ أظن أني ما كدبتش عليك ولا مرة طول السنتين اللي فاتوا.. ومش هاجي أعملها النهارده.. وأكيد برضوه هي قالت لك هي كانت معايا ليه.. ولا إيه؟


هدأ غضبه قليلاً وهو يتذكر ثرثرة نيرة في السيارة عن المُصممة التي على وشك دخول أبواب العالمية وعن اتفاقها معها لتصمم ثوب زفافها.. كانت كلماتها تتبخر فوق مراجل غضبه من دنيا فلم يركز في حديثهما إلا قليلاً..


عاد صوت دنيا يهتف به:


ـ أنت روحت فين؟.. مازن.. أنت لسه مش مصدقني؟..


غمغم بتعجب:


ـ وإيه اللي يخلي نيرة اللي بتطلب هدومها مخصوص من باريس, تطلب منك تصميم فستانها!


كتفت ذراعيها وهي تجيبه ساخرة:


ـ ميرسي على المجاملة!


مسح وجهه بكفيه وهو يعتذر ثانية:


ـ أنا آسف.. ما اقصدش..


قاطعته بإشارة من يدها:


ـ بص يا مازن.. أنا هوضح الموضوع عشان مش عايزة أي سوء تفاهم بينا.. نيرة اتصلت بيا الصبح وطلبت تقابلني.. حددت لها ميعاد بعد أسبوع أكون رجعت من سفرية لبنان.. لكن هي أصرت على مقابلة فورية.. وأظنك عارف قد إيه خطيبتك ممكن تكون مقنعة..


لوى شفتيه ببسمة ساخرة بينما أكملت هي:


ـ حددنا الميعاد في النادي لأني مش هقدر أروح الأتيليه النهارده.. وآه.. هي سمعت عن العرض الأخير بتاعي في لبنان وأنت فاكر طبعاً سمَع إزاي.. وكمان في كذا ممثلة مشهورة لبست تصميماتي في المهرجان الأخير.. اسم دنيا الموجي مش أقل من أي مصمم معروف, ومش هسمحلك أنك تقلل من شغلي تاني..


سألها مستفهماً:


ـ طيب ليه وافقتِ تقابليها؟.. طالما عرفتِ هي مين, إيه لازمة المشاكل؟..


أشارت له بسبابتها موضحة:


ـ هي اتصلت بي عشان شغل.. شغلي خط أحمر.. ما فيش أي علاقات هتأثر على شغلي.. أظن أن ده كان ضمن اتفاقنا..


ـ يعني هتصممي لها الفستان؟..


ـ أكيد..


هز رأسه بصمت فهو يعرف كم هي عنيدة ولا تتراجع عن قراراتها وخاصة أن كانت تتعلق بعملها.. أجلى صوته وهو يسألها بتردد:


ـ وطلبت فستان شكله إيه؟


ابتسمت وهي تخبره:


ـ عايزه فستان تبهر بيه عريسها.. وما تحاولش تعرف تفاصيل أكتر..


ارتسمت على وجهه ابتسامة هادئة:


ـ كل اللي هطلبه أن موقف زي بتاع النهارده ما يتكررش تاني.. ممكن؟


هزت رأسها موافقة:


ـ أكيد يا مازن.. صدقني لو كنت أعرف أنك هتقابلها في النادي كنت غيرت مكان المقابلة..


ـ بس ما كنتيش هتبلغيني, صح؟..


أومأت موافقة وهي تلقي بحذائها العالي الكعبين بعيداً.. وتخلع سترة بذلتها لتظهر بلوزة ضيقة بلا كمين حددت معالم فتنتها بدقة وامتدت يدها لتحرر خصلات شعرها الطويل فانسدل كشلال أسود وصل لما بعد خصرها.. وتحركت نحوه بحركات مدروسة حتى اقتربت منه فأمسكت ذقنه بأناملها وهي تهمس:


ـ تؤ.. زي ما قلت شغلي منفصل عننا.. تمام يا حبي..


ورفعت نفسها حتى وصلت لشفتيه فقبلته بشغف.. وهمست له بصوت أجش:


ـ بس طالما إحنا هنا دلوقتِ.. ممكن أسمح لك تقنعني أني أقولك هقابلها تاني امتى؟..


لف خصرها بذراعه وهو يطبع قبلة خفيفة على وجنتها:


ـ مش فاضي دلوقتِ يا دنيا.. أنا متأخر على اجتماع مجلس الإدارة..


لم تسمح له بالابتعاد ولفت ذراعيها حول عنقه:


ـ مازن.. أنا مسافرة الليلة.. و..


قطع كلماتها جرس هاتفه.. فأبعدها قليلاً:


ـ شوفتي.. ده أكيد حاتم بيه.. عايز يخرب بيتي و..


توسعت عيناه وهو يرمق شاشة الهاتف:


ـ نيرة!..


لم يجب على الهاتف حتى سكت الرنين.. فسألته دينا بفضول:


ـ ما ردتش عليها ليه؟..


منحها نظرة لتصمت ولكنها لم تهتم.. وأكملت:


ـ ممكن تدخل تكلمها من جوه.. ولا أقولك أنا اللي هدخل عشان تكون براحتك.


تعالى صوت هاتفه مرة أخرى.. وقبل أن يغلقه.. أسرعت دنيا وأوقفته بغمزة من عينها:


ـ التقل صنعة يا بشمهندس.. بس بلاش تزودها.. رد على التليفون براحتك..


فتح مازن الخط ليجد صوت نيرة في أقصى حالات اضطرابه.. فهتف بها بقلق:


ـ في إيه يا نيرة؟.. اهدي بس وفهميني..


سكت قليلاً ليستمع إلى نبرتها المضطربة ثم طمئنها بهدوء:


ـ طيب.. خلاص.. ربع ساعة وهكون عندك..


رفع عينيه إلى دنيا فوجدها تبتسم بغموض ثم توجهت نحوه وطبعت قبلة خفيفة على وجنته:


ـ هسلم عليك بقى دلوقتِ لأن طيارتي كمان أربع ساعات.. أشوف وشك بخير..


أحاط خصرها بذراعه وهو يقبلها مودعاً:


ـ أشوف وشك بخير يا دنيا.. أول ما توصلي طمنيني..


أومأت برأسها موافقة وخرج هو ليلحق بموعده مع نيرة.. بينما ارتسمت ابتسامة حزينة على شفتيّ دنيا وهي تغمغم:


ـ يا بختها بيك يا مازن.. يا ريت بس ما تكسرش قلبك..


فقد كان يتردد في رأسها باقي جملة نيرة والتي لم تخبره بها..


"عايزة فستان أبهر بي خطيبي.. وأقهر بي خطيبي الأولاني ويندم ألف مرة على أنه فرط فيا"..


************


كان حسن يعمل على إنهاء بعض الرتوش النهائية بإحدى التصميمات التي كلفه بها صاحب المكتب الهندسي عندما جاءته منى بكوب من الشاي وبعض قطع الكيك, ووقفت بجواره وهي تداعب خصلات شعره وتهمس:


ـ حسن.. أنت لسه زعلان؟..


أخفض رأسه فوق لوحته وهو يكتم ابتسامته.. فهي تحاول مراضاته منذ ساعات وهو مستمر في التظاهر بالغضب.. فقط حتى يستمتع بدلالها له..


لفت ذراعها حول كتفه وهي تقترب منه أكثر وتهمس:


ـ أنا مش فاهمة بس مين اللي يزعل من التاني!!.. يعني بعد ما أجهز لك الغدا.. تغضب وتسيب الأكل وكمان مش عايز تكلمني ولا ترد عليّ..


ظل صامتاً ولم تسمع منه أي رد.. فسحبت ذراعها بهدوء وأولته ظهرها وهي تغمغم بحنق:


ـ براحتك.. أنا في الصالة لو..


وقبل أن تكمل كلامها وجدت نفسها تسحب للخلف بسرعة فشهقت بخوف وحسن يرفعها ليحشرها بين جسده ولوحة التصميم.. وهو يخبرها بضحكة مكتومة:


ـ بقى بذمتك الشيء اللي كان في الأطباق ده اسمه غدا؟!..


أخفضت رأسها وأحاطت عنقه بذراعيها وهي تخبره بصبر:


ـ يا حبيبي.. دي اسمها بصارة.. وبعدين دي طعمها حلو جداً.. ومفيدة كمان.. أنت قمت وسبت الأكل حتى من غير ما تدوقها!..


جلس حسن من جديد على مقعده وأوقفها بين ساقيه وهو يسألها بتردد:


ـ يعني الشيء الأخضر اللزج ده طعم كويس معقولة؟!.. طيب بتتعمل من إيه البتاعة دي..


ـ من الفول.. و..


قاطعها قبل أن تكمل:


ـ فول!!.. فول تاني!.. هيبقى فول في الفطار والغدا كمان.. ما هو البصارة من الفول والفول من البصارة يا مسعودي..


وكزته في كتفه وهتفت بحنق:


ـ بقى كده يا حسن بتتريق عليّ.. طيب أنا بجد بقى زعلانة.. و..


ضاعت باقي كلماتها بين شفتيه وهو يهمس:


ـ زعلانة يبقى لازم أصالحك.. دي المصالحة هي أحلى حاجة في الزعل..


وضعت رأسها على كتفه وهي تبتسم:


ـ أنت مش هتتكلم جد أبداً..


ـ لا يا ستي هنتكلم جد.. أنتِ تدخلي تغيري هدومك وأنا هعزمك على أحلى عشا.. بدل الغدا النص كم بتاعك..


ابتلعت منى سخريته من الطعام البسيط بدون أن تعلق عليها.. فهي تحاول معه تدريجياً حتى يكف عن بعثرة الأموال خاصة وأن راتبه مع العمل الإضافي الذي يقوم به بالكاد يكفي تكاليف الطعام.. ولولا أن جدته دفعت ايجار الشقة لهذا الشهر لأصبحا في أزمة بالفعل, وهو مُصر بعناد شديد على ألا يسمح لها بالعمل.. ولكنها لم تكف عن التفكير في حل لمشكلتهما.. وأخيراً وجدت حلاً معقولاً ولكنها لا تعرف كيف ستكون ردة فعل حسن عليه.. فكرت قليلاً ثم همست بأذنه:


ـ طيب أنا عندي اقتراح تاني.. هعملك عشا أحلى ألف مرة من بتاع بره وهنسهر سوا هنا لأني عايزاك في موضوع مهم..


غمزها بشقاوة:


ـ تصدقي وأنا عايزك برضوه في نفس الموضوع ده..


انفجرت بالضحك وهي تتملص من بين يديه:


ـ أشك أنه نفس الموضوع.. على العموم خلص شغلك هيكون العشا جاهز..


وبالفعل أعدت له عشاء شهي مضحية بما كانت تنوي طهوه لغذاء اليوم التالي.. لكنها كانت ترغب في إرضائه حتى يستمع إليها بهدوء ودون غضب..


وبالفعل كان في مزاجاً رائقاً بعد أن تناولا العشاء.. رقصا معاً وهما يستعيدا ذكريات شهر العسل.. وحينما قاربت الموسيقى على الانتهاء, شعرت منى أن حسن على وشك حملها إلى غرفتهما ليلقنها أحد دروسه اللذيذة.. ابتعدت عنه قليلاً وهي تسحبه إلى الأريكة ليجلسا معاً واضعة رأسها على صدره وهي تداعبه بلطف:


ـ حسن.. عايزة أقولك على حاجة..


أجابها بهمس رائق:


ـ قولي يا حبيبة حسن..


شجعها مزاجه على الكلام فتحدثت بسرعة:


ـ حسن.. أنا فكرت في مكان نعيش فيه.. ما فيش داعي للشقة دي.. وخاصة أنه إيجارها عالي قوي.. وأنت قلت إنك مش هتقبل فلوس تاني من جدتك..


اعتدل حسن في جلسته وهو يسألها بجدية:


ـ مكان إيه اللي فكرتِ فيه يا منى؟.. إوعي تكوني فكرتِ أننا نروح نعيش عند باباكِ.. ده مستحيل..


ابتلعت منى ريقها فهي تعلم صعوبة ما ستقترحه على نفسه:


ـ حسن.. أوعدني أنك هتسمعني للآخر.. وهتفكر كويس في اقتراحي..


هز رأسه بحيرة ولكنه أجابها:


ـ أوعدك يا منى..


ـ شوف يا سيدي.. في فوق السطح في البيت عند بابا أوضتين مقفولين.. ما فيش حد بيستعملهم.. أنا أما كنت عندهم آخر مرة طلعت وبصيت عليهم.. لقيتهم محتاجين شغل بسيط.. ووهيكونوا مناسبين..


قاطعها حسن:


ـ مناسبين لإيه يا منى؟..


ـ حسن.. اسمعني للآخر.. إحنا لازم ندبر نفسنا وإلا هيجي الشهر الجديد واحنا مش معانا إيجار الشقة دي.. مش عيب ولا حرام لو قعدنا في أوضة فوق السطوح.. أنت دايماً كنت بتقول المهم نكون سوا.. وعشان ده يتحقق لازم نضحي.. أنا عارفة أنك ضحيت كتير وخسرت كتير.. بس معلش يا حسن هنضغط على نفسنا فترة لحد ما الأمور تهدى وتقدر ترجع لشغلك أو على الأقل تمسك شغل مناسب.. أرجوك فكر يا حسن.. أنا مش فارق معايا أني أعيش في فيلا.. أو شقة فخمة أو فوق سطوح..


بدا الإمتعاض الشديد على وجه حسن وهو يتصور حياته في غرفة فوق سطح منزل بحي شعبي.. وقرأت منى بوضوح امتعاضه هذا ولكنها لم تيأس..


فاقتربت منه وهي تضع بصوتها كل ما تملكه من دلال وغنج:


ـ عشان خاطري يا حسن.. عشان خاطري.. تيجي معايا نشوفها بس.. وبعدين تقول رأيك..


لم يجد حسن بداً من الموافقة على رجائها الحار وهو يعتصر عقله بقوة بحثاً عن حل.. عن مكان مناسب ليقيم به هو وزوجته.. بدون أن يرضخ لتهديد والده المستمر.. أو لاغرائاته المستترة.. والتي بدأت اليوم بالذات بعرض مبتذل حمله صاحب المكتب الذي يعمل به.. بموافقة والده على حل وسط.. وهو عودته إلى عمله القديم.. على أن يجعل زواجه من منى زواجاً سرياً..


سمع صوتها المتوسل:


ـ حسن..


ضمها إلى صدره وهو يدفن وجهه بخصلات شعرها:


ـ ماشي يا منى.. هاجي معاكِ بكره نشوف السطوح.. أنا عندي كام منى..


********


خيم الصمت التام على سيارة مازن الذي وضع كل تركيزه في القيادة بينما أخذت نيرة تتلاعب بقماش ثوبها ذو الأوان المتعددة والذي أجبرها مازن على ارتدائه في بداية السهرة.. رمقته بغيظ وهي تتذكر سعادتها وهي تتهادى بثوب سهرة من قماش الشيفون الأبيض له فتحة صدر مربعة.. وقد التصق قماشه بصدرها ثم تهدلت طبقاته حتى نهاية ساقيها.. مع كمين طويلين يكاد يصل طولهما لطول الفستان الأساسي.. كانت تبدو كحورية ملائكية.. ابتسمت بخبث.. بل كانت تبدو كعروس..


خطت عدة خطوات حتى وصلت إلى مازن الذي كان يجلس على الأرجوحة بالشرفة ويوليها ظهره كعادته.. كانت تغضب من حركته تلك في البداية.. إلا أن غضبها قد تحول سريعاً إلى لهفة لترى تلك النظرة بعينيه في كل مرة يلتفت بها نحوها وعيناه تكاد تحتوي ملامحها بنظرة شوق ولهفة.. إلا أنه تلك المرة.. لم يلتفت نحوها.. بل أخبرها بهدوء:


ـ اطلعي غيري الفستان يا نيرة..


هتفت بدهشة:


ـ أغيره!.. ليه؟.. أنت حتى ما شوفتوش.. والله مقفول ومش قصير..


شعرت به يبتسم رغم أنها لم ترى وجهه ولكنها سمعته يسألها بهدوء:


ـ بس أبيض صح؟


ضربت قدمها بالأرض غضباً وهي تهتف بحنق:


ـ عرفت إزاي؟


هز رأسه وقد ظهرت ضحكته تلك المرة:


ـ اطلعي غيريه يا نيرة.. وبلاش تلبسي واحد فضي.. الليلة فرح ريناد.. وهي العروسة..


هتفت بعناد:


ـ مش هغيره..


هز كتفيه وهو مازال يوليها ظهره:


ـ يبقى مش هنروح الفرح..


عادت تضرب قدمها بالأرض غضباً وهي تلتفت لتصعد إلى غرفتها وتغير ثوبها الأبيض بذلك الذي ترتديه الآن والذي يضم عدة درجات من اللونين الأزرق والأحمر, ولكنها اختارته تلك المرة عاري الصدر والذراعين والظهر أيضاً.. وكأنها تريد أن تثبت أنها صاحبة الكلمة الأخيرة..


التفتت له وهي تتأمل ملامحه عاجزة عن تفسير مشاعرها نحوه.. لا تنكر وسامته الواضحة.. فهي كانت تراه وسيماً دائماً.. لكن ما يجذبها نحوه ليست تلك الوسامة.. تشعر أنه مثل اللهب.. وهي ترى نفسها لأول مرة كالفراشة التي تنجذب بدون تفكير نحو شعلة قد تكون سبباً في هلاكها.. ولكن كيف؟.. كيف وهو يمتلك تلك القدرة الغير معقولة على فهمها.. واحتوائها أيضاً.. فلم تنسى يوم اتصلت به وهي في أقصى حالات الاضطراب لظنها بأن دعوة أبيها لفريدة لتناول الغذاء ما هي إلا مقدمة لعودتها الدائمة إلى حياتهم جميعاً.. ولم تهدأ إلا بعد أن أقنعها مازن بالجلوس مع ضيفتها على مائدة الغذاء والقيام بواجبات الضيافة كما يفترض بها كسيدة صغيرة لبيت والدها.. ورضخت نيرة لطلبه بنزق بعدما وعدها بأن يتواجد معها في تلك الجلسة.. والتي أدركت بعدها.. أن فريدة لن تعود لتصبح جزء من أسرتها ثانية.. رغم استشعارها بغريزتها الأنثوية.. أن فريدة مازالت غارقة في حب والدها.. إلا أنها كما بدا واضحاً.. قد قررت أن تتجاوز تلك المشاعر أو على أفضل تقدير.. تتجاهلها.


أخرجها من ذكرياتها توقف السيارة.. فسألت مازن بقلق:


ـ هي العربية عطلت ولا إيه؟.. إحنا لسه ما وصلناش المزرعة؟..


التفت لها وهو يجيبها بهدوء:


ـ المزرعة قريبة قوي.. والعربية سليمة.. بس أنا حبيت أقولك ما فيش داعي تحكي لعليا على أي حاجة شوفتيها في الفرح.. يعني الكلام بتاع البنات ده..


ضغطت على أسنانها بغضب:


ـ هو أنت شايفني معدومة الإحساس للدرجة دي!


ـ ما اقصدش يا نيرة.. بس ممكن الكلام ياخدكوا وتحكي من غير ما تقصدي.. وممكن هي كمان تسأل..


ـ اطمن.. أنا فاهمة كويس.. وعليا مش هتسأل هي أكيد مموتة نفسها عياط دلوقتِ..


أومأ موافقاً وهو يهمس:


ـ مسكينة..


سألته بغضب:


ـ إيه صعبانة عليك قوي؟..


تأملها لثوانِ ولم يتمالك نفسه من سؤالها:


ـ معقولة.. دي غيرة؟..


تجمدت بالكامل عندما سمعت سؤاله.. غيرة!.. معقول نيرة تغار؟.. تغار عليه؟.. رمشت عينيها بسرعة وهي تحاول.. فهم ما يدور بأعماقها.. ولكنها


لم تجد سوى فوضى مشاعر لم تفهمها.. وقررت ألا تحاول فهمها الآن على الأقل.. فقررت تغيير الموضوع..


فسألته:


ـ أنت اتضايقت من الكلام اللي قلته ليزيد وريناد؟..


أدرك أنها تتهرب من سؤاله.. ولكنه مررها تلك المرة وهو يبتسم ساخراً.. متذكراً ملامح يزيد ونيرة تلقي بقنبلتها فوق رأسه قائلة..


"ألف مبروك يا ريناد.. الفستان تحفة.. بسيط ومش مبهرج.. لايق عليكِ جداً.. أنا آسفة كان نفسي اقعد لآخر الحفلة.. بس عليا لوحدها الليلة.. وأكيد حالتها النفسية صعبة.. لازم أروح لها اهون عليها شوية"...


والتفتت إلى يزيد بنظرة صاعقة..


"مبروك للمرة التانية يا عريس"


عاد مازن إلى جميلته الجالسة بجواره وهو غير قادر على كتم ضحكاته التي تعالت وهو يتخيل الليلة العظيمة التي ينتظرها يزيد..


تأملته ضحكاته فابتسمت بدورها قائلة:


ـ يعني مش متضايق.. أنا عملت كده عشان خاطر عليا..


رمقها بنصف عين:


ـ خاطر عليا؟!


أشاحت بوجهها بعيداً:


ـ أيوه.. اطلع بقى بالعربية.. عشان اتأخرت عليها..


تأملها للحظات ثم أدار محرك السيارة ليقلها نحو المزرعة.. لتقضي ليلتها مع علياء الغارقة في أحزانها...


***********


وصل يزيد وريناد إلى الجناح الخاص بالعروسين والذي قام بحجزه ليقضيا فيه ليلة زفافهما قبل أن ينطلقا في الصباح إلى مدريد لقضاء شهر العسل كما اتفقا من قبل..


حاول يزيد أن يحملها ليدخلا إلى الجناح كما هو متبع ولكنها تخطته ودخلته بمفردها..


خطت عدة خطوات حتى توقفت في منتصف الصالة الخارجية للجناح.. عدة مقاعد تلتف حول أريكة وثيرة.. تتوسط الغرفة عربة طعام رصت فوقها عدة أطباق مغطاة يبدو أنها تحتوي على العشاء.. زجاجة من الشامبانيا توسدت دلو ملئ بقطع الثلج.. الأضواء هادئة وحسية ووريقات من الجوري الأحمر والأبيض تناثرت لتكون عدة قلوب صغيرة متناثرة على أرض الغرفة وتبدو أنها تمتد حتى غرفة النوم.. أجواء مثالية لليلة زفاف حالمة.. كما تمنت يوماً.. ولكن.. لكن ليس الليلة...


جالت عيناها في كل ركن بالجناح ماعدا المكان الذي وقف به يزيد الذي وقف يتأملها بفستان زفافها.. كانت جميلة.. مبهرة برقي خاص بها فقط.. شعرها جمعته خلف رأسها في تسريحة راقية.. وتناثرت زهيرات بيضاء صغيرة بين خصلاته.. زينة وجهها كانت بسيطة بخلاف المعروف عن زينة العروس.. فملامحها التي تميل للجمال الغربي لم تكن تحتمل الزينة الكثيفة.. لم تستخدم طرحة زفاف.. فلم تكن تتماشى مع الثوب الذي اختارته بعناية ليحدد معالم جسدها المغرية.. حيث احتضن جزئه العلوي صدرها وغطى ذراعيها بقماش التول الخفيف المطعم ببعض وردات من الدانتيل الأبيض أحاطت عنقها ونهديها بحميمية لتترك ظهر الفستان عارياً بالكامل بينما التف جزئه السفلي حول جسدها بإحكام وأحاطت خصرها بزنار ذهبي رفيع..


تصادمت نظراته -التي تظهر تأثره بالجمال الخارق الذي تجسده- مع نظراتها الباردة والتي تحمل حيرة شديدة ممزوجة بالعديد من الأسئلة والتي سببتها بالطبع جملة نيرة المقصود منها إثارة المتاعب..


قرر تجاهل هالة البرود المحيطة بها واقترب منها بهدوء طابعاً قبلة رقيقة على جبهتها تقبلتها بسكون مما شجعه أن يحيط خصرها بذراعه ليوزع قبلات صغيرة على وجهها حتى وصل لشفتيها فأخذهما في قبلة عميقة وهو يهمس في أذنها:


ـ مبروك.. يا ريناد.. يا أحلى وأرق عروسة..


تجاوبت ريناد مع قبلاته في البداية تحاول أن تجاري شغفه الواضح.. ولكن جملة نيرة عادت تدق في أذنيها كنواقيس عالية التردد.. فدفعته عنها فجأة وارتدت للخلف تحتضن نفسها بذراعيها وهي تهز رأسها برفض أصابه بالحيرة فقد كانت تتجاوب معه منذ قليل ولكنها فجأة سحبت نفسها منه وقد ظهر الرفض على كل ملمح من وجهها..


حاول أن يخطو خطوة نحوها ولكنها أوقفته بإشارة من يدها واستمرت حركة رأسها الرافضة.. فحاول طمأنتها:


ـ ما تقلقيش يا ريناد.. ما فيش داعي للخوف..


انطلق سؤالها فجأة بدون إرادة منها:


ـ جوازكوا صوري فعلاً؟


قطب يزيد حاجبيه وهو يسألها بهدوء:


ـ تفتكري ده وقت السؤال؟


تمالكت ريناد نفسها قليلاً ورفعت ذقنها بكبرياء:


ـ إيه.. عايز تعيش دور العريس؟.. يعني ما عشتوش قبل كده!


ـ ريناد.. أنا طلبت قبل كده أنك تستفسري على أي حاجة وأنتِ رفضتِ.. والليلة جاية تسألي!


ـ أنت قلت لي أنك هتجاوبني في أي وقت..


اقترب منها متجاهلاً إشارتها له بالابتعاد وأمسك كتفيها بيديه:


ـ ريناد.. الليلة فرحنا.. ليلة بينتظرها كل عريس وعروسة.. أوعدك أرد على كل أسئلتك بعدين..


نفضت يديه عنها.. وعادت تبتعد عنه من جديد وهي تتهمه بوضوح:


ـ وأنت زي كل عريس كنت منتظر ليلة فرحك؟.. بس المهم فرحك على مين فينا؟..


ـ ريناد..


عادت تهتف:


ـ صوري ولا حقيقي؟..


زفر بحنق وهو يفك ربطة عنقه ويخلع سترته ليلقي بها بعشوائية.. واتجه نحو نافذة الغرفة ليفتحها يعب من الهواء النقي.. برغم وجود التكييف البارد إلا أنه شعر بإختناق شديد..


استند بكفيه على زجاج النافذة المفتوحة وهو يسأل بدون أن يلتفت نحوها:


ـ كل ده تأثير كلمة نيرة؟


عادت تكرر وبدت كما أنها لم تسمعه:


ـ صوري ولا حقيقي؟..


أجابها بتردد:


ـ ريناد..


والتفت ليواجهها ليفاجئ بزجاجة الشامبانيا تطير بالقرب من أذنه وترتطم بالإطار المعدني للنافذة لتسقط مهشمة إلى قطع صغيرة ويسيل السائل الذهبي على قدميه..


رفع عينيه اليها بذهول.. فتلك الواقفة أمامه بخصلاتها الذهبية القصيرة.. والتي تناثرت حول وجهها ولمعت عينيها الذهبية بلمعة شيطانية لم تكن تشبه ريناد التي يعرفها بشيء.. كانت صورة لامرأة مثيرة للغاية.. ولكنها مرعبة للغاية أيضاً..


ـ ريناد..


قالها متردداً.. ولكنها ابتسمت ساخرة بمرارة:


ـ خلاص يا يزيد.. أنت جاوبت.. ويا ترى بقى الجواز مؤقت برضوه زي ما فهمتني؟


أخذ نفساً عميقاً قبل أن يقول:


ـ أنا ما قلتش أبداً أنه مؤقت.


ـ بس ما قولتش أنه مستمر.


زفر بحنق:


ـ أنتِ سمعتِ اللي كنتِ عايزة تسمعيه.. وصدقتِ اللي كنتِ عايزة تصدقيه..


وصفق يديه ببعضهما وهو يكمل:


ـ واخترتِ اسوأ وقت عشان تواجهي الحقيقة..


هزت رأسها بغضب:


ـ لأنها ليلة الفرح اللي كنت منتظرها, صح؟..


رد بدون أن يعي ما يقوله:


ـ لأن وقت التراجع فات!


برقت عيناها بألم عاصف ووجدت شفتيها تصرخان:


ـ طلقني..


مسح وجهه بكفه وهو يشيح برأسه بعيداً:


ـ ادخلي نامي يا ريناد.. عندنا طيارة الصبح..


التفتت لتمسك إحدى المزهريات المنتشرة في الجناح لتلقي بها نحو واحدة من المرآة المعلقة على الحائط خلفه وتتناثر قطع الزجاج في كل مكان مرافقة لصرختها:


ـ طلقني بقولك.. سامعني ولا لأ!..


لم يرد عليها وحاول أن يتحرك نحوها.. ولكنها أسرعت لتلتقط مزهرية أخرى لتلقي بها نحوه تلك المرة فاضطر للانحاء حتى يتفادها.. وقبل أن يعتدل وجد وسادة طائرة ترتطم بوجهه بعنف.. وريناد ما زالت تصرخ:


ـ طلقني يا يزيد..


هتف بها بغضب:


ـ اعقلي يا ريناد.. بلاش جنان.. أنتِ عارفة إيه معنى واحدة تطلق ليلة فرحها..


اعتصرت عينيها بقوة حتى لا تتساقط دموعها أمامه وقد تغلغلت جملته بين خلايا عقلها.. فكتفت ذراعيها بقوة وهي تقول بعنف:


ـ طلقها هي..


تنهد يزيد بقوة وهو يخبرها بهدوء قاطع:


ـ لأ..


برقت عيناها بغضب شديد وهي تلتفت حولها بجنون.. لتتناول كل ما تطاله يديها وتلقي به نحوه.. أو في المكان التي كانت تظن أنه واقف به فهو تحرك بعيداً عن مرمى أهدافها الطائرة ولكن الدموع التي كانت قد بدأت تتساقط من عينيها متمردة على إرادتها أعمت عينيها وأسالت زينتها على وجهها فلم تعد ترى أي شيء حولها سوى الغضب الحارق.. استمرت بتحطيم كل ما طالته يداها حتى تجمدت فجأة عندما لمحت نفسها في المرآة..


اقتربت قليلاً لتتأمل وجهها في المرآة المحطمة.. فشهقت بعنف وهي ترى مسخ لامرأة كانت فاتنة منذ دقائق قليلة.. فعيونها حمراء.. جفونها محتقنة بشدة.. والكحل الأسود حفر خطوط سوداء على وجنتيها.. طلاء شفتيها اختفى ولم تعد تذكر السبب.. وخصلاتها مشعثة وثائرة كعش طائر صغير..


سحبت نفساً عميقاً وتوجهت برأس مرفوعة نحو غرفة النوم وأغلقت الباب خلفها بشدة بدون أن تلقي نحوه نظرة أخرى... غابت قليلاً.. وعندما خرجت من جديد سمعت شهقة يزيد المكتومة وتنفسه السريع.. فابتسمت بسخرية وهي تدرك أنها حققت ما تريد.. فقد اختارت أقصر ثوب للنوم وأكثرهم إثارة وارتدته وحده بدون الروب الخاص به.. مشطت شعرها بسرعة.. لمسة أخيرة من طلاء شفاه أحمر قاني كالغضب الذي يتقافز أمام عينيها.. وانهت مظهرها برشة عطر تعلم أنه يفضله.. كادت أن تصيبه بأزمة قلبية.. وهي سعيدة بذلك فهو يستحق فقد مرغ كرامتها وكبريائها في الوحل.. بين أحضان تلك الحقيرة التي فضلها عليها.. لمحت عينيه تلتهم كل جزء من جسدها.. وتجري عليه بسرعة.. وشعرت بذبذبات الرغبة تشع من حوله بقوة.. فاتسعت ابتسامتها


وهي تجذب عربة الطعام وتكشف الأطباق واحداً تلو الآخر وتتناول طعامها بهدوء وتلذذ وسط حطام الجناح وتحت نظرات يزيد المذهولة.. أنهت طعامها سريعاً.. وتوجهت نحو غرفة النوم لتتوقف في منتصف المسافة وهو يسألها:


ـ على فين؟!


هزت كتفيها بلامبالاة:


ـ هدخل أنام عندنا بكره الصبح طيارة..


اختفت من أمام عينيه وتجمد هو حائراً.. هل يلحق بها أم يقضي ليلة زفافه على الأريكة.. صوت المفتاح الذي دار ليوصد بابها منحه الإجابة سريعاً فيما وصلت لأذنيه صوت طرقات على الباب.. فاتجه ليفتحه ووجد أحد عمال الفندق ينظر له بحرج وهو يخفض عينيه أرضاً:


ـ أنا آسف يا فندم.. أنا عارف أن الليلة فرح سعادتك.. ألف مبروك.. وربنا يسعدك ويقويك.. بس النزلاء اللي في باقي الدور بيشتكوا من الدوشة..


ألقى الرجل كلماته بحرج شديد ليفاجئ بأغرب رد فعل من يزيد الذي انفجر ضاحكاً بهيستريا... ع


الفصل الخامس عشر


تمدد يزيد على فراشه بأحد أشهر فنادق مدريد.. فندق ذو مبني أثري يعود للقرن الثامن عشر.. قام بالحجز به خصيصاً بعد اكتشافه هوس ريناد الحديث بالأنتيكات والتحف, ولكن الغريب أنه لم يلاقِ استحسانها على الإطلاق.. ولولا وجود التسهيلات والكماليات الحديثة.. من ساونا.. وقاعات للمساج والتجميل وبعض محلات الملابس ذات الماركات المعروفة لأصرت على ترك الفندق..


انتبه لها تخرج من الحمام وقد ارتدت بنطال جينز ضيق وفوقه قميص كريمي من الشيفون المبطن.. وجمعت شعرها للخلف مع زينة خفيفة جداً.. جاهد ليلملم بعض اللهفة نحوها ويظهرها على وجهه وهي تقترب منه وتطبع قبلة خفيفة على شفتيه لتخبره ببساطة:


ـ حبيبي.. أنا نازلة عندي جلسة مساج..


ـ تاني يا ريناد.. امبارح ساونا والنهارده مساج..


هزت كتفيها بلامبالاة:


ـ وإيه يعني.. هو مش شهر العسل ده عشان الاستجمام!


زفر بضيق:


ـ أيوه نستجم سوا.. نخرج سوا.. مش كل واحد لوحده..


رمقته بنظرة قاتلة.. ثم أخبرته بهدوء:


ـ بعد المساج, أنا هروح أعمل شوبينج.. تحب نتقابل على العشا؟.. أقولك ابقى كلمني ونتفق.. باي..


وخرجت من الغرفة تتهادى بحذائها العالي الكعبين بينما ترافقها نظراته الحانقة.. فبعد ليلة زفافه المدمرة ظهرت في صباح اليوم التالي بأبهى صورة لها.. وتعاملت معه وكأن الليلة السابقة لم تمر بهما أبداً.. لم يكن بحاجة لكثير من الذكاء ليدرك أن تحولها ذاك لمحادثة تليفونية طويلة أجرتها مع والدته ووالدتها.. لم يعرف بتفاصيل المكالمة بالطبع.. ولكن وصله نتيجتها.. وهي استعدادها الكامل للاستمرار في زواجهما بكل ما تعني الكلمة من معنى..


لم يعرف لم أصابه ذلك بالقلق على علياء وخاصة من والدته التي بالتأكيد وصلتها حقيقة الزواج.. الآن هو في مدريد غير قادر على حمايتها كما يجب.. وحتى والده لن يستطيع محادثته فهو بالكاد يحادثه منذ ذلك الصباح في غرفة المكتب بالمزرعة.. ولن يستطيع مطالبته بالحفاظ على علياء وحمايتها من والدته.. فذلك كفيل بخلق مشاكل لا حصر لها بين والديه..


لذا فقد قام بالشيء الوحيد الممكن وهو مطالبة نيرة_عن طريق مازن بالطبع_ أن تقنع علياء بالإقامة معها.. لحين عودته.. وهو ما رحبت به نيرة بشدة, فهي بحاجة إلى علياء لمساعدتها في تجهيزات زفافها.. وها هو الآن يحاول الاتصال بها.. للمرة المائة أو أكثر فقد تعب من كثرة العد.. ولكن كما توقع هاتفها مغلق.. متى وكيف تعلمت الصغيرة تلك القسوة؟.. إنه فقط يريد الإطمئنان عليها.. لم تحرمه حتى من صوتها؟.. مشتاق لها بشدة.. يحتاج فقط لسماع صوتها وهي تهمس باسمه.. لا يدري تفسيراً لمشاعره.. حاول كثيراً أن يجد مسمى لما يشعر به نحوها.. أو حتى نحو ريناد.. الذي ازداد ارتباطه بها بعد اكتمال زواجهما.. ولكنه لم يجد تفسيراً لمشاعره المرتبكة..


لا ينكر أن علياء تشعل مشاعره وجسده وتصل به إلى حالة مسكرة من النشوى لم يعرفها إلا معها.. ولكن قد تكون صدمة ريناد بما أخبرها به في ليلة زفافهما هي ما تجعلها تعامله بذلك الجمود البارد.. جمود يفقد وصالهما لذته.. ويقضي على لهفته الطبيعية نحوها كامرأة جميلة.. جميلة جداً في الواقع.. ولكن.. ولكنها تريده, بل تطالبه-حتى في أقصى أوقاتهما حميمية- أن يعاملها كتحفة نادرة وثمينة.. غير قابلة للمس.. فما بالك العبث بها.. وكأنها تتعطف عليه بوجودها في حياته..


مرت بذهنه ذكرى أول قبلة لهما.. فهمس.."كماء البحر..."


زفر بحنق وقد تاق لتواصل حقيقي فحاول مرة أخرى الاتصال بعلياء.. ليقابله نفس الرد.. الهاتف مغلق.. لذا قرر الاتصال بمازن.. الذي أجاب على هاتفه بعد فترة.. وهو يضجع على مقعده براحة ويمد قدميه أمامه على مكتبه:


ـ مبرووك يا عريس.. حلوة مدريد صح؟


رد يزيد بحنق:


ـ أنت بتستهبل يا مازن!.. مش بترد على تليفونك ليه؟


ضحك مازن باستمتاع:


ـ آسف.. كنت بسلم على نيرة وعليا قبل ما يمشوا!..


قفز يزيد من فراشه وهو يهتف:


ـ إيه!.. علياء عندك؟.. خليها تكلمني!


ـ عندي فين يا عريس!!.. بقولك روحوا خلاص.. هيعدوا على دنيا في الأتيليه..


وقبل أن يكمل مازن جملته سمع صراخ يزيد:


ـ دنيا!!.. دنيا دنيا!..


ـ أنت اتجننت يا يزيد؟.. هو إيه اللي دنيا دنيا؟!


هتف يزيد بغضب:


ـ مازن.. ابعد علياء عن دنيا.. أنا مش فاهم أنت موافق ازاي أن نيرة تتقرب منها!


أجابه مازن بغضب مكتوم:


ـ ما تتدخلش يا يزيد..


صرخ يزيد بغضب حارق:


ـ ما اتدخلش ازاي؟!.. بص أنت حر.. أنا ما يهمنيش غير علياء.. ابعدها عن دنيا.. وأنت حر مع خطيبتك..


أجابه مازن بغضب مماثل حاول التحكم فيه:


ـ ويا ترى العروسة سمعاك وأنت بتصرخ وبتقول أنه ما يهمكش غير عليا..


أجابه يزيد بنفس رده السابق:


ـ ما تدخلش يا مازن..


ـ ماشي يا يزيد.. كنت محتاج حاجة تانية؟..


سأله يزيد:


ـ طيب هي شافت الشقة اللي أنت قلت لي عليها؟..


ـ لأ..


زفر يزيد بغضب:


ـ ليه؟.. أنا مش فاهم إيه نوبة التمرد اللي جات لها دي؟.. أكيد كله من نيرة.. ما هي أصلها عايشة في دور حماتي!..


ـ أنت غبي يا يزيد.. ليه بتسميه تمرد؟.. ببساطة هي عايزة تشوف الشقة معاك.. أظن ده حقها..


صمت يزيد للحظات ثم سأله بصوت هامس:


ـ وهي أخبارها إيه.. وحالتها؟.. نفسيتها عاملة إيه؟.. بتعيط ولا..


قاطعه مازن بسرعة:


ـ حيلك.. حيلك.. وأنا هعرف ده كله ازاي.. أنا بس عرفت موضوع الشقة من نيرة..


ـ ماشي يا مازن.. بس أرجوك تاني أبعدها عن دنيا.. أنا مش ناقص تلعب في دماغها..


ـ حاضر يا يزيد.. هحاول..


أغلق الخط مع يزيد وهو يفكر في قلقه من علاقة علياء بدنيا.. يدرك قلق يزيد من تلك العلاقة.. فدنيا بطبيعتها الودودة والمنفتحة قد تقص على علياء قصتها.. وذلك لن يكون في مصلحة يزيد على الاطلاق...


************


تكومت منى على أحد المقاعد الوثيرة وهي ترمق شاشة التلفاز بشرود.. شرود حزين وغاضب, فالتوتر بينها وبين حسن على أشده.. خاصة بعد اتهامها له بالصيبيانية أمام رفضه المتعنت لاقتراحها بالانتقال إلى غرفة السطح فوق منزل والدها.. وصراخه عليها وقتها..


ـ أنتِ يا منى مش حاسة أنا بتعذب وبتبهدل قد إيه.. وجاية تقترحي عليّ حل تعجيزي..


رددت بذهول:


ـ أنا يا حسن مش حاسة بيك!!.. ده اللي أنت شايفه.. اللي أنت حاسه؟


زفر بحنق:


ـ يا منى.. افهميني.. أنا ضهري بيتحني على لوحة الرسم 18 ساعة في اليوم.. وفي الآخر حتى مش اسمي اللي بيظهر على التصميم.. ده غير التصليحات اللي بعملها لباقي المهندسين في المكتب.. ونزولي المواقع.. وبعد ده كله صاحب المكتب بيرمي لي الفلوس كأنه بيعطيني حسنة..


أغمضت عينيها تحاول حبس آلامها مع دموعها:


ـ وأنا مقدرة ده كله..


قاطعها قائلاً بغضب:


ـ عارف أن الفلوس قليلة وأنه ناقصك كتير.. وعارف أني مقصر.. كفاية أني مش قادر أعملك بيت ليكي لوحدك.. يكون بتاعك.. بس أنا حاسس أني باحرت في بحر.. شغل ليل ونهار من غير فايدة.. بس اعمل ايه؟.. قولي الحل؟..


حاولت مقاطعته لكنه أكمل بغضب حاد:


ـ والحل مش السكن في أوضة فوق سطوح.. ده حل ما ينفعنيش.. وما تقوليش أني مرفه أو بدور على الحاجة السهلة.. لأني لو كنت كده, كنت قبلت..


قطع كلماته فجأة وعاد ينفث أنفاسًا غاضبة.. مما جعل منى تسأله بوجل:


ـ كنت قبلت إيه يا حسن؟.. أنت مخبي عني حاجة؟..


أشاح بوجهه عنها:


ـ ما فيش يا منى.. أنا اتأخرت ولازم أنزل الشغل..


هتفت به:


ـ حسن ما تهربش مني..


ـ أنا ما بهربش.. بس اتأخرت.. الساعتين اللي ضيعتهم على حاجة مالهاش لازمة.. هعوضهم أربع ساعات في المكتب..


صرخت بغضب وصوتها يرتفع للمرة الأولى:


ـ لا مش هتنزل.. مش هتنزل إلا لما أعرف.. أنت مخبي عني إيه..


رد بحزم غاضب:


ـ صوتك عالي يا منى..


ـ أيوه يا حسن.. لازم يعلى علشان تسمعني..


ارتفعت نبرة صوته قليلاً:


ـ سامع.. وعارف وفاهم.. وبطحن في الصخر عشان أوفرلك..


قاطعته غاضبة:


ـ ما تقولش أوفرلك.. زي ما أكون باتعمد اطلب منك طلبات فوق طاقتك.. أنت اللي..


سكتت وأمسكت لسانها.. فقد أوشكت على اتهامه بانعدام المسئولية.. والدلال.. لكنه فهم ما كانت تنوي قوله.. فرمقها غاضباً:


ـ أنا اللي..!!.. بعد ده كله أنا اللي... وهو عشان أثبت لك رجولتي.. وتحملي للمسئولية لازم أوافق أعيش في..


كان دوره ليسكت.. هو الآخر.. فهو كان على وشك إهانتها وإهانة المكان الذي يقيم به والدها.. ومن الألم البادي في عينيها.. أدرك أنها فهمت ما لم يقله.. فهمس معتذراً وهو يمد يده لها بتوسل:


ـ منى..


لكنها نفضت يده بعيداً وهي تخبره بجمود:


ـ أنت اتأخرت على شغلك يا حسن..


عاد يهمس:


ـ خلينا نتفاهم..


أجابت وهي على نفس جمودها:


ـ مع السلامة يا حسن..


تركها وخرج بسرعة ولأول مرة يتجاهل معانقتها قبل خروجه.. ابتسمت بحزن وهي تعود لواقعها.. فحسن مازال على عناده وغضبه ورفضه للخضوع للواقع نهائياً.. وهي.. رغم ذلك الهاجس الذي بدأ يراودها بأنه بدأ يمل.. ييأس.. يتسرب من بين يديها.. إلا أنها قررت ألا تبادر بمراضته تلك المرة.. ليس قبل أن يختار على أرض الواقع ماذا يريد بالفعل..


****************


وصل يزيد ومعه ريناد إلى فيلا والدته التي استقبلته بشوق كبير.. وعتاب أكبر وهي تهمس له:


ـ ضحكت عليّ يا يزيد.. استغفلت أمك..


قاطعها يزيد بتوسل:


ـ ماما.. أرجوكِ.. مش وقته الكلام ده..


ربتت على كتفه:


ـ ماشي يا حبيبي.. هنأجل الكلام..


ثم عانقت ريناد وهي تسألها بمودة عن رأيها في مدريد.. وماذا رأت هناك.. وانخرطتا معاً في حديثٍ هامس سبب قلق متصاعد ليزيد وقبل أن يستفهم عما تتحدثا بشأنه.. دخل والده إلى الغرفة ورحب بريناد بجفاف.. والتفت إلى يزيد:


ـ عايزك في المكتب يا يزيد..


ثم خرج بسرعة مثلما دخل فلم يجد يزيد بداً من الذهاب خلفه.. بينما همست سهام لريناد:


ـ ما تقلقيش.. أنا أقنعت عصام.. وهو هيكلم يزيد.. وأول ما تبعدوا.. أنا هنفذ اللي اتفقنا عليه.. المهم هو كويس معاكِ؟


اومأت ريناد موافقة:


ـ أيوه.. هو كويس..


وأكملت بداخلها.. "بس هو مش معاي"..


دخل يزيد خلف والده إلى مكتبه.. ليفاجئه بسؤال سريع وصريح:


ـ أنت بتروح عند عليا المزرعة؟..


رد يزيد بصراحة:


ـ أيوه..


ـ ليه؟..


رفع يزيد أحد حاجبيه ولم يجب بشيء.. خبط والده على المكتب بقوة وهتف به:


ـ ومش مكسوف من نفسك يا أخي.. يعني أنت اتجوزتها عشان كده.. عشان..


قاطعه يزيد بسرعة:


ـ علياء مراتي.. وما فيش حاجة تخليني اتكسف.. وجوازي بيها معلن.. وشقتها موجودة.. لسه بس تيجي تشوفها..


سأله والده:


ـ ومراتك؟..


ـ ما أنا لسه بقول أنها مراتي.. هو أنا أنكرت..


رمقه أبوه بنظرة غامضة.. فاستدرك يزيد:


ـ آه حضرتك تقصد.. ريناد؟.. أنا فهمتها أن جوازي من علياء حقيقي ومستمر.. وتقريبا الوضع استقر..


ـ لا طبعاً.. الوضع مش مستقر ولا هيستقر.. بص يا بني.. عليا مراتك آه.. ومش هينفع يكون في تراجع.. بس البنت لسه صغيرة.. ومشاعرها بتغلبها.. ومش بتحكم عقلها.. ظهورك المستمر قدامها ووجودك جنبها.. والأكتر من كده معاملتك لها كزوجة.. مش في مصلحتها.. ولا مصلحتك.. ده غير أنك عقدت الوضع بإصرارك على جوازك من بنت خالتك.. وما فيش حد هيقدر يبني بيتين مع بعض وفي نفس الوقت..


ـ يعني إيه يا بابا.. مش فاهم؟..


ـ ابعد عن عليا.. سيب لها وقت تكبر فيه ومشاعرها تنضج.. وأنت ركز مع ريناد طالما تممت الجوازة..


هتف يزيد بغضب:


ـ أنا مش هطلق علياء.


ـ وأنا ما قولتش تطلقها.. أنا بقول تبعد.. وتعطوا نفسكوا فرصة.. أنتوا التلاتة.. لأن الوضع كده استحالة يستقيم.. شوف.. أنا هفتح فرع جديد للشركة في دبي.. وبعد تفكير.. قررت أنك تسافر تباشر تأسيس الفرع من البداية..


ـ أيوه يا بابا.. بس..


ـ ما فيش بس.. ده حل كويس.. مؤقت على الأقل.. البنت وراها كلية لازم تشوف مستقبلها.. وأنت عندك زوجة ظلمتها في طريقك.. وده أفضل حل قدرت أتوصل له...


حاول يزيد مناقشة والده:


ـ أنا مش همنعها من كليتها.. وهعطيها كل الوقت اللي محتاجاه.. و..


قاطعه والده:


ـ أنت روحت لها المزرعة كام مرة بعد كتب كتابكوا؟..


احتقن وجه يزيد وأخفض عينيه حرجاً.. فأكمل والده:


ـ ده قصدي.. أنت مش سايب لها فرصة أنها تتحكم في مشاعرها وتفكر في حياتها.. وأنت كمان محتاج أنك تهتم بريناد أكتر.. مش لازم تكرر مآساة قديمة..


رفع يزيد عينيه لوالده.. فتبادلا نظرات متفهمة لثوانٍ.. أجاب يزيد بعدها:


ـ هفكر يا بابا.. أوعدك هفكر كويس.. عن إذنك...


*************


أراحت علياء رأسها على للخلف وأغمضت عينيها لتسترخي على فراشها قليلاً.. فالليلة سيعود يزيد من سفره.. صححت لنفسها وهي تبتسم بمرارة


"هيرجع من شهر العسل"..


سقطت دمعة على وجنتها تلتها أخرى وأخرى.. فهي أخيراً سمحت لنفسها بالتفكير به.. وبزواجه.. وسفره.. واتصالاته التي لا تنقطع ولكنها ترفض الاجابة عليه.. أو بمعنى أدق.. نيرة أجبرتها على رفض مكالماته بعدما سرقت منها هاتفها خفية.. ولم تمانع علياء كثيراً.. فهي مدركة لضعفها الشديد نحوه.. ولن تحتمل أن تكون معه على الهاتف بينما ريناد بجواره فعلياً.. مدركة هي لمشاعر الغيرة التي تعصف بكيانها.. والتي تصور لها مشاهد ولقطات حية ليزيد مع ريناد.. تلك المشاعر التي تدفعها للبكاء كل ليلة حتى تسقط في نوم مرهق مليء بصور له معها هي.. صور تعذبها وتطحن مشاعرها بقسوة.. فتستيقظ باكية ضعفها وحبها وقلبها الأحمق الذي ينتفض لكلمة منه.. ولولا انشغالها مع نيرة الفترة الماضية لجنت شوقاً له وغيرة عليه..


اليوم فقط أعادت نيرة لها الهاتف لتفاجئ بكم المكالمات والرسائل التي أرسلها لها..


ابتسمت بهيام وهي تقرأ رسائله التي تشي بمدى افتقاده واشتياقه لها.. ثم ما لبثت أن قطبت حاجبيها بغضب.. هل معنى هذا أنه سيفتقد ريناد عندما يتواجد معها هي؟..


داعبت أناملها الدمعة الماسية المعلقة بعنقها.. وتذكرت جنون يزيد بها لتهمس لها برقة..


"يا ترى وحشك زي ما وحشني.. وحشتني ابتسامته.. وضحكته وحشني حبه.. وقلبه وجنانه.. حتى الشيزوفيرنيا بتاعته وحشتني!"..


ضحكت في صمت وهي تسترجع كلمات نيرة لها قبل أن تقلها إلى المزرعة..


"البسي يا علياء وظبطي نفسك.. احنا اشترينا هدوم كتير حلوة اليومين اللي فاتوا.. احرقي مشاعره وولعيها.. وما تخليهوش يطول منك حاجة.. لوعيه شوية خليه يحس بقيمتك"..


هزت رأسها في يأس, وهي تعلم صعوبة اتباع نصيحة صديقتها.. فكيف تستطيع إلهاب مشاعره بينما مشاعرها هي تغلي في انتظار رؤيته من جديد..


نهضت من فراشها ببطء وأخذت تتأمل ثيابها الجديدة.. وبعد طول تفكير سحبت إحدى الغلالات الناعمة لترتديها, ووقفت تتأمل صورتها المنعكسة في المرآة بذهول.. فأمامها كانت امرأة مغرية ترتدي غلالة شفافة بلون السماء, ذات فتحة صدر واسعة وظهر عاري تماماً.. غطته خصلاتها السوداء الطويلة.. بينما اتسعت عيناها بخوف وهي تحدث نفسها بحنق..


"معقولة!.. ألبس حاجة زي دي؟!.. ده حتى قلته أحسن!"..


وعلى الفور بدلت ثوب النوم المغري بمنامة قطنية قصيرة بيضاء اللون ذات حمالات رفيعة على الكتفيين ومطبوع عليها صورة كبيرة لتويتي.. استعرضت نفسها مرة أخرى في المرآة.. وهي تحدث نفسها..


"ايوه كده.. دي علياء اللي أنا عارفاها"..


عادت تستلقي على فراشها وهي تتساءل إذا كانت ستراه الليلة.. فما أن علمت بموعد عودته حتى أصرت على ترك فيلا نيرة والعودة إلى المزرعة..


هاجس خبيث تملكها لتعلم مدى لهفته لرؤيتها.. هل سيأتي للمزرعة على الفور أم سيرابط جوار زوجته الأخرى.. وإذا أتى كيف تستقبله؟.. هل تعبر عن شوق أم غضب؟.. احتضنت دمية محشوة على شكل تويتي وتاهت في وسط أفكارها لتسقط في نومٍ عميق فلم تشعر بسيارة يزيد عند وصوله وصعوده الدرج الداخلي بسرعة.. ليصل إلى غرفتها فيفتح الباب بهدوء.. يريد مفاجأتها.. ليفاجئ هو بها مستغرقة في نوم عميق.. تساءل للحظات إذا كان والده محق.. ويجب عليه الابتعاد عنها ليترك مشاعرها لتنضج قليلاً..


ولكن متى استمع يزيد لصوت العقل!!..


تحرك ببطء ليندس بجوارها في الفراش متذمراً من صغر حجمه.. ألصق ظهرها بصدره الضخم ليضم جسدها بين ذراعيه متغلباً على حجم الفراش الطفولي.. همس بأذنها لتستيقظ ولكنها تململت بإنزعاج ولم تفتح عينيها.. إزاح خصلاتها برقة ليكشف جانب عنقها لاثماً إياه ببطء ممتع وهو يهمس مرة أخرى:


ـ عمري ما شفت فراشة نومها تقيل كده!..


عادت تتململ مرة أخرى وهو لم يرحم نعاسها.. وظل يطبع قبلاته على طول عنقها باحثاً بشفتيه عن ماسته الدامعة.. وأخيراً وصلت شفتيه لمبتغاها فعانق الماسة الصغيرة بشفتيه وهو يهمس مرة أخرى:


ـ علياء..


شعر بها تتحرك بين ذراعيه.. فرفع رأسه لتواجهه عينيها.. وقد تحولت زرقة السماء بهما إلى لون منتصف الليل.. رمشت عدة مرات كأنها تتأكد من حقيقة وجوده بجوارها.. وابتلعت ريقها بارتباك وهي تهمس بضعف:


ـ حمد لله على السلا..


لم يدعها تكمل كلماتها فضاعت بين شفتيه وهو يتناولهما بشوق هامساً:


ـ دوختيني.. روحتلك عند نيرة ما لقتكيش..


همست بدورها:


ـ أنا.. قلت استناك هنا أحسن..


طبع قبلة خفيفة على شفتيها:


ـ ذكية..


عاد يقبلها من جديد ويديه تتحسسان جسدها بحميمية بدأت تعتادها منه ولكن يده اصطدمت بدمية تويتي.. فرفعها بيده في ذهول:


ـ إيه ده؟..


أجابته ببراءة:


ـ ده تويتي.. بتاعي..


رفع أحد حاجبيه بتعجب وأمسك بالدمية ليلقي بها بعيداً.. وهو يهمس بتملك:


ـ ما حدش ينام في سريرك غيري..


رمقته بذهول وقبل أن ترد عليه كان قد لمح الرسمة على منامتها.. وفي ثوانٍ كان صوت تمزيق الحمالات الرفيعة يدوي بالغرفة.. لتلحق المنامة بالدمية الصغيرة.. فلا شيء يشارك يزيد فراش زوجته.. لاشيء على الاطلاق..


*****


لمسات خفيفة شعرت بها تتنقل على عينيها ووجنتيها وشفتيها لتعود إلى عينيها مرة أخرى.. ففتحتهما لتجد يزيد يبتسم لها مشاكساً:


ـ بقى لي ربع ساعة باصحي فيكِ..


تململت علياء بين ذراعيه ولكنه لم يسمح لها بالابتعاد عنه فابتسمت بخجل وهي ترمش بعيونها عدة مرات وتضغط بكفيها على كتفي يزيد هامسة:


ـ أنت حقيقي!..


داعب أنفها بأنفه وهو يهمس له بعتاب مصطنع:


ـ أكيد الليلة اللي فاتت ما كانتش حلم..


ابتسمت بخجل ولم تجبه.. فهي لا تستطيع إخباره عدد المرات التي استيقظت بها وهي تحلم أنها بين ذراعيه.. لتدرك أنه حلم.. سراب.. كذبة تعيشها في خيالها بينما هو.. هو كان يقضي شهر عسله مع أخرى..


انقبضت ملامح وجهها عندما مر ذلك الخاطر بذهنها.. وظهرت في عينيها دموع حبيسة.. حاولت كبحها ولكنها هزمتها لتتساقط من بين أجفانها التي كان يقبلها منذ قليل.. وهمست لنفسها:


ـ غبية..


قطب حاجبيه وهو يكرر:


ـ غبية!!.. ليه يا علياء؟..


حركت وجهها لتبعده عن مرمى نظراته وحاولت التملص من بين ذراعيه.. إلا أنه منعها بقوة وهو يكرر:


ـ ليه يا علياء؟.. غبية ليه؟..


رفعت عينيها لتصدم بوجه قريب جداً منها وعينيه بها نظرات قلق عاصفة.. وقد قطب حاجبيه بشدة.. وكرر:


ـ ليه؟!


وجدت نفسها تتكلم بعفوية وكأنها تتحدث مع نيرة:


ـ أنا أول ما شوفتك نسيت ألمي وزعلي ودموعي والجرح اللي جوايا منك.. كل الكلام والعتاب والغضب اللي جوايا دابوا في لحظة.. أول ما شوفتك ما فكرتش غير أني اترمي في حضنك واتأكد أنك حقيقي جنبي.. أنا حاسة أني بضيع من نفسي.. ماعدتش فاهمة حاجة ولا عارفة الصح فين.. أنا غبية.. غبية.. رخصت نفسي..


أحنى رأسه قليلاً ليحرك شفتيه أمام شفتيها بدون أن يمسهما:


ـ هشششش.. اوعي تقولي الكلمة دي.. أنتِ غالية قوي.. قوي يا علياء..


أبعدت وجهها عنه ودموعها مازالت تتساقط وهمست:


ـ غلاوة عشيقة!..


شتم بصمت.. لقد كان على حق عندما طلب من مازن أن يبعدها عن دنيا.. فلابد أنها ثرثرت أمامها بأفكارها المجنونة.. لتطبقها الحمقاء على حياتهما معاً..


لف وجهها نحوه هامساً:


ـ أنجح زوجة اللي ما تخجلش أنها تكون عشيقة لجوزها..


سألته بتوجس:


ـ وبيحترمها؟..


ـ أكيد.. لو ما احترمهاش يبقى مش هيحترم نفسه..


رمقته للحظات طويلة بنظرات متسائلة حائرة.. ثم أبعدت وجهها عنه وهي تتملص من بين ذراعيه:


ـ سيبيني أقوم يا يزيد..


أطلقها من أسر ذراعيه فنهضت ببطء لتذهب إلى الحمام.. وقبل أن تغلق الباب خلفها سألته بألم:


ـ لما هي غالية وهو بيحترمها أومال ليه بيحتاج غيرها؟..


ترك رأسه لتسقط على الوسادة وهو يفكر في كلماتها.. حوارهما معاً.. برائتها.. عفويتها معه.. تحادثه كأنه صديق.. همس بداخله يكمل جملته لها..


"أنجح زوجة هي اللي ما تخجلش تكون عشيقة لزوجها.. وبعفويتها وبرائتها تكون له كمان صديقة"..


جالت عينيه في غرفتها.. غرفتها الوردية.. فكل ما يحيط به وردي.. عرائس ودمى محشوة وردية.. وذلك التويتي.. لم يرَ تويتي وردي من قبل.. حتى غطاء الفراش الذي يتدثر به.. كان وردي اللون.. غرفة غاية في الطفولية والبراءة..


براءة سلبت منها في لحظة لتدخل عالم الكبار.. عالم لا تعرف قواعده.. ولا قوانينه.. يشعر بها حائرة ومشتتة.. تحواره كناضجة.. ولكن بداخلها طفلة تائهة.. يبدو أن والده كان على حق.. يجب عليه أن يمنحها بعض الوقت لتنضج وتستقر.. سيبتعد قليلاً.. قليلاً فقط.. ويعود ثانية.. فقط يجب أن يخبرها بسفره إلى دبي..


*************


فوجئت منى بدخول حسن إلى المنزل في وقت مبكر جداً عن موعده وهو يحمل عدة أكياس بين يديه.. أخذت تتابع تحركاته وهو يتجه إلى المطبخ.. لتسمع بعدها عدة أصوات وضوضاء عالية.. أطباق تتصادم ببعضها.. وأكواب تتهشم.. ثم صوت مياه جارية مختلط بسباب محتشم.. أخيراً ظهر حسن وعلى وجهه معالم انتصار.. وفي يده كوب به سائل أحمر اللون..


وضعه أمامها بفخر قائلاً:


ـ عصير الفراولة اللي بتحبيه..


رمقته في تساؤل عن حقيقة الأمر.. فهو ذهب إلى عمله صباحاً وهو ما زال غاضباً منها.. فما الذي حدث في ساعتين ليغير رأيه.. سمعته يجيب على الأسئلة التي لم تطرحها:


ـ هدنة؟..


أومأت موافقة فهي تريد أن تعلم ماذا به.. ولماذا أتى من عمله مبكراً.. رفع الكوب ومده نحوها.. فأخذته منه على الفور.. وسألته بتوجس:


ـ جيت بدري ليه يا حسن؟..


أغمض عينيه بألم.. ومرت في ذهنه مواجهته الأخيرة مع أبيه منذ دقائق.. حين اقتحم مكتب أبيه ليخبره صراحة رأيه فيما يقوم به نحوه من تصرفات متعسفة.. كان آخرها فقده لعمله.. حيث استغنى صاحب المكتب عن خدماته.. وأخبره صراحة.. أنه لن يجد بعد الآن من يقبل بتوظيفه حتى يسوي أموره مع والده... وإذا أراد أن يعمل بعيداً عن نفوذ والده, فليختر عملاً بعيداً عن تخصصه كمهندس ناجح.. ويبحث عما يسد به رمقه.. وإلا فليخضع لما يريده والده أياً كان ذلك..


اقتربت منى منه بتردد وهي تستشعر بألمه الداخلي.. وما يكتمه داخل صدره..


ربتت على كتفه بحنان:


ـ في إيه يا حسن؟.. هتخبي عليّ؟..


أحنى رأسه أرضاً.. وأجابها متردداً:


ـ منى.. أنا..


سكت ولم يتكلم فحثته ليكمل:


ـ أنت إيه؟..


ابتلع ريقه بصعوبة:


ـ أنا عايز أقولك على حاجة.. قرار أخدته.. وبتمنى تساعدني فيه.. ويا ريت اللي هعمله ده ما ينزلنيش من نظرك... 


الفصل السادس عشر


فتح يزيد باب الشقة وسمح لعلياء بأن تتقدمه.. قبل أن يغلقه خلفها.. ثم مد يده يقبض على أناملها الرقيقة بقوة ويسحبها خلفه.. وهو يصف ويعدد لها مزايا الشقة التي اختارها بناء على نصيحة مازن لتكون شقة الزوجية الخاصة بهما.. كان يرص الكلمات بسرعة وغضب وهو يمر بها من غرفة لأخرى.. حتى وصل بها إلى المطبخ الذي كان واسعاً جداً.. كست جدرانه عدة دواليب خشبية.. قدرت علياء أنها صنعت من خشب الأرو.. وتوسطته خزانة كبيرة مستطيلة ومتوسطة الطول.. غطتها قطعة رخامية عريضة..


ارتكزت علياء بكفيها على القطعة الرخامية وقد قررت التوقف عن التجوال بالشقة.. وسمعته يسألها:


ـ ايه رأيك في الشقة؟..


وقبل أن تجيبه ارتفع رنين هاتفه.. بنغمة معينة جعلت علياء تدرك على الفور أن ريناد هي المتصلة.. فلم تملك إلا التأفف في صمت وهي تراه يسحب الهاتف ليتحرك بعيداً ويجيب عليه.. تذكرت لحظة خروجها من الحمام في الصباح وقد لفت جسدها بمنشفة ضخمة وأخذت تبحث في خزانتها عما ترتديه حتى تعثرت ببنطال جينز وقميص قطني.. عندها سمعته وهو يتحدث معها على الهاتف.. لينتابها إحساس مؤلم بالمهانة وحارق بالغيرة.. شعرت بالفعل وكأن جسدها يئن ألماً من عنف الغضب الذي عصف بها.. لتجد يدها تمتد غريزياً إلى أحد الأثواب الصيفية الذي ابتاعته برفقة نيرة.. فسحبته بقوة ودخلت الحمام مرة أخرى لترتديه.. كان ثوباً خفيفاً.. ذو فتحة صدر مربعة.. جزئه العلوي ضيق ويلتف تحت صدرها مباشرة زنار عريض ذو لون وردي مشرق.. وهو نفس لون الورد المنتشر بالفستان ذو الأرضية الكريمية اللون وطوله يصل إلى ما بعد ركبتيها مباشرة..


لمحت نفسها في مرآة الحمام.. لترى أن مظهرها تغيير بفعل ذلك الثوب المغري.. شكرت صديقتها في صمت قبل أن تخرج إلى الغرفة لتجده انتهى من مكالمته الهاتفية وجلس بانتظارها.. فهتفت بعجلة:


ـ أنا جاهزة عشان نروح نشوف الشقة..


لم يسمعها وعيناه تلتهمان تفاصيلها في ذلك الثوب المهلك.. وقد رحل ذلك الجزء من عقله الذي أقنعه منذ قليل أن يبتعد قليلاً ليمنحها فرصة النضوج.. تساءل في جنون.. أي نضوج أكثر من هذا؟!.. يكاد يقسم أنها لو نضجت أكثر لأنفجر هو فوراً..


سألها بصوت أجش وهو يقترب منها ويتحسس الثوب وما يخفيه الثوب بجرأة بالغة:


ـ نروح فين؟.. وجاهزة ايه!!.. روحي البسي..


دفعت يديه بعيداً ووضعت يدها بخصرها فارتفع الثوب لأعلى وهتفت هي بغيظ:


ـ أنا لابسة فعلاً.. وفستاني جديد..


قالت جملتها الأخيرة بحرقة طفلة غاضبة فابتسم قليلاً:


ـ جديد!.. وجه امتى؟..


ـ جبته مع نيرة عشان الكلية..


قفز.. بل طار فعلياً في مكانه فذكرها بحبة ذرة تتقافز فوق صفيح ساخن وهو يصيح:


ـ كلية!!.. أنتِ عايزة تروحي الكلية بده.. أومال تروحي السرير بايه؟!!!


غمغمت بحنق:


ـ قلة أدب!


صرخ بها:


ـ ايه!.. مش سامع قولي تاني كده..


هتفت في وجهه بتمرد يلمحه للمرة الأولى:


ـ بقولك ما تقوليش كده.. دي قلة أدب!..


حاول كتم ابتسامته.. وحادثها بهدوء:


ـ علياء.. ايه اللي مضايقك؟.. ليه مش بتسمعي الكلام؟..


رمقته بنظرة نارية وكتفت ذراعيها وجلست فوق الفراش هاتفة:


ـ خلاص.. مش عايزة أشوف الشقة.. روّح يلا.. شكلك مستعجل!..


لم تدري ماذا أصابها!.. أو ما يدفعها للتصرف بذلك الإنفعال والغضب.. إنها تشعر فقط بحرقة قاتلة في صدرها وغضبها وصراخها عليه.. يريحها للغاية..


تأملها قليلاً يحاول معرفة ما بها.. فهي لم تمر بهذا المزاج العاصف من قبل.. بل أنها قبل قليل كانت تذوب بين أحضانه ثم تركته باكية.. لتذهب إلى الحمام.. ثم.. آه.. الهاتف.. لقد سمعت مكالمته مع ريناد.. وهي تشعر بالغيرة..


ابتسم بإشراق وقد أسعده غيرتها عليه.. فرمقته بغيظ:


ـ أنت بتضحك ليه؟..


اقترب منها بهدوء ثم رفعها من فوق الفراش.. ليضعها أمام خزانتها:


ـ غيري هدومك بسرعة..


سحبت ثوباً آخر لترتديه ولكنه لمح في آخر لحظة الحمالات الرقيقة.. فجذبه منها بعنف:


ـ وده برضوه للكلية؟..


ـ لأ.. للبيت..


حرك رأسه في ألم وهو يتخيله على جسدها.. إنه لم يكتفِ منها بعد.. وبدأت رغبته بها تتحول لألم جسدي يحتاج ما يسكنه بسرعة.. هل يرمي كل قرارات العقل ويسحبها إلى فراشها الوردي.. أم يلتزم العقل ويخرج بها من غرفة النوم فوراً..


أخيراً سمعها تسأل بحنق:


ـ أنت بتدور على ايه؟.. كده لخبطت كل الهدوم على بعضها!..


أخذ يبحث داخل خزانتها حتى وجد ثوب غاية في الاتساع.. والحشمة.. فقذفه إليها:


ـ البسي ده..


حاولت الإعتراض لكنها هتف بحسم:


ـ يلا.. لسه هنشوف العفش..


غابت ثواني وعادت بالثوب الذي اختاره بنفسه.. وقد أخفى تفاصيلها تماماً.. ليجد خياله ينشط بشدة ليجسد له تلك التفاصيل بصور حية أكثر مما ينبغي..


من قال أن الخيال أخف وقعاً من الواقع, فهو أحمق بالتأكيد.. فهو يحترق الآن كرد فعل على الخيال..


التفت لخزانتها ليعبث بها مرة أخرى.. وأخرج قميصاً وتنورة واسعة وطويلة.. وهما ما ترتديه الآن.. قميص أحمر يحتوي تفاصيلها بدقة حاول الإعتراض عليه ولكنها تمسكت به وكأنه ماء المُحاياه.. ما يحيرها بالفعل هو اختفاء معظم ثيابها الجديدة منذ تلك اللحظة ولا تعرف ماذا فعل بهم وأين أخفاهم..


ضغطت بكفيها بقوة على الرخام البارد حتى تستمد بعضاً من برودته.. لتتماسك.. فهي تعلم ما يرغب في مصارحتها به فقد وصلها حواره مع ريناد.. عندما كانت في الحمام صباحاً.. فهو كان بقمة انفعاله ولم ينتبه لارتفاع صوته.. ولكنه حتى الآن لا يعلم بمعرفتها تلك.. والأدهى أنها تشعر به يقاوم بقوة ليبتعد عنها.. ولكنها تدرك أيضاً هشاشة مقاومته تلك..


سمعته وهو ينهي مكالمته.. وهدأت قليلاً لأنه بدا نزقاً في أسلوبه مع الأخرى وكأنه رافض لمكالماتها المستمرة له في الوقت الذي خصصه لعلياء..


كان يراقب انفعالاتها كما يراقب حركاتها المتململة والتي انتهت بفرد كفيها وضغطهما على قطعة الرخام فالتصق القميص أكثر بحناياها ليجسد خيالاته المرهقة له أمامه مباشرة فأغلق الهاتف بسرعة وتحرك نحوها وقد قرر الابتعاد عن التعقل مؤقتاً..


شعرت به يحاوطها من الخلف ويضمها بقوة دافناً شفتيه في عنقها.. فأدركت أن مقاومته تحطمت.. حاولت التملص من قبضته إلا انه زاد من ضغط ذراعه.. واستمر في تقبيل عنقها.. هامساً:


ـ استرخي يا علياء.. أنا مش عارف أنتِ فجأة بقيتِ عصبية.. و..


قاطعته:


ـ مش عارف!!


همس بابتسامة لم يستطع كبحها:


ـ غيرانة؟..


لفت جسدها لتواجهه وحاولت أن تدفعه عنها إلا أنه رفض التزحزح.. بل أنه أحنى رأسه ليتمكن من شفتيها.. وأنامله تتسلل أسفل قميصها بخبث.. لتشهق بقوة عندما شعرت بمداعبته لبشرتها الدافئة.. بينما هو يعاود تقبيلها بشغف هامساً:


ـ العقل هيجنني.. أنا مش قادر أكون عاقل أكتر من كده..


وبسرعة لم تتخيلها كانت ملابسها تتكوم تحت قدميها ليرفعها فوق العارضة الرخامية ويصعد معها.. ليعيش أقصى خيالاته جنوناً..


وبعد فترة ليست بالقصيرة..


حاولت الابتعاد عنه ودفعه عنها.. إلا أنه أحكم ذراعيه حولها هامساً في عبث:


ـ يا مجنونة هنقع!..


استكانت قليلاً.. ثم عادت تهمس:


ـ ابعد..


هز رأسه رافضاً وبدأ في توزيع قبلاته على وجهها مرة أخرى ليهمس بجنون:


ـ أنا أساساً ما صبحتش على الألماسة بتاعتي النهارده!


وهبط بشفتيه يداعب ألماسته بقوة.. وأنامله تعيث جنوناً بجسدها وهمساته تضيع عقلها.. لتستسلم له مرة ثانية.. ويأخذها هو بشغف لا حد له.. باحتياج لا ينتهي.. بجموح مجنون.. واحساس بالاكتمال هي فقط من تمنحه له.. هدأت أخيراً وألقت رأسها على صدره.. لتسمع همسه المحذر:


ـ اوعي تنامي!..


رمقته بذهول فضحك بقوة:


ـ أنا والله خايف لتقعي.. مش أكتر من كده..


عادت تهمس له بتوسل تقريباً:


ـ ابعد..


كانت تريده بالفعل أن يبتعد.. فهي تخشى حالة الهوس التي أصابته منذ أن لمحها بفستانها الخفيف صباح اليوم.. حينها قرأت بعينيه أي جنون سيجتاحها به.. جنون هي غير مستعدة له خاصة الآن وقرار الفراق على بعد لحظات.. أنها فقط تريد سماع قراره بالابتعاد.. تحتاج أن تكون متيقظة لكلماته لا أن تكون مأخوذة به ومنه على الدوام.. أخذ يتأمل انفعالاتها المتوالية.. غضبها وحزنها.. لقد أبدت السعادة لرؤيته الليلة الماضية فقط لاشتياقها له.. ذلك ما لا يستطيع إنكاره.. ولكن منذ أن فتحت عينيها صباح اليوم وهي يلفها حزن غريب..


أخذ يداعب خصلات شعرها المنتشرة على كتفيها بجرأة.. ليستشعر تأثرها به ولكنها تعانده بإصرار شديد.. محاولاتها الدؤوبة للابتعاد عنه مستمرة..


عاود مشاكستها وهو يلف إحدى خصلاتها الناعمة على إصبعه:


ـ زعلانة على فساتينك الجديدة؟


سألته بسرعة:


ـ ودتهم فين؟.. قطعتهم؟..


ابتسم بعبث:


ـ في حد عاقل يقطع حاجات حلوة زي دي برضوه.. أنا بس قفلت عليهم في مكان أمين.. وبعد كده أنا هشوف ايه اللي يعجبني واطلعهولك تلبسيه.. بس ليا أنا بس..


رمقته غاضبة بينما ارتسم على وجهها كل ما تفكر به حوله.. حتى أنه خشي للحظة أن تصارحه بكل ما يدور بعقلها خاصة في نوبة الاندفاع التي أصابتها..


أخيراً سألها بوضوح:


ـ في ايه؟.. فهميني؟.. ايه اللي جرى لك؟..


نجحت أخيراً في الابتعاد عنه فقط لتلتف على جانبها ويلصق ظهرها بصدره.. ويهمس في أذنها بتصميم:


ـ اتكلمي..


أخذت تتملص منه حتى تمكنت من الابتعاد لتجلس فوق العارضة الرخامية وقد ضمت ركبتيها إلى صدرها واحتضنتهما بذراعيها بشدة..


أغمضت عينيها وهي تحاول أن تخرج أفكارها إلى كلمات.. ولكنها كالعادة كانت أجبن من أن تغضبه أو تغضب منه.. فهمست أخيراً لتغير الموضوع:


ـ حلوة الشقة.. عجبتني..


قفز أرضاً ليتناول قميصه ثم ساعدها لترتديه.. وجلس بجوارها ليضمها نحوه وهو يداعب خصلاتها:


ـ عارفة كمان أظرف حاجة فيها ايه.. أنها قدام مبنى المجموعة على طول.. يعني هجيب منظار وأقعد أراقبك ليل ونهار..


هنا لم تستطع الاستمرار في التظاهر.. فغمغمت بمرارة:


ـ هو في منظار ينفع تشوفني بيه من دبي!..


أخيراً فهم السبب وراء جنون تصرفاتها..


سأل بهدوء لا يشعر به:


ـ تعرفي ايه عن موضوع دبي؟..


ـ هتسافر وتاخدها.. وتسيبني..


ـ يا علياء دي فترة بسيطة.. وأنتِ عندك دراسة.. يعني مش هينفع تسافري..


قفزت إلى الأرض ولفت قميصه حولها وأخذت تجول في أنحاء المطبخ.. تريد البكاء والصراخ وإخباره أنه يعرضها لظلم شديد.. فهو سيتركها للجميع لمن يجرح, ويهاجم بل, ويتطاول..


تحرك خلفها ليضمها بقوة قبل أن تبتعد.. وهمس لها:


ـ بصي.. البداية بابا عرض عليّ العرض ده.. وكان تبريره أني أسيب لك الوقت والمساحة أنك تقرري وكنت بفكر فعلاً أوافق على العرض.. بس النهارده اتأكدت أنه صعب..


همست وقد استكانت على صدره:


ـ صعب!.. بس صعب؟..


ـ وظلم.. ظلم ليكي وليّ..


سألته بتوتر:


ـ وبعدين؟ ايه الحل؟..


ـ الحل هو الطيارة.. أومال الطيارة اخترعوها ليه.. باقي أني أحاول توزيع وقتي..


لفت لتواجهه وسألته باتهام:


ـ أنت اخترعت الكلام ده كله دلوقتِ صح؟


أومأ موافقاً:


ـ ايوه.. بس ده مش كلام.. ده قرار..


كتفت ذراعيها:


ـ وليه القرار ده؟


ضمها إليه وهو يبتسم بخبث:


ـ عجبتني النومة على الرخامة قوي!..


اتسعت عيناها ذهولاً وهو يرفعها مرة أخرى ليثبت لها كلماته!!.. وأيقنت أن لحظات جنونه لم تنتهي لذلك اليوم...


*********


تمدد مازن على الأريكة الوثيرة ملقياً برأسه في حضن دنيا التي كانت تضع بين شفتيه إحدى حبات العنب بعد أن خلصتها من قشرتها الرقيقة كما يفضل تناوله.. كانت تتبع كل حبة بقبلة خفيفة على شفتيه.. مع ابتسامة ناعمة على شفتيها.. وأناملها تتسلل باغواء لتداعب ما ظهر من بشرة صدره..


همست في أذنه:


ـ أنت مش معايا خالص..


داعبت أنفه بأنفها الصغير لتعاود الهمس:


ـ ايه اللي شاغل بالك؟..


عدل من وضع رأسه على ركبتيها.. ومد يده ليتمسك بيدها التي تداعبه بلا توقف, بل أنه ساعدها لتفتح بعض أزرار قميصه.. وتركها للتجول بأناملها كما تشاء.. وهو يرد عليها:


ـ حاتم بيه بيضغط على حسن قوي.. الموضوع تخطى خوف أب على ابنه..


أكملت هي:


ـ وصلوا لمرحلة العند لمجرد العند, صح؟.


ـ اممم..


أطعمته حبة عنب أخرى.. وعادت تسأله:


ـ وأنت ناوي تعمل ايه؟..


مد يده ليجذب رأسها مطالباً بقبلته.. فمنحتها له بسخاء.. وسمعته يجيبها:


ـ حسن مكتفني ومانعني اتدخل نهائي.. ومن جهة تانية مراقبة بابا لحسابي في البنك وأي مصاريف مقيداني تماماً..


كانت أناملها تتداعب صدره بلا هوادة.. وهو عدل من وضع جسده ليرفع رأسه قليلاً ويحيط خصرها بإحدى ذراعيه, فعلمت أنه على وشك حملها إلى غرفتهما.. فسارعت بالقول:


ـ مازن.. أنا تحت أمرك.. و..


قاطعها قبل أن تكمل:


ـ دنيا.. ما تفتحيش موضوع أنتِ عارفة ردي عليه كويس.. مش هيحصل أبداً أني أمد إيدي على فلوسك..


هبطت برأسها لتمنحه قبلة رقيقة تمتص غضبه بسرعة وفاعلية تامة.. وتهمس:


ـ متفقين يا حبي.. بس عندي فكرة.. ممكن تسمعها؟..


كان قد رفع رأسه ليضعه على حاجز الأريكة ومد يده الحرة ليفتح أزرار الفستان الخفيف الذي ترتديه دنيا.. وبينما بدأ جولة عابثة بأنامله.. سألها وقد بدأ تركيزه في الاضمحلال:


ـ امممم... فكرة ايه؟..


عنبة مقشرة أخرى.. تليها القبلة التي لا يتنازل عنها... ثم أخبرته:


ـ هي فكرة ملتوية شوية.. أنا هزود على فاتورة فستان نيرة.. مبلغ معين.. المبلغ اللي أنت تحدده.. وتعطيه لحسن أخوك.. ويبقى كده حلينا المشكلة.. ولو مؤقتاً.. ايه رأيك؟..


لف جسده بالكامل نحوها.. ليتمكن من ضمها كما يريد وقد تحركت أنامله العابثة من فتحة صدرها لتتسلل إلى عنقها ثم إلى خصلاتها السوداء.. فيبعثرها بعبث ليجذب رأسها في قبلة طويلة وهو يهمس أمام شفتيها:


ـ رأيي أنها فعلاً فكرة ملتوية.. بس حاتم بيه مش هينفع معاه غير كده.. نفذي يا ملاكي..


أطلقت ضحكة ناعمة وهي تراوغ شفتيه وتمنحه إحدى حبات العنب بدلاً من القبلة التي يبحث عنها.. فالكلام مازال له بقية.. رفع نظره مبتسماً بمكر:


ـ بعدين هتعود على الدلع ده!..


ضحكت برقة وقد عادت تمرر أناملها برشاقة بين طيتي قميصه المفتوحتين:


ـ هو أنت لسه ما اتعودتش.. أنا شكلي بوظتك.. ونيرة الغلبانة مش هتقدر عليك.. في حد بياكل العنب مقشر!..


ابتسم بسخرية عندما سمعها تلقب نيرة بـ "الغلبانة".. وقبل أن يرد عليها سمعها تقول بضحكة مكتومة:


ـ بمناسبة نيرة.. أنا قلت لك قبل كده أني مش هتكلم على تفاصيل فستانها.. بس.. بس.. في معلومة صغيرة.. بيتهيألي لازم تعرفها..


رفع رأسه وهو ينظر لها بتوجس:


ـ أكيد الفستان مفتوح من كل حتة..


ابتسمت بغموض:


ـ المعلومة مش على الموديل.. عن اللون!


ردد بغباء:


ـ اللون.. ما هو أكيد أبيض.. فستان فرح هيكون لونه...


قطع كلماته ونظرة شقية تتألق في عينيها.. بينما قفز هو هاتفاً:


ـ أحمر.. هتفصل فستان أحمر صح؟..


أطلقت دنيا ضحكة أنثوية عالية لو كان سمعها مازن في وقت آخر لكان سحبها على غرفة النوم مباشرة ولكنه تلك المرة قفز يبحث عن هاتفه ليتصل بنيرة ويختفي في إحدى الغرف.. بينما تلاحقه ضحكات دنيا العذبة التي خفتت قليلاً لتتحول إلى ابتسامة شاردة وهي تتخيل كلامه مع نيرة الآن..


قد يكون من الطبيعي أن تشعر بالغيرة من نيرة.. المرأة التي ستشاركها رجلها قريباً.. ولكنها لا تفعل.. كيف تغضب من حبه لها؟!.. وذلك ما جذبها له من البداية.. ومن غيرها هي.. دنيا.. يدرك عذاب عشق بلا أمل.. أو مستقبل.. عشق يطحن صاحبه.. ويستهلكه.. يقتات على نبضات القلب حتى يكاد يوقفه.. رحمةً بالعاشق من عذابه.. عشق عاشت مثيله, بل أقوى مع سامر..


سامر.. حركت شفتيها باسمه.. لتشعر بمرارة ذكرياتها تجري بها مجرى الدم..


سامر.. جارها.. رفيق طفولتها.. توأم روحها.. كانت قصتهما أبسط من البساطة.. قصة تقليدية يتعثر بها الجميع يومياً.. فلا تلفت انتباه أحد..


الجار الوسيم.. وجارته الصبية الرقيقة ذات الجدائل.. وخطبة غير رسمية.. فالفتاة لم تكمل عامها الخامس عشر.. ولكن فتاها متعجل.. يريد الاطمئنان أن رقيقته.. ستكون له..


ولكن ما حدث لم يتوقعه الشاب.. فقد دار الزمن دورته.. والصبية الرقيقة.. تحولت لأنثى متفجرة.. خطفت أبصار الرجال قبل الشباب في حيهم البسيط.. بل وخارج الحي أيضاً.. وهي كانت سعيدة.. وكيف لا؟!.. وهي تشعر بتفتح أنوثتها.. بالقوة التي منحتها اياها تلك الأنوثة.. سطوة الجمال لا يُعلى عليها.. وإن اقترن بذكائها فهو خلطة مبهرة.. مدمرة.. مخيفة.. وسكن الخوف قلب سامر.. ليزيح الحب شيئاً فشيء.. زاد تحكمه.. كثرت أوامره.. تعالى صوته.. وهي بذكاء الأنثى الفطري استشعرت خوفه.. فارتعبت خوفاً من فقده.. حبيب العمر.. كيف يفكر أنها تنظر لرجل آخر؟.. أنها فقط تستعذب تغزل الآخرين بجمالها.. بفتنتها الوليدة.. لكنه هو.. رجلها الأوحد.. لا ترى آخر ولا تريد غيره هو.. وهو لا يهدأ.. يصرخ.. فتصمت.. يأمر فتطيع.. يتحكم.. فتخضع.. ولكن قلبه لا يرتاح.. عقله تقتله الهواجس.. وهي تزداد فتنة.. أنوثتها قاتلة.. وخضوعها له جرأه.. ليمد يده.. ليس مغازلاً.. كلا.. بل متعدي.. ضربها.. صفعها..


وهي ثارت ثائرتها.. برز جموحها وفقد سيطرته عليها..


خرجت من شرنقة أحكامه وأوامره.. ليعاقبها بارتباطه بفتاة باهتة.. ولكنها مطيعة عن حق.. خانعة بالطبيعة وليس التطبع..


قتلها بكلمته ليلة زفافه..


"أنتِ ما تنفعيش للجواز.. هتتتسببي في جنون أي راجل تكوني ملكه"..


تزوج هو.. تزوج من تريح باله ولا يقلق على ثبات عقله معها.. وانطلقت دنيا.. حاولت التحرر من حبه.. لم تفلح.. فتحررت من روابطها.. وقيودها.. اقتحمت سوق العمل.. ولم يكن أي عمل.. عملت بالإعلان.. فتاة اعلانات.. عارضة.. أو كما يدعونهن.. موديل..


نجحت.. تلألأت.. ظهر وجهها على صفحات المجلات.. نالت بعض الشهرة.. سعت بكل جهدها لتقهر حبها له.. لتتناسى ضعفها نحوه.. تضحياتها التي كادت أن تشمل كل شيء.. ولم يرض.. ولم تنسَ..


ليظهر هو.. سامر..


عاد مطالباً بها.. يذكرها.. بالعشق القديم.. بعهود الهوى.. وكأنها نسيت!.. وكأنها لم تنتظر عودته نادماً.. في كل لحظة.. في كل نجاح تحققه.. كل خطوة تخطوها نحو الشهرة.. كانت تفعلها من أجله.. لتريه أنها لم ولن تتحطم.. وهو جاء أخيراً.. ليعلن استسلامه.. كلا.. ليطالبها هي مرة أخرى بالخضوع.. لتطاوع هواه.. بلا قيود.. بلا روابط أو مسميات.. طالب بها كعشيقة.. وصرخت هي..


"مش ممكن أكون عشيقة باسم الحب"..


طردته.. وتزوجت.. لم تهتم بمن يكون.. فقط.. سيصل بها لأحلامها..


فقد اعتزلت الغرام...


يصدح نجمها في عالم تصميم الأزياء.. وأموال زوجها تمنحها الحماية.. تفتح الأبواب الموصدة.. وتزداد الشهرة.. ويموت الزوج... لتزداد الثروة.. ومعها الطموح..


دار أزياء راقية.. فرع هنا.. وفرع هناك.. ويتألق اسمها.. وتتسع أعمالها.. حتى التقت به.. لم تتوقع أن تقابل من يقهر صدفة تقوقعها.. من يصل إلى الأنثى المتعطشة بداخلها.. من يقتحم أسوار امرأة الأعمال البارزة.. وسيدة التصميم الأولى كما تطلق عليها الصحف..


مازن.. ذلك الشاب المتقد ذكاء ورجولة.. هو المهندس المسئول عن مجمع الأزياء الذي تنوي انشائه.. وشعرت بالضعف.. ضعف لم يصادفها منذ سامر.. ليس حباً.. فحبها لسامر.. فقط.. حتى لو لوثه.. لكنها تمنح قلبها مرة واحدة.. وهي منحته لسامر ولم تسترده أبداً.. لكن مازن يدغدغ أنوثتها.. يجعلها تتفتح بنظرة شقية من عينيه.. ابتسامة هادئة كسولة تسبب لها عقدة في معدتها.. لا حل لها.. احتياج.. لم تعرفه من قبل..


ولكن كيف؟.. أنه يصغرها بتسع أعوام.. كلا.. لم يعجبها وقع العبارة.. هي تكبره.. كلا.. جملة سيئة أخرى.. بينهما تسعة أعوام.. فارق من العمر وليس في صالحها.. وهو عاشق ولكن ليس لها.. اعترف بها.. فقد تعمقت علاقتهما.. ولم تستطع الابتعاد.. وسمته صديق.. وصديقها عاشق.. وهب قلبه لمن ليست له..


باحت له بسرها.. أخبرته عن معشوقها الذي شوه العشق ولوثه خوفاً من جموح معشوقته..


جموح لم يخشه مازن بل اقتحمه.. وفاجئها بعرض زواج..


تجمدت.. صعقت ورددت:


ـ ليه؟..


ببساطة وقحة أجاب:


ـ أنا عايز أكون معاكِ.. ومتأكد أن دي رغبتك برضوه.. واحنا الاتنين أرقى من أي علاقة بره الجواز..


رفضت.. ليس لأن الزواج سري.. فيكفيها أنه لم يطلبها لفراشه.. باسم الحب.. كما فعل سامر.. فرق السنوات كان سبب الرفض السري بداخلها.. ولم يخضع مازن لرفضها.. ليفاجئها باصطحابها ذات ليلة.. إلى أحد المحاميين.. وهناك كان يزيد صديقه الأقرب.. وأحد شهود زواجها..


عامين مرا على معرفتها به.. وعام ونصف على زواجهما.. وكلاهما يحافظ على الاتفاق.. يلتقيان عندما يريدا.. يحتاجا التواجد معاً.. وليس بالضرورة احتياج جسدي مع أنه أساس الاتفاق.. فقط.. يمنحان الراحة لبعضهما..


"صديق ذو فائدة"..


" هكذا يطلقون على علاقتهما.. Friends with benefits"


وهكذا سيبقيان.. لا مجال للمشاعر.. لا ذكر للعشق.. فقط حاجة.. رغبة.. أو شهوة.. ولكنها.. لم تستسلم لها باسم الحب..


عاد صوت صراخ مازن على نيرة ليجذبها من شريط ذكرياتها.. فتسمعه يهتف بغضب:


ـ يا ستي أنا راجل تقليدي.. وعايز أشوف عروستي بفستان أبيض وطرحة.. صمت قليلاً وهو يذرع الأرض أمامها جيئة وذهاب.. مستمعاً إلى نيرة.. فيقطب حاجبيه بشدة.. ثم يرد صارخاً بجنون:


ـ والله يا نيرة لو عملتِ فستان فرحك أحمر لآجي لك لابس بدلة فوشيا!..


وأغلق الهاتف بغضب ليرميه بعيداً.. بينما تعالت ضحكات دنيا المغوية.. ليجذبها إلى غرفة النوم.. ولم تنسَ اصطحاب.. حبات العنب معها.. فهو يحبها.. مقشرة.. ناعمة.. ومليئة بالاغراء..


*************


رمقت منى حسن وقد تعلق على سلم خشبي متحرك وهو ينهي طلاء آخر بقعة بسقف الغرفة.. التي قررا الانتقال لها.. تلك الغرفة التي رفضها حسن سابقاً, ولكنه لم يجد بُداً من القبول بها الآن.. خاصة مع تغير أحوالهما..


عادت منى بذاكرتها إلى عشرة أيام أو أكثر مضت.. عندما ألقى حسن على مسامعها تلك الجملة التي زلزلت كيانها.. وكادت أن توقف قلبها هلعاً..


"أنا عايز أقولك على حاجة.. قرار أخدته.. وبتمنى تساعدني فيه.. ويا ريت اللي هعمله ده ما ينزلنيش من نظرك"..


الجملة تتردد في عقلها.. ومعها عشرات التفسيرات.. وكلها تنتهي بالتنازل.. بالفراق..


ابتلعت ريقها في توتر وهي تسأله بتردد:


ـ قرار ايه يا حسن؟.. خليك صريح.. أنت مش محتاج للمقدمات دي معايا..


أغمض عينيه بألم شديد:


ـ آسف يا منى.. استحمليني شوية.. اللي هكلمك فيه مش سهل عليّ..


سكت قليلاً ليلمح وجهها وقد شحب تماماً.. فشهق بعنف وقد استوعب ما فهمته من كلماته:


ـ منى.. أنتِ متخيلة أني هتخلى عنك.. أو هطلب الفراق مثلاً.. معقولة تكوني مش عارفاني للدرجة دي!..


أخذت منى نفساً عميقاً وأغرورقت عيناها بالدموع وهمست:


ـ حسن.. من غير مقدمات الله يخليك..


تحرك حسن ورفعها من على مقعدها ليضمها إلى صدره بقوة:


ـ والله ما أقدر أبعد عنك.. معقولة تكوني مش حاسة باللي جوايا ناحيتك.. إذا كنت ما قدرتش أعملها واحنا لسه على البر.. يبقى هعملها بعد ما قربت منك وعرفتك أكتر وأكتر.. معقولة أقدر أفتح عينيه وما لاقيش أحلى عيون كحيلة بتضحك في وشي..


ابتسمت وسط دموعها:


ـ أنت كده بتقلقني أكتر يا حسن.. لأن معنى كلامك أنك ناوي تضحي بزيادة.. وتتنازل أكتر..


أبعد رأسها عن صدره ليرفع ذقنها بسبابته وإبهامه ويتأمل عينيها:


ـ أنتِ فاهماني كده ازاي؟..


رفعت راحتيها لتحيط بهما وجهه:


ـ لأنه أنت أنا..


اتكأ بجبهته فوق جبهتها وهو يحرك رأسه قليلاً:


ـ حبيبتي... أنا ممكن أبيع عمري مش بس شهادة الهندسة عشان تكوني ملكي للأبد وقدام الناس كلها.. مراتي.. وحبيبتي.. وأم ولادي كمان..


أسكرتها حلاوة كلماته فسكنت بين أحضانه للحظات.. حتى تغلغلت معاني كلماته بين خلايا عقلها.. فأبعدت نفسها قليلاً لتسأله:


ـ يعني ايه يا حسن؟.. يعني ايه تبيع شهادة الهندسة؟.. ايه معنى الكلام ده؟..


جذبها من يدها ليعاود الجلوس على الأريكة وهي بجانبه ويخبرها ببطء ووضوح:


ـ هو ده القرار اللي عايزك تسانديني فيه.. أنا خلاص قررت أني أنسى مؤقتاً.. لقب مهندس..


حاولت منى مقاطعته إلا أنه أوقفها ليكمل:


ـ سيبيني أتكلم يا منى.. بصي.. من صغرنا وبابــ.. أقصد حاتم بيه.. بيُصر أننا نبدأ من الصفر.. يعني مع البنايين والعمال عشان نفهم ونستوعب الشغل.. وما حدش يقدر يخدعنا أو يستغفلنا.. اشتغلنا كل حاجة.. نجارة.. سباكة.. كهربا.. محارة.. نقاشة.. كل ما يتعلق بالبنا والمقاولات.. موجود كله جوه خلايا مخي..


رمقته منى في صمت ولم تعلق.. فأكمل بمزاح ساخر:


ـ محسوبك أحسن أسطى نقاش عرفته مجموعة العدوي..


توسعت عينا منى وقد فهمت ما يرمي إليه حسن:


ـ حسن.. أنت تقصد.. قصدك.. أنك..


أومأ حسن موافقاً:


ـ أيوه يا منى.. يا ترى نظرتك لحسن هتتغير لو طلق شهادة الهندسة دي.. واتحول ولو مؤقتاً.. للأسطى حسن؟..


وضعت وجهها بين كفيها وهي تحركه يميناً ويساراً:


ـ لا يا حسن.. أنا ما اقبلش.. مش ممكن أوافق أنك تقدم التضحية الكبيرة دي.. ولو حتى عشاني..


رفع وجهها ثانية ليهمس لها:


ـ فين التضحية دي.. أنا بآخد خطوة لمستقبلنا.. يمكن مش لقدام.. أو مش هنتقدم بيها كتير.. يعني هنبدأ من الصفر..


ابتسم بهدوء حتى يطمئن القلق المرتسم في عينيها:


ـ أو يعني قبل الصفر بشوية.. بس هنخرج من حصار حاتم بيه..


عادت منى تهز رأسها برفض تام للفكرة:


ـ لا يا حسن.. كده كتير.. كتير قوي.. أنت رفضت أوضة السطوح.. دلوقتِ عايز.. عايز تشتغل نقاش!


ابتسم حسن بمرارة لم يستطع اخفائها:


ـ يمكن قبل كده فكرت أن فكرة سكننا فوق السطوح تضحية كبيرة مني.. مش هكدب عليكِ يا منى.. وأنتِ بنفسك وصلك الإحساس ده.. لكن لحظة.. ما كان الاختيار بينك وبين مستوى ومظهر اجتماعي مالوش عندي ريحة اللازمة.. ما اترددتش لحظة..


سألت باستفهام:


ـ يعني في اختيار اهوه.. أرجوك يــ...


وضع أنامله على شفتيها يمنعها عن الكلام:


ـ صدقيني.. أي اختيار ما يكونش ليكي الأولوية فيه.. مش حل بالنسبة لي..


ابتعدت منى عنه وأولته ظهرها لتحاول تكوين جملة تعرف أنها ستقتلهما معاً:


ـ حسن.. رجعني بيت أبويا.. وكل..


لفها نحوه بقوة يقطع كلماتها القاتلة بقبلة عاشق وهمس أمام شفتيها:


ـ لو تقدري تقوليها.. أنا ما اقدرش أسمعها.. أنا محتاجك يا منى.. حسن هيتولد على أيديكِ من جديد.. وأنا محتاج قوي اتولد من تاني.. مش هقدر اقتحم الحياة الجديدة دي إلا معاكِ..


في لحظة تذكر تجبر والده عليه.. وهو يطلب منه طلاق منى.. فمثلها تتخذ عشيقة وليست زوجة.. على حد قول حاتم بيه.. تلك النار التي مرت في شرايينه.. أحرقت كل احترام كان يكنه لوالده.. وأشعلت بلهيبها التحدي بحبه لمنى.. ورغبته أن تكون.. له.. حلاله.. في النور.. وأمام الجميع..


عاد ليضغط بجبهته فوق جبهتها:


ـ المشوار صعب.. ومحتاج لك يا منى.. لأنه في طلب تاني.. طلب يخصك..


عادت لتبتعد قليلاً إلا أنه لم يسمح لها فظلت بين دائرة ذراعيه.. لتسمعه يهمس:


ـ ممكن تقدمي طلب اعتذار عن السنة دي.. أو حتى التيرم الأول.. أنا.. الظروف في الأول مش هكون ضامن قوي أني..


قاطعته قبل أن يكمل.. وحتى ترفع عنه الحرج:


ـ ده أنا كنت ناوية أعمله من غير ما تطلب.. كنت عايزة اتفرغ لحياتي كزوجة شوية.. يعني لحد ما اتعود..


عاد ليريح جبهته فوق جبهتها ليتأمل ملامحها ويسألها بخوف ممزوج بأمل:


ـ وموضوعنا الأساسي.. رأيك ايه؟..


رفعت ذراعيها لتتعلق بعنقه وقد جرت دموعها على وجنتيها بلا توقف.. كم تريد الاستجابة لنداء استغاثته.. وكم تخشى موافقته على تلك الخطوة.. تخشى عودة حسن المدلل مرة أخرى.. فعودته ستلقي على كاهلها وهي فقط ذنب تحول حسن.. البشمهندس حسن العدوي ليصبح.. مجرد عامل نقاشة.. ووقتها سيكون حبه لها تبخر بفعل نار الواقع وهو لن يغفر.. ولن يرحم..


يا الله.. ما هو الصواب وما الخطأ؟.. أأبتعد واتركه لحياته المرفهة أو أمد يدي إليه فيولد بين يدي.. حسن جديد كما يقول هو.. ليس عاشقاً فقط.. بل قادراً على حماية معشوقته..


شعرت بيديه تضمها إليه اكثر وهو يطالبها باجابة على سؤاله المنطوق ومؤازرة لقراره المغامر.. للحظة واحدة غاب عقلها.. واختفى منطقها.. لينتصر القلب الذي استجاب لنداء معشوقه.. فضمت نفسها نحوه.. وهي تفتعل ابتسامة باهتة:


ـ لازم اختبر مهاراتك.. في فن النقاشة بنفسي.. الأوضة هتحتاج توضيب ودهان.. وأنا هكون بليه بتاعك.. ايه رأيك بقى؟..


بادلها الابتسام فأردفت هي:


ـ يعني عايز تتعلم حاجة وأنا ما اكونش عارفاها.. ما فيش أسرار بينا يا بيه.. وهساعدك يعني هساعدك..


اتسعت ابتسامته لتصبح واحدة حقيقية بالفعل والتفت ليتناول كوب عصير الفراولة ويضعه في يدها:


ـ أنا موافق بس بشرط.. تقولي لي بقى رأيك في كوباية العصير المحترمة دي..


تناولت منى رشفة واحدة من العصير لتتسع عيناها قليلاً.. وهي تحاول ابتلاعه على مضض.. بينما حسن يصر عليها أن تتناوله عن آخره..


ابتلعت ما في فمها وهي تكمل باقي الكوب وترمق حسن من خلف حافته راجية الله أن تكون مهارته في النقاشة أفضل من صنع العصير.. فهو أغرق العصير بالملح بدلاً من السكر.. ولكنها تناولته كله وهي تبدي استمتاعها بمذاقه الرائع.. فإذا كان هو سيتخلى عن حياة كاملة من أجلها ألا تضحي هي بابتلاع فراولة بالملح!...


عادت إلى واقعها الآن لترمق زوجها وهو ينهي آخر بقعة من سقف الحجرة في مهارة لم تكن تعتقد أنه يمتلكها ولكنه أثبت لها الأسبوع الماضي أنها كانت على خطأ في اعتقادها.. فقد استطاع تحويل غرفة السطح ببضع لمسات فنية من فرشاة الطلاء خاصته إلى منعزل هادئ خاص بهما فقط.. عش رقيق ليحافظ على حبهما.. منحه حسن لمسة رقي خاصة به لتكمل منى بوضع لمساتها الدافئة والحميمة.. فأصبح لديهما شقة تتكون من غرفة نوم واحدة ومطبخ وحمام.. وغرفة تصلح للمعيشة أو تناول الطعام وحتى لاستقبال الضيوف.. وامتلأ البيت الصغير بعدة قطع متنافرة من الأثاث.. جمعتها منى من حيث لا يدري ولكنها بلمسات بسيطة منها.. مفرش هنا.. ووسادة صغيرة هناك.. بساط ذو ألوان غير معلومة.. لوحة عجيبة لفنان أعجب.. لكنها منحت الغرفة لقب مسكن.. بل أن لمساتها امتدت لتحول السطح خارج الغرفة إلى حديقة صغيرة.. تشبه تلك التي أعجبتها بشاليه يزيد بالمعمورة.. وأخيراً ضمهما عش كما تمنيا طويلاً..


بالفعل هو عش.. ضيق للغاية ولكنه أيضاً يموج بالعشق الصافي والتضحية المتبادلة..


وقفا ينظرا إلى صنع أيديهما بفخر شديد ومد حسن ذراعه لها فدست منى نفسها تحته على الفور لتلتصق به وترفع له وجه يعبر عن حب صافٍ:


ـ مبروك علينا شقتنا يا حسن..


همس في أذنها:


ـ أسطى حسن!..


*************


رمق مازن عروسه وهي تتهادى فوق الرواق الطويل الخاص بالفندق الذي سيقام بها زفافهما.. وبالطبع كان نفس الفندق الذي شهد خزيها على يد حسن.. ورغم غضب مازن من طلبها ذاك في البداية إلا أنه أدرك أهميته لتسترد كرامتها وكبريائها أمام أصدقائها ومعارفها.. لذا نفذ طلبها بدون نقاش لرغبته أيضاً في وأد أي شائعات أو أقاويل في مهدها.. وقبل أن تؤثر على حياتهما معاً..


أخذ يتأملها تقترب رويداً.. رويدا.. عيناه تعلقت بعينيها وكأنها يطالبها بالتقدم وعدم الالتفات لأي همس يجري من حولها.. اقتربت قليلاً عندها بدأ يلحظ تفاصيل الثوب..


مبهرة.. أقل ما يمكن أن يقال عنها اليوم.. أبدعت دنيا بالفعل في تصميم ثوبها.. وكأنها هديتها له.. فقد تحولت به نيرة إلى حورية خيالية طالما داعبت أحلامه.. همس في نفسه..


"فهماني يا دنيا.. فهماني قوي"..


كان الثوب عاري الصدر والظهر والكتفين.. يتمسك قسمه الأعلى بصدرها وقد تراصت حبات عديدة من الألماس حتى بدا وكأن ضوء النهار سيسطع منه وامتدت تلك الحبات المتراصة بشكل مثلث لتلتقي بقسمه السفلي الذي يتكون من طبقات لا نهائية من التول الخفيف وقد تناثرت قطع الألماس بعشوائية مبهجة ثم عادت لتنتظم بشكل وريدات عديدة تمركزت فوق قطع من الدانتيل وتركزت على ذيل الفستان حيث امتدت فروعها للتشابك معاً مكونة شبكة مذهلة من الدانتيل والتول والألماس.. وأكملت الطرحة مظهرها الخرافي.. حيث تعلقت في شعرها الذي جمعت بعض خصلاته وتركت المعظم حراً.. وامتد طول الطرحة ليصل إلى طول الفستان الذي امتد خلفها عدة أمتار..


أجبر نفسه على الخروج من حالة السحر وحرك قدميه حتى يلاقيها.. ويتسلم تلك الأميرة الخرافية من والدها.. وسمعه من بعيد يوصيه عليها.. لم يكن يرى غيرها.. أو يسمع سوى صوت أنفاسها.. ولم يشعر بنفسه إلا وقد اقترب منها للغاية.. ليقبلها.. ولكن ليس فوق جبهتها كما هو معتاد, بل على شفتيها.. ولم يبتعد إلا بعد أن تحولت الهمهمات المذهولة إلى صيحات تعجب واستنكار.. حينها رفع شفتيه ليغمز بعينه هامساً بشقاوة:


ـ عشان اللي فاتته البوسة الأولانية.. يلحق يتفرج على التانية!


احمرت وجنتاها بفتنة وكادت أن تنهره بعبارة مستفزة.. ولكنها توقفت عندما لمحت نظرات الحضور البراقة وكأنها تحسدها على عريسها المتيم... وسمعت بضعة آهات من مجموعة من الفتيات إعجاباً بحركة مازن الجريئة... فابتسمت ابتسامة خبيثة تحولت في لحظة إلى ابتسامة خجولة وهي تخفض عينيها أرضاً في حياء تاركة مازن يتأبط ذراعها.. ليعبرا معاً باقي الممر.. ويدخلا إلى القاعة تناجي آذانهم موسيقى كلاسيكية هادئة.. وناعمة تماماً..


بعد أن استقرا في مقعديهما همس مازن في أذنها:


ـ بصراحة.. ما ينفعش أطلب تشغيل أي أغاني.. أنتِ مبهرة بصورة خيالية.. هتخلي حتى أعظم سيمفونية جنبك.. شيء باهت.. أشك أن أي حد في القاعة نزل عينه من عليكِ..


سكت لحظة وهو يتأمل إشراقة وجهها لمغازلته الخفيفة ثم بنبرة مختلفة:


ـ صحيح.. هو الفستان ده مالوش حاجة تغطيه؟..


هتفت بنزق:


ـ مازن!..


ضحك بشقاوة فهو كان يشاكسها فحسب وأمسك اناملها ورفعها إلى شفتيه ليقبلها برقة.. ثم ساعدها لتنهض.. هامساً مرة أخرى:


ـ الأغنية دي بس استثناء..


وعلى الفور تصاعدت موسيقى..


"Everytime we touch"


I still hear your voice, when you sleep next to me.

I still feel your touch in my dream.

Forgive me my weakness, but I don't know why

Without you it's hard to survive.

تعلقت نيرة برقبته بينما ضمها هو لصدره بقوة.. ولفها بذراعيه.. يتحركان على أنغام الأغنية ربما.. أو أنغام أخرى خيالية يسمعها هو فقط فتدفع به إلى عنان السماء.. غاب في عينيها الزبرجدية.. فأخفضتهما أرضاً.. بخجل ربما غير مصطنع.. فهمس لها:


ـ ارفعي وشك.. عايز اشوف عيونك..


نفذت أمره بخجل وهي تغرق بدورها في عيونه البنية.. بلون حبات البن اللامعة.. وملامحه الرجولية الوسيمة.. خاصة ذقنه المنحوتة والعريضة.. وسمعته يهمس عابثاً:


ـ لو فضلتِ تبصي لي كده.. أكيد الناس مش هتتفرج على بوسه بس..


وبالفعل وبدون تصنع شهقت نيرة حرجاً وخجلاً من وقاحة كلماته.. وتورد وجهها بأكمله خجلاً من نظرة عينيه المتلألئة.. فأخفته بحرج في كتفه لتبتعد عن نظراته التي تربكها بشدة وتحاول استجماع نفسها لما هو قادم...


وفي ركن آخر بالقاعة كانت علياء تستمع إلى كلمات الاغنية.. ودموعها تسيل بلا إرادة منها.. تشتاق إليه.. وتحتاجه.. تحلم به كل ليلة.. مئات الأحلام.. تتبادل معه آلاف الحوارات.. كم ترغب في رؤيته.. في اخباره..


'Cause everytime we touch, I get this feeling.

And everytime we kiss, I swear I could fly.

Can't you feel my heart beat fast, I want this to last.

Need you by my side.

وهاتفها لا يكف عن إصدار أصوات الرسائل.. فيزيد أصابه الجنون عندما أصرت هي على الذهاب الى زفاف نيرة.. قبل ذهابها جعلها تصف ثوبها خيط.. خيط.. وبالطبع لم يعجبه.. وصرخ بها لتخلعه.. لكنها بعناد جديد عليها.. تمسكت بثوبها الأبيض الناعم ذو النقوش الزرقاء.. وحينما علم يزيد بأنه عاري الكتفين.. تكاد تقسم بأن دبي بأسرها سمعت صراخه, بل أن صوته وصل لأبي ظبي أيضاً..


عادت لتسرح مع كلمات الأغنية مرة أخرى..

'Cause everytime we touch, I feel the static.

And everytime we kiss, I reach for the sky.

Can't you hear my heart beat so...

I can't let you go.


تعبيرات وجهها كانت تتتابع من الألم والحزن إلى الفرح البائس والاشتياق المجنون.. مما جذب عينين حادتي التركيز إلى تلك التعبيرات على الفور.. لتجذب فريدة قلم الكحل من حقيبتها الصغيرة وتسحب منديل المائدة وتبدأ في رسم عدة بورتريهات سريعة لوجه علياء.. بكل ما تحمله من أسى أنثى قهرها عشقها وخذلها كبريائها.. كانت يديها تخط ملامح علياء بسرعة وهي تخاطب صبا بتعجب واندفاع:


ـ تخيلي الفكرة اللي قلبت عليها نجوع وقرى مصر الأسبوعين اللي فاتوا آلاقيها هنا.. في فرح تافه من أفراح الطبقة الناعمة..


قطعت كلماتها وقد شحب وجه ابنتها.. فرفعت رأسها لترى عامر وقد احتقن وجهه غضباً.. فاعتذرت منه بحلاوة:


ـ آسفة حبيبي.. ما أقصدش أنت عارف لساني.. و..


قطعت جملتها عندما قرأت بسهولة علامات الذهول على وجهه.. لتدرك بعد فوات الآوان.. أنها.. نادته.."حبيبي".. تزاحمت الدماء لتصل إلى وجنتيها.. وقد غمرها الحرج الشديد فأخفضت رأسها هاربة من عينيه لتنهي إحدى بورتريهات علياء.. وتسحب منديلاً آخر للمائدة لتكمل الرسم..


أخذ عامر يتأملها لبرهة.. ثم أشار إلى أحد الندل.. وطلب منه أن يأتي بمجموعة من الأوراق البيضاء... وعدة أقلام رصاص...


شكرته فريدة هامسة بحرج:


ـ متشكرة قوي.. مالوش لزوم..


نهض فجأة قبل أن تكمل جملتها.. وعيناه مركزة على باب القاعة.. حيث وقف حسن برفقة منى زوجته التي بدت مترددة جداً في الدخول..


فتحرك عامر على الفور ليمنع أي تشابك محتمل بين حسن ووالده.. ولكن ما لم يفكر به هو ابنته نفسها.. فقد لمحت نيرة حسن ومنى يدخلان القاعة.. فنزعت نفسها من بين ذراعي مازن.. لتتجه نحوهما بإصرار.. حتى واجهتهما.. لترفع صوتها فوق الجميع:


ـ يا أهلاً وسهلاً.. بمنى هانم.. بنت السواق.. والعاملة في بوتيك درجة خامسة... نورتينا والله..


كان مازن قد وصل إليها لحظتها.. فجذبها من ذراعها بقسوة ليبعدها عن منى إلا أنها جذبت ذراعها منه وهي تلقي بباقي كلماتها:


ـ ومين شرفنا معاها كمان.. البشمهند... آه.. آسفة.. أقصد الأسطى حسن.. نقاش درجة عاشرة..


تحكم مازن بأعصابه بقوة خارقة حتى لا يضربها أمام الجميع.. فسحبها من ذراعها بقوة وهو يهتف:


ـ يلا بينا.. الفرح خلص بالنسبة لك..


ضحكت بسخرية :


ـ فعلاً.. لازم نمشي.. الفرح بدأ يلم..


جذبها ليخرجها من القاعة وهو يرسل نظرات اعتذار وتوسل صامتة لحسن.. كلمات صامتة تحركت بها شفتاه.. "سامحني يا أخويا"..


فقد قامت نيرة للتو بذبحه ورقصت فوق أشلاء كبريائه..


***********


سحب مازن نيرة وألقى بها في سيارته وانطلق بسرعة غاضبة.. بينما أخذت تصارع هي حتى تعدل من وضع ثوبها وأخيراً سألته:


ـ هو احنا رايحين فين؟.. مش المفروض أننا حاجزين الليلة في الأوتيل!


رمقها بنظرة نارية إلا أنها لم تصمتها:


ـ رد عليّ يا مازن!


غمغم من بين أسنانه:


ـ يا برودك!


هتفت به:


ـ ايه!!.. أنت بتقول ايه؟..


لم يرد عليها.. فقد كان وصل إلى الفيلا الخاصة بهما.. فأوقف السيارة ونزل منها تاركاً نيرة بها تصارع ثوبها والباب وحذائها ذو الكعب العالي حتى خرجت وتبعته غاضبة.. أيجرؤ ان يتركها بالسيارة وحدها في ليلة زفافها..


دخلت إلى بهو الفيلا تتبعها أعاصيرها لتجده خالياً.. تلفتت حولها تبحث عنه.. حتى سمعت صوتاً خافتاً من الطابق العلوي فتوجهت نحوه لتجد مازن في غرفتهما.. وقد بدأ في تبديل ملابسه بالفعل..


هتفت بذهول:


ـ أنت بتعمل ايه؟..


رمقها بسخرية وقد تخلص من قميصه وأخذ يبحث عما يرتديه.. فتوسعت عيناها بذهول وهي ترمق صدره العضلي الضخم وقد غطاه شعر ناعم خفيف حتى معدته ليمتد في خط مستقيم ويختفي داخل بنطاله..


ابتلعت ريقها بصعوبة.. وهي تستشعر تأثير رجولته عليها.. فابتسم هو بسخرية مدركاً ما أصابها.. وسمعها تسأله:


ـ احنا مش هنروح الفندق؟


ـ لأ..


كلمة واحدة قصيرة..


عادت تسأله مرة أخرى:


ـ ومش هنسافر بكره؟..


قطب جبينه:


ـ نسافر ليه؟


أجابت بارتباك ينجح هو فقط في تطويقها به:


ـ عشان.. عشان شهر العسل..


أطلق ضحكة عالية:


ـ آآآآآه.. شهر العسل!..


هتفت بحنق:


ـ أنت بتتريق عليّ!


ثم تحركت لتبتعد عنه إلا أنه جذبها بعنف نحوه لترتطم بصدره العاري وتتمسك به حتى لا تسقط.. ولكنه بدا غير منتبه للمستها الخاطفة له وهو يهمس لها بصوت أجش غاضب:


ـ أنا سبق ونبهتك أنك تطلعي حسن ومنى من حساباتك.. ووضحت لك أني مش هسمح أنك تستخدميني عشان تأذيهم..


وارتفع صوته بغضب حارق:


ـ كرامتك.. وحافظت عليها.. كبريائك ومتصان.. دلعك ومستحمله.. كل طلباتك مجابة..


ثم دفعها عنه لتسقط فوق الفراش:


ـ وبعدين كانت ايه النتيجة.. أخويا..


وتعالى صراخه ليرج المنزل:


ـ أخويااااااااااا.. يتهان وقدام عينيا وهو ضيفي.. هو ده احترامك لاسمي ولكرامتي.. فاهمة عشان اعترفت لك بحبي تبقي خلاص ملكتيني.. لا.. لا يا هانم.. بدري قوي على ما تقدري تملكيني.. بدري قوي..


كانت ترمق غضبه بعيون متسعة وقد تملكها الرعب بالفعل من أن يفقد واجهته المتحضرة ويبدأ في ضربها.. إلا أنه هدأ فجأة وهو ينحني نحوها فتجمدت تماماً وهي تشعر بأنفاسه تحيط بوجهها وهو يقترب بشفتيه من شفتيها حتى كاد يلامسهما.. لتسمعه يهمس لها:


ـ أما بالنسبة لرحلة شهر العسل.. فأما يكون في عسل.. هبقى أفكر في السفر.. تصبحي على خير يا عروسة..


وخرج صافقاً الباب خلفه تاركاً إياها وحيدة في ليلة زفافها..


***********


وقفت علياء بعيداً عن باب الفندق كما طلب منها السائق الذي كلفه يزيد بمرافقتها في كل تحركاتها.. وكان ذلك إحدى قراراته الغير قابلة للنقاش.. فالسائق يذهب بها إلى كل مكان حتى لو احتاجت إلى "باكو لبان".. تلك تعليماته الصارمة قبل أن يسافر برفقة زوجته الأخرى ويتركها هي متعذراً بدراستها وترك مساحة حرية لها لتنضج قليلاً.. فقرار توزيع وقته بين البلدين والزوجتين لم يُعلم به أحد غيرها.. تساءلت ساخرة.. أي حرية تلك التي يتركها لها وهو يتصل بها كل ساعة تقريباً لتسمعه تقرير مفصل عما قامت وتقوم وسوف تقوم به.. ارتسمت بسمة خجولة على شفتيها واحمرت وجنتاها وهي تتذكر مكالماته الليلية.. وجرأته اللامعقولة معها.. حتى أنها تعودت على إغلاق الهاتف في وجهه كلما تمادى في جرأته معها.. ضمت هاتفها لصدرها وهي تتوعد السائق الذي تأخر أكثر من المعتاد.. فهي تريد الذهاب إلى المزرعة حتى تحادثه وتطمئنه على وصولها.. وتستمتع ببعض جرأته التي أدمنتها..


من بعيد كانت عيون سهام تراقب وقفتها المتململة وهي تبتسم في انتصار.. قبل أن تتصل برقم ما.. وتهمس:


ـ البنت واقفة لوحدها دلوقتِ وبعيد عن أمن الفندق.. ممكن تتحركوا..


وفي لمح البصر كانت سيارة تمر بسرعة لتبطئ فجأة أمام علياء التي أفزعها توقف السيارة فلم تنتبه لمن تسلل خلفها بهدوء ليدفع بمنديل ذو رائحة نفاذة أمام وجهها ويلصقه به لعدة لحظات.. فتتهاوى ساقيها ويتلقاها الرجل بهدوء قبل أن تسقط ارضاً.. ويدخلها إلى السيارة لتنطلق بهم بعيداً.. 


الفصل السابع عشر

والثامن عشر 

اضجع مازن في فراشه واضعاً ذراعه تحت رأسه ورفع هاتفه بيده الأخرى وأخذ يعبث به للحظات حتى ظهر اسم حسن على الشاشة.. أخذ يتأمل رقم شقيقه للحظات.. رقم يحفظه عن ظهر قلب إلا أن استخدامه له أصبح نادراً.. توترت علاقته بشقيقه في الفترة الأخيرة لا ينكر هذا.. يكتفيان باتصالات أصبحت رسمية وروتينية..


الغيرة شعور بشع.. ولا يملك إلا أن يعانيه بصمت.. صمت أجبره عليه شعور مميت بالخجل.. والآن تحول الخجل إلى خزي مؤلم.. كيف يواجه شقيقه وقد حولته نيرة مرتين لخنجر تنحره به؟!!..


والليلة.. الليلة تأكد من أنها مازالت تحمل له مشاعر.. حتى ولو كانت كراهية إلا أنها تظل مشاعر.. فهي لم تأبه بحفل زفافها أو الفضيحة التي افتعلتها مقابل أن تؤلمه.. وهذا لا يصدر إلا عن عاشقة ناقمة.. وهو ما لن يستطيع نسيانه أو غفرانه بسهولة...


عبث بهاتفه قليلاً.. ورفعه إلى أذنه.. ولم ينتظر طويلاً حتى وصله صوت يزيد مجلجلاً:


ـ يخرب بيت عقلك.. إيه اللي بيخليك تتصل دلوقتِ!.. عايز تعليمات ولا شرح؟!!.. أومال بتعمل إيه مع دنيا بقى لك سنة وزيادة!!


هتف به مازن بحنق:


ـ لِم نفسك يا يزيد.. أنا مش ناقصك!


ـ واضح.. إيه اللي حصل؟. دنيا طربقتها على دماغك.. ولا..


قاطعه مازن:


ـ أنت مش ناوي تسكت وتلم الدور!


ـ حصل إيه يا مازن؟


تنهد مازن وقص كل ما حدث في حفل الزفاف على يزيد الذي صمت للحظات قبل يستفسر يزيد بذهول:


ـ وحسن فعلاً قرر أنه يشتغل نقاش؟


ـ أيوه.. قرر وصمم كمان.. رافض أي مساعدة مننا.. وكمان مش عايزني أبلغ جدتي.. دماغه ناشفة..


أجابه يزيد:


ـ عايز يحقق هدف معين.. ربنا معاه..


خيم الصمت عليهما لفترة قبل أن يعاود يزيد السؤال:


ـ وموقف والدك.. سكت وهو شايف اللي بيحصل؟..


هز مازن رأسه بحيرة:


ـ مش عارف يا يزيد.. في لحظة حسيت أنه هيتدخل ويوقف المهزلة دي.. وبعدين اختفى.. مش عارف..


كانت الجملة الحائرة الأخيرة تطالب يزيد بحل.. أي حل.. فقال بحزم لا يتعامل به كثيراً:


ـ روح لأخوك يا مازن.. الزيارة اتأخرت..


زفر مازن بحزن:


ـ عارف..


عاد يزيد يردد:


ـ مش هينفع تتأخر عن كده.. وحاول معاه في موضوع النقاشة دي..


ـ هروح له بكره..


ـ سلم لي عليه..


خيم الصمت عليهما.. فسأله يزيد بسخرية:


ـ أنت شكلك ناوي تقضيها تليفون الليلة.. ما تقوم تروح لدنيا..


تمنى مازن بالفعل لو يستطيع الذهاب لها, ولكنه يعلم أنها سترفض استقباله.. فهي لن تكون البديل الجاهز الذي ينفث به إحباطاته.. لم تكن تلك طبيعة علاقتهما.. ولن تكون.. كما أنه لن يهجر منزله ليلة زفافه.. يكفيه أن يهجر فراش عروسه.. ولكن ما بينهما.. يظل حبيس جدران المنزل.. ولولا احتياجه للفضفضة ما حادث يزيد.. لكنه يعلم أن حديثه مع يزيد كحديثه مع نفسه..


قطع أفكاره صوت يزيد يسأل بلهفة:


ـ شوفتها الليلة يا مازن؟.. عاملة إيه؟


ابتسم مازن بسخرية فكلٍ يغني على ليلاه.. فكر أن يراوغه قليلاً ولكنه أجابه:


ـ جميلة.. حزينة ووحيدة..


صوت تنهيدة يزيد كاد أن يصم أذنه.. قبل أن يجيبه مسرعاً:


ـ طيب اقفل بقى عشان أكلمها.. أنت أخدت أكتر من وقتك!..


أغلق يزيد وحاول الاتصال بعلياء عدة مرات ليجد أن الهاتف مغلق في كل مرة.. زفر بحدة وهو يعيد المحاولة مرة بعد مرة لتقابله نفس الرسالة الصوتية..


لابد أنها غاضبة.. أو تمر بإحدى نوبات تمردها التي ازدادت في الآونة الأخيرة.. وخاصة بعد سفره.. حسناً.. ليس تمرد بالمعنى المفهوم وإنما تذبذب مهلك في الانفعالات والمشاعر.. وهو لم يبتعد إلا أسبوعين.. وينوي العودة إليها بعد يومين وأخبرها بذلك بالفعل قبل ذهابها للزفاف.. لم تغضب وتغلق هاتفها إذاً؟..


تحرك ليدخل إلى غرفة نومه _التي أغلقتها ريناد على نفسها منذ سمعت صوت الهاتف لظنها أن علياء هي المتكلمة_ اندس بجوارها في الفراش ووجدها توليه ظهرها كالعادة.. حاول أن يضمها برقة.. فوصله صوتها:


ـ هي الساعة كام دلوقتِ؟..


أبعد ذراعيه ليضعهما تحت رأسه:


ـ الساعة اتنين..


ـ وأنت بعد ما خلصت وشوشة مع الهانم.. جاي دلوقتِ تحضني؟..


أجابها بصبر وكأنه يكرر أكليشيه يومي:


ـ أنا هنا معاكِ.. وهي بعيد.. طبيعي أني اطمن عليها.. وبعدين مش هي اللي كانت على التليفون.. ده...... حسن..


ـ برضوه الوقت اتأخر.. تصبح على خير..


رفعت الغطاء على كتفها حتى غطى أذنها وهي تغمض عينيها في قوة.. هرباً من رغباته التي لا تنضب ولا تقل.. لقد أصابها الملل بل الاشمئزاز من حالته تلك.. حتى أصبحت ترحب بمكالمته المستمرة لتلك الحمقاء الأخرى.. فتتخذ من غضبها ذريعة لرفضه مرة بعد مرة وهي مطمئنة أنه لا يستطيع الهرب نحو الأخرى.. وأن لا ملجأ له إلا هي.. فلتستمتع بقوتها تلك حتى تروض رغباته تماماً.. راحت في نومٍ عميق بالفعل وهي تتلذذ بتلك الفكرة.. تهذيب يزيد.. وتحجيم رغباته..


***********


أطلت منى من شباك الغرفة لتتأمل حسن الشارد والصامت تماماً منذ غادرا حفل زفاف شقيقه.. كان جالساً وسط حديقتها الصغيرة خارج الغرفة ناظراً إلى لاشيء.. وبدا الغضب على ملامحه.. غضب ممزوج بشيء لم تفهمه.. أهو التصميم أم الندم؟.... تساءلت والحيرة تتآكلها هل حانت لحظة الندم؟.. لكنها أتت بسرعة شديدة.. حتى أنها لم تتهيأ لها.. ذهابها برفقته إلى الزفاف كان مخاطرة ولكنها أخذتها بشجاعة.. وكانت متأكدة من تحرش نيرة بها.. فهي أنثى وتدرك عمق الجرح بداخل أنثى مثلها.. وتصورت أنها ستكون محط انتقام نيرة.. ولكن ما لم تفكر به هو هجوم نيرة على حسن نفسه.. واهانته بتلك الطريقة الفجة.. وهو.. بدا متجمداً وكأن كلمات تلك المتكبرة كانت كسياط وشمت جلده بما لا يمكن محوه.. والمشكلة أنه بدا متباعداً ورافضاً أي تسرية أو مواساة منها.. ردوده قصيرة ومقتضبة.. عيناه تتهرب من مواجهة عينيها.. ويلجأ للصمت متجنباً إجابة أسئلتها المنطوقة والصامتة.. وأخيراً.. اعتكف وحيداً وسط جنتها الخضراء.. ولكن بنفسية سوداء كالجحيم..


خرجت له أخيراً تحاول فك عزلته وسألته بخفة:


ـ حبيبي.. أجهز لك عشا خفيف؟


هز رأسه رافضاً بدون أي كلمة.. عادت تشاكسه مرة أخرى:


ـ طيب أعمل لك عصير فراولة.. بالسكر المرة دي..


أجاب باقتضاب:


ـ أنا مش محتاج حاجة يا منى.. شوية وهدخل أنام.. تصبحي على خير..


وأشاح وجهه بعيداً عنها.. يشرد عنها في عالم بعيد.. رافضاً وللمرة الأولى مشاركتها بأفكاره.. وهمومه..


اقتربت منه بصمت لتضم رأسه الى صدرها .. تحتفظ بها طويلاً قريباً من قلبها.. ثم قبلته على جبينه برقة وتركته كما طلب ودخلت إلى غرفة نومهما.. وفي أعماقها تشعر بحزن وجرح منه.. فهو انغمس في أحزانه على نفسه ولم ينتبه لألمها ومعانتها هي الأخرى من الإهانة التي ألحقتها بها نيرة على السواء.. إهانة كانت تتوقعها وقررت أن تتلقاها بشجاعة مقابل أن يشارك شقيقه ليلة زفافه.. ولكنه للأسف.. لم يفكر إلا بنفسه.. بألمه.. بكرامته.. وكبريائه..


وفي تلك الليلة ولأول ناما.. وكل منهما يولي ظهره للآخر.. ملتحفاً بأفكار مقلقة.. وحيرة حول المستقبل.. منى دموعها تجري بصمت وخوف رهيب يعتصر قلبها.. وحسن مصاب بحالة من الجمود.. جمدت كل أفكاره ومشاعره.. يشعر أنه في فقاعة عازلة ويخشى بشدة الإتيان بأي حركة خشية تمزق الفقاعة ومواجهة ما يحيط به..


ظلا كلا منهما يحاول ادعاء النوم بلا فائدة.. حتى شعرت منى بحسن يلتف ليلتصق بها.. فالتفتت له منى لتندس بين أحضانه وتغرز وجهها في صدره بينما تعصرها ذراعاه ليقربها منه أكثر فأكثر لتزداد دموعها ويمسحها هو بشفتيه هامساً:


ـ آسف.. يا منى...


استرخت منى بين ذراعيه وابتسامتها تخترق دموعها ورأسها يتوسد صدره.. تتجاوب برقة مع همساته واعتذراته المتكررة التي يلقي بها في أذنيها... وقلبها ينتفض سعادة بعدما كان يعتصر حزناً.. فحبيبها لم يحتمل أن تغفو وهي مجروحة منه.. فما الذي تريده بعد ذلك؟..


***********************


اقتحمت نيرة غرفة مازن وهي تغلي من الغضب... وظهر ذلك على معالم وجهها الجميل الذي احتقن بشدة.. وارتجف صوتها حنقاً وهي تسأل مازن الذي كان قد وصل لتوه من الخارج:


ـ تقدر تقولي كنت فين من الصبح؟.. أنا صحيت لقيت البيت كله فاضي وأنا لوحدي!..


رفع حاجبيه بسخرية:


ـ ما كنتش أعرف أنك بتخافي!


ضربت قدمها في الأرض بغضب:


ـ أنا ما بهزرش.. ازاي تخرج لوحدك يوم صبحيتنا ومن بدري كمان وما ترجعش إلا على العصر.. كنت فين؟..


تحرك ليقترب منها قليلاً وسألها ببرود:


ـ ده اسميه إيه.. قلق عليّ ولا قلق على برستيجك؟..


فكرت نيرة أن تتحدى بروده وتخبره أنها لا تهتم إلا بمظهرها الاجتماعي.. ولكنها تراجعت عندما داهمتها تلك اللحظة التي اكتشفت فيها عدم وجوده بالبيت.. والهلع الذي أصابها لظنها أنه سأم منها وقرر إنهاء ارتباطه بها.. فتحت فمها لتهادنه بكلمات رقيقة عن قلقها عليه.. ولكنه أوقفها:


ـ قبل ما تكدبي كدبة واحتمال تصدقيها.. افتكري أنك ما اتصلتيش مرة واحدة تسألي وتشوفي أنا فين..


رمشت بأهدابها عدة مرات وابتلعت ريقها بصعوبة.. تحاول أن تصلح من موقفها.. فهي فكرت بالاتصال به بالفعل عدة مرات.. ولكنها كانت تتراجع في كل مرة خوفاً من أن يبلغها أنه ترك المنزل ولن يعود..


وقبل أن تجد أي كلمات تجبه بها.. سمعته يخبرها:


ـ أنا جبت معايا أكل عشان الغدا.. ممكن توضبي السفرة؟.. بكره الخدم هيرجعوا لشغلهم.. وآه قبل ما أنسى.. يا ريت تجمعي هدومي من أوضتك وتنقليها الأوضة دي....


فغرت فاهها من كلماته ولم تستوعب إلا جملته بنقل ملابسه من حجرتهما.. فرددت بذهول:


ـ إيه اللي أنت بتقوله ده!


ـ بصي يا نيرة.. أنا مش عايز أفشل في حياتي.. أنا واحد ما بيعرفش يفشل.. امبارح كان سهل جداً أني أوصلك على بيت عمي عامر بدل ما أجيبك بيتنا.. لكن زي ما قلت لك.. كده أبقى فشلت.. في نفس الوقت صعب أقبل تصرفك امبارح..


كتفت ذراعيها بتوتر وهي تسأل:


ـ يعني إيه؟.. هنعمل إيه؟..


ـ مش هنعمل أي حاجة.. أنا محتاج أفكر في وضع جوازنا وفرص نجاحه..


صرخت بغضب:


ـ ما تتكلمش عن جوازنا زي ما تكون بتتكلم على صفقة ولا عملية جديدة للشركة.. وبتفكر فيه من ناحية المكسب والخسارة..


ابتسم بسخرية:


ـ أنتِ اللي حولتيه لكده بتصرف غبي.. ويا ريت يكون مش محسوب.. لأنه لو كان مدبر.. صدقيني هيكون تصرفي غير متوقع..


اقتربت منه.. اقتربت أكثر من اللازم.. ووضعت كفيها على صدره.. لتشعر بضربات قلبه تهدر تحت ضغط يدها.. فابتسمت بغنج:


ـ خلينا نبدأ من جديد..


لم يكن قربها منه بتلك الطريقة في صالحه.. خاصة مع توقه الشديد بأن يجعلها له.. ذلك الشوق الذي دفعه إلى الهرب منها ومن الفيلا بأكملها ليغرق نفسه في دوامة العمل.. حيث أنهك جسده فعلياً وأحرق رغبته بها في بوتقة الأعمال والتنقل بين المواقع.. وللغرابة لم تكثر الأقاويل حول خروج العريس إلى عمله يوم صبحيته.. فقد كان أغلب المدعووين في الزفاف من موظفي الشركة ولابد أنهم استنتجوا ما حدث بعد المشهد الوقح الذي افتعلته نيرة بالأمس..


انتبه فجأة على لمساتها وقد انتقلت أناملها لتمس ذقنه العريض والتي تفتنها بشدة ولكنها تبقي افتتانها بها سراً.. ولكنها وجدته يبعد يدها عن وجهه ويبتعد هو الآخر.. وإن فضحت سرعة تنفسه تأثره بها.. بينما كان هو يلعن ويسب ضعفه بداخله.. فهو يحاول التمسك بالبرود والجمود.. يريد أن يوجعها ولو قليلاً.. أن يسترجع ولو أقل القليل من كرامته التي مزقتها شر تمزيق..


فأخبرها ببرود يحاول اصطناعه:


ـ عشان نبدأ من جديد.. لازم نلاقي نقطة.. ولو صغيرة نبدأ منها.. نقطة نتقابل فيها.. وزي ما أنا عايز أوصل للنقطة دي لازم تكون دي كمان رغبتك.. ولحد ما ده يحصل, أنا هنام في الأوضة دي.. الجواز مش بس أننا ننام في نفس الأوضة ونفس السرير..


ابتلع ريقه بصعوبة وهو يردف.. مدركاً صعوبة كلماته على نفسه أولاً قبل أن تكون عليها:


ـ الجواز اللي أنا عايزه.. إن الواحد يكون عنده استعداد يقدم كل حاجة.. مقابل أنه يمتلك قلب حبيبه..


هتفت مقاطعة في غضب:


ـ هو أنا لازم أضحي واتنازل عشان أنفع أكون زوجة لك!


هز رأسه بحسم:


ـ مش تنازلات يا نيرة.. أنا مش بطلب تنازلات.. ولا هقدم تنازلات تاني.. لأنه لو كانت العلاقة صادقة وقوية مش هيكون في تنازلات.. منى امبارح جت فرحك وهي متأكدة أنك هتحاولي اهانتها.. لكن جت عشان تكون جنب حسن.. وما فكرتش أنها بتتنازل عشان ترضيه.. لا.. فكرت بس أنها تكون جنبه.. مش تنازل ولا تضحية.. بس صدق في المشاعر.. عشان كده بنت السواق زي ما قلتِ عليها امبارح.. ملكت قلب أخويا.. يا ريت تكوني فهمتِ أنا عايز أقول إيه..


غمغمت من بين أسنانها:


ـ برضه منى.. حتى أنت بتعطيني بها المثل.. كل ده عشان كلمتين قلتهم.. وكنت عايزة أرد بيهم شوية من كرامتي اللي بعترها أخوك.. خلاص.. هو من حقه يجرح ويهين وأنا لو رديت أبقى وحشة وما انفعش زوجة..


هز رأسه بيأس:


ـ تبقي لسه مش فهماني.. للأسف.. لسه.. واضح أنه الطريق طويل..


ثم لف مولياً إياها ظهره وتوجه نحو باب الحمام الملحق بالغرفة.. وهو يجبها بحسم:


ـ نيرة.. من فضلك قبل ما تدخلي أوضتي بعد كده.. تبقي تخبطي الأول..


توسعت عيناها في وسط وجهها حتى بدا كشاطئ أبيض يحيط ببركاتين فيروزيتين... وهي تدرك المعنى المؤلم لكلماته التي حولتها إلى إنسانة غريبة عنه وليست زوجته التي تمناها طويلاً..


وقبل أن يدخل إلى الحمام أردف ببطء:


ـ أنا عندي مشوار بعد المغرب.. هخلصه واعدي عليكِ نروح نزور جدتي.. هي عايزة تشوفك وتبارك لك.. أنتِ عارفة طبعاً أنه صحتها ما تتحملش أنها تحضر أفراح..


قال كلمته ودخل إلى الحمام مغلقاً بينهما باب...


***************


صفعة قوية وألم شديد نتيجة جذب شعرها بقوة كانا ما آفاقا علياء من غيبوبتها الإجبارية.. فتحت عينيها لتحاصرها قسوة عيون توسطت وجوه حجرية تعرفت فيها على عمها الأكبر صالح, وزوجته, وعمها سالم وهو الأوسط في ترتيب الأشقاء.. ولا يبدو أنه يهتم بما يدور أمامه.. وأصغر أعمامها مهدي والذي التمعت في عينيه نظرات ذنب ممتزجة بالشفقة والعجز.. ثم لمحت القسوة والتجبر الذي تجسد واضحاً في عينيّ عمتها سعاد, وأخيراً صاحبة الصفعة ومن تجذب خصلاتها بلا هوادة.. "الحاجة مُنتهى".. عمة والدها..


صفعة أخرى.. تلتها جملتها الظالمة:


ـ فاجرة.. دي آخرة الجاعدة في مصر.. البت عيارها فلت..


سالت دموعها وهي تحاول استيعاب ما يدور حولها والحاجة منتهى تبرم خصلاتها بقسوة وكأنها تريد انتزاعها من رأسها بالفعل..


وعادت تردد:


ـ ما هتخرجش من الدار لآخر يوم في عمرها.. ابعت المأذون يا ولد أخوي.. دي دواها الجواز.. ابن عمها يعجد عليها..


شهقت عمتها سعاد وهي تلطم صدرها:


ـ يعجد عليها!.. وأمل بنتي.. مرته..


لتتدخل زوجة عمها صالح:


ـ أنا هبعت لأم عواد الداية.. ولو طلع كلام الست سهام دي صُح.. يبجى نرميها لأي أجير من اللي بيفلحوا الأرض..


شهقت علياء بقوة وابتلعت دموعها مع المرار الذي يجري بحلقها وهي تتساءل بذهول عن علاقة سهام بأعمامها.. لما يذكرونها الآن؟.. ماذا يحدث حولها؟.. هل سهام هي من سلمتها لهم.. وماذا أخبرتهم؟.. أنها لا تعلم ما حدث بينها وبين يزيد قبل الزواج.. فماذا أخبرتهم لتشعل غضبهم بتلك الطريقة؟..


رددت بهمس مذهول:


ـ داية!!.. يعني إيه؟.. وليه؟.. هتعمل فيّ إيه؟..


ارتفع صوتها قليلاً:


ـ يا عمي.. اسمعني.. والله أنا..


لطمة قوية نزلت فوق عينها تلك المرة لتختفي الرؤية أمامها للحظات وهي تسمع عمها صالح ينهرها:


ـ أنتِ تسكتي ساكت.. ما اسمعش حسك ده أبداً.. بس دي غلطتي لما وافجت تجعدي في بيت الراجل الناجص ده..


نهضت من الفراش وهي تترنح لتحاول التمسك بكف عمها وتتوسله:


ـ يا عمي.. اسمعني.. ارجوك..


أزاحها بعنف فسقطت أرضاً.. بينما صوت زوجته يدوي في شماتة:


ـ هي اللي جليلة شرف.. منتظر إيه من واحدة تربية صالة رجص.. وأمها..


صرخت عليا بقوة:


ـ ما تجبيش سيرة ماما.. ما حدش يجيب سيرة ماما..


تلك المرة جذبها عمها من شعرها لتتوالى الصفعات على وجهها وهو يصرخ بها:


ـ يا جليلة الشرف والرباية.. تروحي تلفي على الراجل اللي لمك في بيته وبعد ما أمك خربت بيته مرة.. جاية أنتِ تكملي عليه وتجري رجله للحرام والمعصية.. لا دين ولا أخلاج.. ولا رباية.. أنتِ في موتك رحمة..


كانت الكلمات موجعة بقدر الصفعات بل ربما أكثر وجعاً.. فرحبت بغياب وعيها وهي تتبين أخيراً.. المكيدة التي حاكتها سهام لها.. فهي لم تخبرهم بزواجها من يزيد بل أقنعتهم بأنها على علاقة غير مشروعة.. بــ عصام.. زوج أمها ووالد يزيد.. وهم صدقوها.. تلك الغريبة التي لم يروها أو يعرفوها قط.. صدقوها.. وحكموا عليها هي.. ابنتهم.. وبقي موعد وكيفية تنفيذ الحكم..


هل دمائهم تجري في عروقها بالفعل؟.. تشك بقوة.. لا عجب أن أباها هرب منهم ليتزوج أمها!.. من يستطيع تحمل تلك القسوة من أقرب الناس إليه؟.. طالما حذرتها أمها منهم.. ومن تحجر قلوبهم.. والآن.. ذهب والدها ومن بعده أمها.. ولم يتبقَ لها أحد.. إلا حبيب ونصف زوج.. تشك في إمكانية إنقاذه لها.. وأقارب يشاركونها اسم العائلة وبضعة فدادين من الأراضي الزراعية هي كل ما يهتمون بها...


****************


عاد حسن من عمله مع آذان العشاء وهو يحمل عدة أكياس بين يديه.. تحتوي على بعض مل طلبته منى.. ليفاجئ بشقيقه جالساً وسط حديقة منى الصغيرة يحتسي كوباً من الشاي وقد جلس معه عم نصر وبدا أنهما منهمكين في حديث طويل...


التفت مازن فجأة لتصطدم عيناه بعينيّ حسن التي ضاقت في تركيز وكأنه يحاول تبين سبب وجود شقيقه_العريس الجديد_ هنا في منزله بدلاً من تواجده مع عروسة.. بينما جرت عينا مازن على ملامح أخيه يلتهمها في شوق واضح.. وقد بدا تأثره من الإرهاق البادي على ملامح حسن.. وملابسه التي فقدت رونقها واحتفظت ببعض أناقتها السابقة.. نهض ببطء ليتوجه نحو شقيقه ولكن منى التي شعرت بعودة زوجها كانت قد خرجت من شقتهما الصغيرة وتوجهت نحو حسن فقطع التواصل البصري بينه وبين شقيقه.. والتفت لزوجته يمد يده إليها بالأكياس ويهمس لها بضعة كلمات فتومئ بصمت وهي تأخذ منه حقيبة صغيرة.. خمن مازن أنها تضم الملابس التي يعمل بها حسن.. ولمح يد منى تضغط برفق ورقة على كتفه قبل أن تدخل إلى الشقة مرة أخرى..


لم يسمعا عم نصر وهو يستأذن متعذراً بموعد صلاة العشاء.. وظلت نظرات الشقيقين معلقة ببعضها.. تحرك حسن قليلاً وفتح ذراعيه على وسعهما فاندفع مازن إليه ليلتقي الشقيقان في عناق ترحيب وعتاب طويل..


وأخيراً همس حسن:


ـ مبروك يا مازن..


ابتعد مازن وهو يخفض بصره أرضاً ويهمس بدوره:


ـ لسه زعلان مني يا حسن؟..


ـ أنا مش زعلان.. ليه بتقول كده؟.


ـ مش أنا اللي بقول.. العتاب في عينيك هو اللي بيقول..


وضع حسن يديه في جيبي بنطاله وتحرك قليلاً حتى وصل إلى سور السطح.. فرمى بنظره إلى الأفق وهو يقول بصدق:


ـ يمكن ليلة امبارح زعلت شوية.. لكن قبل كده لأ..


ـ بس أنت بعدت قوي يا حسن.. همشتني جامد بعد جوازك.. في أوقات كتير حسيت أن يزيد أقرب لك مني أنا أخوك.. حتى أنه اتحول لشبه مرسال بينا..


هز حسن رأسه بنفي تام:


ـ يا مازن أنا بعدت عشانك أنت.. عشان سعادتك مش عشان زعلان منك..


قاطعه مازن بمواجهة آن أوانها:


ـ ليلة الحفلة واللي أنا عملته.. ما ضايقكش.. ما زعلتش أني طاوعتها وخذلتك؟..


سأله حسن بتقرير:


ـ أنت بتحبها.. مش كده؟..


لمحة من عذاب حي التمعت في عينيّ مازن قبل أن يخفيها بسرعة.. ولكن حسن التقطها بقدرة عاشق وفطرة أخ يبحث عن سعادة شقيقه.. فربت على كتف مازن بحنان:


ـ أنت اتصرفت صح.. لو أنا مكانك وجت لي الفرصة أني أكون مع الإنسانة اللي بحبها ما كنتش هتردد لحظة.. وده فعلاً اللي عملته.. أنا خاطرت بكل حاجة في سبيل أني أكون مع منى.. ليه بتلوم نفسك على نفس المخاطرة؟


أجابه مازن بسرعة:


ـ لأن...


ثم سكت وكأنه انتبه إلى شيء ما.. وسأل حسن بخفوت:


ـ أنت كنت عارف أني.. أني.. أني بحبها؟..


هز حسن رأسه بنفي:


ـ عرفت متأخر.. متأخر قوي.. ياريت كنت صارحتني من البداية.. كان حاجات كتير اختلفت..


عادت لمحات العذاب تمر بعينيّ مازن ولم يستطع إخفائها تلك المرة:


ـ ما كانش ينفع.. هي بتحــ.. أقصد كانت بتحمل لك كشاعر و..


قاطعه حسن:


ـ هي موهومة.. وأنت عارف كويس.. بص.. دي مش نقطة نقاشنا دلوقتِ.. لا أنا بلوم عليك سكوتك.. ولا زعلان من موقفك يوم الحفلة.. لكن..


سكت حسن وبدا متردداً في قول ما عنده.. ثم حسم أمره ليقول:


ـ أنت متأكد أنها هتسعدك؟..


أخفض مازن نظره وأسبل جفونه ليغطي على ما ظهر في عينيه من تعبير حائر.. ثم ربت على كتف حسن ورفع نظره إليه وقد غطى قناع من الجمود ملامحه:


ـ ما تقلقش عليّ.. أنا عارف هتعامل معاها إزاي..


لم يبدو على حسن أنه يصدقه وظهر على وجه سؤال حائر.. لم يستطع كبته فانطلق منه بدون إرادة:


ـ ليه؟..


هز مازن رأسه وارتسمت على وجهه ابتسامة حزينة:


ـ من غير ليه!.. أنت ممكن تلاقي ألف مبرر للاعجاب.. لكن لو وقفت لحظة وقدرت تحدد سبب للحب.. يبقى اتحول لأي حاجة تانية.. غير الحب..


تجمد حسن للحظات.. ثم غمغم بهمس:


ـ للدرجة دي يا مازن!..


لم يجبه مازن.. وأدار وجهه بعيداً.. قبل أن يقرر تغيير الموضوع:


ـ ما تشغلش بالك بيّ.. خلينا في الأهم.. أنت لسه مصر على موضوع النقاشة؟..


تكتف حسن بإحساس من على وشك دخول معركة:


ـ مضايقك الموضوع ده في حاجة؟..


ـ أكيد في حلول تانية..


أومأ حسن موافقاً:


ـ أكيد.. بس ده أسرع!


ردد مازن بعجب:


ـ أسرع؟؟


ـ أيوه يا مازن أسرع.. أكيد أنا مش هستمر نقاش طول عمري..


هز مازن رأسه بحيرة وكأن حسن ألقى اليه بــلغز عميق:


ـ فهمني أنت ناوي على إيه؟.. أنا ممكن أدبر لك..


زجره حسن:


ـ مازن.. خلاص.. أنا لازم أفكر أني أدبر لنفسي.. وأحل المشاكل اللي نتجت عن قراراتي.. مش هينفع حد تاني يحمل همي.. أو يحل مشاكلي..


ـ فهمني يا حسن.. أنت بتقلقني بكلامك مش بتطمني..


أخرج حسن زفرة حارة قبل أن يقول:


ـ أنا ناوي على السفر يا مازن..


ـ سفر!


أكمل حسن وكأن مازن لم يقاطعه:


ـ والسفر محتاج مصاريف.. مصاريف كتير.. خاصة أني لازم آخد منى معايا.. مش هينفع أسيبها هنا لوحدها..


ـ وأسرع طريقة هي النقاشة؟..


غمز حسن بعينه:


ـ أنا نقاش شاطر!..


وأكمل مازن عنه:


ـ و...


ابتسم حسن:


ـ و... وبس..


بادله مازن الابتسام:


ـ هو عصبي جداً من بعد ما وصله الموضوع.. درجة عصبيته 44 وشرطة..


ابتسم حسن بمرارة:


ـ قلقان على مظهره قدام الناس واسمه في السوق..


ـ ممكن..


وتردد قليلاً قبل أن يكمل:


ـ امبارح.. امبارح.. تقريباً قربت أصدق أنه كان قلقان عليك أنت.. بس.. أنت عارف.. صعب أني أحدد.. بس يا حسن.. مش معنى كده أني موافق أنك تتبهدل لمجرد إثبات موقف..


ـ لا يا مازن.. مش مجرد إثبات موقف بس.. زي ما قلت لك.. السفر هو هدفي.. النقاشة مجرد وسيلة.. اطمن أنا مركز كويس..


ربت مازن على كتفه وهو يتحرك متوجهاً نحو باب السطح:


ـ ماشي يا حسن.. براحتك.. بس افتكر دايماً.. أن مجموعة العدوي.. لك فيها حق زي.. وأكتر كمان.. و..


قاطعه حسن راغباً في تغيير الموضوع:


ـ أنت هتتعشى معانا الليلة..


ابتسم مازن بتفهم واجاب بهدوء:


ـ الليلة هتعشى مع جدتي.. عايزة تبارك لي..


ـ سلم لي عليها يا مازن..


أومأ مازن برأسه.. وتحرك ليخرج من باب السطح.. ثم عاد ليعانق شقيقه بقوة:


ـ أنا آسف يا حسن.. والله آسف..


وكزه حسن بخفة:


ـ عيب يا ولد.. أخوك الكبير يا ولد..


ابتسما معاً.. وعيونهما يغشاها الدمع..


*************


لم تعرف كم غابت عن الدنيا ولكنها استيقظت على وكزة قوية من زوجة عمها وهي تخبرها بعنف:


ـ جومي.. أم عواد جت.. وهتشوفك دلوجت..


دعكت علياء عينيها بظهر يدها وهي تحاول التحرك فتمنعها آلام جسدها المتفرقة.. وشعرت بقماش ناعم يلقى بوجهها.. فأمسكته لتكتشف جلباب واسع أسود اللون.. أخذت تتأمله بدهشة بينما هتفت بها زوجة عمها:


ـ جومي.. اجلعي المسخرة اللي أنتِ لابساها.. والبسي ده.. أم عواد مستعجلة..


سألت علياء بتردد:


ـ مستعجلة ليه؟.. هي هتعمل إيه؟..


ـ البسي بس..


خرجت وتركتها وحدها فبدلت علياء فستانها بالجلباب الأسود.. رتبت فستانها برقة وهي تتذكر صراخ يزيد عندما وصفته له وتوعده لها بأنه سيمزقه.. ولكن ليس قبل أن يعاينه على جسدها أولاً.. هزت رأسها بخوف.. ماذا سيحدث لها الآن؟.. وهل سيعلم بمكان وجودها؟.. كيف سيعلم ومن سيخبره؟.. وهل سيأتي؟.. هل يهتم بما يكفي ليأتي؟.. أم....


قطع تسلسل أفكارها.. دخول عمتها وزوجة عمها مع سيدة أخرى.. تبدو ملامح وجهها هادئة نوعاً.. ولكنها ملابسها السوداء تبدو مقبضة بشدة..


أمرتها زوجة عمها بخشونة أن تستلقي على ظهرها.. ولكنها تجمدت في مكانها تحت النظرات المتفحصة من المرأة الغريبة حتى فوجئت بعمتها تدفعها بقوة لتسقط على الفراش.. حاولت النهوض ولكن زوجة عمها لفت حول الفراش من الناحية الأخرى لتجذبها وتكبلها كلا السيدتين من كل جهة.. بينما تعرضها تلك السيدة سوداء الملابس لابشع انتهاك قد تمر به أنثى..


تعالت صرختها التي أخرستها لطمة قوية من عمتها وهي تنهرها:


ـ اخرسي يا فاجرة..


ثم وجهت كلماتها الى أم عواد:


ـ وأنتِ كمان.. خلصينا..


انتهت السيدة من فحصها المؤلم وألقت بالغطاء فوق علياء التي تكومت على نفسها متخذة وضع الجنين وهي تشهق ببكاء مكتوم وجسدها ينتفض مع كل شهقة.. أغمضت عينيها علهن يختفين من أمامها.. فهي لم تعد قادرة على تحمل سواد ملابسهن والأصعب قلوبهن الحجرية.. فلم تنتبه لحركة تلك السيدة الغريبة وهي تشير برأسها لعمتها وتقترب منها لتهمس في أذنها بشيء ما جعل عمتها تلطم خديها وتخرج مسرعة.. ليعود معها بعد ذلك عمها صالح وقد التمع الشر والأذى في عينيه ليجرها كعادته من شعرها ولكن تلك المرة تسقط من فوق فراشها وهي تصرخ بألم.. وصفعاته تتوالى على كل ما تصله كفه الضخمة من جسدها.. وتنطلق منه كلمات السباب والشتائم لم تسمعها من قبل وهو يصفها بأبشع ما ذكر في معاجم اللغة.. فأخذت تردد بدون توقف:


ـ مظلومة.. والله مظلومة.. أنا متجوزة.. يزيد اتجوزني.. يزيد.. يزيد..


تصرخ بأعلى صوتها بينما يتجبر عمها ولا يصدق:


ـ اتجوزك.. تلاجيه كان بيصلح غلطة أبوه.. عيلة واطية.. وأنت اوطى يا بنت..


صرخت مقاطعة وصفعة أخرى تسقط على وجنتها فأسالت الدماء من جانب وجهها:


ـ والله يزيد جوزي.. والله..


هم بصفعها من جديد عندما تدخلت زوجته لتمنعه:


ـ بيكفي يا صالح.. هتموتها في ايدك..


ـ موتها حلال..


ـ عايز توسخ يدك بدمها النجس.. ولا تروح أنت جصادها.. دي تربية بنادر وما نعرفش مين هيسأل عليها.. احنا نرميها للواد عبده العلاف.. ونبجى سترنا عرض أخوك..


هتفت علياء بهم:


ـ متجوزة والله أنا متجوزة.. يزيد.. يز..


أخذت تردد اسمه بخفوت.. وكأن ترديد اسمه ما سيحميها من قسوتهم وحكمهم الجائر...


دخل لحظتها مهدي العم الأصغر.. وسمع كلمات علياء المتفرقة فتوجه لأخيه:


ـ طيب يمكن يا خويا تكون صادجة ومتجوزة صُح.. ما نسعل ونتوكد..


سخر صالح منه:


ـ صدجتها يا خوي.. جلبك الطيب حن!


ـ ما هنخسرش حاجة.. مش احسن ما نجوزها وتطلع على ذمة راجل تاني.. ده غير أوراجها كلها عند اللي اسمه عصام ده..


فكر صالح في كلمات أخيه قليلاً:


ـ عندك حق يا أخوي.. والأرض لازم ناخدها بيع وشرا الأول جبل أي حاجة وبعدين نشوف هنعمل معاها إيه..


ثم أشار إلى علياء المتكومة على الأرض وهو يحدث زوجته:


ـ ما تخرجش من الأوضة.. واكلها عيش وميّ..


ربتت زوجته على كتفه وهي تطمئنه:


ـ اطمن يا حاج صالح.. أنا فاهمة هعمل إيه..


خرجوا جميعاً من الغرفة وتركوها وحيدة.. ملقاة على الأرض فلم تملك القوة حتى للزحف لتعود إلى فراشها.. لم تشعر بمعنى اليتم كما شعرت تلك اللحظة.. وحيدة تماماً رغم وجودها وسط أهلها.. غريبة وسط أقارب يهاجهمونها ويتهمونها بما لا تعلم.. يبادرون ليس لحمايتها ولكن لانتهاكها..


وهو.. معذبها الأول.. أول من انتهك.. وأول من ابتعد.. وأول من تركها وحيدة وسط قطيع من ذئاب ينهشها ولا تملك ما تدافع به عن نفسها.. سوى كلمتها والتي يرفض الجميع سماعها..


وبين اليقظة والهذيان شعرت بمن يدخل الغرفة.. ويقترب منها.. لتلمح نصل حاد يلمع في الضوء.. قبل أن تغيب تماماً عن الوعي.. ولسانها يردد اسمه كتعويذة سحرية ربما تحميها من قسوتهم الباردة...


************


على الجانب الآخر كان يزيد يحاول يائساً ولثلاثة أيام كاملة الاتصال بعلياء بلا جدوى.. فهي لا ترد على هاتفها المحمول.. ولا هاتف المزرعة.. وحتى حاول الاتصال بها على هاتف شقتهما_والتي قررت ألا تنتقل اليها إلا وهو معها_ ولكنه أيضاً فشل في الوصول إليها..


كان يظن في البداية أنها غاضبة عليه بسبب صراخه عليها.. ولكن الآن أدرك أن الأمر يتخطى نوبة غضب عابرة.. فيبدو أن حضورها زفاف نيرة أشعل بداخلها الحنين ليكون له زفافها الخاص.. وهي إما غاضبة تلومه ومحرجة من مطالبته بحفل خاص بها.. أو أنها غاضبة لأنه لم يستطع العودة في الموعد الذي أخبرها به.. وقررت أن تعاقبه بخصام.. زفر بحنق فهو كان ينوي العودة إليها بالأمس.. ولكن والده كبله بمجموعة من المهام والأعمال ستستغرق أسبوعاً على الأقل...


حاول مرة أخرى أن يتصل بها.. لتأتي له الرسالة المسجلة التي سأمها.. فاتصل بوالده مباشرة:


ـ بابا.. علياء فين؟..


ـ عليااا؟.. عليا موجودة.. هتروح فين؟


لهفة يزيد الشديدة لم تمكنه من التقاط التوتر في صوت والده.. فأردف بسرعة:


ـ أنا بيتهيألي أنها زعلانة أو ممكن محرجة وبتفكر يكون لها حفلة وفرح.. لو سمحت يا بابا بلغها أني موافق.. واللي هي تطلبه هنفذه.. بس خليها تفتح الموبايل.. عايز اطمن عليها..


لم يعرف والده بم يجبه فهو قرر إخفاء أمر اختطاف علياء عنه.. ففي البداية لم يكن يعرف ما حدث لها.. فقط أنها لم تصل إلى المزرعة بل تغيبت طوال الليل ولم تظهر أبداً..


عند عصر اليوم التالي.. لم يجد بداً من الذهاب إلى الشرطة.. وبعدما استمع له مأمور القسم.. لفت نظره بطريقة غير مباشرة.. بسؤال أعمامها.. أو التحري لديهم أولاً.. ولكنه لم يحتج لذلك.. فقد وصله اتصال من عمها في اليوم التالي.. وكان فحوى الاتصال من أغرب ما يمكن.. وأكال له الرجل اتهامات ووصمه بما لم يخطر على باله.. وعندما أوضح له أن علياء أصبحت زوجة لابنه يزيد.. تعالت صيحات عمها بالتهديد له وليزيد بالانتقام وغسل العار.. أي عار يتحدث عنه هذا الرجل؟.. هل أخبرتهم علياء بفعلة يزيد نحوها قبل الزواج؟.. وهل تذكروا الآن فقط ابنتهم؟.. وفكروا في حمايتها والثأر لشرفها!


صوت يزيد أخرجه من شروده وهو يؤكد:


ـ خلاص يا بابا هتبلغها؟..


صمت عصام للحظات.. ثم حسم أمره.. واجاب بحزم:


ـ هو احنا مش اتفقنا أنك تبعد عنها لفترة.. اللي بتعمله ده اسمه إيه.. البنت محتاجة وقت تراجع فيه نفسها.. حضورها فرح نيرة أثر عليها جامد زي ما قولت.. سيبها تروق على مهلها.. وهي هتبقى تكلمك..


وأغلق الخط بسرعة.. يعلم بأن اخفائه الحقيقة عن يزيد قد يعرض علياء للخطر, ولكنه أب.. يخشى على ابنه من تهديدات أعمام الفتاة.. وعزائه أن عمها اتصل ثانية فاتحاً مجال للتفاوض.. وموضحاً أنهم يهتمون بالأراضي وميراث علياء من والدها.. وهو يحاول معهم جاهداً ليصل إلى حل ينقذ به الفتاة قبل فوات الأوان...


*************** عالفصل الثامن عشر


أخذ مازن يرمق نيرة بغموض وهي جالسة إلى يمينه على مائدة الطعام تعبث بهاتفها كل خمس دقائق.. يتساءل بداخله عما يقلقها هكذا فهي تزم شفتيها بقوة.. وتعبث بخصلات شعرها بدون أن تدري.. وتتحرك يدها أحياناً فتمسك بعنقها للحظات ثم تعود إلى خصلاتها مرة أخرى..


كانت تبدو كتلك الليلة التي اصطحبها فيها لتناول العشاء مع جدته.. لم يظن للحظة أن نيرة تقلق مما قد يظنه الناس بها, إلا أنها بالفعل كانت قلقة من لقاء جدته وكأنها تراها للمرة الأولى.. وبالفعل خيم جو من التوتر الشديد على تصرفات نيرة وحتى جدته تتعامل معها بأسلوب متكلف لم يلحظه عليها من قبل, رغم أنها لم تعلم ما فعلته نيرة في حفل الزفاف, إلا أنها تعاملت برسمية مبالغ بها.. فكانت أمسية كارثية بجميع المقاييس خاصة وأن نفسيته لم تهدأ على الإطلاق بعد لقائه الحزين بشقيقه.. ورغم ذلك حاول احتواء التوتر المخيم على الأمسية حتى استهلك طاقته بالكامل في محاولة يائسة ليمر اللقاء بسلام.. واستغل أول فرصة سنحت له ليرحل مصطحباً زوجته معه..


وعند بوابة الفيلا الخارجية.. أنزل نيرة -طالباً منها ألا تنتظر عودته باكراً_.. وانطلق نحو.. دنيا...


أعاده تململ نيرة وهي تعبث بهاتفها إلى وجوده بمنزله.. على مائدة طعامه تجاوره عروسه.. عروس تبدو مشغولة للغاية بهاتفها..


فألقى بمعلقته فجأة هاتفاً:


ـ يعني مش قادرة تبعدي عن تليفونك ربع ساعة نتغدى فيهم..


رفعت نظراتها إليه لتسأله بلهفة:


ـ هو يزيد رجع مصر؟..


قطب حاجبيه بتساؤل:


ـ بتسألي ليه؟..


ـ بحاول أوصل لعليا بقى لي يومين.. ومش عارفة.. تليفونها مقفول على طول.. فقلت أكيد هو وصل ومشغولة معاه..


ردد مازن بتأكيد وهو يتذكر محادثته ليزيد في ليلة زفافه الكارثية.. ومحادثة أخرى بعد عودته من زيارة حسن:


ـ لا.. يزيد قدامه أربع أيام على ما يرجع..


تمتمت نيرة بعجب:


ـ غريبة!..


رمقها لوهلة وقبل أن يستفسر منها ارتفع رنين هاتفها لترفعه بلهفة ولكنها ما إن رأت اسم المتصل على الشاشة حتى أعادت الهاتف إلى المائدة وعلامات الامتعاض تعلو وجهها.. مما دفع مازن لسؤالها:


ـ ليه ما بترديش؟..


هزت كتفيها باستهانة:


ـ دي مش عليا.. دي صبا..


ـ صبا أختك؟..


مرت في عينيها نظرة نارية.. وأومأت برأسها موافقة.. بدون أن ترد على هاتفها.. حتى اختفى الرنين الذي ما لبث أن ارتفع مرة أخرى.. فقال مازن بلهجة آمرة:


ـ ردي على أختك يا نيرة..


أمسكت هاتفها بامتعاض.. تتمنى لو تخالف أمره, ولكنها حريصة على أن تحتوي غضبه منها.. وتحتفظ بالأوقات التي يتواجد بها معها هادئة قدر الإمكان.. علها تفهم ما الذي يريده منها بالتحديد... فتحت الخط وهي تقول بملل:


ـ خير يا صبا في حاجة؟..


جاءها صوت صبا متردداً وهي تسألها بدورها عن علياء المختفية منذ ليلة زفاف نيرة... مما جعل نيرة تتساءل بصوت نضحت منه الغيرة:


ـ وأنتِ بتسألي على عليا ليه؟..


ـ فريدة عايزاها.. موضوع بخصوص لوحات ورسم..


تشبعت أعماق نيرة بغيرة غاضبة.. وهي تستمع لكلمات صبا.. فهي لا يخفى عليها تعلق علياء بالرسم.. فهل ستسرقها فريدة منها كما سرقت والدها من قبل.. إلا أن أفكارها توقفت فجأة وكلمات صبا تتوالى:


ـ عليا مختفية يا نيرة.. مش موجودة في المزرعة ولا في أي حتة.. وبعد محاولات مع غفير المزرعة فريدة عرفت منه أن عليا ما رجعتش المزرعة من ليلة فرحك.. أنتِ تعرفي حاجة عنها؟...


ابتلعت نيرة ريقها بتوتر:


ـ استني.. ثواني كده فهميني..


كررت صبا نفس الكلمات على نيرة ببطء وتفسير أكبر وهي تحكي لها محاولة فريدة للوصول إلى علياء بكل الطرق.. حتى تيقنت أخيراً من اختفاء علياء..


أغلقت نيرة الهاتف مع صبا.. بعد أن وعدتها بإبلاغها بأي معلومة تصل إليها وتخص علياء..


سألها مازن على الفور:


ـ حصل إيه؟.. عليا فيها حاجة؟..


لم تجبه وأخذت تعبث بهاتفها.. فسحبه منها وهو يعيد سؤاله:


ـ في إيه؟.. إيه مشكلة عليا؟..


قصت عليه ما أخبرتها به صبا ومدت يدها تطلب هاتفها وهي تقول بتوتر:


ـ هات التليفون يا مازن لازم أكلم أونكل عصام.. أكيد عنده أخبار..


رمقها بنظرة غامضة قبل أن يقول:


ـ أنا اللي هكلمه..


مكالمة سريعة مع عصام.. بعدها ارتسمت معالم القلق على وجه مازن.. والتفت إلى نيرة التي كانت تسأله بلهفة:


ـ خير.. قال لك إيه؟..


رفع نظره إليها وظهرت عليه معالم التفكير العميق قبل أن يحسم أمره.. ويتصل بيزيد قاصاً عليه كل ما يعرفه وختم كلماته:


ـ أنا لسه قافل الخط مع والدك.. وبيتهيألي هو عارف حاجة.. بس مش عايز يقول..


أغلق الخط لينظر إلى نيرة التي كانت في شدة لهفتها.. وأخبرها بهدوء:


ـ يزيد هينزل على أول طيارة..


سألته بقلق:


ـ هو الموضوع خطير قوي كده؟..


أجاب بغموض:


ـ ربنا يستر.. أنا هروح لعمي عصام الشركة جايز أقدر أجيب أي معلومة منه..


خرج مازن متوجهاً إلى مجموعة الغمراوي في نفس اللحظة التي كان يهتف بها يزيد بأبيه على الهاتف:


ـ علياء فين يا بابا؟..


تلعثم عصام كان شديد الوضوح تلك المرة لأذنيّ يزيد وهو يقول:


ـ عليا.. إحنا هنرجع تاني للموضوع..


قاطعه يزيد بقوة:


ـ أنا عرفت كل حاجة..


هتف عصام بقلق:


ـ مين قالك؟.. هو عمها صالح كلمك؟..


أغمض يزيد عينيه بألم وهو يردد:


ـ أعمامها؟؟..


وقبل أن يرد عصام بأي كلمة كان يزيد قد أغلق الخط...


***************


كان حسن منهمكاً في إنهاء آخر بقعة من الجدار المواجه له.. بينما قرر باقي زملائه التجمع من أجل الراحة مع كوب من الشاي الأسود حتى يستطيعوا إنهاء العمل في موعده.. أخذ حسن يستمع إلى أحاديثهم الودية وبسمة هادئة ترتسم على شفتيه بينما يعتذر لهم بلطف عن مجالستهم لرغبته في إنهاء عمله والذهاب إلى منزله...


تقدم منه أحد زملائه وهو يبتسم بغموض.. مقدماً له لفافة سجائر غريبة الشكل:


ـ بنمسي يا بشمهندس..


التفت حسن إليه:


ـ متشكر يا أسطى سُمعة.. أنت عارف ما بدخنش..


وكزه سُمعة بمرفقه وهو يقول:


ـ وده دخان برضوه.. دي حاجة هتريحك وتروق مزاجك..


ابتسم حسن معتذراً مرة ثانية.. بينما ظل سُمعة على إلحاحه محاولاً اقناع حسن:


ـ صدقني يا هندسة.. دي اللي هتخليك تتحمل الوقفة على كعوبك طول النهار.. وهتنسيك ريحة التنر والزيت.. هتروقك وتعلي مزاجك..


وقبل أن يجبه حسن سمعا الاثنان صوت المعلم محمود.. المقاول المسئول عن تشطيب البرج السكني الذي يعملان به وهو يرحب بشخص ما بصوت خاضع:


ـ يا ألف مليون أهلاً وسهلاً.. نورتِ الدنيا كلها يا ابتسام هانم..


والتفت إلى أحد العمال:


ـ كرسي بسرعة للهانم...


جاء صوت الهانم مشمئزاً وهي تقول:


ـ ما فيش داعي يا معلم محمود.. أنا جاية أشوف إيه آخر أخبار الشقة..


ودارت بعينيها في أنحاء الشقة حتى توقفت نظراتها على حسن.. الذي توقف عن عمله وكتف ذراعيه ليتأمل المتطفلة المدللة بشعرها الأشقر المصبوغ وزرقة عيونها المزيفة.. لم تكن تضع الكثير من الزينة إلا أن طريقتها وملابسها القصيرة جداً _والتي رسمت خريطة جسدها واضحة لتلتهمها نظرات الرجال الشرهة_ ذكرته نوعاً ما بنيرة.. مما تسبب بنفور وامتعاض فوري بداخله, ولكنه حاول جاهداً السيطرة عليه وبينما هو يحاول السيطرة على رد فعله الرافض لتلك المرأة وجدها تحدق به بطريقة فجة..


كانت نظراتها تنطق بأفكارها القذرة وهي تجري بها فوق قامته الطويلة وكتفيه العريضين.. وكأنها تعريه من ملابسه لتتخيل ما تخفي تلك الملابس تحتها من جسد رياضي ممشوق وعضلات منحوتة..


أخرجت لسانها لترطب به شفتيها وكأنها تستمتع بمذاق قبلاته التي يصورها لها خيالها الجامح.. وبدا توهج وجهها دليلاً قوياً لشعورها بالإثارة.. تأملته للحظات.. وهي تفكر.. قد يكون عامل نقاشة ولكنه وسيم ومثير حقاً وهي تريده.. وطالما تعودت على نيل ما تبغى..


توجهت نحوه وعيناها تنهل من وسامته البارزة وسط عمال النقاشة وزاد في بروزها التي-شيرت الأسود الذي كان يرتديه.. وقفت أمامه مباشرة لتسأله:


ـ أول مرة أشوفك هنا.. يا...


أكمل لها المعلم محمود بسرعة:


ـ ده البشمهندس حسن.. بيشتغل معانا جديد.. هو مهندس صحيح.. بس نقاش ممتاز.. أحسن واحد عندي.. بس ده تربية عز وحياتك يا هانم..


ابتسمت وهي تقترب أكثر وتمد يدها لتمسك كتف حسن وتتحسسه بوقاحة:


ـ عندك حق يا معلم محمود.. شكله ابن عز فعلاً..


ثم التفتت لحسن:


ـ أنت اللي هتبقى مسئول قدامي عن تشطيب الشقة دي بالذات.. صحيح البرج كله بتاع دادي.. لكن الشقة دي هتكون بتاعتي.. وعايزاك تشطبها على ذوقك..


تراجع حسن خطوتين حتى يبتعد عن مرمى يدها وهو يخبرها بهدوء:


ـ الأفضل يا فندم أنك تحددي طلباتك بالظبط.. والمعلم محمود هو ريسنا كلنا.. وهنفذ طلباتك بالحرف..


أطلقت ضحكة عالية وهي تكرر كلمته:


ـ طلباتي!!..


ثم غمزت بعينها وهي تهمس له بدون خجل:


ـ لون عيونك!..


تعالت ضحكات العمال.. بينما اتسعت ابتسامتها:


ـ عايزة ألوان الديكورات تكون لون عيونك..


وعادت تطلق ضحكاتها العالية وهي تتلمس ذقنه بشغف.. وتتحرك لتخرج من الشقة وهي تلوح له بأصابع ذات أظافر مطلية بعناية:


ـ تشاو.. يا بشمهندس.. هعدي عليك بكره.. عشان نتفق...


وغمزت بعينها:


ـ على تنفيذ طلباتي..


خرج المعلم محمود خلفها مباشرة.. بينما وقف حسن يتأمل المكان الذي اختفت فيه تلك الوقحة بذهول... وشعر بوكزة سُمعة وهو يخبره بعبث:


ـ يظهر أنك دخلت مزاجها قووي.. صحيح هي وشها مكشوف.. لكن أول مرة تكون بالصراحة دي..


ـ صراحة!.. قصدك بجاحة..


ضحك سمعة:


ـ يا عم ما تبقاش مقفل.. هو أنت بنت بنوت هتخاف على نفسك..


ـ أنت بتقول إيه!.. أنت ناسي إني متجوز..


ـ وماله.. أنت شوفتها طلبتك للجواز.. أنت فاهم غرضها كويس.. و..


قاطعه حسن بغيظ:


ـ قفل على الموضوع ده يا أسطى سُمعة.. أنا مش بحب الطريقة دي في الهزار..


والتفت ليكمل عمله.. وأفكاره تتشتت فيما حدث للتو.. لقد التقى بآكلة رجال.. وهي أوضحت بدون خجل.. أنها ترغب به.. كوجبتها التالية...


*********


لفت علياء نفسها بذراعيها وهي تجلس مرتجفة بجوار يزيد وهو ينطلق بالسيارة بسرعة مخيفة.. وكأنه يريد الابتعاد بها عن قسوة الذكريات التي عاشتها في ذلك المكان.. كان يرمقها بقلق.. ويعود للتركيز على الطريق.. ثم ما يلبث أن يعاود النظر إليها مرة أخرى... وهي ترتجف بلا توقف ودموعها تغسل وجهها.. شفتيها تتحركان بكلمات هامسة.. يكاد يجزم إنها مناجاة لوالدتها..


يريد أن يضمها إلى صدره.. يجمعها بين أحضانه.. يمنحها دفء وأمان يعلم أنها تحتاجه.. ولكنها ترفض أي لمسة أو تقرب منه.. يتقوس جسدها في رد فعل رافض لاقترابه منها فيضطر للابتعاد عنها حتى لا يتسبب لها في مزيد من الأذى والألم..


عاد يتأملها.. جسدها الصغير المكدوم بقسوة وقد التف بثوب كالكفن الأبيض والمسمى.. ثوب زفاف.. وجهها الذي لم يفقد فتنته وبراءته برغم الجروح والكدمات المنتشرة به... يا إلهي.. ماذا فعلوا بها؟.. هل نزعت الرحمة من قلوبهم؟.. ألا يرون كم هي ضعيفة ومكسورة.. ضرب على مقود السيارة بعنف.. وهو يلقب نفسه بأبشع الأسماء ويتهمها بأقسى التهم.. لقد تركها.. تركها وابتعد وظن أنه بذلك ينظم حياتهما معاً.. ولكنه كان غبياً ولم يعمل حساب لتدخل أعمامها... ليته يعلم فقط كيف وصلوا إليها.. ومن أخبرهم تلك الترهات عن تورط علياء بوالده..


لا يتذكر بالضبط تفاصيل وصوله إلى بلدتها.. فهو بمجرد أن أغلق الهاتف مع والده.. لم يشعر بنفسه إلا وهو بمطار القاهرة.. ليجد مازن أمامه ومعه نيرة التي كانت ترمقه بنظرات نارية.. ومازن يهمس له أنه أعد كل شيء كما اتفقا.. وأرسل بالفعل عدة سيارات محملة بالرجال إلى بلدة أعمامها وهم الآن على أعتاب البلدة في انتظار وصول يزيد, ومتأهبون للتدخل عند إشارة منه..


رمقه يزيد بضياع ليهتف مازن متعجباً:


ـ في إيه يا يزيد.. مش أنت اللي كلمتني قبل ما تطلع الطيارة ورتبت معايا اللي هنعمله..


قاطعه يزيد بتوتر مرتعب:


ـ تفتكر.. أنهم.. ممكن.. ممكن.. يأذوها؟.. يمو..


قاطعه مازن وهو يمد يده بمفتاح سيارة:


ـ ركز يا يزيد.. هما مش أغبيا... وواضح هدفهم إيه.. هما عايزين الأرض.. ارميها لهم وخد مراتك..


ظل مازن ماداً يده بالمفاتيح ويزيد يتخبط في هواجسه المرعبة فدفع المفاتيح في يده:


ـ دي مفاتيح عربيتي.. اطلع بيها وأنا ونيرة وراك.. والرجالة سبقونا زي ما قلت لك..


انطلق يزيد بالسيارة متجاهلاً مكالمات والده التي لم تنقطع.. وكذلك رسائل ريناد.. لقد أرسل لها رسالة واحدة بمجرد وصوله الى القاهرة يخبرها فيها بسفره المفاجئ.. وأعقبها برسالة لوالده يعلمه فيها بتوجه الى بلدة علياء..


وقبل أن يدخل القرية بمسافة معقولة فوجئ بوجود والده الذي قرر الذهاب مع ابنه ومساعدته.. ووضح ليزيد الصورة كاملة... فازداد غضبه على نفسه لأنه وافقها في عدم إقامة حفل زفاف, ولكنه حمد ربه أنه يحمل عقد الزواج معه..


أصر بشدة على مقابلة أعمامها بمفرده.. عارض والده كثيراً.. ولكن يزيد كان في حالة من الغضب والإصرار لم تسمح لأحد بمعارضته حتى أنه رفض اصطحاب مازن معه وأخبره باقتضاب:


ـ خليك مع الرجالة ولو لقيت الوضع معقد هكلمك تجيبهم وتيجي..


استقبله أعمامها بعداوة وبغض واضح.. ولكنه لم يهتم.. يفهمهم جيداً ويدرك ما يريدون.. وسيمنحه لهم.. فقط يريدها هي.. لذا قرر اتخاذ المبادرة وهاجم عمها صالح بغضب:


ـ فين مراتي؟....


سخر منه الرجل بلامبالاة وهو يتحصن بعدد من الرجال خلفه:


ـ مرتك!.. مرتك كيف وبأمر مين؟..


تحرك ليواجه عمها بحسم:


ـ مراتي بقسيمة الجواز دي..


ومد له صورة ضوئية لعقد زواجه من علياء..


سكت صالح لفترة وهو يتطلع إلى عقد الزواج:


ـ بس الكلام اللي وصلنا غير كده..


ـ اللي وصلك إشاعات قذرة..


ـ مش أوشاعات.. اللي بلغني حد موثوج فيه..


أجابه يزيد وهو لا يعلم كم أصاب بكلماته:


ـ اللي بلغك بيدور على الدم.. وبلاش تنولهاله.. أنت عايز أرضك.. وأنا عايز مراتي.. يبقى متفقين..


سكت لحظة ونظراته تتركز على مجموعة الرجال.. ثم قال لصالح بتأكيد:


ـ أعتقد أنك أتأكدت إنها مراتي.. نقعد بقى ونتفاهم.. أنا مش عايز غير مراتي.. وتحت أمركم في كل طلباتكم..


ـ وإحنا هنتفاهم معاك أنت ليه؟.. فين بوك؟..


ـ الكلام معايا أنا.. أنا جوزها وأي مسائل قانونية هحلها بس تروح معايا الليلة..


وبالفعل.. تمت المفاوضات _كما أطلق عليها سراً_ معه هو.. حيث بدا اهتمامهم جلياً بالأراضي التي تخص علياء.. وقدمها لهم يزيد بدون نقاش.. واعداً نفسه أن يعوضها عنها بمجرد أن تبلغ الحادية والعشرين..


ثم بدأت طلباتهم تتزايد.. فأرادوا.. مهر.. شبكة.. مؤخر.. باختصار بدا أنهم يريدون كسب كل ما يمكن من وراء إتمام تلك الزيجة.. ووافق بدون معارضة فهو لم يكن يعلم أن موافقة أعمامها ما هي إلا خضوع لنساء الأسرة اللاتي قررن التخلص من وجود علياء بأي طريقة.. فهي تمتلك من الجمال والفتنة ما جعل كل واحدة منهن تخشى على رجلها أو أبنائها منها.. وخاصة بعد الخبر الذي زفته إليهن أم عواد.. فقد حسمن الأمر.. بضرورة إبعادها فلن يحمل أي من أبنائهن حِمل الفتاة.. وعارها..


وافق على كل طلباتهم بدون نقاش.. حتى حفل الزفاف التقليدي الذي أرادوه.. ولكنه اشترط أن يراها ويخبرها بنفسه.. ولم يعترضوا.. فهم حصلوا على ما أرادوه من خلفها ولم يعد يهمهم إلا إنهاء الموضوع بما يليق..


أصرت عمتها على مرافقته ومعهما عمها الأصغر مهدي فاصطحباه إلى غرفتها والتي ما إن دلف إليها ورآها حتى تجمد في مكانه.. لا يصدق أن فراشته الرقيقة هي تلك الكتلة الضئيلة والتي ترتدي السواد بداية من وشاحها الأسود الكبير إلى جلباب واسع يكاد يخفيها تماماً.. لولا لونه القاتم الذي ناقض بشرتها الشاحبة ما ميز وجودها داخله..


أجبر قدميه على التحرك خطوات بطيئة أولاً.. ثم ما لبث أن أسرع لاهثاً نحوها.. ركع على ركبتيه أمام الفراش الذي تكومت فوقه.. ليكتشف مع اقترابه كم الجروح والكدمات التي تملأ وجهها.. تكورت قبضتيه بعنف وهو يحاول منع نفسه من الذهاب إليهم لينتقم لها من كل خدش, لكنه يعلم أن خروجه بها من ذلك المكان يعتمد على تحكمه في غضبه وثورته..


مسح بيده على وجهها وناداها برفق:


ـ علياء..


لم تصدق علياء نفسها وهي تسمع همسته.. ظنت أنها تحلم بوجوده لينقذها.. ولكن رائحة عطره التي تحفظها جيداً كانت واضحة جداً.. حقيقية جداً بالنسبة لحلم..


عاد يهمس بخوف:


ـ علياء..


حركة بسيطة من أجفانها المغلقة أنبأته أنها تسمعه.. فعاود النداء:


ـ علياء ردي عليّ..


حركة ضئيلة أخرى من أجفانها ولكنها مصرة على عدم فتح عينيها.. تحرك ليجلس بجوارها في الفراش ورفعها من رقدتها ليضعها على صدره.. ويزيح بيده الوشاح من فوق رأسها.. لحظتها اتسعت عيناه بألم وهو يرى شعرها الجميل وقد اختفى بعد أن تم قصه بطريقة بدائية وهمجية..


شعرت علياء بيده تزيح الوشاح من فوق رأسها فارتعش جسدها وهي تتخيل نظراته عندما يرى شعرها الطويل وقد اختفى.. لم يبقَ منه إلا خصلات قصيرة مقصوصة بهمجية وعشوائية.. شعرت بأنفاسه تتسارع غضباً.. فشهقت بضعف..


وصلته شهقتها الضعيفة فأخفض بصره ليلتقي بزرقة عينيها وقد غشيتها نظرات الوحدة والخوف.. الألم والرعب.. وعتااااب وولوم بلا نهاية ممتزج بنداء استغاثة جعلها تغلق أجفانها عليه وكأنها لا تصدق أنه أتى بالفعل من أجلها..


خلل أصابعه في خصلاتها المشعثة.. فعادت تفتح عينيها لتواجه نظراته وعندها لم تستطع التحمل فانفجرت في نوبة بكاء دمرت تماسكه الهش من البداية فضمها لصدره بقوة هامساً:


ـ هششششش... هنبعد عن هنا في أسرع وقت..


لم تجبه بشيء واستمرت في البكاء.. بينما أصابعه تتحسس جروح وجهها العديدة.. وهنا تعالى صوت عمتها:


ـ اتحشمي أنتِ ورجلك..


التفت يزيد نحوها وقال بقسوة وحزم مخاطباً مهدي:


ـ من فضلك.. عايز أكلمها على انفراد..


ابتسمت السيدة باستخفاف تقريباً قائلة:


ـ جول اللي أنت عايزه.. وحد مانعك!


بنبرة باردة كالصقيع أجاب يزيد:


ـ عايز أكلم مراتي لوحدها..


رأى مهدي يهمس لها بشيء ما وعلى إثره خرجت عمتها بغضب وتركت الباب مفتوح.. ذكره موقفها بنيرة في ذلك الصباح بالمزرعة ولكنه لم يبتعد ليغلق الباب تلك المرة بل أعاد نظراته لعلياء التي عاودت إغلاق عينيها فقبلهما برقة وهو يهمس:


ـ سامحيني.. والله ما كنت أعرف.. والله ما كنت أعرف..


ظل جفناها مغلقين ودموعها تجري على وجنتيها الجريحة فقرب شفتيه يمسح بهما دموعها:


ـ افتحي عينيكِ يا علياء.. شوفيني..


ضغطت على جفونها بشدة وكأنها ترفض طلبه.. بينما ازداد انهمار دموعها.. فركن جبهته فوق جبهتها بتعب وهو يهمس:


ـ مش عايزة تفتحي عيونك ولا تكلميني كمان.. عندك حق.. بس يا ريت تسمعيني عشان نخرج من هنا بسرعة..


زادت دموعها.. وارتفع صوت شهقاتها قليلاً.. إلا أنها أصرت على عدم الرد عليه أو حتى فتح عينيها.. فعاد يهمس:


ـ علياء.. أنا عارف تفكيرك من ناحية الفرح والفستان والكلام ده.. بس دي الخطوة اللي باقية عشان أخدك من هنا.. أنا اتفاهمت معاهم على كل حاجة.. باقي بس موضوع الفرح ده.. ساعتين استحمليهم ونمشي أرجوكِ..


هزت رأسها بعنف فتطايرت خصلاتها المشعثة القصيرة لتغطي عينيها المستمرة بالبكاء.. ولكنه أمسك وجهها بين كفيه وهو يوقف حركتها الرافضة.. ويطبع قبلة طويلة على شفتيها.. لم تستجب لها فهمس أمام شفتيها وأصابعه تنغرز بين خصلاتها:


ـ عاقبيني زي ما أنتِ عايزة.. أما نكون في بيتنا.. بس اسمعي الكلام وجاريهم في موضوع الفرح..


ظلت تحرك رأسها برفض بينما استمر هو في همسه لها حتى هدأت بين ذراعيه وخضعت مضطرة لمراسم زفافها الصوري.. ارتدت ذلك الثوب الأبيض البغيض الذي لف جسدها كالكفن.. بينما غطت وجهها المكدوم بطرحة بيضاء شفافة.. وها هو ينظر إليها الآن وهي بجواره في سيارة مازن.. وقد قاربا على الوصول إلى شقتهما.. ولكنها مازالت ترفض التواصل معه بكل الطرق.. فحتى نظراتها تهرب بها منه.. عاد بعينيه إلى الطريق الذي لم يشعر بطوله فقد شغلته مراقبة علياء طوال الوقت.. التفت لينظر إليها مرة أخرى ولكنه فوجئ بوجهها وقد احتقن بشدة وهي تضغط على شفتيها بقوة وكأنها تحاول منع آه ألم.. أفلتت منها برغم ذلك وهي تهمس:


ـ بنزف يا يزيد.. دم.. بنزف..


************


ظل يزيد يجوب أروقة المشفى كأسد حبيس فهو منذ سمع منها كلمة "بنزف".. فقد إدراكه بكل ما حوله ومن حوله.. ولم ينتبه إلا وهم بالمشفى بالفعل ومازن يتولى الأمور.. بينما تمسك بعلياء رافضاً الابتعاد عنها.. حتى هتفت به نيرة في حنق:


ـ أنا هدخل معاها.. أبعد أنت بس..


ظل يجوب الردهة أمام حجرة الكشف بالمشفى ومازن يحاول جاهداً تهدئته.. حتى خرجت الطبيبة إليهما تجاورها نيرة..


بدأت الطبيبة كلماتها موجهة حديثها لمازن فهي صديقة وزميلة دراسة قديمة له:


ـ الحمد لله.. النزيف كان بسيط وقدرنا نوقفه.. الجنين بخير دلوقتِ..


هتف يزيد بقوة مقاطعاً:


ـ جنين!!.. هي علياء حامل؟..


رمقته الطبيبة بنظرة نارية وتعاود الحديث إلى مازن:


ـ هي محتاجة راحة لفترة بسيطة.. بس أنا ملاحظة..


قاطعها يزيد مرة أخرى:


ـ كلميني أنا.. دي مراتي..


فقدت الطبيبة أعصابها وهي تصيح به:


ـ من فضلك يا أستاذ.. أنا بحاول أتحكم في أعصابي أني ما بلغش البوليس.. مع أنه واجب علي أني ابلغ.. أنا بس عاملة خاطر لمازن..


هتف يزيد بتعجب:


ـ تبلغي البوليس!.. ليه؟..


ثم خبط جبهته بكفه منتبهاً:


ـ عشان الجروح والكدمات!.. أنتِ فاهمة إني السبب؟.. لأ طبعاً.. اتكلم يا مازن..


تدخل مازن مخاطباً الطبيبة:


ـ فعلاً يا ولاء.. كلام يزيد صح.. الجروح والكدمات دي مجرد حادثة و..


قاطعته الطبيبة:


ـ وقص شعرها حادثة برضوه يا مازن.. بص.. أنا منتظرة إنها تفوق ووضعها يستقر.. وهفهم منها كل حاجة.. ولو جوزها سبب للي هي فيه ده.. صدقني مش هسكت.. و..


قاطعتها نيرة تلك المرة وهي تخاطبها بنبرة حانقة:


ـ ما هو قالك يزيد هو اللي جوزها.. إيه مش شايفة غير مازن ليه؟..


رمقها مازن بعجب فهو لأول مرة يستشعر الغيرة في نبرتها.. ولكنه قرر تجاهل ذلك مؤقتاً.. وعاود الحديث إلى ولاء.. حتى أقنعها أن تسمح ليزيد برؤية علياء..


وقف يزيد أمام فراش علياء يتأملها في قلق.. بينما جاءه صوت نيرة من خلفه:


ـ بتتفرج على ضحيتك.. مش حاسس بأي تأنيب ضمير؟.. ده لو في ضمير من البداية..


أجابها وعيناه معلقة بوجه علياء الشاحب:


ـ تقدري تروحي يا نيرة.. أنا هبات معاها في المستشفى.. أكيد أنتِ تعبانة ومحتاجة ترتاحي..


تحركت نيرة لتجلس على الأريكة المواجهة للفراش.. واضعة ساقاً فوق الأخرى.. وأخذت تعبث بأظافرها في ملل وهي تخبره:


ـ لا.. مش همشي.. أنا كمان عايزة أطمن عليها..


التفت ليرمقها للحظات ثم توجه نحو فراش علياء.. وخلع حذائه ليرتقي الفراش بجوار علياء النائمة بعمق.. فالتصق بظهرها وأزاح الوسادة ليستبدلها بذراعه ويريح رأسها فوقه ماراً بأنامله فوق ملامحها البريئة.. حاجبيها.. جفنيها المغلقين.. وجنتها المشبعة بالجروح والخدوش الصغيرة.. ومال بشفتيه لاثماً تلك الخدوش.. فأتاه صوت نيرة متبرماً:


ـ ما تحترم نفسك.. أنت مش واخد بالك إني موجودة..


رفع شفتيه عن وجنة علياء وهو يخبرها بغيظ:


ـ قلت لك روحي.. أنتِ اللي مصرة تقعدي..


ثم عاد ليلتفت لعلياء وأخرج من جيبه السلسلة ذات الدمعة الماسية الصغيرة والتي أصر على أخذها من أعمامها _بعدما سلبوها إياها_ وأعادها إلى عنقها مرة أخرى.. متلمساً إياها برقة.. وأنامله تتحسس عنقها وقد ظهر طوله الملفت ورشاقته..


سمع صوت الباب يغلق بعنف.. فابتسم بشقاوة.. وهو يغرق بشفتيه كلية في روعة عنقها ويهمس:


ـ ياه.. حماتي دي صعبة قوي.. كنت فاكرها مش هتتحرك..


عدل وضع علياء بين أحضانه وهو يهمس لها:


ـ أنا عارف أنك صاحية.. صحيتِ وقت ما لبستك السلسلة..


لم يصله منها أي رد.. فقط تنفسها السريع أوضح أنها مستيقظة بالفعل.. فعاد ليتذوق عنقها بمتعة.. وهو يضمها إليه أكثر.. ممسداً بطنها بكفه الكبير:


ـ ابننا هنا.. حافظتِ عليه بأمان.. أنتِ كنتِ عارفة, صح؟..


لم تجبه أيضاً.. وهو يمنحها كل العذر.. ولكنه غير قادر على الابتعاد عنها.. فقط يريد البقاء ملتصقاً بها هكذا.. معتصراً إياها لتبقى بين ذراعيه إلى الأبد:


ـ ليكي حق تزعلي.. خودي حقك مني وأنتِ في حضني.. ما تبعديش يا علياء.. أنا كنت هتجنن لما عرفت اللي حصل.. ومش هسكت إلا لما أعرف مين السبب.. وأجيب لك حقك منه..


هنا لم تستطع علياء كبت دموعها أكثر فسقطت بغزارة وهي تعلم أنه لن يستطيع فعل شيء إذا علم أنها والدته من سلمتها لأهلها وكانت تهدف لقتلها وليس إيذائها فقط.. ولكن ما أنقذها حقاً هو الطمع المتأصل في نفوسهم الشرهة..


شعرت بشفتيه تغزوان عنقها مرة أخرى.. وأسنانه تنغرز برقة في شحمة أذنها.. بينما ذراعه الحرة تحرر كتفها من رداء المشفى.. ليداعب برقة الخدوش المنتشرة على كتفيها وهو يهمس بحرقة:


ـ كلميني.. ردي عليّ بس.. احكي لي عملوا فيكي إيه.. صدقيني سكوتك بيعذبني.. ولو عايزة تعذبيني أكتر احكي لي.. قولي كل اللي جواكي..


شعر بجسدها ينتفض بين ذراعيه وهي تشهق ببكاء مكتوم ما لبث أن ارتفعت وتيرته وهي تضغط جفونها بشدة حتى لا تفتحها وتقابل نظراته الملهوفة عليها.. تخشى أن تضعف أمامه.. تخشى من قلبها الأحمق.. من جسدها الخائن الذي يعلن انتمائه له بلا خجل.. من عقلها الذي يغيب أمام همساته.. غبية هي.. غبية ومقهورة بحبها البائس.. 


الفصل التاسع عشر

والفصل العشرون

اتخذت علياء وضع الجنين في رقدتها كما اعتادت في الأيام الأخيرة وظلت تحاول العودة إلى النوم بدون فائدة.. فما أن تغمض عينيها حتى ترى أمامها وجه عمتها وهي تمسك بالمقص لتغتال خصلاتها الطويلة.. وتهمس لها بغل أنها ستسلبها كل ما يميز جمالها عن سائر نساء العائلة, ذلك الجمال الذي ورثته عن أمها "الساقطة" كما رددت عمتها.. وبعدما انتهت جذبت سلسلة يزيد من عنقها بعنف وهي تخبرها أن العهر لا يستحق المكافأة..


حاولت ضم نفسها بذراعيها تعوض بهما عن ذراعيه اللتين أحاطتاها طوال الليل.. منحها الدفء والأمان لا تنكر.. لكن هناك تلك القطعة من الصقيع والتي تشبه الخنجر مازالت تدمي روحها, تجعلها غير قادرة على التواصل معه.. أو حتى النظر إليه.. حالة من الصمت تمسكت بها وهو تقبلها بتفهم وظل ملتصقاً بها طوال الليل.. يطمئنها بوجوده كلما استيقظت فزعة هاربة من عذاب جديد أو تنكيل بها.. يضمها بين ذراعيه لتستكين برأسها على صدره فتهدأ قليلاً.. حكى لها كيف علم باختفائها وكيف اتفق مع أعمامها.. اعتذر منها لتفريطه في الأرض.. وشرح لها تلك كانت الطريقة الوحيدة ليعود بها إلى بيتهما.. أقسم أن يعوضها عن الأرض وما سلبوه منها.. وكأنها تهتم.. وكأنه يدرك ما سُلِب منها.. ليس الأمان ولا الطمأنينة فهما ضاعا مع موت والديها.. أو كونها ذات أهمية لأحدهم.. فهي تعودت الحياة على الهامش.. لكن الأيام الماضية أثبتت لها كم هي رخيصة بالفعل.. لا تساوي إلا حفنة من الأموال وطين أرض..


رائحة عطرية ثقيلة اخترقت أنفاسها وصوت حذاء ذو كعب عالٍ أكد لها أنها لم تعد بمفردها في الغرفة.. فيزيد أخبرها بهمس أنه سيذهب ليبدل ملابسه, ونيرة قررت الذهاب وإحضار العدة اللازمة لتعيدها إلى أنوثتها كما أخبرتها.. ولم تقبل جدال..


التفتت علياء ببطء لتواجه عينين ممتلئين بالكراهية والحقد وصوت سهام يدوي بكل مقت الدنيا:


ـ حقيقي.. زي القط بسبع أرواح!..


انكمشت علياء على نفسها وأحاطت بطنها بذراعيها تحمي طفلها بدون إرادة منها وهي تهتف بخوف:


ـ ابعد.. ابعدي.. عني.. أنا عـ..ا.ر.فـ..ــة.. عارفة كـــ..ل حــ..اجة..


كتفت سهام ذراعيها وأجابتها بسخرية:


ـ وناوية على إيه إن شاء الله!.. تحكي ليزيد عشان تبعديه عن أمه الشريرة!


وأطلقت ضحكات عالية جعلت علياء تعتقد أنها لم تكن في حالة عقلية سليمة.. وأردفت بغل:


ـ وتفتكري يزيد ابني.. هيصدقك.. أو يصدق كلامك؟.. أعمامك نفسهم ما جابوش سيرتي.. فكروا إزاي يجمعوا من وراكي قرشين.. زي أي واحدة مومس أهلها بيتاجروا بيها..


سقطت دموع علياء وشعرت أنها ستختنق بغصتها.. فسهام تضغط على جرحها بشدة.. لاحظت سهام صمتها ودموعها التي بدأت تهطل.. فاستمرت بقسوة كلماتها.. وكأنها تريد أن تكمل انتقامها:


ـ للأسف أهلك طلعوا في منتهى الرخص.. كان لازم أتوقع كده.. فكروا في مكاسبهم وبس.. بذمتك حاسة بإيه وأهلك بيطلبوا أنك تدفعي تمن جوازك من ابني أرضك وكل ما تملكي..


رغم قسوة كلمات سهام إلا أن شيء ما جعل علياء تنتفض لتواجه القسوة الموجهة إليها.. لم تعرف من أين امتلكت القوة.. ربما طفلها هو من يحثها على المقاومة.. ربما كثرة جراحها لم تدع مكاناً لجرح آخر.. ولكنها وجدت نفسها تتحرك من فوق فراشها لتواجه سهام وتهتف وسط دموعها المتساقطة:


ـ أنتِ ليه بتكرهيني كده!.. أنا عمري ما أذيتك ولا حتى فكرت أجرحك.. وأنتِ بمنتهى القسوة دبرتِ أنكِ تمحيني من الدنيا..


صرخت سهام وقد بدا تشوشها واضحاً:


ـ عمرك ما أذيتيني!!.. أنتِ سرقتِ جوزي مني.. هدمتِ حياتي ودمرتِ بيتي..


كان بيروح هنا وهنا.. ويرجع لي أنا.. لحد ما عرفك.. و..


قاطعتها علياء بذهول:


ـ أنــ..ا.. عملت كده!.. أنا عليااااء!


وكأنها لكمتها في وجهها لتستفيق لواقعها صارخة بجنون وكأنها تحدث نفسها:


ـ علياء.. نادية.. هتفرق.. نادية ملكته.. سرقته مني.. وسابت بنتها تكمل من وراها..


ثم هزت رأسها بقوة فتناثرت خصلاتها المصففة جيداً.. وبرقت عيناها بشدة وهي تقترب منها بشدة:


ـ أنتِ جريمتك أكبر.. أنتِ خطفتِ فرحة عمري كله.. خلتيني أشوفك في عيون ابني ليل ونهار.. كأنه عايش في ملكوت ما فيش فيه غيرك.. كان لازم حياتنا ترجع زي ما كانت قبل ما تظهري فيها.. وهو يتجوز ريناد.. ويفضل حبيب أمه وبس.. لكن أنتِ.. أنتِ.. أنتِ لازم تختفي من الدنيا!


صرخت بها علياء وهي تتراجع للخلف وتلف بطنها بذراعيها:


ـ ما تقربيش مني.. أخرجي بره..


اقتربت سهام وأمسكت بكتفيّ علياء وهي تهزها بشدة وتردد هاتفة:


ـ لازم تختفي.. لازم..


ـ ماااامااا..


صرخة يزيد التي أتت من باب الغرفة المفتوحة وقد برزت حدقتاه ذهولاً من المشهد.. والدته تهز علياء بشدة.. بينما علياء تلف ذراعيها حول بطنها ودموعها تتساقط وعلى وجهها ارتسمت أقصى درجات الرعب..


تحرك بسرعة لينتزع علياء من بين يدي والدته ليزرعها في صدره ويضمها بقوة بين ذراعيه محاولاً السيطرة على نوبة الهيستريا التي بدأت تظهر علاماتها واضحة عليها وهي تتخبط بين أحضانه وتشهق بقوة متمتمة بكلمات غير مفهومة..


هتف بوالدته بقوة:


ـ ماما من فضلك سيبيني معاها لوحدنا..


تجمدت سهام وهي تسمع نبرة ابنها الحازمة, والتي تناقض تصرفاته الرقيقة نحو الفتاة فهو يضمها.. يقربها.. يهمس لها.. يحاول طمأنتها وهدهدتها بكل الطرق.. وهي أمه يطلب منها الخروج بتلك اللهجة الباردة التي أعادها للمرة الثانية وهو يصرخ بأمه:


ـ ماما.. من فضلك أخرجي بره الأوضة..


رمقته سهام بنظرة ضائعة ثم خرجت مهرولة من الغرفة وصورة ابنها وهو يضم عدوتها بين ذراعيه لا تنمحي من أمام عينيها..


أما علياء فكان جسدها ينتفض بقوة وهي عاجزة عن السيطرة عليه, وكأن عنف سهام نحوها أيقظ ذكريات الأيام الماضية فكانت تفرك وجهها في عنق يزيد تارة, وتارة أخرى تخبط رأسها بقوة في صدره وكأنها تريد إسقاط المشاهد التي تتزاحم في رأسها.. ثم تعود وتلصق وجهها بصدره وهي تتمسك بقميصه بقوة.. متمتمة من بين شهقاتها:


ـ أنت سيبتني لها.. سيبتني لوحدي.. لوحدي.. بعدت.. عني.. بعدت عني.. وأنا لوحدي.. كلهم.. كلهم.. سابوني.. آذوني.. وجعوني قوي.. ما فيش حد عايزني.. أنا عايزة ماما.. عايزة أروح لماما.. هقولها أنا مش رخيصة.. أنا متجوزة.. مش رخيصة.. ماما.. ماما..


ظلت تخبط رأسها بصدره وهي تناجي أمها وتبكي بلا توقف.. بينما هو ثبت رأسها بكفه زارعاً إياها بصدره ومتمتماً بأذنها:


ـ اهدي يا علياء.. اهدي الله يخليكِ.. مش هينفع تاخدي مهدئ ولا منوم.. هدي نفسك شوية..


أخذت شهقاتها تتعالى واستبدلت رأسها بقبضتيها وهي تضرب صدره بقوة هاتفة:


ـ عايزة ماما.. أروح لها.. عايزة أروح لها..


وازدادت انتفاضاتها وهي تحاول التخلص من ذراعيه اللتين أحكمتا الطوق حولها.. حتى فقدت معظم قوتها وتهاوت بين يديه ليسقطا معاً أرضاً وهو يحاول دعمها حتى لا يرتطم جسدها بالأرض.. فسقط هو أولاً ليتمكن من تلقيها بين ذراعيه.. ويضمها إليه بقوة مسيطراً على حركاتها الرافضة له وهي تتمتم بلا انقطاع:


ـ ماما.. عايزة أروح لها..


عدل وضع جسده ليستند بظهره على الأريكة المواجهة للفراش ويجلسها على ساقيه اللذين امتدا أمامه وهو يهمس في أذنها:


ـ هشششش... علياء حبيبتي اهدي.. اهدي..


زاد من ضغط ذراعيه حولها وهو يضمها بقوة حتى هدأت شهقاتها قليلاً.. بينما دموعها لم تتوقف وهي تهتف بحرقة:


ـ أنا مش رخيصة.. أنا.. مش..


عدل وضع جسدها بحيث تستلقي بين أحضانه وأسند رأسها على ذراعه.. وأبعد بأنامله خصلاتها القصيرة المشعثة والتي غطت عينيها الدامعتين.. وامتدت أنامله لتمسح دمعاتها برقة وهو يقترب بوجهه منها واضعاً جبهته فوق جبهتها هامساً:


ـ عارفة ليه عمري ما ناديتك باسم غير علياء؟..


سكنت شهقاتها قليلاً وبدا أنها بدأت تستمع له.. فأكمل:


ـ اسمك بيوصفك يا علياء.. اسم أجمل وأغلى من أنه يختصر.. حتى لو بغرض الدلع والدلال.. مش بيقولوا كل واحد له نصيب من اسمه.. وأنتِ بقى اسمك بيوصفك كلك.. قلت لك قبل كده أنتِ غالية.. غالية قوي يا علياء..


سكنت بين ذراعيه وقد استسلمت لقبضته على خصرها وأخذت ترمش بعينيها الدامعتين وقد تعلقت الدموع بأهدابها.. وهي تستمع لكلماته التي يخبرها بها للمرة الأولى.. حرك جبهته قليلاً.. ليتمكن من رؤية عينيها اللتين تحدقان في وجهه بخوف وأمل.. فقبل وجنتها برقة شديدة هامساً:


ـ جننتيني لما بدأتِ تقلدي نيرة في لبسها.. ما كنتش ببقى فاهم إيه اللي بيحصلي.. عايز أغطيكِ وأخبيكِ عن عيون الناس.. كنت ببرر ده الأول وأقول لنفسي.. أختي الصغيرة.. زي ما بابا كان بيقولي..


ابتسم بسخرية من حاله وأكمل لعينيها المنتظرة بلهفة تكملة حديثه:


ـ لحد ليلة الحفلة في النادي.. وأنتِ بترقصي مع مازن.. من جوايا اتأكدت أنك مستحيل تكوني أخت لي.. كل اللي فكرت فيه أني عايز أخدك من إيدين مازن وأخبيكي.. لأنك بتاعتي..


ازدادت قبضته حول خصرها وهو يهمس بشراسة:


ـ بتاعتي.. فاهمة إزاي بتاعتي..


وترجم لها كلماته بقبلة ضارية على شفتيها تركتها تلهث بقوة وعينيها مازالتا تبرقان بغموض وهو يكمل:


ـ اللي حصل بعد كده أني أثبت ملكيتي بغباء.. وأنتِ دفعتِ التمن..


عاد الحزن مرة أخرى يترقرق في عينيها مع الدموع, وحاولت إبعاد وجهها عنه... ولكنه ثبته بشراسة لتسمع باقي كلماته وهو يخبرها:


ـ أنتِ بتاعتي.. مراتي..


ومد كفه يتحسس بطنها في شغف:


ـ أم ابني.. ومش هسمح لأي حد بعد كده يقلل منك.. ولا حتى أنتِ..


أغمضت عينيها فجرت إحدى الدمعات المعلقة في أهدابها وسألته في خفوت:


ـ ولا حتى مامتك؟..


عاد إليه مشهد والدته وهي تهز علياء بقسوة لحظة دخوله الغرفة.. فزاد من ضمه لها وهو يقول بحزم:


ـ ما فيش حد هيقرب منك, ولا هيأذيكِ تاني يا علياء.. ده عهد عليّ.. يا ريت تصدقيني وتسامحيني على اللي فات..


خرجت الكلمات منها قبل أن تستطيع منع نفسها:


ـ أنت سيبتني لوحدي..


اتكأ بجبهته فوق جبهتها ليهمس:


ـ لأني غبي!..


منعت بسمة خائنة كادت أن ترتسم على شفتيها وشعرت به يتمسك بيدها ويضغطها بين أصابعه قليلاً.. قبل أن يتحرك ليخرج من جيبه علبة صغيرة.. أخرج منها خاتماً مبهراً وأدخله في بنصرها هامساً:


ـ عارف أني أتأخرت.. والمفروض شبكتك كانت جت لك من بدري.. وكل حقوقك.. وحتى الأرض اللي ضاعت هرجعها.. أو على الأقل هعوضك عنها..


همست:


ـ بس أنا مش عايزة حاجة..


هز رأسه نافياً:


ـ لا.. المرة دي مش هينفع.. ومش هوافقك.. أنا بس اللي موقفني أنك توصلي لواحد وعشرين سنة عشان ما فيش حد من أعمامك يتدخل تاني..


أخفضت بصرها أرضاً والتزمت الصمت ولم تجبه.. فمد يده ليرفع ذقنها حتى


تواجهه عيناها وسألها هامساً:


ـ عجبك الخاتم؟..


انتقل بصرها بدون إرادة منها الى الخاتم في بنصرها.. كانت الماسة ذات اللون الأزرق الشاحب تتألق في يدها.. وقد ارتكزت على قاعدة بلاتينية ودعمها من الجانبين.. وردتين ماسيتين براقتين.. كان مميزاً بالفعل ولم ترى مثله من قبل وخاصة ماسته الملونة.. سمعته يهمس لها وهو يتناول يدها يقبل الخاتم بها:


ـ أنا طلبت الخاتم ده.. ولون الماسة الأزرق مخصوص.. ومن فترة.. ولسه الجواهرجي مكلمني الصبح عشان استلمه.. آسف أني اتأخرت عليكِ..


عادت لتلوذ بالصمت وكأنها تذكرت الآن أن تعاقبه بصمتها..


ابتسم بتفهم أمام صمتها الذي لاحظه على الفور.. ولكن ما يطمأنه أنها كفت عن البكاء.. وأمسكت قميصه بيدها التي ألبسها فيها الخاتم.. ويدها الأخرى التفت حول خصره لتدعم نفسها.. وأغمضت عينيها وهي ترمي برأسها على صدره وتباعدت شهقاتها.. وبدا أنها ستخلد للنوم بين ذراعيه.. فاستمر يهمس لها بمواقف وأحداث مرت بهما معاً.. بشعوره بالغيرة من مازن لأنه كان مقرباً منها في بعض الأوقات.. غيظه الشديد من نيرة بل غيرته من علاقة الصداقة بينهما.. كان يحكي.. ويحكي.. وهي تستمع في صمت.. تشعر أنه بجوارها بالفعل.. بأفكاره.. وعقله.. بروحه وليس جسده فقط.. تشعر أنها له.. وأنها بالفعل مميزة.. حتى ولو بقدر ضئيل.. ضئيل جداً..


وعلى بوابة المشفى أنزل مازن نيرة بعدما أحضرت لعلياء بضعة أشياء.. أهمها بضعة ثياب جديدة حتى تخرجها من ثوب المشفى الكئيب كما أخبرتها صباحاً.. وقبل أن تستدير لمازن مودعة لمحت سهام تغادر المشفى وهي تركب سيارتها ومعالم التوتر والغضب تحيط بها.. فقفزت من السيارة تركض نحو غرفة علياء.. وقد انتابها القلق الشديد عليها.. ولمح مازن اتجاه نظراتها.. فلحق بها مباشرة تاركًا السيارة في مدخل المشفى.. فهو يملك شكوكه الخاصة نحو سهام.. ولكنه بالطبع لم يستطع مواجهة صديقه بتلك الشكوك حول أمه..


وصلت نيرة أولاً إلى غرفة علياء لتجد الباب مفتوح على مصراعيه كما تركته سهام.. ولكنها تسمرت أمام مشهد يزيد الذي يضم علياء بين ذراعيه ويهدهدها كطفل صغير.. هامساً في أذنها بلا توقف بينما أغمضت عينيها باستسلام تستمع إليه ممسكة بقميصه بقبضتها.. وكأنها طفلة تختبئ بين أحضان أمها من قسوة العالم..


شعرت نيرة بيد مازن على كتفها وهو يسحبها خارج الغرفة التي لم يشعر من فيها بوجودهما وأغلق الباب بهدوء وحرص.. وجذب نيرة ليتجها إلى خارج المشفى:


ـ سيبيهم مع بعض شوية يا نيرة.. ابقي ارجعي لها بالليل.. هي محتاجة وجوده معاها دلوقتِ..


جذبت يدها منه بعنف وهب تهتف:


ـ ما هو وجوده ده هو سبب المشاكل كلها!


توقف مازن ليواجهها:


ـ علياء تقدر تحل مشاكلها مع يزيد بسهولة.. ما فيش خوف عليها منه, بالعكس هي لها سُلطة عليه.. وسُلطة كبيرة كمان.. من غير أي تدخل منك أو مني.. يلا بينا..


جلست بجواره في مقعد السيارة الأمامي.. بعدما اعتذر من أمن المشفى لتركه السيارة بتلك الصورة.. وسمعها تخبره:


ـ عارف.. كان نفسي ما يرجعش من دبي..


رفع حاجباً متسائلاً:


ـ وعلياء؟.. مين كان ممكن يخرجها من تحت إيدين اعمامها؟..


أجابته بثقة:


ـ أنت كنت تقدر بسهولة مع الرجالة اللي كانوا معانا هناك.. بس كانت علياء هتفوق من وهم يزيد..


أدار مازن السيارة وهو يجبها بغموض:


ـ وعشان هو مش وهم يزيد رجع.. وبلاش تلعبي في دماغها.. أو تزرعي أي أفكار.. دلوقتِ في طفل جاي في الطريق.. والوضع مش مستحمل..


غمغمت بحنق:


ـ طفلة هتخلف طفل!


ابتسم بسخرية وهو ينهي الحوار:


ـ طفلة يمكن.. بس عرفت ولو بالفطرة إزاي تسكن يزيد وتتمكن منه.. حاولي تتعلمي منها حاجة..


رمقته بحذر وقد جمعهما معاً نفس الشعور للمرة الاولى.. فهما يشعران ويالسخرية بالحسد نحو يزيد وعلياء..


*************


كان حسن منهمكاً في عمله كعادته.. نائياً بنفسه قليلاً عن زملائه.. يحاول جاهداً التأقلم والاندماج معهم والمحافظة على هويته في نفس الوقت.. ويعلم مدى صعوبة هذا.. فإن شعروا للحظة أنه يتعالى عليهم, أو يعاملهم على أنه أعلى منزلة لفقد مودتهم الفطرية وتقبلهم الطبيعي له.. يحاول المحافظة على علاقة متوازنة معهم, ولكن رغماً عنه أصبح يتنازل قليلاً.. فيشاركهم جلساتهم وخاصة بعد زيارة تلك السيدة التي تسمى ابتسام وازدياد التعليقات الموحية نحوه.. فاضطر لتبادل المزاح والنكات معهم حول الأمر محولاً إياه إلى مزحة سخيفة حتى لا يتحول الموضوع لاتجاه آخر..


دقات لكعب رفيع وعالي وصلت لأذنيه مع همهمات وضحكات مكتومة من زملاؤه.. وصوت يصطنع النعومة:


ـ هاي يا أسطى سونة!..


حاول ألا يلتفت نحوها.. ولكنها رفعت أناملها لتحركها على كتفه لتجبره على الالتفاف نحوها.. ليجدها ترتدي أقصر تنورة وقعت عيناه عليها.. حتى أنه ظن لوهلة الأولى أنها نسيت أن ترتدي واحدة تحت البلوزة الخضراء الشيفون التي ترتديها وتفسر جسدها بالتفصيل من ناحية الشفافية والضيق على السواء..


وجدها ترمش بعينيها اللتين تحولتا إلى لون زمردي:


ـ شفت عينيا بقيت لون عينيك إزاي؟..


رمقها بذهول:


ـ افندم!


اقتربت منه وهي تتغنج بوقاحة:


ـ ما بتردش على تليفوناتي ليه؟..


أجاب باقتضاب:


ـ أنا رديت عليكِ فعلاً.. وبلغتك أني مش فاضي لأي شغل خاص..


رفعت أناملها لتتحسس وجنته الخشنة حيث لم يتمكن من حلاقة ذقنه في الصباح لانقطاع المياه.. وهو شيء اعتاد عليه مؤخراً.. ولكنه وجدها الآن تتلمس خشونة ذقنه بشغف.. بينما لمح بطرف عينه زملاؤه يتحركون.. متعذرين باستراحة الغذاء ليتركوهما معاً.. وسط الغمزات والابتسامات الموحية.. سمع صوتها يتهدج:


ـ ما حلقتش دقنك ليه؟..


كاد أن يصرخ بها.. "أنتِ مجنونة يا ست أنتِ!".. ولكنه بدلاً من ذلك.. قرر أن يلاعبها بطريقتها فازاح يدها ببطء وهو يهمس لها:


ـ بحلقها بالليل.. عشان بتضايق مراتي..


ابتعدت عنه ولمعت عينيها بسخرية:


ـ أنت متخيل كده.. أني هغير... تؤ تؤ تؤ.. أنا ما يهمنيش مراتك.. ولا أيه اللي بيضايقها.. ولاحبها لك, ولا حتى حبك لها..


ورفعت أناملها لتداعب صدره بإغراء:


ـ أنت عارف اللي أنا عاوزاه..


سألها:


ـ واللي هو؟..


رفعت يدها الأخرى لتتسلل نحو صدره هي الأخرى وترتفعا معاً لتحيط بعنقه وهي تهمس بإغراء:


ـ الشالية بتاعي في الساحل.. نروح يومين.. نغير الديكورات..


وصمتت للحظة لتردف:


ـ ونغير جو.. وبعدين ترجع لمراتك.. ما ترجعش.. براحتك..


أجابها بابتسامة:


ـ فكرة كويسة.. حتى هتكون فرصة حلوة أني أفسح منى في الساحل..


سألت بغضب:


ـ منى مين؟..


هز كتفيه بملل:


ـ منى مراتي..


تحكمت في غضبها بصعوبة وهمست له وهي تحرك يديها من خلف عنقه ولكن لتمرر أظافرها بخفة تاركة خدش طويل على طول عنقه وهمست بخبث:


ـ ما تتحدانيش يا حسن.. أنا دايماً باخد اللي أنا عايزاه...


تركته في حيرة ورحلت.. ولم يعلم بوجود الخدش في عنقه إلا ليلاً ومنى تحاول دفعه بكل ما تملك من قوة صارخة بصوت مجروح:


ـ أنت كنت فين قبل ما تيجي يا حسن؟..


*************


تسللت دنيا بخفة من الفراش تاركة مازن ليرتاح قليلاً.. ارتدت روباً قصيراً.. واتجهت للمطبخ لتعد له النسكافيه كما يحبه.. بدون استخدام الماكينة.. ولكنها تعده له يدوياً حيث تدعك السكر مع حبيبات النسكافيه لفترة طويلة ثم تصب له الماء واللبن.. الثلث والثلثين.. ابتسمت لنفسها ابتسامة حزينة.. فهي أصبحت تحفظ عاداته وما يحب وما يكره كما تحفظ اسمها.. وتسعى دائماً لإسعاده وإرضائه..


وضعت يدها على قلبها تريد أن تخرجه من بين ضلوعها لتسأله..


"ليه؟.. ليه ما اختارتش تحبه هو؟.. ليه اختارت اللي بيوجعك ويجرحك؟.."..


كادت أن تسقط دمعة من عينيها.. لولا أنها شعرت بأنفاسه فوق عنقها.. ويديه تتسلل إلى فتحة روبها هامساً:


ـ ليه سيبتي السرير؟..


حاولت أن تبعد يديه ولكنها تعلم مدى إصراره عندما يريد شيئاً.. فتركتهما أخيراً:


ـ كنت بعملك نسكافيه..


لفها نحوه وهو يفتح الروب ليضمها لصدره طابعاً قبلة على عنقها:


ـ اممممم.. ممكن نأجل النسكافيه شوية؟..


حاولت التملص منه وهي تشعر بيده تلف خصرها من أسفل الروب والأخرى تثبت رأسها حتى يتمكن من تقبيلها.. فهمست بضعف:


ـ مازن.. عندي شغل.. لازم أنزل..


حرك يده من خلف رأسها ليزيح قدح النسكافيه فيسقطه في الحوض.. ورفعها بين ذراعيه واتجه بها إلى غرفتهما بسرعة..


بعد فترة.. كان يرتشف قدحاً آخر من النسكافيه بتلذذ وهو مستلقي في الفراش.. وهي جالسة بجواره.. تريد أن تعلم ما به.. فهي تشعر باختلافه.. وخاصة بعد ظهوره أمام عتبة شقتها في الليلة التالية لزفافه.. ليلتها همس باجهاد:


ـ صداع يا دنيا.. صداع هيفرتك دماغي..


اصطحبته ليلتها إلى الأريكة.. ووضعت رأسه في حجرها وظلت تمسدها لساعة كاملة قبل أن تظهر معالم الارتياح على وجهه..


همست له:


ـ أحسن دلوقتِ؟..


أجاب باقتضاب:


ـ أنا كنت عند حسن..


ولم يقل المزيد.. فقط أغمض عينيه واستسلم للنوم..


علمت ليلتها أنه لن يجيب على أي سؤال.. فاحترمت رغبته.. ولم تجادل.. ولم تناقش.. فقط عدلت من وضع رأسه لتتلقاها على صدرها.. وظلا هكذا.. حتى الفجر.. فنهض ليذهب الى منزله وهو يضمها الى صدره طابعاً قبلة على جبينها:


ـ متشكر قوي يا دنيا..


تحسست وجنته بحنان:


ـ انا موجودة دايماً يا مازن.. دنيا صديقتك قبل ما أكون دنيا مراتك..


أفاقت من ذكريات تلك الليلة على أصابعه تداعب ساقها وهو يسألها:


ـ سرحانة في إيه؟..


رمقته للحظة:


ـ عايزة أزور عليا..


ابتسم ابتسامة واسعة.. تحولت لضحكة عالية.. ولم يستطع التوقف عن الضحك.. حتى أن دنيا سحبت منه قدح النسكافيه وهي تلكزه بعنف:


ـ إيه!.. هو أنا قلت نكتة!..


هز رأسه وهو يحاول التحكم في ضحكاته:


ـ مستغرب بس.. مراتاتي الاتنين.. بيحبوا عليا جداً.. أعتقد أنها الست الوحيدة اللي هتجتمعوا على التعاطف معاها وحبها.. وهي تستحق بصراحة..


وقفت دنيا على ركبتيها ووضعت يديها في خصرها لتطل عليه من علو:


ـ سخيف.. على فكرة ما فيش حاجة تضحك؟.


ثم قطبت حاجبيها:


ـ أنت معجب بعلياء بجد؟


تصنع التأثر:


ـ أنتِ عايزة يزيد يقتلني, صح؟.. بس دي غيرة دي ولا إيه!.. غريبة.. أنتِ عمرك ما غيرتي من نيرة!


لفت جسدها وجلست بجواره وهي تناوله قدح النسكافيه مرة أخرى وتجبه بصراحة كما اعتادت:


ـ مش عارفة.. ممكن تكون غيرة.. بس مع نيرة أنا فاهمة إحساسك ناحيتها وعارفة مشاعرك.. واليوم اللي هغير فيه من نيرة.. هو اليوم اللي هبعد فيه عن حياتك, لكن يمكن غِرت إن إعجابك يكون من نصيب واحدة تانية..


رمقها بدهشة:


ـ عارفة.. على قد وضوحك.. على قد ما أنتِ لغز كبير..


أمسكت ذقنه بأناملها وهي تداعبه:


ـ بس لغز حلو.. مش كده..


تحرك فجأة ووضع القدح بجواره وقلبها على ظهرها وهو يهتف:


ـ لغز زي العسل.. وأنا ناقصني عسل اليومين دول!..


ضحكت بعبث.. وتملصت منه لتقف بجوار الفراش مكتفة ذراعيها:


ـ عايزة أروح لعليا..


رمى نفسه على الفراش وهو يتحسر متمتماً


"مكتوب عليك الحرمان من العسل يا مازن".


ثم رفع صوته:


ـ بلاش يا دنيا.. يزيد هيتضايق..


رفعت حاجبها:


ـ ومين قالك أني عايزة موافقته!


ـ طب وموافقتي أنا!


ـ وأنت مش هتوافق ليه؟..


اعتدل في جلسته وجذبها لتجلس بجواره:


ـ وضع عليا النفسي مش مستقر.. اللي مرت به مش بسيط.. ده غير الحمل.. بلاش.. يا دنيا.. وخاصة إنه المفروض أنك ما تعرفيش تفاصيل اللي حصل..


ـ بس أنا كنت عايزة أساعدها..


ـ يزيد موجود..


رمقته بنظرة نارية.. فعادت ضحكاته ترتفع وهو يجذبها لتصبح تحته مرة أخرى:


ـ يظهر أنك ونيرة بتشتركوا في حب عليا وكره يزيد..


همست بضعف:


ـ مازن..


اقترب منها بخطورة:


ـ مازن محتاج العسل...


**********


وصل يزيد إلى فيلا والده وهو يشعر بالإجهاد الشديد.. فهو لم يغمض عينيه منذ يومين.. ولن يطمئن ويغمضهما قبل أن يصطحب علياء إلى شقتهما بأمان.. حتى أنه طلب من رئيس الأمن في مجموعته وضع رجلين من أفضل رجاله أمام غرفتها بالمشفى.. وأمرهما ألا يسمحا لأحد بالدخول سواه, هو ونيرة فقط.. فبالرغم من سخافة نيرة إلا أنها تهتم بعلياء بصدق..


اقترب من مكتب والده ليخبره بقراره بعدم العودة إلى دبي مرة أخرى.. فهو قرر البقاء ومحاولة إنجاح حياته والتأقلم مع وجود زوجتين.. ضرب رأسه بقوة.. فريناد ما زالت بدبي.. كيف غاب ذلك عن باله؟.. حسناً.. سيطلب منها العودة.. ولكن أولاً.. يحتاج إلى الحديث مع والده.. ثم حوار طويل وحازم مع والدته ليوضح لها وضع علياء في حياته..


قبل أن يمد يده ليفتح باب المكتب وصله صوت والده يصرخ في والدته بغضب:


ـ أنتِ تعديتِ السفالة للإجرام.. ولو كنتِ فاهمة إني ما اكتشفتش اتفاقك مع أعمام عليا تبقي غلطانة.. السواق بتاع عليا اعترف بكل حاجة.. والقذارة اللي بلغتيها لأهل البنت أنا مش هسكت عليها.. اللي عملتيه ده يا مدام اسمه تحريض على القتل..


تجمدت يدا يزيد على مقبض الباب وهو يستوعب ما وصل لأذنيه للتو... عالفصل العشرون


وقفت منى تمشط خصلاتها السوداء الطويلة يرتسم تعبير غامض في عينيها التي تقابل عينيّ حسن في المرآة.. منذ عاد من عمله وهي تتهرب منه.. ولكن عينيها تمسح ملامحه بغموض غريب.. وكأنها تبحث عن شيء ما..


تحرك حسن أخيراً من فوق الفراش وقد سأم لعبة تبادل النظرات عبر المرآة.. وقف خلفها وألصق جسده بها وامتدت يده لتمسك بكفها فتسقط فرشاة الشعر منها محدثة دوياً خفيفاً.. ولفها نحوه وهو يضمها بقوة هامساً:


ـ الجميل زعلان ولا مخاصمني!


لم ترد عليه, بل لم ترفع عينيها إليه حتى.. حرك أنامله ليمسك بذقنها يرفع وجهها ليواجه عينيها الحزينة وهو يهمس وقد ظهر القلق واضحاً بنبرته:


ـ منى.. أنتِ مش طبيعية.. في إيه؟..


حاولت الهروب من عينيه.. الابتعاد عن قبضته القوية حول خصرها.. تتناسى تلك المكالمة الملعونة.. صاحبة الصوت المغناج التي تتغزل بزوجها ورجولته.. ومتعتها بين ذراعيه..


رفعت له عينين معذبتين سقطت منهما دمعة بلا إرادة منها.. سارع هو على الفور ليمسحها بشفتيه وهو يسألها بهلع:


ـ في إيه يا منى؟..


تركت رأسها ليسقط فوق صدره وقد بدأت دمعاتها تتوالى وهي ترفع يديها لتعقدهما خلف عنقه.. لتصطدم أناملها بالخدش الطويل في جانب عنقه.. الخدش.. الذي وصفته لها ابتسام على الهاتف.. وحددت موضعه تماماً.. وهي تضحك بغنج وقح عن المتعة التي منحها لها حسن لتمنحه هذا الخدش..


دفعت منى حسن بقوة تخلص نفسها من بين ذراعيه هاتفة بصوت مجروح:


ـ أنت كنت فين قبل ما تيجي يا حسن؟..


لم يسمح لها حسن بالابتعاد.. وتمسك بذراعيها بين يديه يلمح دموعها التي أبت التوقف ونظرات الألم بعينيها وهو يهز رأسه بحيرة:


ـ كنت في الشغل يا منى.. هكون فين يعني؟..


دفعته للتخلص من ذراعيه.. ومنعته من محاولة الامساك بها من جديد وتعالت شهقاتها:


ـ لا يا حسن.. لا.. قولي كنت فين..


تحرك ليتمسك بكتفيها ويتغلب على مقاومتها الواهية ليقترب من عينيها الباكية:


ـ منى.. أنا عمري ما كدبت ولا هكدب عليكِ.. في إيه؟.. أنا مش فاهم حاجة.. فهميني..


رفعت عينيها الدامعتين لتمرا على الخدش بجانب عنقه وهي تحرك شفتيها بدون صوت.. فعاد هو ليضغط على كتفيها باصرار:


ـ منى.. أنا أعصابي اتحرقت.. في إيه؟؟..


مسحت دموعها بظاهر يدها وهي تشير إلى خدشه بإصبع مرتعش:


ـ الجرح اللي في رقبتك ده من إيه؟..


رفع يده يتلمس عنقه وهو يتساءل:


ـ جرح ايه ده!!


وتحرك ليقف أمام المرآة ليتفحص عنقه عن قرب.. فلمح الخدش الطويل.. وتذكر على الفور حركة أنامل ابتسام بجانب عنقه.. فشتم بصمت.. وهو يلتفت إلى منى التي أغرقت الدموع وجهها.. ويجذبها لتجلس بجواره على الفراش.. وبدأ يحكي لها كل ما حدث منذ لمحته ابتسام في المرة الأولى فاتسعت عينا منى بذهول.. وسحبت يدها من بين كفيه وهي تنهض من فوق الفراش وتكتم صرختها بيدها.. فنهض حسن بدوره ليواجهها:


ـ هي دي الحقيقة يا منى..


هزت رأسها بذهول:


ـ يعني الست دي.. عايزة... عايزة...


تركت سؤالها ناقص.. بدون أن تكمله.. بينما تضرجت وجنتيها خجلاً.. فلم يستطع حسن كبت تعليق مشاكس:


ـ لسه خدودك بيحمروا يا منى!!..


صرخت بغيظ:


ـ حسن!!..


مد ذراعه وهو يقبض على خصرها بقوة ويقربها منه هامساً:


ـ حسن!!.. حسن زعلان.. حسن مخاصمك.. معقولة تشكي فيا؟!!..


أخفضت منى نظرها حرجاً وهي تهمس:


ـ ده مش شك.. دي.. دي..


همس مستمتعاً:


ـ غيرة؟..


رفعت عينيها إليه ودموعها مازالت تتعلق بأهدابها.. وهمست بوجل:


ـ وخوف يا حسن.. خايفة أصحى من حلمي بيك.. خايفة أفوق وأنزل من سابع سما.. ووقتها مش رقبتي اللي هتنكسر.. لا.. ده قلبي..


ضمها إليه أكثر.. متكئاً بجبهته فوق جبهتها هامساً:


ـ بحبك يا منى.. وما حبيتش غيرك..


سكنت بين ذراعيه تستمع لدقات قلبه والتي رغم صخبها إلا أنها كانت تهدئ من مخاوفها.. وتمنحها أماناً وحماية كانت في حاجة لهما.. ظلا هكذا لفترة.. حتى علا رنين هاتف حسن.. تجاهله في البداية إلا أنه عاد للرنين مرة تلو الأخرى.. حتى اضطر أن يبتعد عن منى لييمسك بالهاتف ويتأمل شاشته المضيئة بغيظ جعل منى تتحرك بدورها لتجواره وهي تسأله:


ـ في إيه يا حسن؟.. مين على التليفون؟..


ـ أجاب بغيظ:


ـ دي الست ال****.. اللي قلت لك عليها..


توسعت عينا منى بذهول وهي تستمع إلى اللفظة التي أطلقها حسن على ابتسام.. وسرعان ما توردت وجنتيها حرجاً من مجرد التفكير بتلك الكلمة.. ولاحظ حسن ذلك على الفور.. فغمغم معتذراً:


ـ آسف يا منى.. الأسطوات اللي معايا بيقولوا الكلمة دي باستمرار.. يظهر أنها مسكت في لساني..


أومأت منى برأسها وظهر اللوم واضحاً بنبرتها:


ـ بصراحة يا حسن أنت بقيت تكرر كلام كتير من بتاع زمايلك ده.. يا حبيبي.. مش لازم تنسى أبداً أن دي فترة مؤقتة.. و..


قاطعها حسن بضيق:


ـ أنا فاهم يا منى.. وآسف إذا كنت ضايقتك بكلمة كده ولا كده..


عاد الرنين يرتفع مرة أخرى.. فما كان من منى إلا أن سحبت الهاتف من يده.. وتأكدت أن تلك السيدة هي من تتصل ففتحت الخط على الفور.. لتصدم أذنيها ضحكة مبتذلة وصوت ابتسام الذي تعرفت عليه من مكالمتها السابقة يهمس في شماتة:


ـ أكيد مراتك اللي أنت طالع لي بيها السما دي طينت عيشتك.. عشان تعرف أنك مش قدي.. أظن تعقل كده بقى وتهاودني بدل..


كانت عينا منى تتوسع بذهول من جرأة تلك المرأة وقاطعتها بقوة:


ـ لا.. اطمني.. أنا لا طينت عيشته.. ولا هو هيهاودك.. واقفلي الخط بقى.. كفاية سفالة..


صرخت ابتسام على الجهة الأخرى:


ـ أنتِ مين؟.. أنتِ مراته!!.. اعطيني حسن.. هو جبان للدرجة دي مش قادر يواجهني بنفسه..


أغمضت منى عينيها.. وابتلعت ريقها بصعوبة وهي تحاول استدعاء هدوء لا تمتلكه في تلك اللحظة:


ـ اسمعي يا مدام.. اللي أنتِ عايزاه من جوزي ده مش هيحصل.. خلي عندك كرامة.. ولمي نفسك وما عدتيش تتصلي تاني.. وأظن أنتِ عارفة هو ابن ناس قد ايه.. وواحد زيه عمره ما هيقرب لبواقي الرجالة التانية.. أظن فهماني..


وأغلقت منى الخط, بل والهاتف وهي ترتعش مما حدث بينما وجدت حسن يصفق بكفيه بقوة وهو يفتحهما على آخرهما قائلاً بصوت أجش:


ـ ينصر دينك يا ست الستات..


رمقته منى بذهول.. وداخل عقلها تتردد جملة أزعجتها كثيراً..


"حسن اندمج بزيادة في مهنته الجديدة"...


*********


"أنتِ تعديتِ السفالة للإجرام.. ولو كنتِ فاهمة إني ما اكتشفتش اتفاقك مع أعمام عليا تبقي غلطانة.. السواق بتاع عليا اعترف بكل حاجة.. والقذارة اللي بلغتيها لأهل البنت أنا مش هسكت عليها.. اللي عملتيه ده يا مدام اسمه تحريض على القتل"..


تجمدت يدا يزيد على مقبض الباب وهو يستوعب ما وصل لأذنيه للتو... وأغمض عينيه بألم وهو يتأكد من هاجس مجنون مر بذهنه واستبعده على الفور.. ليتبين أنه لم يكن هاجس ولكنه بكل تأكيد كان جنوناً..


فتح الباب ببطء.. لتصطدم عيناه بعينيَ والده الذي شحبت ملامحه على الفور مما جعل سهام تلتفت لتواجه عينيّ ابنها اللذين اتقدتا كجمرتين.. وهو يهمس لها بذهول:


ـ ليه؟.. ليه؟؟.. دي كانت ممكن تموت..


صرخت سهام بلهفة وهي تواجه ابنها:


ـ ما يهمنيش.. أنا ما يهمنيش غيرك يا يزيد..


حاولت تقترب منه إلا أنه مد ذراعه على طولها ليمنع اقترابها صارخاً بعنف:


ـ ما تقربيش مني.. ما تقربيش مني..


اندفعت سهام نحو يزيد متجاهلة تحذيره وهي تصرخ به بدورها:


ـ اسمعني يا يزيد.. افهمني يا بني.. أنا عملت كده عشانك.. كان لازم أحميك واحمي حياتك ومستقبلك..


صرخ بقوة:


ـ حياتي ومستقبلي!!.. أنتِ عارفة أنتِ قلتِ إيه؟.. فاهمة الصورة اللي وصلت لأعمام علياء كانت إيه؟.. مستوعبة أنهم كانوا ممكن يقتلوها..


قاطعته أمه بصرخة مدوية:


ـ يموتها.. يقتلوها.. وأنا إيه اللي يهمني!.. أنا قلت لك أني ما فكرتش غير فيك أنت وبس.. أنت وبس اللي باقي لي يا يزيد..


ـ أناااااااا..


كانت صرخة مشروخة.. وهو يتأمل أمه محاولاً التحكم في دموعه.. ومجاهداً كل شياطينه التي تحثه على الانتقام.. ولكن أينتقم من أمه؟!!.. كيف؟..


مسح وجهه بكفيه وهو يصارع للخروج من هوة حيرته.. هوة تبتلعه بسرعة.. ولا تهتم لمقاومته العنيفة.. دوار.. دوار عنيف أصابه وهو يحاول الوصول لقرار.. لوسيلة ليحافظ على وعده لعلياء باسترداد حقها ممن ظلمها.. وفي نفس الوقت يحتفظ بصلة ما بأمه..


"يا الله.."..


همسها لنفسه وهو يلقي بجسده على الأريكة المريحة في غرفة المكتب.. رامياً رأسه إلى الخلف.. ضاغطاً بأصبعيه على جسر أنفه حتى يقلل من عنف الصداع الذي يضرب رأسه بلا رحمة..


شعر بأنامل والدته تملس على جبهته بحنان.. فابتعد عنها صارخاً:


ـ قلت لك ما تلمسينيش..


ترقرقت الدموع بعينيّ سهام وهي تلومه بألم:


ـ للدرجة دي.. للدرجة دي بنت نادية سيطرت عليك وبقيت مش طايق لمسة من أمك..


ضرب ركبتيه بعنف وهو يقفز لينهض بعيداً عنها هاتفاً بقوة:


ـ علياء.. اسمها علياء.. مراتي.. مراتي اللي حضرتك شوهتي سمعتها وسمعتي وسمعة أبويا.. حولتينا لمجموعة شواذ عايشين علاقات مريضة.. وكل ده ليه.. ليه.. لييييييييه؟؟؟؟..


علا صوته بصراخ هيستيري وهو يلمح شفتي والدته تتحركان.. فقاطعها بقوة:


ـ ما تقوليش عشاني.. آسف جداً.. مش مصدقك..


كان عصام قد قرر اتخاذ وضع المتفرج في النقاش الدائر بين زوجته وابنه.. كان رجل أعمال محنك ويدرك أنه في وضع خاسر من جميع النواحي.. فيزيد لن يسامحه على اخفاء اختطاف علياء عنه.. وسهام قررت منذ زمن أن تسقيه الأمرين بسبب زواجه من نادية.. فقرر الاكتفاء بالمتابعة عن بعد.. وعدم التدخل.. إلا أن صرخة يزيد الأخيرة بسهام وما رسمته من ألم شديد على ملامحها أجبرت عصام على التدخل لينهر يزيد بلطف:


ـ يزيد.. ما ينفعش تتكلم مع والدتك بالطريقة دي..


التفت له يزيد وكأنه فوجئ بوجوده.. وأخذ يتأمله للحظات.. وأخيراً قال بعنف مكبوت:


ـ ما تقلقش حضرتك.. أنا وماما طول عمرنا بنعرف نتفاهم مع بعض بدون تدخل من حضرتك.. طول عمري وأنا لوحدي معاها..


توسعت عينا عصام بذهول لرد يزيد.. ليفاجئه يزيد برد آخر:


ـ وعلى فكرة.. سفر مش هسافر.. وهرجع لشغلي في المجموعة أول ما اطمن على علياء.. وحملها يستقر..


صرخت سهام بجزع:


ـ حمل!!.. حمل يا يزيد!.. هي البنـــ


وقبل أن تكمل إهانتها المعتادة لعلياء هتف بها يزيد بصرامة لم تعتدها منه:


ـ علياء حامل يا ماما ايوه.. علياء هتكون أم أولادي.. أنا فاهم أن ده شيء حضرتك صعب تتقبليه.. لكن مع الوقت هيكون الموضوع أسهل.. ومش هنضايق حضرتك بزيارات أو مقابلات...


قاطعت سهام كلامه وهي تصرخ بهيستريا:


ـ أنا كان عندي حق.. عندي حق.. أهي بعدتك عني أهي.. ومش عايزاك تزورني.. يزيد يا حبيبي.. لو على اللي في بطنها.. احنا نستنى لما تولد وناخد البيبي وريناد هتربيه وهتكون أم..


صرخ يزيد مقاطعاً:


ـ مامااااااااا


وضرب قبضته بسطح المكتب فارتطمت بمرمدة زجاجية.. تحطمت تحت قبضته لفتات.. وتسببت له في جرح بالغ بكف يده..


صرخت سهام بقوة لمرأى دماء يزيد.. وحاولت الاقتراب منه إلا أنه رفع يده المدماة إليها مانعاً اياها من الاقتراب قائلاً لها بصوت حاسم:


ـ أنا حاولت.. يشهد ربنا أني حاولت أني كلامي ما يكونش جارح أو مؤذي.. رغم أنك آذيتني وآذيتِ علياء.. لكن يظهر أني لازم أكون واضح.. ماما.. علياء هي مراتي.. هي ما سرقتنيش منك ولا أغوتني.. بالعكس.. أنا اللي..


ابتلع ريقه بصعوبة وهو يكمل:


ـ أنا اللي آذيتها كتير.. علياء هتكون أم ابني وهي اللي هتربيه.. ومن فضلك.. ما تقربيش ناحية علياء.. ما تكلميهاش في التليفون.. لو حتى شوفتيها ماشية في شارع.. غيري اتجاهك.. عشان أنا لو عرفت أنك قربتِ منها.. وقتها فعلاً هتكوني خسرتيني بجد..


شهقة ملتاعة كانت الرد على كلمات يزيد.. ولكنها لم تصدر من شفتي سهام, بل كانت ريناد هي من تقف على باب الغرفة وتنظر إلى جرح يزيد النازف بجزع وتستمع إلى كلماته الحاسمة بقلق جعلها تهتف متسائلة:


ـ هي.. هي علياء حامل؟..الكلام ده بجد..


التفت إليها يزيد بحنق:


ـ حمد لله على السلامة يا مدام ريناد.. وصلتِ امتى وازاي ومين سمح لك أنك تسافري؟


تحركت ريناد بثقة لتجذب يزيد من ذراعه وهي تلقي بنظرات حذرة على والديه الذين صمتا تماماً.. وتمكنت بسهولة من اخراج يزيد من الغرفة لتتجه به إلى غرفته القديمة وتبدأ في مداوة جرحه برقة بالغة, رقة لم يعتدها منها, تقارب حميم حرمته إياه منذ بداية زواجهما..


سألها في خفوت يخفي غضب مستتر:


ـ أنتِ كنتِ تعرفي ماما ناوية على إيه؟..


رفعت عينيها بسرعة إليه وأخفضتهما ثانية.. واستمرت بتضميد جرحه بمهارة.. ولكنه لم يستسلم لصمتها.. ضغط على يدها بقوة وهو يهمس من بين أسنانه:


ـ ردي عليّ..


ـ طنط سهام قالت لي أنه عندها الطريقة اللي تخليك تطلق عليا.. لكن ما وضحتش ازاي..


ضحك بسخرية مريرة:


ـ عبيط أنا عشان أصدق الكلام ده!..


أنهت تضميد جرحه وتحركت لتخبره بغضب:


ـ والله أنا كان ممكن أكذب وأقولك ما اعرفش بتتكلم عن إيه.. لكني جاوبت بصراحة وما كدبتش.. وقلت لك الحقيقة..


نظر إليها بتأمل.. كان منطقها سليماً.. ولكن حدسه يخبره أنها كانت تعلم..


تفرس في عينيها بحثاً عن الحقيقة ولكنه لم يجد إلا نظرات جامدة وواثقة..


موقفها الثابت أجبره على تصديقها وهو ما كانت تخطط له تماماً.. فلو أنكرت معرفتها عن الموضوع لما صدقها.. فتعمدت ذكر نصف الحقيقة.. حتى تقنعه بصدقها.. وهو صدقها ولكن مجبراً.. يجبره شعور بالذنب نحوها.. ذنب منبعه ضعف إحساسه بها.. نسيانه أو تناسيه لوجودها في اليومين السابقين.. لهفته القوية في الذهاب إلى علياء.. ذنب.. ذنب متعدد الأوجه.. ذنب لا يعرف له تكفيراً..


تنحنح ليجلي صوته:


ـ يلا بينا.. هوصلك وبعدين هروح المستشفى..


حاولت ريناد التحكم بأعصابها قدر الإمكان.. فيزيد يلعب بأوراق مكشوفة الآن ويصرح بوضوح عن أهمية علياء في حياته..


سألته ريناد بفضول واضح:


ـ فعلاً عليا حامل؟..


ـ أيوه علياء حامل..


لم يستطع السيطرة على الفرحة المتراقصة في صوته.. ولم تستطع ريناد السيطرة على غضبها الذي بدا واضحاً وهي تسأل:


ـ كام؟


لف وجهه عنها وهو يجبها بخفوت:


ـ شهرين..


اتسعت عيناها ذهولاً.. ثم أخفضتهما سريعاً.. وهي تهمس:


ـ مبروك..


ـ الله يبارك فيكِ..


رفعت عينيها وأخبرته ببساطة:


ـ أنا عايزة أروح لدكتور أتابع معاه وأعرف سبب تأخر الحمل..


رمقها بذهول وهو يسأل:


ـ حمل إيه اللي اتأخر!.. إحنا ما كملناش شهرين متجوزين!..


أجابته بنزق:


ـ بس عليا حملت على طول.. وأنا لازم أعرف إيه اللي غلط عندي..


وضع وجهه بين كفيه يحاول أن يخفي ضحكة مريرة ارتسمت على ملامحه وهو يتذكر المثل الشعبي الحكيم..


"هم يضحك وهم يبكي"...


ولكنه عاد ليتذكر.. تلك هي ريناد.. لا تسمح لأحد بأن يتفوق عليها.. حتى بأسبقية الحمل!!..


ـ يلا يا ريناد.. هوصلك بيتنا وهنتكلم في موضوع الدكتور ده بعدين.. أما أفوق من اللي أنا فيه..


أجابته بتردد:


ـ طيب ما توصلني عند ماما..


قاطعها بحسم:


ـ لا ماما ولا بابا.. هتروحي بيتك.. تفتحيه وتشوفي ناقصه إيه.. زي أي زوجة ما بتعمل.. ولو على خالتي.. كلميها تيجي تبيت معاكي الكام يوم الجايين دول.. لأني مش عارف ظروفي..


اجابته بضيق:


ـ أوك يا يزيد.. اللي تشوفه..


هل كان يقسو عليها؟.. كلا.. ربما قليلاً.. هز رأسه بعنف ينفض عنه تلك الأفكار.. فهو غير قادر على التعامل معها بتلك اللحظة..


********


وصل إلى المشفى بعدما قام بتوصيل ريناد إلى منزلهما.. ليجد نيرة جالسة على الأريكة وهي تقلب بقنوات التلفاز في ملل.. وعلياء مستغرقة في نومها بوداعة طفلة رقيقة..


زفرت نيرة بحنق ما أن رأته وهي تخبره بنزق:


ـ حمد لله على السلامة.. ما كنت نمت لك تلات- أربع ساعات كمان..


همس يزيد في تعب وهو يلوح بيد المضمدة:


ـ آسف يا نيرة.. اتأخرت غصب عني.. لو تحبي أوصلك بنفسي أو ابعت معاكِ واحد من بتوع الأمن..


لمحت يده المربوطة والتعب الواضح على ملامحه.. فهمست بخفوت:


ـ ما فيش داعي.. مازن سايب لي عربية بسواقها بره.. على فكرة, الدكتورة كتبت لعليا على خروج بكره.. هاجي على الساعة 11 كده عشان أساعدها..


تصبح على خير..


خرجت نيرة وهي تغلق الباب خلفها.. فتوجه يزيد بلهفة إلى فراش علياء.. ليجوارها ملتصقاً بها.. ومحيطاً إياها بذراعيه.. وهو يملس على خصلاتها التي رتبتها نيرة في قصة شعر جديدة.. لمحها فور دخوله الغرفة ولكنه أجل تفحصها حتى تغادر نيرة..


رتبت نيرة خصلات علياء وهذبتها فتركت غرة كثيفة على جبهتها وتمتد لتغطي حاجبيها وتستطيل قليلاً بينهما بينما ظهر عنقها الطويل جلياً نتيجة الخصلات القصيرة جداً خلف عنقها الذي طبع عليه يزيد شفتيه متأوهاً مدركاً لروعته والتي أظهرتها التصفيفة الجديدة.. فهمس بأذن علياء بغيظ وهو يتابع سلسلة الشامات الصغيرة بإصبعه.. ثم استبدل إصبعه بشفتيه:


ـ أنا هعمل خير للبشرية وأقتل نيرة.. هي عملت لك القصة دي عشان تجيب لي ذبحة!.. صح؟


تململت علياء بانزعاج بين ذراعيه.. فعاود تقبيلها في عنقها بخفة.. فتحت على إثرها عينيها ولفت وجهها له وكأنها تتأكد من وجوده.. قبلها على جبينها برقة وهو يزيد من ضمها حتى شعرت بضمادة يده تخدش بشرتها.. فنزلت بعينيها لترى يده المربوطة.. حركت عليها أناملها بخفة ورفعت عينيها بتساؤل قلق.. عاود مداعبة غرتها بلطف ورفعها عن عينيها هامساً:


ـ ما تقلقيش.. جرح بسيط..


شعر بأناملها تمر على يده الجريحة برقة وكأنها تربت عليها بحنان.. ثم ما لبثت أن لفت جسدها بين ذراعيه لتصبح في مواجهته وتغرز وجهها بعنقه وتلفه بذراعيها وتعود للنوم مرة أخرى..


رفع غرتها من فوق عينيها مرة أخرى.. وهو يهمس:


ـ يعني تكشف رقبتك وتغطي عينيكي!!.. صاحبتك دي مجنونة..


شعر بابتسامة شفتيها على عنقه.. فارتعش جسده تأثراً.. وزاد من ضمها.. وقد أدرك أنها لم توجه إليه كلمة واحدة.. هي مازالت تعاقبه بخصامها.. وهو مستعد للتحمل..


*************


مرت عدة أيام على وجود علياء بشقتها.. كانت تقضي أغلبها بالاستلقاء بفراشها كما أمرتها الطبيبة.. لم يفارقها بها يزيد إلا ساعات قليلة كان ينهي بها أعماله في فرع الشركة المواجهة للشقة.. ويعود إليها سريعاً.. فهي مازالت تتخبط رعباً من ذكرياتها الأليمة بين أهلها..


مازال رجلي الأمن مرابطان أمام الشقة.. وظف سيدة خمسينية لترعى علياء في ساعات غيابه.. وكانت دنيا هي من تكفلت بالعثور عليها, بطلب من مازن بالطبع.. فكانت "أم علي".. وهي سيدة في أوائل الخمسينات.. وحيدة تماماً بعد زواج أشقائها وشقيقاتها.. وهي من أفنت عمرها في رعايتهم.. لينطلق كل منهم في حياته.. مطالبين إياها بإكمال المشوار ورعاية أولادهم.. ولكنها السيدة المضحية تمردت على ما جبلت عليه من إيثار.. وقررت الخروج للعمل.. حتى لو كانت مدبرة منزل لزوجة شابة صغيرة.. صامتة وخائفة معظم الأوقات.. ولكنها تملك ذلك الشيء الغامض الذي دفع بـــ"أم علي" بالموافقة على رعايتها على الفور.. فهي تبدو وكأنها بحاجة إلى الحماية طوال الوقت..


نيرة كانت تأتي لزيارتها وتقضي معظم النهار برفقتها.. وكأنها تهرب هي الأخرى من بيتها.. من زوجها.. كما برعت في الهروب من نظرات علياء المتسائلة بشأن وجودها المستمر معها وابتعادها عن مازن..


ولكن علياء لم تصمت ذلك اليوم.. فهي ترى التعاسة بعيون نيرة.. ولا تدرك لها سبباً فعشق مازن لها واضحاً لعيون علياء التي سألت نيرة وهما جالستين في أحد الأيام بالشرفة التي ملأها يزيد بشتلات القرنفل.. حتى يسعد عينيها برؤية زهرتها المفضلة:


ـ نيرة.. حبيبتي.. في إيه؟.. مش معقول دي تصرفات عروسة جديدة..


غمغمت نيرة بتوتر:


ـ هيكون في إيه يا عليا؟!.. ولا حاجة.. أنتِ عارفة ظروف ارتباطي بمازن.. و..


قاطعتها علياء:


ـ مازن بيحبك يا نوني.. بيعشقك.. الحكاية أكبر من ظروف ارتباطكوا..


ضحكت نيرة بافتعال:


ـ هو يعني لازم يتصرف بجنون زي سي يزيد بتاعك.. اللي مش بيخليكي تخطي الأرض.. تصدقي ده طلب مني أني أكلمه لو حبيتِ تدخلي أوضتك عشان يجي يشيلك.. ربنا يعينك على جنانه..


كانت نيرة تلقي بكلماتها بغرض المزاح ولكن بداخلها شعور قوي يصرخ.. بأنها تريد ذلك أيضاً.. تحتاج أن يدللها مازن كما اعتاد في فترة خطبتهما.. ولكن بفضل اندفاعها.. حرمت نفسها ذاك الدلال والعواطف الجامحة التي كان يغرقها بها.. تباً.. ألم تكن تستطيع الانتظار لتنال من حسن في موقف آخر..


حسناً.. يجب أن تفكر وتجد حلاً لتستعيد شغف مازن.. ولكن كيف؟.. كيف أقربه مني بدون أن أبدو كالمتسولة لعاطفته؟.. كانت تعصر ذهنها بقوة وهي تفكر في أي حل.. أي طريقة.. حينما سمعت صوت "أم علي" المتفكهة وهي تخبرهما بضحكة مكتومة:


ـ ست عليا.. يزيد بيه وصل من شغله وبيقولك تحبي يدخلك الأوضة دلوقتِ؟


ابتسمت علياء بدورها.. فهي مازالت تخاصمه.. لا تطلب منه أي شيء مباشرة بل تستخدم "أم علي" لايصال رسائلها له.. والسيدة تكتم ضحكاتها مرة.. وتؤنبها مرة أخرى محذرة اياها..


"هتزهقي الراجل منك.. وهيطفش يدور له على ست تانية"..


كان رد علياء ابتسامة بلهاء.. فــ"أم علي" التي تدلل يزيد كطفلها العائد بعد غياب لا تعلم بعد بوجود زوجة أخرى في حياته..


ـ ست عليا.. ست عليا..


أخرجها صراخ "أم علي" من أفكارها نظرت لها بحيرة بينما همست نيرة بخفوت:


ـ خلاص يا أم علي.. قولي له يجي.. أنا نازلة دلوقتِ..


لحظة واحدة وكان يزيد أمامها.. ليرفعها من على مقعدها بين ذراعيه هامساً كالعادة:


ـ لفي ايديكِ حوالين رقبتي يا علياء..


أطاعته بصمت.. وركنت رأسها على كتفه وهي تخفي عينيها عن نيرة.. ولكنها لم تستطع كبح ابتسامتها الفرحة والتي لمحتها نيرة على الفور وهي تلحظ احتقان وجه يزيد بقوة..


ابتسمت نيرة بدورها وهي تتذكر قول مازن بأن علياء تملك سُلطة كبيرة على مشاعر يزيد.. ودوى بذهنها جملته الغاضبة.. أن تتعلم منها.. برقت الفكرة في رأسها على الفور.. فاتسعت ابتسامتها.. أكثر وأكثر.. وهي تتمتم..


"ماشي يا مازن.. أما نشوف هتقول إيه على اللي اتعلمته من عليا!"..


**************


جلس كلاً من مازن ويزيد على أحد الأرائك بمكتب هذا الأخير يستمعان إلى حسن وهو يقص عليهما مطاردة تلك السيدة التي تدعى ابتسام له بشتى الطرق والوسائل.. حتى أنها تجرأت وظهرت أمام منزله.. طالبة.. بل متوسلة إياه الذهاب إلى منزلها لمناقشة بعض الأعمال الخاصة!!..


يومها نهرها بعنف.. وهددها بفضيحة مدوية أمام أهل الحارة.. والذين لن يغفروا تفكير سيدة مثلها.. لتظهر منى لحظتها وتزيد في تهديدها بــ"علقة محترمة من سيدات الحارة المحترمات حتى يظهر لها صاحب"..


يومها هربت مسرعة بسيارتها ولكنها لم تكف عن الاتصال.. وإرسال الرسائل..


كانا الرجلين يكتمان ضحكاتهما بصعوبة وحسن يصرخ:


ـ أعمل إيه في *****... دي؟.. بطلوا ضحك وساعدوني..


قطب مازن متعجباً استخدام أخيه لمثل ذلك اللفظ.. وما لبث أن تذكر عدة ألفاظ مشابهة أثناء سرد الحكاية.. فسأل حسن بضيق:


ـ من إمتى بتتكلم بالطريقة دي يا حسن؟..


رد حسن بغيظ:


ـ بقولك إيه يا هندسة.. عيش عيشة أهلك وبلاش الأنزحة الكدابة دي!!


ردد مازن بذهول:


ـ عيش عيشة أهلك!!.. حسن..


قاطعه حسن بغيظ أكبر:


ـ يوووووه.. سايب المشكلة وجاي في الهايفة وتتنح لي فيها.. انجز يا بشمهندس وشغل الجمجمة..


هتف مازن بغضب:


ـ حسن...


أمسك يزيد بذراعه ضاغطاً عليه بقوة حتى يمنعه من الاسترسال في الكلام.. فسكت مازن على مضض.. بينما توجه يزيد لحسن مستفسراً:


ـ يعني هي عايزة جواز.. ولا...


ضرب حسن كفيه ببعضهما على معدته وهو يسخر:


ـ لا يا سيدي.. ولا.. وبعدين هتفرق معاك في إيه؟..


ـ خلاص يا حسن.. اهدى شوية.. عشان نتفاهم.. أنت أساساً اتعاملت معاها غلط..


كتف حسن ذراعيه وهو يسأل:


ـ غلط؟.. تقصد إيه يا دنجوان عصرك؟..


لاحظ يزيد نبرة حسن المحتدة وتغير أسلوبه.. وكان قد لاحظ تغير مفرداته كذلك.. فتبادل مع مازن نظرات قلقة.. حسن.. يتحول.. يتغير ويقسو بقوة.. فحسن القديم لم يكن ليهدد سيدة أبداً بافتعال فضيحة حتى ولو كانت تلك الابتسام..


ابتسم يزيد بتوتر:


ـ بص يا حسن.. أنت قعدت تقولها مراتي.. وبحب مراتي.. طبعاً جننتها وحطيتها قدام تحدي.. كأنك.. يعني..


قاطعه حسن بفظاظة:


ـ أيوه.. كأني رميت قماشة حمرا في وش تور..


ابتلع يزيد لعابه بضيق:


ـ يعني.. تقريباً..


هتف حسن بحنق:


ـ والمطلوب؟.. أخلي الــ ***** تغور من وشي إزاي؟؟؟...


تغاضى يزيد عن سوء ألفاظ حسن وهو يسأله بتوسل:


ـ أحل لك مشكلتك وتساعدني مع علياء.. عايزها ترجع تكلمني تاني.. هيه.. موافق؟..


ضرب حسن كف بكف وهو يصيح:


ـ يحرق دي صحوبية يا أخي.. يعني لو ما ساعدتكش.. هتسيبني أغرق مع الست اشتعال دي!!..


ـ خلاص يا حسن.. اهدا يا أخي..


كان مازن صامتاً بغضب وهو يستمع للحوار.. يريد أن ينهض ليمسك بتلابيب هذا الحسن ويسأله"من أنت؟.. وأين أخفيت شقيقي؟؟".. ولكنه حاول السيطرة على أعصابه بقوة فولاذية وهو يتذكر محاولاته الحثيثة مع والده ليفك الحصار قليلاً حول حسن.. محاولات يشعر أنها على وشك النجاح بها.. ولكنه يحتاج إلى القليل من الوقت بعد..


سمع يزيد ينصح حسن بهدوء:


ـ بص يا حسن.. هي بس حست أنك مميز شوية عن اللي حواليك وده جذب واحدة من نوعيتها.. يعني لو تقدر تحسسها أنك واحد عادي زي زمايلك يعني.. و..


صرخ مازن مقاطعاً:


ـ لاااااا.. أنت عايزه يتحول أكتر من كده!!..


انتفض حسن بغضب ليجذب مازن من قبه قميصه وهو يسأله بحرقة:


ـ قصدك إيه؟..


دفعه مازن بقوة ولكن حسن كان أكثر غضباً ليتزحزح.. والتمعت نظرة شرسة بعينيه مما دفع بيزيد ليتدخل على الفور بينهما ليبعدهما عن بعض وهو يهمس لمازن بغضب:


ـ لو مش عارف تتحكم في أعصابك.. روح.. لكن مش هسمح أن ترفع إيديك عليه.. فاهمني..


عاد مازن إلى مقعده بعنف.. بينما التفت يزيد إلى حسن مهدئاً:


ـ خلاص يا حسن خلينا في المهم.. زي ما قلت لك.. حاول تظهر قدامها كأي نقاش.. من زمايلك.. و..


قاطعه حسن بسخرية:


ـ هو ده الحل السحري بتاعك؟!..


هز يزيد رأسه نفياً وهو يلتقط هاتفه ليتصل بأحد أصدقائه.. وسرعان ما تعالت ضحكاته مع ذاك الصديق قبل أن يخبره بلهجة غامضة:


ـ عندي طلب صغير..


سكت قليلاً وأكمل:


ـ خدمة خاصة بنون النسوة أيوه.. تعرف ابتسام نيازي؟؟


قهقه يزيد بقوة:


ـ أنا قلت ما فيش غيرك هيحل المشكلة.. مدام ابتسام يا سيدي ناوية على واحد معرفة.. والراجل غلبان ما لوش غير مراته وبيته.. و..


قطع يزيد كلماته بينما وصله الرد على الطرف الآخر.. فصاح يزيد:


ـ تسلم يا غالي.. أنا برضوه قلت الحل في إيد ناجي..


سكت قليلاً وهو يستمع لناجي.. ثم أنهى المكالمة:


ـ حبيبي.. اللي تؤمر به.. عدي عليّ في الشركة وهخلص لك الموضوع..


أغلق الهاتف.. والتفت إلى حسن مبتسماً:


ـ خلاص يا سيدي.. وأهو ناجي هيخلصك منها.. وهيتحمل هو عذاب الست اشتعال.. ارتحت؟..


أومأ حسن موافقاً.. وقد تنهد بارتياح.. بينما يزيد يعاجله بلهفة:


ـ قولي أعمل إيه بقى؟.. نفسي علياء ترجع تكلمني تاني.. عايز أسمع صوتها.. كل اللي أعرفه عن الرومانسية عملتهولها.. قرنفل وغرقت لها الشقة.. نجاة وحفظت أغانيها.. أنا..


قاطعه حسن بهدوء وقد ارتسمت على شفتيه ابتسامة رقيقة فعاد للحظة حسن القديم:


ـ سيبها تخاصمك يا يزيد..


صرخ يزيد بعنف:


ـ إيه!!


اتسعت ابتسامة حسن:


ـ سيبها تخاصمك.. تعاقبك.. تحس أنها في إيدها حاجة تعملها.. أقضي عقوبتك لنهايتها.. بس ما تخاصمهاش أنت.. كلمها على طول, حتى لو ما ردتش عليك.. احكي لها عن شغلك.. عن يومك.. هتعملوا ايه لابنكم اللي جاي في الطريق.. كلمها وما تبطلش كلام.. واستحمل خصامها لحد ما هي تكتفي..


ربت على كتف يزيد وهو يخرج مودعاً وشاكراً له مساعدته.. بينما رمق مازن بنظرة خاطفة وتحرك ليفتح الباب قبل أن يشعر بذراعي مازن تنطبقان عليه بعناق أخوي وهو يهمس له:


ـ آسف يا حسن.. أخوك الصغير مدب.. استحمله بقى!..


ابتسم حسن بهدوء.. وهو يربت على كتف شقيقه.. ويخرج سريعاً..


********


وقف يزيد تحت الدش وهو يتلقى مياهه الباردة علها تخفف شيئاً من غليانه.. وهو يتذكر نصيحة حسن في ذلك اليوم.. بأن يسمح لعلياء بعقابه للنهاية..


وها هو يتحمل ببسالة دش بارد تلو الآخر حتى لا يزعجها.. ينتظرها بصبر لم يكن يعلم أنه يملكه حتى تعاود الحديث معه مرة أخرى.. لا ينكر أن نصيحة حسن كانت مفيدة.. حسناً مفيدة قليلاً.. فهو منذ تلك الليلة وهو يحادثها بلا انقطاع.. تعجبت من أحاديثه الطويلة في البداية.. ثم سرعان ما ارتسم الاهتمام في عينيها وهي تتابعه يسرد تفاصيل يومه.. وكيف حل تلك المشكلة.. وكيف أجل حل أخرى حتى يسرع ليكون بجوارها.. بجوار ابنهما.. كان يلمح نظرة حنان وابتسامة لا توصف بكلمات على شفتيها وهي تسمعه يحادث صغيرهما.. أو يحدثها بشأن من شئونه.. ابتسامتها تلك كانت مكافأة له على صبره.. على غليانه لقربها.. احتراق فعلي يشعر به.. ولا دواء له غيرها.. فقد تيقن من ذلك.. في عصر أحد الأيام برفقة ريناد.. ولكن للعجب كانت ريناد تبدو مكتفية وسعيدة.. يبدو أن طول الحرمان حسن من أدائه..


ابتسم بسخرية من نفسه وهو يجفف جسده ويخرج من الحمام ليستلقي في فراش علياء الوردي.. ذلك الذي أصرت على اصطحابه معها من المزرعة.. وتحول مؤخراً لفراشه هو.. فهو بعد عدة ليالِ احترق جسده برغبته بها ولم يستطع الاقتراب منها.. قرر أن ينتقل من غرفتها.. كان يضمها حتى تنام وتستغرق في نومها.. ثم يذهب إلى فرضه الليلي من الأدشاش الباردة.. وينام في فراشها الوردي الضيق.. مرر يده بخصلت شعره بغيظ.. ألا تشعر بغليانه.. باحتراقه.. بتوقه لها..


بينما كان هو يحترق داخل الفراش الوردي كانت علياء تعض يدها مترددة.. لا تعلم هل تقدم على تلك الخطوة أم لا.. توقفت يدها على مقبض غرفته وهي تفكر.. هل تذهب إليه؟.. هل تبدأ هي؟..


في بداية خصامها له كان يسعدها نظرة التوق العنيفة بعينيه.. والآن أصبحت تشعر بتوق مماثل.. وربما أعنف نحوه.. تباً.. أنها الهرمونات بالتأكيد.. كما قرأت في أحد الكتب الخاص بصحة الحامل.. وظنت وقتها أنه يمتنع عنها تنفيذاً لتعليمات الطبيبة.. ولكن انقضى الوقت وانقضت التعليمات وهو ما زال متباعداً..


حسناً.. ليس متباعداً تماماً.. فهي تشعر بغليان جسده وهو يجاورها كل ليلة حتى تستغرق في النوم.. غليان يزداد باضطراد.. وأنبأتها غريزة أنثى ولدت على يديه.. أنه وصل لأقصى درجات تحمله.. لذا حسمت أمرها ولفت مقبض الباب.. لتدخل إلى الغرفة المظلمة.. وتتحرك نحو فراش يزيد بتردد.. بينما عيني يزيد اتسعاتا في وسط وجهه وهو يراها تدلف إلى الغرفة.. وهي ترتدي منامة تويتي الشهيرة.. عبس شاتماً.. كم تمتلك منهم.. هل ينبغي أن يمزقهم جميعاً..


وقفت أمام الفراش وهي ترمقه بخجل.. بينما كاد مفرش السرير أن يشتعل بنيران توقه إليها.. ولكنه ظل صامتاً وهو يضغط على أسنانه بعنف بينما هي تقترب منه بتردد.. لتهبط تجاوره بخجل.. تلتصق به.. وتجذب رأسه نحوها.. تمنحه قبلة كانت هي ولأول مرة البادئة بها.. لم يستطع صبراً لثانية أخرى تمر, فجذبها إلى صدره برغبة حارقة.. عنيفة.. لن تشبعها سواها..


*******


صوت ارتطام شديد بأثاث غرفة المعيشة كان ما أيقظ منى.. والتي تعجبت كيف غفت وهي تنتظر عودة حسن.. والذي أصبح يتأخر بعودته يوماً بعد يوم.. والليلة تأخر كثيراً.. حتى أنها نامت قبل عودته..


صوت ارتطام آخر.. وسباب بذيء وصل إلى مسامعها.. قبل أن ترتدي مئزرها المنزلي وتخرج بسرعة لترى من بالخارج.. لتفاجيء بحسن راقداً على ظهره فوق الأريكة وهو يحاول خلع حذائه.. وفي كل مرة يفشل كان يشتم ببذاءة..


هتفت بتعجب وهي تتجه نحوه لتعدل من جلسته.. وتتكئ على ركبتيها لتخلع حذائه:


ـ حسن اتأخرت قوي..


فوجئت به يجذبها من عنقها بقسوة ويرفع وجهها إليها هامساً:


ـ منى.. ريحتك حلوة قوي..


مرغ شفتيه في عنقها بنهم.. حتى شعرت بأسنانه تغرز في بشرة عنقها الرقيقة.. فأـبعدته عنها بقوة:


ـ في إيه يا حسن؟..


جذبها مرة أخرى ليقبلها بعنف حتى أدمى شفتيها:


ـ هو إيه اللي في إيه.. في اني عايز مراتي.. عايز أتبسط شوية.. إيه مش من حقي بعد تعب ومرمطة طول النهار إني أرجع ألاقي الحتة بتاعتي مستنياني وعايزة تبسطني..


رددت منى بذهول:


ـ حتة بتاعتك!!.. تبسطك!!


جذبها مرة أخرى ليضغطها إلى صدره بعنف كاد أن يحطم أضلاعها وهو يقبلها بشهوة.. هامساً:


ـ اخرسي بقى هتطيري النفسين من دماغي..


شهقت منى بعنف.. وهي تتلقى منه معاملة لم تتصور أبداً أن تتلقاها أي زوجة من زوجها.. زوجها الذي كان يعشقها.. قبل أن يعرف التدخين.. والسجائر.. سجائر غير بريئة أبداً.. 


الفصل الحادي والعشرون

والثاني والعشرون

وقفت نيرة أمام المرآة.. وهي تنهي اللمسات الأخيرة لزينتها.. وعقلها يراجع خطة تقربها من مازن للمرة المائة.. فكرت أن تقدم اعتذار بسيط.. ولكن غريزتها أنبأتها أن ذِكر حسن بينهما لن يسبب إلا المشاكل.. فقررت أن تظهر اهتمامها.. بالفعل.. سهرة منزلية.. وعشاء شهي على أضواء الشموع.. فستان أسود من الحرير الناعم.. ذو فتحة عنق مهولة تكاد تصل إلى بداية معدتها.. يكشف عن عنق مرمري ناعم تعلقت به قلادة تتدلى لتداعب فتحة فستانها مع كل التفاتة منها.. جمعت شعرها في لفة راقية خلف عنقها.. وأتقنت زينة وجهها.. بالكامل.. ظلال الجفون أسود.. وحمرة قانية للشفاه.. وعطر يغري الحجر..


ألقت نظرة أخرى واثقة على نفسها ومنحت وجهها الفاتن قبلة..


وما أن سمعت صوت محرك سيارته يعلن عن وصوله حتى تحركت بسرعة لتكون في استقباله.. نزلت درجات السلم بسرعة تلتف حول ركبتيها أطراف ثوبها الحريري.. وتصاحبها غيمة من عطرها المغري..


صوت طرقات الكعب العالي على درجات السلم لفتت انتباه مازن على الفور فرفع رأسه ليتجمد تماماً تحت تأثير هيبة جمالها..


كانت جميلة.. بل فاتنة.. مبهرة.. لم يخطئ من أسماها نيرة.. فجمالها ينير عالمه.. حتى ولو هرب منها.. من تأثيرها عليه.. ولكنه.. يعي تأثره به جيداً.. وكما يبدو هي أيضاً أدركت من تعابير وجهه انبهاره بجمالها.. فأبطأت من خطواتها الراكضة.. وتحركت بثقة نحوه.. ولكنها لم تستطع التحكم في أنفاسها اللاهثة وهي تقف أمامه.. تواجهه..


ابتسامة خفيفة ظهرت على وجهه وهو يتناول يدها ليطبع عليها قبلة رقيقة.. ويتأمل لهفة ملامحها لإطراء منه.. ولكنه ظل صامتاً وعيناه تجوبان ملامحها في لهفة وحب وكأنه يبحث عن ارتواء.. اشباع.. فقط من ملامحها..


سألته أخيراً بهمس:


ـ إيه رأيك؟.. عجبتك؟!..


قربها منه بشدة ونظرات عينيه تركزان على حمرة شفتيها وهمس أمامهما:


ـ فإذا وقفت أمام حسنك صامتاً.. فالصمت في حرم الجمال.. جمال


ابتسمت بسعادة وهي تهتف:


ـ الكلام الحلو ده علشاني؟..


لف خصرها بذراعه هامساً بشقاوة:


ـ لو الجمال ده كله عشاني يبقى الكلام الحلو أكيد عشانك..


قهقهت تلك المرة بسعادة بالغة وهي تستشعر عودة مازن القديم.. مازن الذي كان يتفنن في تدليلها ويغرقها بعواطف لم تعرف مثلها أبداً..


هي على الطريق الصحيح إذاً.. تحقق نجاحاً.. مظهرها فقط جعله يلقي على أذنيها بكلمات الغزل..


فماذا سيفعل عندما يرى ما قامت به من أجله!!..


سحبته من يده وهو كان منقاداً لها تماماً.. فقلبه يقفز بجنون داخل صدره.. سعادة وفرحة حمقاء تنتفض بداخله منبعها إحساسه أنها تريد إرضائه..


تحرك معها بسلاسة لتصطحبه إلى غرفة الطعام.. حيث اصطفت أطباق الطعام.. وغابت الأنوار تاركة السطوة لضوء الشموع.. لتتراقص الخيالات حولهما وهي تتعلق به وتلف ذراعيها حول عنقه هامسة:


ـ نرقص؟..


ضمها لصدره ولف بها ومعها في الغرفة حتى اقتربا من جهاز تسجيل حديث.. فقامت بتشغيل الأغنية التي رقصا عليها ليلة زفافهما.. وهمست:


ـ هنرقص عليها لآخرها المرة دي.. ممكن؟!..


رمق نظرات عينيها المتوسلة.. وتعابير وجهها الملهوفة بتردد.. فرغم سعادته لما تبذله من جهد لتنال رضاه, إلا أنه أصبح يمقت الأغنية وكل ذكريات تلك الليلة البعيدة.. وصله صوتها متوسلاً:


ـ مازن.. بليييييز.. عشان خاطري..


هز رأسه برفض رقيق.. واختار أغنية أخرى وهو يهمس:


ـ هنرقص بس مش سلو.. اسمعي الأغنية دي.. كلماتها تحفة..


وبالفعل ارتفعت النغمات.. ليلف بها عدة مرات حول مائدة العشاء.. ذراعه حول خصرها.. نظراته تتواصل بنظراتها وكأنما يربطهما خيط غير مرئي.. عيونه بها تساؤل.. تجيبه هي بتوسل.. فتجوب نظراته وجهها الفاتن..


ويضمها إليه أكثر.. بينما تتعالى الكلمات الرقيقة..

قل لي- ولو كذباً- كلاماً ناعما ً

قد كاد يقتلني بك التمثال..

مازلتِ في فن المحبة.. طفلةً

بيني وبينك أبحر وجبال

لم تستطيعي -بعد- أن تتفهمي

أن الرجال جميعهم أطفال


فإذا وقفت أمام حسنك صامتاً

فالصمت في حرم الجمال.. جمال..


كلماتنا في الحب.. تقتل حبنا..

إن الحروف تموت حين تقال..

تتقابل الشفاه أخيراً.. قبلة خاطفة.. وكأنها تساؤل معلق بينهما..


نظراتها ترتفع إليه وكأنها تصرخ.. "خذني".. وتستجيب شفتيه لتمنحها قبلة.. قبلة عشق تلك المرة.. فضم شفتيها.. داعبهما.. قبلهما.. بل كاد يلتهمهما وهو يعمق القبلة لتصبح أقوى.. وأعمق وأكثر إثارة.. حتى أن نيرة لم تحتمل اندفاعه.. فحركت وجهها تدفنه بجانب عنقه.. تهرب قليلاً بمشاعرها التي بعثرها..


ماذا يحدث لها؟.. لقد ظنت أنها ستسيطر عليه.. تستعبده وتستغل حبه.. فيذوب عشقاً بهواها وتبجيلاً لجمالها.. ولكنها هي الآن من تغرق.. تغوص ببحر من الرمال التي تبتلعها.. وهي حتى عاجزة عن المقاومة.. يجب أن تكون هي المتحكمة.. المسيطرة.. فهو من يحبها.. هو العاشق.. أنها مستمتعة فقط بذلك العشق.. ذلك التميز..


تعالت الكلمات مرة أخرى..

قصص الهوى قد جننتك..


فكلها....

غيبوبة.. وخرافة.. وخيال

الحب ليس رواية يا حلوتي..

بختامها يتزوج الأبطال.


مشاعرها تتجاوب.. بقوة.. تكاد تخضع.. كلا.. فكرت بعنف.. يجب أن تهدأ قليلاً.. لن تستسلم الآن.. فلتتركه يحترق قليلاً كما تركها في بؤسها لأيام..


همست له برقة:


ـ نتعشى بقى؟..


توقف عن الرقص وهو يردد بذهول:


ـ نتعشى!!..


سحبته من يده وأجلسته على رأس المائدة.. وسحبت مقعداً وجلست بجواره وهي تبتسم محاولة السيطرة على اضطراب مشاعرها:


ـ الأكل يجنن.. دوق بس كده..


ابتسم ليجاريها:


ـ يا ترى أنتِ اللي طبختِ؟..


تلعثمت قليلاً:


ـ أنت عارف أني ماليش في الطبيخ والكلام ده.. بس أنا أشرفت على توضيب كل حاجة..


همس وقد برد اندفاعه قليلاً:


ـ وماله.. نبتدي خطوة.. خطوة..


أخذا يتناولا طعامهما في صمت متوتر.. فالمشاعر المتطايرة في الجو كانت أكبر من أن تحتويها تلك الغرفة رغم اتساعها..


هو وقد وصل صبره لمنتهاه.. يريد حبيبته.. من ضحى وواجه شقيقه من أجلها وكاد أن يخسره ليحصل عليها..


وهي مشتتة.. في أعماقها تتساءل عن تلك المشاعر التي تجذبها لمازن على الرغم من تيقنها بأنها لم تتغلب على حبها وخيبتها من حسن..


رنين الهاتف أوقف تيار المشاعر الملتهبة.. ليرد مازن بقلق.. فقد كان المتحدث والده.. أخذت نيرة تتابع ملامح مازن وانفعالاته وهو يحادث والده..


أعجبهتها سيطرته على مجريات الحديث.. كان يناقش والده بخفوت وحزم.. وكادت المكالمة أن تنتهي حين سمعته يذكر حسن.. ويكرر على والده الطلب بأن يعفو عنه.. أو على الأقل يخفف من حصاره.. وضعت شوكتها بهدوء متوتر وعيناها تتابع الحوار باهتمام لم يخفَ على مازن.. وأدركت هي ذلك فلعنت غبائها بصمت ولكنها لم تستطع منع نفسها من التساؤل بصوت عالٍ وكان مازن قد أنهى المكالمة للتو:


ـ هو أونكل حاتم هيسامح حسن خالص؟.. يعني هيرجعه للشركة؟..


أجابها بغضب مكبوت:


ـ يهمك اوي أن حسن يرجع؟..


تلعثمت:


ـ لا.. أنا أقصد..


قاطعها وهو ينهض بعنف:


ـ متشكر قوي على العشا.. الأكل كان لذيذ فعلاً..


نهضت خلفه لتتمسك بذراعه:


ـ مازن.. استنى بس..


التفت لينظر لها وهو يحاول احتواء خيبة أمله:


ـ خير.. في حاجة؟..


ـ يا مازن مش كل مرة تغضب وتبعد.. أرجوك..


هز رأسه بحزن:


ـ يمكن أنا غلطان أني بعدت.. لكن ده بيكون رد على غلطك أنتِ.. أنا مش هشرح لك أو أوضح لك الوضع معقد ومكلكع قد إيه.. لازم تكوني أنتِ حاسة.. أنا ظنيت للحظة أن الرسالة وصلتك.. بس يظهر.. أننا لسه محتاجين وقت أطول..


هو أن نثور لأي شيء تافه..

هو يأسنا.. هو شكنا القتال..

هو هذه الكف التي تغتالنا..

ونقبل الكف التي تغتال..


وصلته كلمات الأغنية وكأنها تصف حاله فأغمض عينيه قليلاً وتحرك ليرفع كفها يقبله:


ـ الأغنية.. دي قصيدة لنزار.. كملي باقي أبياتها.. يمكن.. يمكن..


لف ليخرج من الغرفة بينما هي تصرخ من خلفه:


ـ رايح فين؟..


ابتسم بغموض:


ـ للدنيا الواسعة..


خرج وتركها تغلي غضباً وغيظاً وقد فشلت خطتها للتقرب منه واسترداد اهتمامه.. التفتت للمائدة التي أعدتها من أجله لتجذب المفرش بقوة وتحطم ما فوقها.. وتدوس فوق حطام الأطباق بغيظ.. وبداخلها يتردد كيف تفشل في الوصول إلى مازن.. العاشق المتلهف.. بينما تنجح علياء بطفولتها في السيطرة على يزيد بجنونه.. ومنى تتغلغل داخل حسن برقته وحنانه..


أعادت مجريات السهرة في ذهنها.. لتقف عند مكالمة والده.. وبداخلها يكبر الإحساس أنه تعمد استقبال المكالمة وذكر حسن ليختبر ردة فعلها..


"غــــــــــبية"..


صرخت بقوة.. وهي تدرك أنها فشلت في اختبار أحمق.. تدافعت الدموع خلف جفنيها, ولكنها أحكمت سيطرتها عليهم.. كلا.. لن تبكي.. ولن تعترف بالفشل.. ستصل لزوجها.. وستسيطر على قلبه ومداركه.. فقط تحتاج إلى الهدوء.. والصبر.. وسياسة النفس الطويل..


ركضت إلى غرفتها.. لتبحث عن باقي القصيدة كما أخبرها.. لتتساقط دموعها تلك المرة وهي تقرأ..

لا تجرحي التمثال في إحساسه

فلكم بكى في صمته.. تمثال..

قد يطلع الحجر الصغير براعماً

وتسيل منه جداولٌ وظلال

إني أحبك من خلال كآبتي

وجهاً كوجه الله ليس يطال

حسبي وحسبك.. أن تظلي دائماً

سراً يمزقني.. وليس يقال


*************


فتحت علياء عينيها بصعوبة.. وبأذنيها يتردد همس يزيد, بل هو صخب.. صخب ضربات قلبه الهادرة والتي تستشعرها تحت وجنتها.. ومداعباته المستمرة لها حتى تستيقظ تماماً.. فسمعته يهمس وهو مستمر بمداعبته لعنقها طابعاً قبلات عميقة وحسية:


ـ علياء.. علياء.. ردي عليّ.. معقولة طول الليل من غير ولا كلمة..


عدلت من وضع رأسها لتضعه فوق ذراعه.. ورفعت عينيها إليه لتلتقي نظراتهما.. حديث طويل تبادلاه بدون كلمة واحدة.. نظراته تفضح شوقه.. توتره.. احتياجه الذي عجز عن التحكم به.. ونظراتها مليئة بالخجل.. والخزي.. فهي من ضعفت.. هي من ذهبت إليه.. وهي من تبكي دائماً..


التقط دموعها بشفتيه وهو يمرغهما في وجنتيها هامساً:


ـ دموع!!.. دموع ليه يا علياء؟..


لم ترد عليه بل دفنت وجهها بتجويف عنقه وسكنت تماماً.. فهمس بلوعة:


ـ سكوت!!.. سكوت ودموع؟؟.. علياء!!..


كانت تسمع توسله في نبرة صوته وأرادت أن ترد.. أن تقول أي مما يجول بذهنها.. ولكنها عاجزة.. فقط عاجزة عن فتح شفتيها للكلام.. عن تحريك لسانها.. تصطف الكلمات وتتدافع بين ثنايا عقلها ولكنها ترفض التحرك خارجه.. أنها لم تصاب بالخرس.. هي متأكدة.. فهي تحادث نيرة.. و"أم علي"


باستمرار.. فقط تنتابها حالة الخرس معه.. خرس غريب قد تطلق عليه "الخرس اليزيدي"..


طرقات قوية على باب الغرفة أفزعتهما معاً وصوت "أم علي" يدوي:


ـ سي يزيد.. سي يزيد بيه.. الحقني يا سي يزيد بيه.. الست عليا مش موجودة.. مش لاقياها في الشقة.. يا سي يزيد..


دفنت علياء رأسها بصدر يزيد لتخفي وجهها الذي اشتعل حرجاً.. وكأن "أم علي" تمتلك القدرة على الرؤية من خلال الباب المغلق.. بينما يزيد لا يتوقف عن اطلاق السباب..


وأخيراً ارتفع صوته حتى يسكت صرخات "أم علي":


ـ خلاص.. خلاص يا ست أم علي.. علياء معايا هنا.. ما تقلقيش عليها..


سمعا صوت ضحكات "أم علي" الخجولة وصوتها يهتف:


ـ يا نهار الهنا.. أنا هروح أحضر لكوا فطار معتبر..


جلست علياء في الفراش وهي تخفي وجنتيها المشتعلتين بكفيها, ثم تلفتت حولها باحثة عن منامتها.. حينما شعرت بيزيد يتحرك من الفراش ويمد يده إليها بروب طويل يخصه وهو يردد:


ـ ما فيش حتى صباح الخير.. وحشتني.. أي كلمة تبل ريقي..


تمسكت بالروب وعينيها تتسعان غير قادرة على إجابته بالكلمات.. أي كلمات تلك التي يبحث عنها.. وهي من أظهرت بكل وسيلة أخرى مدى اشتياقها له..


ارتدت الروب وتحركت لتخرج من الغرفة حينما وصلها صوته:


ـ استعدي عشان هنروح متابعة الحمل بعد الفطار..


لمعت عينيها اندهاشاً لتذكره الموعد.. وهزت رأسها موافقة.. فتحت الباب لتجد "أم علي" في مواجهتها.. فسحبتها إلى غرفتها وهي لا تكف عن الثرثرة.. وإطلاق النصائح وتهنئتها لأنها "خزت الشيطان وصالحت جوزها"..


اغتسلت سريعاً ومشطت خصلات شعرها القصير.. وخرجت لتجد يزيد متجهاً بدوره ليتناول الافطار.. اصطحبها ليجلسا سوياً.. فوجدت "أم علي".. قد أعدت مائدة حافلة.. كانت جائعة بالفعل.. فبدأت في التهام طعامها بتلذذ تحت أنظار يزيد المذهولة.. رمقت ذهوله للحظات.. ثم استمرت في تناول طعامها.. ولكنه ظل يناظرها بتعجب.. وارتسمت على شفتيه ابتسامة واسعة.. سرعان ما تحولت إلى ضحكة عالية وهو يسألها:


ـ إيه اللي أنتِ بتعمليه ده؟!


انطلق لسانها بدون إرادة منها وهي تجيب بدفاع:


ـ بآكل.. أنا جعانة قوي..


توقفت ضحكاته وهو يدرك أنها تحادثه.. تحادثه بالفعل.. بعد خصام أيام, بل أسابيع.. يعود صوتها الناعم ليداعب أذنيه مرة أخرى.. بينما هي وضعت أناملها على فمها وكأنها تتعجب لما قالته.. عادت ابتسامته لتتسع وهو يمد يده ليمسك كفها ويقبل أناملها بمتعة شديدة هامساً:


ـ وماله يا حبيبتي.. براحتك.. بس يعني هو البيض حلو بالمربى.. مش جديدة الوصفة دي!!..


نظرت إلى البيضة المسلوقة في يدها وقد غمستها في طبق المربى.. وابتسمت بحرج.. ثم أكملت طعامها.. تحت نظراته.. كيف تستطيع اخباره أن طعم البيض بالمربى في فمها الآن أروع من طعم الشيكولاة بالكرز...


أنقذها صوت أم علي وهي تخبر يزيد ببشاشة:


ـ سيبها يا سي يزيد بيه.. ده وحم.. هي بتتوحم على المربى.. اسم الله عليها.. بتغمس كل حاجة بالمربى..


ابتسم يزيد لها وضغط على أناملها بحنان وهو يسألها:


ـ بتحبي المربى كده!.. غريبة.. ما كنتيش بتاكليها أبداً..


تضرجت وجنتيها وهي تعي مراقبة "أم علي" لهما.. ورسخت كلماته في ذهنها تخبرها أنه يعلم ما تحب وما تكره.. شجعها ذلك لتخبره عن اقتراب موعد دخولها للكلية.. ولكن عادت حالة الخرس اليزيدي تتلبسها..


فأخذت تفرك أناملها في كفه.. حتى أمسكها وهو يقترب منها هامساً:


ـ دخول الكلية هيكون أول الاسبوع.. صح؟..


أومأت موافقة برأسها.. فعاد يهمس:


ـ خلاص يا علياء.. هوصلك وأجيبك.. ولو ما اقدرتش.. هيكون في سواق وفرد أمن معاكِ على طول.. بس المهم أنك ما ترهقيش نفسك..


سكت قليلاً ينتظرها لتجبه ولكنها ظلت صامتة.. فهمس بحزن:


ـ خصامك صعب قوي يا علياء..


رمقته بنظرة خاصة تنبهه لوجود "أم علي".. فالتفت لها ليصرفها بسرعة.. ويجذب علياء ليجلسها على ركبتيه.. وهو يداعب عنقها ويجري بظهر أصابعه عليه بشغف:


ـ تلبسي حاجة مقفولة.. وكمان كوفيه أو اسكارف.. مفهوم؟..


هزت رأسها رافضة.. يقودها شيطانها لتستفزه.. شيء ما يدفعها لتثير غضبه.. يبدو أنها هرموناتها تتقافز بدون وعي منها.. ولكنه أجاب على استفزازها بطريقة عملية بحتة.. حيث ضمها بقوة ليطبع على عنقها قبلة قوية.. قبلة حب.. قبلة طالت واستمرت وتطورت حين انتقل لشفتيها... وأخيراً رفع رأسه يخبرها بمتعة وهو يداعب جزء من عنقها وقد ظهرت عليه علامة واضحة نتيجة قبلته النهمة:


ـ كده لازم هتغطي رقبتك.. مش بمزاجك على فكرة.. الجمال ده بتاعي وماحدش يمتع عيونه به أبداً.. مفهوم؟؟


ثم ساعدها لتنهض على قدميها وهو يحثها على تبديل ملابسها.. حتى يلحقا بموعد الطبيبة...


وهناك في عيادة الطبيبة وعلى سرير الفحص.. حيث استلقت علياء لإجراء سونار للاطمئنان على الجنين.. ابتسمت الطبيبة ببشاشة وهي تخبر علياء ويزيد:


ـ يا ترى عايزين ولد ولا بنت؟..


سألها يزيد بلهفة:


ـ هو ممكن نعرف دلوقتِ؟..


ضحكت الطبيبة لتخبره بحرفية:


ـ لا.. ممكن كمان شهرين.. بس دلوقتِ ممكن أقولكوا مبروك.. مبروك يا علياء.. أنتِ حامل في توأم..


اتسعت عينا يزيد وهو يبحلق ببلاهة في شاشة المينتور والطبيبة تصف له كيسي الحمل وامتدت يده ليتمسك بكف علياء وهو يرغب بشدة في تقبيلها وتقبيل أولاده بداخلها.. ضم كتفيها بذراعه هامساً:


ـ مبروك يا أم العيال..


************


أتى صباح ذلك اليوم غريباً على زوجين كانا منذ وقت قريب يتقاسما البسمة قبل اللقمة.. حيث تكومت منى على أريكة قديمة وقد التفت بمئزر منزلي ينتمي لحسن.. وكأنها تستدعي حبيبها القديم.. تلتحف به لتستجير به منه.. حسن عاشقها.. حسن من حارب الجميع من أجلها.. ليس هو من حاول أخذها عنوة ليلة أمس.. والليلة التي قبلها.. والتي قبلها..


كانت تستسلم له في كل ليلة حتى لا يتحول حبهما إلى كائن بشع مشوه الهيئة.. سمحت له بمعاملتها بقسوة وهمجية حتى لا تتحول إلى امرأة اغتصبها حبيبها.. ولكن ليلة أمس.. لم تستطع.. فقط عجزت عن احتمال المزيد.. فهي للحظة تاهت عن نفسها.. لحظة أدركت فيها أن منى تضيع.. لحظة واجهت نفسها بأن حسن على وشك الاستسلام.. ليتحول إلى الأسطى حسن.. كما كان يداعبها في بداية عمله.. ليس أن عمله كعامل نقاشة مشين.. أو مسيء.. ولكن اندماجه مع مجموعة عمله الجديدة ومسايرته لهم تشي بأنه سلك طريق الضياع..


المرأة المضحية بداخلها تمردت.. ورفضت مزيد من الاستسلام لقسوته...


تحسست كدماتها بألم وهي تتذكر قوته التي يستخدمها لأول مرة ضدها.. قسوته التي تختبرها للمرة الأولى.. بوهيميته وعنفه.. وهو ينهرها حتى لا تناقشه في سلوكياته.. تغيره الذي بدأ يظهر جلياً.. فلم يعد يلتصق بها كما في بداية زواجهما, بل استهوته جلسات زملائه ممن يدعوهم أصدقائه الجدد واندمج بشدة في سهراتهم وجلساتهم على المقهى.. وتكاد ترتعش عندما يمر بذهنها مكان أكثر بشاعة من مقهى بريء..


صوت جريان الماء أنبأها باستيقاظه.. فمسحت دموعها بسرعة.. وأعدت الإفطار على عجل.. وما أن انتهت حتى وجدته أمامها.. يرمقها بنظرات قلقة.. فآثار عنفه ظاهرة على عنقها وما ظهر من صدرها وساقيها..


رمقته بلوم.. نظراتها تعاتبه.. تلومه.. تجلده.. تسلخه.. أخفض عينيه حتى لا يواجهها.. فهتفت به:


ـ ما تخبيش عينيك عني يا حسن.. بتنزلهم ليه؟.. مكسوف ولا حاسس بالذنب؟..


نفض إحساسه بالذنب سريعاً.. وركبته العصبية التي لازمته مؤخراً وهو يجذبها من ذراعها:


ـ وأنا هتكسف ليه؟.. وليه الذنب من الأساس؟!.. أنتِ ناسية..


قاطعته وهي تجذب ذراعها من قبضته بعنف:


ـ أنك بتاخد حقك.. وإني مراتك ولازم أسمع الكلام.. صح؟..


التفت يوليها ظهره وهو يشعل سيجارته.. فتقافزت الشياطين أمامها لتجذب اللفافة المشتعلة من بين شفتيه بعنف وهي تصرخ:


ـ سجاير قبل الفطار.. ويا ترى دي سيجارة بريئة ولا..


سحب اللفافة المشتعلة من يدها ويده ارتفعت في الهواء لتمنحها صفعة.. شيء آخر جديد عليها لتناله من حبيبها.. نظرتها المذهولة بفزع جمدت يده في الهواء..


ليخفضها ببطء.. ويخفض نظراته معها.. ويهمس وهو يتحرك ليخرج:


ـ أنا هتأخر الليلة.. ما تسهريش تستنيني..


كان جسدها كله ينتفض ومشهد يده المعلقة في الهواء لا يغيب عن ذهنها فوجدت نفسها تصرخ به:


ـ ويا ترى هتسهر فين؟.. في قهوة ولا غرزة وترجع لي مسطول زي الكام يوم اللي فاتوا؟..


لم تتأخر الصفعة تلك المرة ولم يتردد حسن ويده ترتفع لتحط على وجنتها الرقيقة.. رفعت يدها تتحسس وجنتها المكدومة.. ورمقته بنظرة مذبوحة..


لم تذرف دمعة.. وهو لم يتوقف ثانية واحدة ليعتذر.. خرج وكأن الشياطين تصارعه.. وتركها وقد أقسمت أن تسترد زوجها.. حتى لو اضطرت لمحاربته هو شخصياً..


***********


كانت ساقي مازن الطويلتين تقطعان الدرج بسرعة ولهفة حتى وصل إلى عيادة طبيب العظام وإصابات الملاعب الشهير, فاندفع بداخلها يسأل موظفة الاستعلامات:


ـ مدام نيرة غيث؟..


أشارت له إلى غرفة جانبية وهي تخبره بروتينية:


ـ اتفضل حضرتك.. هي منتظرة في الأوضة دي..


دلف إلى الحجرة بسرعة.. ليجد نيرة تجلس على أحد المقاعد وتفرد أمامها ساقها وقد غطت قدمها عدة لفافات بيضاء.. ورأسها مُلقى على مسند المقعد وقد تناثر حولها شعرها بإهمال..


جميلة حتى في لحظات ألمها..


ابتلع ريقه بصعوبة وهو يتوجه نحوها ويسألها بلهفة:


ـ خير يا نيرة؟... حصل إيه؟..


لمعت في عينيها نظرات عتاب رسمت على وجهها علامات الألم ببراعة وهي تناديه بصوت متهدج:


ـ مازن..


اقترب منها ليتمسك بكفها الذي مدته له ويجلس بجوارها.. يشبع عينيه منها.. فهو يتجنب حتى النظر إليها منذ عدة ليالِ.. منذ ترك لها مائدة العشاء غاضباً.. سألها بهمس:


ـ في إيه؟..


ومد يده ليربت على قدمها الملفوفة بالأربطة:


ـ طمنيني.. حصل إيه؟..


سألته بعتاب:


ـ يهمك تعرف؟..


استولى على جانب وجهها بكفه الضخم:


ـ أكيد يهمني.. أنتِ مش عارفة أنا كنت قلقان قد إيه.. ولا كسرت كام إشارة من ساعة ما وصلني التليفون أنك في عيادة الدكتور.. إيه اللي حصل؟..


هزت كتفيها بهدوء وهي تخبره:


ـ الدكتور بيقول شرخ في مشط رجلي..


ـ إيه؟.. وإيه السبب؟؟


ـ كنت بلعب ماتش تنس ورجلي اتلوت ووقعت عليها..


رمق قدمها بتعجب:


ـ طب مش كان المفروض يجبس الرجل لحد الركبة؟..


تلعثمت قليلاً:


ـ آه.. بس هو.. الشرخ بسيط.. وأنا اتحايلت على الدكتور مش عايزة الجبس.. فجبس القدم بس بشرط.. أني ما دوسش عليها نهائي..


عبس مازن بتفكير:


ـ غريبة قوي!!


هتفت بضيق:


ـ هو إيه اللي غريبة!.. يعني أنا كدابة؟.. خلاص.. اتفضل اتأكد من الدكتور بنفسك..


ـ لا خلاص.. ما فيش داعي.. يلا بينا نروح..


رفعت يديها له في طلب صامت لكي يحملها.. فرفعها بين ذراعيه وأحاطت عنقه بذراعيها وهي تخفي وجهها في كتفه وقد ارتسمت على وجهها ابتسامة انتصار واسعة.. فقد نجحت أول خطوة من الخطة عالفصل الثاني والعشرون


أخذ حسن يقلب ألوان الطلاء بقوة في الدلو الكبير حتى يُظهر اللون المطلوب.. كان يضرب الألون بعنف شديد.. يماثل الغضب الذي يموج بداخله.. غضب نمى وتراكم مع الأيام.. غضب على الكل.. ومن الكل..


لا يريد أن يرسم لنفسه دور الضحية المظلوم.. كلا.. إنها اختياراته.. وطريق قرر اتخاذه.. ولا وقت للندم.. أو التراجع..


همسة بداخله ترددت..


"ويا ترى أنت فعلاً ماشي في طريقك صح؟"..


قذف العصا بغضب داخل الدلو الكبير فتناثرت قطرات من الطلاء على ملابسه ووجهه.. مسحها بذراعه بدون اهتمام.. ثم نهض ليخرج علبة السجائر من جيبه ويشعل إحداها.. اتجه نحو أقرب شرفة في المكان مبتعداً عن الفوضى التي أحدثها لينفث دخان سيجارته.. ويخرج معه.. غضبه.. ونقمته وذكريات صباح أحد الأيام الذي تبدل به كل شيء..


كان ذلك بعد عدة أيام من حديثه مع مازن ويزيد.. وبدا أن نصيحة يزيد قد نجحت بالفعل.. وبدأت تلك المسماه ابتسام اظهار بعض إمارات الامتعاض والتقزز كلما حضرت ووجدته يتناول طعامه مع زملائه, طعام شعبي بسيط.. أثار تقززها.. خاصة عندما تناول رشفة طويلة من كوب الشاي الثقيل, وبعدها مسح شفتيه يظاهر يده وهي تحادثه محاولة الوصول إليه.. وبدأ بتنفيذ بعض الأفعال.. التي لمحها من بعض زملائه كلما أتت.. ولم يكن ذلك بالشيء الصعب.. فهو كان قد التقط بعض السلوكيات تلقائياً نتيجة احتكاكه المستمر بهم.. حتى كان صباح ذلك اليوم.. وكانت قد تغيبت عن الحضور لعدة أيام وانقطعت اتصالاتها.. وبدا أن صديق يزيد قد نجح في تحويل اهتمامها عنه.. كان سعيداً وفي غاية الارتياح.. فبرغم تعقل منى وتيقنها من إخلاصه وأن تلك السيدة هي من تطارده, إلا أنها كانت تمر بنوبات غضب وغيرة لم يستطع احتوائها في بعض الأحيان.. وفي ذلك الصباح قرر أن يطلع شقيقه على الأخبار السعيدة.. ويطمئنه عن أحواله.. رمق ساعته التي تشير إلى السابعة والنصف.. فكر في الاتصال بمازن ولكنه تردد في إيقاظه, فجلس ينتظر باقي زملائه.. فمن المفترض أن يبدأوا العمل في السابعة.. ولكن في كل مرة تتحول السابعة لما بعد التاسعة, ولكنه بالرغم من ذلك يحضر يومياً في موعده.. ويجلس لينتظر.. تلك طبيعته.. ولم يستطع تغييرها..


قرر أخيراً الاتصال بشقيقه مجازفاً بإيقاظه.. رن الجرس عدة مرات.. قبل أن يفتح الخط.. ويصله صوت ناعم لامرأة ناعسة:


ـ آلــ..و..


تعجب بشدة ورمق شاشة هاتفه ليتأكد أنه اتصل برقم شقيقه.. حينما وصل إليه الصوت مرة أخرى كان بعيداً ولكنه تمكن من تمييز رنة الفزع به:


ـ آسفة والله يا مازن.. افتكرته بتاعي.. كنت نايمة وما اخدتش بالي...


كانت هناك زمجرة غاضبة.. ميزها على الفور.. أنه مازن.. شقيقه الذي سرعان ما وصله صوته:


ـ حسن.. صباح الخير.. خير؟.. في حاجة!.. أنت كويس؟


جاءه رد حسن بغضب:


ـ أنت فين؟.. ومين اللي ردت عليّ؟.. ده مش صوت مراتك..


تلعثم مازن قليلاً:


ـ حسن.. بص.. مش هينفع على التليفون.. أنا هشرح لك كل حاجة.. بس..


أغلق حسن الهاتف بعنف.. وبداخله ألف سؤال لا يود لهم إجابة.. بركان غضبه ثار فجأة.. بدون أن يجد له سبباً في الواقع.. فماذا يهمه إذا كان شقيقه خائن.. يخون زوجته.. وعائلته؟.. هذا لا يعنيه.. لا يعنيه البتة.. فلما يشعر بطعم الغدر المر يحرق جوفه.. لما؟.....


مرت فترة بسيطة.. حرق بها علبة سجائر كاملة.. ليجد مازن أمامه.. على وجهه ترتسم ملامح مبهمة.. وما أثار غيظ حسن أن الذنب لم يكن منها.. بادره مازن على الفور:


ـ حسن.. اسمعني.. دنيا مش ما زي أنت فاهم..


ردد حسن بتساؤل:


ـ دنيا!!.. اسمها دنيا؟..


زفر مازن بحرقة:


ـ حسن.. دنيا.. أنا أعرفها من زمان.. علاقتنا مش زي ما أنت فاهم..


رمقه حسن باحتقار.. واتجه إلى أحد دلاء الطلاء ليفتحه.. وبدأ الاعداد لعمله.. حين تردد صوت مازن يفسر بتردد:


ـ حسن.. دنيا في حياتي من قبل نيرة بكتير.. دنيا هي الحاجة الحلوة اللي مرت في حياتي.. شعور واحساس مختلف عن نيرة.. دنيا تبقى..


لم يكمل جملته فقد ألقى حسن بمحتويات دلو الطلاء نحوه هاتفاً بغضب:


ـ امشي من وشي يا مازن..


مد مازن يده في توسل ولكن حسن صرخ مرة أخرى:


ـ برررره..


خرج مازن بسرعة محاولاً تنظيف ملابسه على قدر الإمكان.. بينما تفجرت نار حارقة بأعماق حسن... نار عجز عن اخمادها.. نار لم يعرف لها سبباً.. ولم يهتم بالبحث.. فقط.. أراد الهروب.. الهروب من كل شيء.. فلم يستطع تحمل ما يرسمه له شيطانه, فاستجاب لشيطان آخر.. فحين عرض عليه الاسطى سُمعه.. إحدى سجائره.. قبلها بترحيب.. كأنه يريد الغوص بها بعيداً عن الواقع.. ومنذ ذلك اليوم وهو يتعمد تغيييب نفسه.. وكأنه امتهن الهروب بجانب النقاشة...


زفر بغضب.. متى ينتهي من تلك الدائرة؟.. متى يهرب من تلك الذكريات؟..


**********


وضع مازن نيرة على فراشها بحرص.. وهي ترسم ببراعة ملامح متألمة على وجهها.. أراح ظهرها على وسادة عريضة.. وعدل من وضعها لتكون أكثر ارتياحاً.. ثم رفع قدمها المضمدة على وسادة صغيرة برقة شديدة تعجبت منها للغاية.. وأخيراً جلس بجوارها يطوقها بذراعه وهو يسألها بحنان:


ـ هيه.. كده أحسن؟..


ألقت برأسها على كتفه.. ومدت يدها لتمسك بكفه بين أناملها وهي تسأله بدلال:


ـ أنت قلقت علي بجد!


تركها تعبث بأنامله.. بينما حرك ذراعه ليحيط خصرها ويقربها منه.. طابعاً قبلة خفيفة على جبينها:


ـ وده سؤال برضوه!!.. التليفون جاني وما وضحش في أيه.. أنا على ما وصلت كانت أعصابي اتدمرت..


لفت رأسها فسقطت شفتيها على عنقه.. لتطبع قبلة شقية عليها وتلاحظ تأثيرها عليه بسهولة حيث ازدادت وتيرة تنفسه وبرزت حنجرته بشدة..


بسمة خبيثة ارتسمت على شفتيها.. وهي تتوعده بداخلها.. هو يريد قلبها مستسلماً.. وهي تريده خاضعاً بالكامل.. وسلاحها أنوثتها.. حتى لو بدا ذلك ابتذال.. لا يهمها.. هو زوجها.. وهي تريده..


حركت رأسها فجأة.. وهي تمرر يدها بين خصلات شعرها وتنفضه قليلاً ليداعب وجه مازن بعبث.. جعله يلهث قليلاً وابتسمت هي بسعادة هاتفة بشقاوة:


ـ مازن.. ممكن تساعدني أغير هدومي..


اعتدل في جلسته وهو يرمقها ببلاهة وهي ترفع خصلات شعرها لأعلى وتوليه ظهرها.. لم يفهم.. ماذا تريد؟.. هل تريده أن يخلع عنها ملابسها؟..


جاءه صوتها تتذمر بدلال:


ـ ماااازن.. افتح السوستة.. عايزة أغير هدومي..


نظرة سريعة لوجهها في المرآة.. وأدرك أنها تتلاعب..


ابتسامة ساحرة ارتسمت على وجهه.. وهو يجمع شعرها من يدها ليبعده على أحد كتفيها.. وينفذ طلبها ببطء وأنامله تلامس ظهرها باستمتاع جعل ابتسامته تتسع وتتسع.. وهو يهبط بشفتيه يستبدلها بأنامله فشعر بها ترتجف تأثراً.. وتحركت مبتعدة عنه بسرعة وهي تهتف ووجنتيها تشتعلان:


ـ خلاص كفاية.. أنا هتصرف.. هات لي أي حاجة ألبسها..


تحرك ببطء نحو خزانة ملابسها وعيناه لا ترحماها.. سحب فستان طويل, رماه بين يديها.. واقترب ليهمس بجوار أذنها:


ـ خسارة.. كان نفسي أكمل..


شهقت بذهول واشتعل وجهها بأكمله.. ثم سمعته يكمل بشقاوة:


ـ وأقفلك السوستة..


طبع قبلة خفيفة على وجنتها وخرج من غرفتها وهو يطلق صفيراً طويلاً.. بينما هي كانت تراقبه مذهولة.. لقد خرج!.. تركها وخرج!!..


تكاد تقسم أنه تأثر بها.. مثلما فعلت هي تماماً.. ولكنه.. ابتعد..


ضغطت على أسنانها بغيظ حتى كادت أن تطحنهما.. لقد فشلت.. فشلت في التأثير عليه.. غمغمت في تصميم..


"ماشي يا مازن.. الجولة دي لك.. لكن الجاية هتكون لي.. وهتكون الأخيرة"..


وبالفعل.. لم تتراجع.. ولم تتنازل.. والتزمت فراشها.. تدعي عدم قدرتها على الحركة..


وفي المساء.. عندما دخل إلى حجرتها حتى يتناولا العشاء في حجرتها بناءً على طلبه.. وجدها جالسة على مقعدها أمام المرآة وقد ارتدت أكثر ملابسها احتشاماً.. ثوباً طويلاً يصل لما بعد كاحليها.. وله كمين طويلين يلتصقان بذراعيها.. ثم يتسعان عند المرفقين.. فيكشفان عن بشرة ذراعيها الناعمة كلما رفعتهما وهي تحاول تمشيط خصلاتها الطويلة.. وباقي الثوب كان مقفلاً تماماً عند الصدر والعنق.. أما لونه!!.. بالطبع.. أحمر..


ابتسم باعجاب.. لقد خالفت ظنه وغيرت قواعد اللعبة.. فقط لو يستطيع التأكد من إصابة قدمها..


تحرك بخفة ليقف خلفها وانحنى ببطء وذراعيه تلامسان ذراعيها يحتويهما برقة حتى لامس وجنتها ليطبع عليها قبلة عميقة وهو يهمس:


ـ امممم.. البرفيوم بتاعك يجنن..


أربكها.. للمرة الثانية يربكها.. ويسحب منها المبادرة.. لم تعرف بم تجبه.. ابتلعت ريقها بصعوبة وحاولت رفع ذراعيها لتكمل تمشيط شعرها.. ولكنه سحب منها الفرشة وبعثر خصلاتها بيديه.. ثم رفعها بين ذراعيه.. وهو يهس في أذنها:


ـ أنا بحب شعرك كده.. حر..


دفن رأسه بخصلاتها وهو يتشممها بشغف:


ـ رااائع..


لفت ذراعيها حول عنقه تتمسك به بقوة حتى لا تسقط من بين ذراعيه.. فلم تكن مستعدة لذلك الهجوم الحسي على مشاعرها.. ظنت لوهلة أنه سيحملها لفراشها.. خاصة وقد أخذ شفتيها في قبلة طويلة.. ولكنه أحبط أحلامها عندما أجلسها على مقعدها برقة بالغة وتحرك ليتخذ مكانه أمامها قائلاً:


ـ أنا طلبت منهم يعملوا كل الأكل اللي بتحبيه..


نظرت إليه بغيظ.. وكادت أن تنسى إصابتها المزعومة وتقفز على قدميها لتصرخ بوجهه.. ولكن بقايا من التعقل منعتها.. فجلست تتناول طعامها بصمت.. خيم عليهما الصمت لفترة.. ثم برقت عيناها ببريق ماكر قبل أن ترفع شوكتها نحوه هامسة:


ـ دوق كده من ايدي..


أمسك يدها وهي تضع الشوكة في فمه ليلتقطها بخفة.. ولم يترك يدها من يده بل همس في خبث:


ـ بس ده من الشوكة.. مش من ايدك!!..


رفعت حاجبها بتحدي.. وطالبته برقة:


ـ أكيد.. بس الدور عليك أنت بقى تأكلني..


ارتفعت ضحكاته عالية.. مما دفع ابتسامة إلى وجهها.. سرعان ما اختفت وهو يعود بيدها الممسكة بالشوكة ليضعها في فمها هي.. وهو يسأل بشقاوة:


ـ حلو كده..


امتدت السهرة بهما وهما يتبادلان الغزل ممزوج بوعود مبهمة.. وجاء الخدم ليرفعوا الطعام.. بعدها سألته نيرة:


ـ تحب نشغل أي موسيقى..


قاطعها قائلاً بعجلة:


ـ لا.. أنا خلاص.. اتعقدت من الأغاني.. بكل أنواعها..


ـ طيب.. ممكن تشيلني تواديني السرير؟..


رفع حاجبه بتساؤل:


ـ أومال اتحركتِ ازاي قبل اما أوصل؟..


رسمت معالم الإرهاق على وجهها وهي تخبره بألم:


ـ آه يا مازن.. اتحركت على رجل واحدة.... صعب قوي..


أرخت أهدابها لتخفي نظرات عينيها:


ـ ممكن بقى تساعدني..


حملها برفق وهو يضمها بقوة لصدره.. مستمتعاً بقربها الشديد منه.. وهي لم ترحمه, وهي تداعب خصلاته القصيرة بأناملها الرقيقة وتحرك وجهها على صدره ببطء هامسة:


ـ ياه يا مازن.. أنا مجهدة قوي.. عايزة أنام..


هتف بعجب:


ـ تنامي!!..


ـ آه هنام.. مجهدة بقولك!


تحرك بعنف ليضعها على فراشها.. لم يكن مراعياً لها.. بل شعرت بأنه يود لو يقذف بها فوق الفراش.. وسرعان ما نفذ هدفه فقذف بثوب نومها ليسقط أمام وجهها.. وهو يخبرها بغضب مكبوت:


ـ عايزة أي مساعدة تاني!..


هزت رأسها ببراءة واهتزت معها خصلاتها كما يعشقها.. وهمست:


ـ تصبح على خير..


خرج من حجرتها بسرعة.. ولكن بخلاف المرة السابقة كانت هي منتشية بانتصارها.. وهو يزفر غضباً..


استمر الحال بينهما على تلك الطريقة.. بين مد وجزر.. فكانت نيرة تتقدم نحوه خطوة لتعود خطوتين إلى الخلف.. وهو لم يترك فرصة لمشاكستها إلا وانتهزها.. ففي صباح أحد الأيام أيقظها بقبلة نهمة على شفتيها.. كان شغوفاً برقة.. والتفت ذراعاه حولها يضمها بقوة.. ويديه تتحرك بلا هوادة على جسدها.. حتى ظنت للحظة أنه سيندس بجوارها ليفعل زواجهما, ولكنه فاجأها كعادته بأن رفعها قليلاً وعبث بيديه بخصلاتها وهمس أمام شفتيها:


ـ صباح الخير..


برقت عيناها بشدة وهمست بدورها:


ـ صباح النور..


اعتدل في جلسته.. وأجلسها معه بحيث ظهرها قابل صدره وجدته يهتف بشقاوة:


ـ تصدقي أنا نفسي أمشط شعرك..


وأقرن قوله بالفعل.. فشعرت بأنامله تتخلل خصلاتها.. بعدها بدأ يمشط شعرها ببطء.. على الأقل هذا ما بدا.. ولكن ما حدث كان.. عذاب.. عذاب خالص.. فقد أشعل جميع حواسها.. بلمساته.. فمشط شعرها بيد.. وامتدت الأخرى لتتحرك ببطء.. من ذراعيها.. لكتفيها... وداعبت أنامله رقة ترقوتها لترتفع لعنقها بعبث جعلها غير قادرة على الصمود لمدة أطول.. وسرعان ما شعرت بشفتيه تمسحان عنقها برقة وسمعت همسه بجوار أذنها:


ـ أنا رايح الشغل.. عايزة حاجة؟.. أشيلك للحمام؟..


لم تصدر منها سوى هزة خفيفة من رأسها.. فقبلها على شعرها وخرج من غرفتها مغلقاً الباب خلفه بهدوء.. بينما هي أمسكت فرشاة شعرها لتلقيها نحو الباب بغضب.. وهي تتوعده.. لن تمررها له.. كلا.. لن تعلن الاستسلام..


وبالفعل نفذت انتقامها في صباح اليوم التالي.. فانتظرت موعد مروره الصباحي.. وكانت تعلم أنه سيكون متعجلاً ذلك الصباح لارتباطه باجتماع مجلس إدارة, أخبرها عنه الليلة الماضية.. فأعدت نفسها على عجل.. وارتدت أقصر ما تملكه من ثياب.. ثوب نوم حريري وردي اللون يتعلق على كتفيها بحمالتين رفيعتين.. ويلتصق بصدرها ليبرز امتلائه الخفيف ثم يتهدل على جسدها.. ليصل لبداية وركيها.. ورمت بجسدها جوار خزانتها.. حيث ثنت إحدى ساقيها.. وتركت الأخرى ذات الأربطة ممتدة أمامها.. وهزت رأسها بعنف.. فتبعثرت خصلاتها.. واحتقن وجهها.. وما أن شعرت بدخوله الغرفة حتى عصرت عينيها فترقرقت بالدموع وهي تلتقي بعينيه وترفع يدها نحوه هامسة بصوت ضعيف يحمل بحة محببة:


ـ مازن.. الحقني!!.. أنا وقعت!..


وقف أمامها وقد تجمد تماماً.. صعقه مظهرها الساحق.. كانت صورة صارخة للجمال بكل مقاييسه.. أيقونة للفتنة والاغواء.. بشرتها التي ظهرت أمامه.. تقريباً بأكملها.. لم تكن بيضاء شفافة كعادة الصهباوات.. لم تمتلك خيط نمش واحد كالمعتاد مع الحمراوات.. بل كانت بشرة وردية لامعة.. ولم يحتج للمسها ليدرك أنها تماثل الأطفال نعومة.. وكانت ترتدي ثوباً وردياً كاد أن يختفي لونه بين وردية بشرتها..


من قال أن الصهباوات لا يرتدين الوردي؟!!.. هو أبله بالتأكيد.. فالصهباء أمامه لا يجب أن ترتدي إلا الوردي.. وهو بخلاف الرجال عاشق لكل ما هو وردي.. وخاصة بشرتها الناعمة


أفاق على صوت بكائها:


ـ مازن.. مش هتساعدني!!..


تحرك ببطء محاولاً السيطرة على جسده.. وهو يدرك عبث المحاولة.. ولكن خيط بسيط من العقل أخبره أن فقدان السيطرة الآن ليس في صالحه.. ولا صالحها.. لا يضمن نفسه.. لا يضمنها على الاطلاق سيؤذيها.. بالتأكيد سيفعل..


وصل إليها وحملها بصمت.. حرص بشدة ألا يلامسها إلا للضرورة.. وضعها على فراشها برقة وابتعد سريعاً قبل أن تتمسك بعنقه.. كما كانت تنوي.. ولمع الغيظ بعيونها.. وأدرك هو لعبتها بسهولة.. ولكنه مازال متأثراً.. ثائراً.. وأيضاً غاضباً.. وظهر ذلك في صوته وهو يخرج أجش بنبرة غامضة:


ـ ايه آخرة اللعبة دي يا نيرة؟.. امتى هتفهمي أننا مش في حرب رابح ومهزوم؟..


رفعت رأسها له بغضب فبرقت عيناها الشبيهتين بعيون القطط.. وارتدت خصلاتها للخلف.. وظهر جمال عنقها وهي تتنفس بسرعة وتهتف:


ـ امتى أنت هتسامحني؟.. امتى هترضى؟..


مسح وجهه بكفيه وهو يزفر بيأس.. وقبل أن يتفوه بكلمة.. كان هاتفه يصدر رنين مزعج.. أجاب بتوتر.. فكان المتحدث والده يستعجل حضوره إلى الاجتماع..


اعتذر منها بغمغمة مبهمة وخرج سريعاً هارباً منها.. ومن غضبها.. وسؤالها.. بالفعل.. متى يرضى؟..


كان السؤال مازال يشغل باله طوال الاجتماع.. وغاب ذهنه تماماً عما دار به.. كما غابت باقي أحداث اليوم..


ضياع.. ذلك ما شعر به.. أنه بحاجة للراحة.. للهدوء.. لدنيا...


ودنيا جالسة أمامه الآن بغرفة مكتبه في شقتهما.. حيث افترشت بأوراقها أرض الغرفة.. ورفعت شعرها بعشوائية فوق رأسها حيث غرزت به أحد أقلامها.. ووضعت آخر بين شفتيها وهي تزمهما بفتنة محاولة حل معضلة تصميم ما ملقى أمامها بأحد الأوراق.. كانت غائبة تماماً عن الواقع حولها..


تكاد لا تشعر بوجوده حولها وهي غارقة وسط تصاميمها.. وهو جالساً خلف مكتبه يراقبها بصمت.. صمت خيم عليهما في الأيام السابقة.. بالتحديد بعدما أجابت على هاتفه عن طريق الخطأ.. وبعدها تدهورت علاقته بحسن تماماً.. وحملها هي الذنب.. رغم اعتذارها أكثر من مرة على خطأها الغير متعمد.. ولكنه كان في حالة من الغضب لم تسمح له بالغفران.. ومن جهة أخرى نيرة تضغط عليه بكل ما تملك من قوة اغراء وتأثير.. فشعر بأنه كحبة قمح بين شقيّ الرحى.. كم يحتاج إلى الراحة.. إلى النسيان.. والهروب..


التقط من طبق الفاكهة أمامه حبة كرز وألقاها نحو دنيا التي رفعت عينيها نحوه بغضب.. فسألها ببراءة زائفة:


ـ ايه.. جت فيكي؟..


اعتدلت في جلستها وهي تسأله:


ـ عايز ايه يا مازن؟..


أجابها بشغف:


ـ عسل..


رفعت حاجبها بغيظ:


ـ والله!!..


ضحك بتوتر:


ـ والله..


تأملته لوهلة.. تريد الاستجابة له.. ولكن شيء يمنعها.. تشعر تلك المرة بخطأ ما:


ـ جبرنا..


ضحك تلك المرة بخبث:


ـ طيب.. رقصة..


تأملته بحيرة ورددت:


ـ رقصة!!..


هز رأسه موافقاً.. فأجابته بغيظ:


ـ بعد كل التجاهل ده.. والغضب.. والخصام.. تيجي.. تاكل وتنام.. وكأنك قاعد في أوتيل.. كام مرة حاولت أعتذر.. وأنت مش راضي تسمع.. ودلوقتِ عشان...


قطعت كلماتها.. وهزت رأسها بحسم:


ـ عندي شغل كتير.. التصاميم دي لازم تكون في الورشة بكره الصبح..


اقترب منها ونزل على ركبة واحدة أمامها.. رفع ذقنها التي ترتعش غضباً وحزناً بأنامله:


ـ أنا آسف يا دنيا.. ما تزعليش.. اعذريني.. واستحمليني.. ما فيش حد بيفهمني ويستحملني غيرك..


رفعت له عينيها ودموعها تلتمع بهما.. فهبط برأسه ليتناول شفتيها برقة.. معتذراً هامساً:


ـ سامحيني بقى..


أنزلت رأسها بصمت.. ولم ترد.. فعاد يرفعه لها هامساً:


ـ لو عايزاني استنى هنا الليلة, هستنى معاكِ.. علشانك أنتِ..


هزت رأسها بحسم وتصميم:


ـ لا يا مازن.. مش الليلة.. مش هينفع..


نهض واقفاً على قدميه.. وقبل أن يخرج نادته:


ـ مازن..


التفت إليها وقد ظن أنها غيرت رأيها.. ولكنه وجدها تخبره ناصحة:


ـ اطلب من يزيد يتدخل بينك وبين حسن.. انتوا التلاتة كنتوا قريبين.. وهو أكتر واحد ممكن يأثر عليه..


أومأ برأسه موافقاً.. وهو يخبرها:


ـ ده اللي عملته فعلاً.. يزيد هيقابله الليلة.. تصبحي على الخير..


توجه إلى منزله وقد غمره إرهاق قوي.. لم يمر على غرفة نيرة.. فهو لا يمتلك طاقة لمزيد من المشاكسة معها.. كل ما يحلم به هو حمام دافئ يغمر به نفسه ويغيب به عقله..


توقف أمام غرفته وقد لفت نظره ضوء شاحب يظهر من تحت بابها.. امتدت يده ببطء ليفتحه.. ليجد عدد لانهائي من الشموع العطرية.. متناثرة بروعة في أنحاء الغرفة وقد ربط بين كل شمعة وأخرى مجموعة من أوراق الجوري الحمراء.. لاحظ أن الشموع يزداد تجمعها في منطقة معينة.. ويمتد أمامها مجموعة من الورود على شكل سهم.. رأسه يشير إلى.. إلى.. نيرة.. وقد لفت نفسها تماماً بورق هدايا لامع.. ربطته حول عنقها بشريط أحمر كبير.. والتف الشريط ليكون عقدة كبيرة على شكل فراشة فوق رأسها..


تجمد مازن تماماً.. بل صعق متجمداً.. لم يجرؤ حتى على اخراج كلمة من بين شفتيه خوفاً من اختفاء ما يرى..


التقطت عيناها نظراته الحائرة تحتويها برقة ظهرت في ابتسامتها المشجعة وملامحها الراغبة..


أشار بيده يتساءل عن هدفها.. فهزت كتفيها باستسلام:


ـ ما فيش حرب.. ما فيش مهزوم..


تأملها متردداً.. فعادت تهمس بنعومة:


ـ أنا جاية أصالحك اهوه.. مش هتفتح هديتك؟..


سأل بحيرة وهو يقترب منها:


ـ هدية!!..


أشارت له بعينيها.. ففهم أنها تقصد الشريط الأحمر حولها.. فاقترب منها أكثر وهو يهمس:


ـ ما فيش لعب؟.. ما فيش تحدي؟..


هزت رأسها بشقاوة وهي تزم شفتيها وقد طلتهما بلون وردي لامع.. وبدأت خصلاتها تفلت من الشريط الأحمر.. وهمست بإغواء:


ـ الهدية..


سحب الشريط الأحمر بسرعة ولهفة.. فانسدل شعرها ليغطي وجهها وظهرها.. وظهرت من تحت خصلاتها بشرتها الوردية وقد غطتها مجموعة متشابكة من الخيوط.. تشكل أصغر ثوب للنوم رآه في حياته..


جذبها نحوه بعنف.. ولكنها راوغته.. وهي تتجه إلى مشغل الإسطوانات.. وسرعان ما علت نغمات إحدى مقطوعات عمر خيرت.. وكانت موسيقاها كفيلة بإغراء الأحجار بالرقص..


اتجهت نيرة نحوه مرة أخرى بخطوات راقصة مدروسة.. اقتربت منه لتخلع عنه سترة بذلته ورابطة عنقه وتلقي بها بعيداً..


لمها بين ذراعيه ولكنها تمايلت على أنغام الموسيقى هامسة له بإغواء:


ـ ترقص معايا!..


انضم لها مازن.. واستمرت رقصتها بين ذراعيه لعدة دقائق قبل أن يقرر أنه اكتفى ويحملها إلى فراشه.. وجسده بأكمله ينتفض تأثراً بها.. وتوقاً إليها..


وبرقت عيناها انتصاراً.. وعقلها يردد في خفوت قبل أن يستسلم للمتعة بين ذراعيه..


"الاستسلام أحياناً.. لا يعني هزيمة.. بل قد يكون مقدمة لانتصار.."


************


رمى حسن جسده بإرهاق على الأريكة الكبيرة خارج شقته الصغيرة.. وألقى رأسه للخلف وهو يمسد جسر أنفه بإصبعيه السبابة والإبهام.. محاولاً إبعاد الصداع المؤلم عن رأسه.. ولكن بلا فائدة.. فألم رأسه نابع من التفكير.. تفكير مستمر لا ينقطع.. تزعجه أفكاره.. بل تقلقه.. فيهرب بها كل ليلة في دخان أزرق يعمي بصره وبصيرته.. ولكن الليلة مختلفة.. الليلة سحبه يزيد عنوة من وسط عمله.. ولم يسمح له بالبقاء مع أصدقاء الليالي السابقة..


ذهبا معاً إلى شقة يزيد.. الذي اصطحبه إلى شرفة واسعة معتذراً بحرج:


ـ معلش بقى يا أبو علي.. مش هينفع نسهر في أي مكان..


سخر حسن منه بفظاظة:


ـ ايه.. بتخاف من المدام!


هز يزيد رأسه مصححاً:


ـ بخاف عليها.. مش منها..


ثم استطرد متخابثاً:


ـ يظهر أننا هنبدل الأدوار..


رفع حسن رأسه بعنف.. وفي ذهنه تمر مشاهد له مع منى وهو يسيء لها مرة بعد أخرى وهتف بغضب:


ـ قصدك ايه؟..


وقبل أن يجبه يزيد وصلت "أم علي".. بصينية عليها عدة مشروبات باردة.. وتوجهت نحو يزيد متسائلة بوجه متجهم:


ـ أجهز العشا يا بيه؟..


كبت يزيد ابتسامة كادت أن تظهر على وجهه, فــ"أم علي".. بدلت معاملتها وتدليلها له فور أن علمت بوجود زوجة أخرى في حياته.. فأصبحت تعامله ببرود وجفاء شديد.. وإن ظن يوماً أن نيرة هي حماته.. فإن "أم علي".. قد يطلق عليها بجدارة.."عمله الأسود".. فهي لا تترك فرصة لتأنيبه وتقريعه إلا وانتهزتها.. بينما التزمت علياء الصمت كما اعتاد منها مؤخراً.. ولكنها لم تمانع مكوثه في حجرتها.. وهو أيضاً عجز عن الابتعاد..


ـ يـــا بيه.. أنت يا بيه.. أجهز عشا؟..


انتبه يزيد على صوت "أم علي" الأشبه بالصراخ.. وغمغم في نفسه..


"أنت يا بيه؟!.. ماشي"..


ـ لا يا ست أم علي.. حسن بيه متعود يتعشى مع المدام بتاعته..


ردت بصفاقة:


ـ وهو برضوه متجوز اتنين؟.. ولا زي مخاليق ربنا.. رضي بواحدة!


كاد حسن أن ينفجر ضحكاً من تلك السيدة التي تؤنب يزيد وكأنه طالب مشاغب.. وسمع يزيد يرد عليها:


ـ لا.. هو زي باقي مخاليق ربنا..


انطلقت "أم علي" تغرق حسن بدعواتها:


ـ ربنا يكرمك يا بني ويفتحها في وشك.. ويوسع رزقك.. و..


قاطعها يزيد:


ـ ادخلي كملي دعواتك له جوه.. وسيبينا نقول الكلمتين..


التفتت له "أم علي" بحنق:


ـ وأنت يا بيه هتبات هنا ولا في البيت التاني؟..


هتف بغيظ:


ـ وأنتِ يخصك ايه؟.. إذا كانت علياء ما بتسألش..


أخذت السيدة تغمغم بحنق:


ـ تسأل على ايه يا كبدي.. وأنت جايب لها الكتمة والسكات.. وأنا اللي كنت بقولها راضي جوزك.. وصالحيه.. أتاري قلبها مكسور يا حبة عيني و..


قاطعها يزيد بنزق:


ـ أنتِ بتقولي ايه؟.. سمعيني كده..


زمت شفتيها بحركة غاضبة:


ـ ولا حاجة.. هقول ايه؟.. بالإذن..


وتركتهما وهي تغمغم متحسرة على حظ علياء الذي أوقعها في وغد.. يهوى الزواج.. بينما انطلق حسن ضاحكاً بقوة حتى دمعت عيناه:


ـ يا نهار.. الست دي نمرة.. بس أنت ايه اللي مسكتك عليها؟..


رفع يزيد حاجبه وهو يخبره بغيظ:


ـ علياء بتحبها..


أومأ حسن بتفهم.. وانحسرت الضحكة عن وجهه وكلمة يزيد ترن في أذنيه "هنبدل الأدوار"..


ربت يزيد على كتفه بمودة ودعاه للجلوس:


ـ اقعد يا حسن.. عايزين نتفاهم..


ـ على ايه؟.


ـ اقعد بس وبلاش عِند..


جلس حسن بصمت وتناول أحد المشروبات الباردة وتجرعه مرة واحدة وامتدت يده ليمسح بها فمه كما اعتاد مؤخراً.. ورمق يزيد بتحدي أن يعترض.. ولكن يزيد بادره بالأهم:


ـ في ايه بينك وبين مازن؟..


ارتفعت رأس حسن بغضب وهب واقفاً:


ـ شيء ما يخصكش..


ـ لأ.. يخصني.. واقعد كده واستهدى بالله خلينا نعرف نتكلم..


جلس حسن مرغماً.. وسمع يزيد يخبره بتوتر:


ـ مازن.. حكى لي على اللي حصل..


قاطعه حسن بسخرية:


ـ قالك ايه؟.. أنه بيخون مراته وجوازهم ما مرش عليه شهر.. وأن..


أكمل له يزيد:


ـ أن دنيا في حياة مازن قبل نيرة.. أيوه.. عارف..


ارتد حسن في مقعده بتعجب وهو يهتف:


ـ وأنت ايه!.. عادي.. موافقه على اللي بيعمله؟..


سكت يزيد لبرهة وكأنه يفكر في كلماته قبل أن يقول:


ـ بص يا حسن.. دنيا.. نيرة.. مكان كل واحدة فيهم في حياة مازن شيء يخصه لوحده.. ما يخصش حد فينا.. لا أنا ولا أنت.. السؤال بقى.. ليه أنت زعلان من أخوك ومقاطعه؟..


انتفض حسن هاتفاً بغضب وهو يهب واقفاً على قدميه:


ـ ليه؟.. بتسألني ليه؟... بعد كل اللي حصل؟.. واللي عمله ليلة الحفلة؟.. وأنا اللي كنت فاهم أنه بيعمل كده عشان بيحب نيرة.. واتحملت..


قاطعه يزيد وهو يقف بدوره:


ـ اتحملت ايه يا حسن؟.. مش كل اللي أنت عملته كان عشان ترتبط بالإنسانة الوحيدة اللي حبيتها.. ولا أنا غلطان؟.. يفرق معاك في ايه إذا كان مازن بيحب نيرة أو لأ؟..


هتف حسن:


ـ تفرق.. تفرق.. تفرق في..


سكت حسن ولم يستطع اخراج أفكاره السوداء في كلمات.. فربت يزيد على كتفه بعطف وهو يكمل:


ـ تفرق أن مازن حقق كل اللي هو عايزه من غير ما يخسر حاجة, وأنت خسرت كل حاجة؟.. ده قصدك؟..


تهالك حسن على أقرب مقعد وهو يهز رأسه رافضاً بينما يزيد يكمل:


ـ بص يا حسن.. حياة مازن الشخصية كتاب مقفول.. ما فيش حد يقدر يعرف جواه ايه.. كل اللي اقدر اقولهولك وبمنتهى الأمانة.. أن ما فيش حد فيكوا كسب كل حاجة.. وبرضوه ما فيش حد خسر كل حاجة.. وعلى فكرة.. دينا تبقى مرات مازن.. أخوك لا بيُعك.. ولا هو من النوع ده..


كرر حسن بذهول:


ـ مراته؟.. مراته ازاي؟.. و..


قاطعه يزيد ثانية:


ـ شيء ما يخصش حد فينا.. اللي يهمني سؤال واحد.. أنت فعلاً بتعتقد أن مازن خطط ودبر عشان يستولى هو على الشركة؟..


رفع حسن عينيه بصدمة وقد واجهه يزيد بأسوأ أفكاره وأقسى شياطينه.. فأكمل يزيد وعلى شفتيه ابتسامة خفيفة:


ـ مصدوم ليه؟.. مش هي دي الأفكار اللي قلبت كيانك.. وبعدتك عن أخوك؟..


نهض حسن بعنف منهياً الحوار ومتحدياً يزيد أن يوقفه وتوجه نحو باب الشرفة.. ثم التفت إلى يزيد هاتفاً بخشونة:


ـ أنا عايز أمشي.. تصبح على خير..


ربت يزيد على كتفه وهو يصطحبه لباب الشقة مدركاً أنه يحتاج للانفراد بنفسه وترتيب أفكاره.. ولكنه أضاف قبل أن يودعه:


ـ أنت من جواك عارف الاجابة يا حسن.. ما تسيبش نفسك لشيطان غبي.. هيخسرك كل حاجة..


تبادلا النظرات لعدة ثوانٍ قبل أن يخفض حسن بصره.. فسأله يزيد بمودة:


ـ تحب أوصلك؟.. الوقت اتأخر..


هتف حسن بفظاظة:


ـ توصلني!.. شايفني نوغه قدامك.. ادخل لمراتك ولا هتنام في البيت التاني!


دفعه يزيد بمداعبة مغتاظة:


ـ طيب.. مع السلامة ياللي مش نوغه.. أصل الحكاية ناقصاك.. مش كفاية علي عملي الأسود اللي جوه..


رفع حسن يده محيياً وانطلق في طريقه.. وفي رأسه تتصارع الأفكار.. وسؤال يزيد اللائم يتردد بقوة..


"أنت فعلاً بتعتقد أن مازن خطط ودبر عشان يستولى هو على الشركة؟"..


وبداخله يتردد سؤال أقوى..


"أنا ازاي فكرت في كده؟.. ولا ده بداية ندم على قرارات أنا أخدتها ودلوقت عايز أحمل أي حد عواقبها؟"..


وسؤال آخر أكثر ازعاجاً.. وأكثر إيلاماً..


"هل يستحق الحب كل تلك التضحية دي؟.. هل تستحق منى؟.. هل........


وأخيراً سقط نائماً هرباً من كل أفكاره وشياطينه.. ليوقظه صوت منى القلق:


ـ حسن!!.. حسن!!!.. حسن.. رد علي الله يخليك أنت كويس؟..


اقتربت منه تجلس على ركبتيها ويدها تملس على شعره بحنان وقلق خالص ينطق به صوتها.. وحب خام يصرخ بعينيها مع هتافها:


ـ حــــســــن.. رد..


وضاعت باقي كلماتها بين شفتيه.. وهو يأخذها بقوة.. بعنف.. بيأس.. باحتياج.. بل.. اجتياح.. 

الفصل الثالث والعشرون

والرابع والعشرون 

اتكات منى بمرفقها على الوسادة تتأمل وجه حسن النائم بجوارها.. ملامحه هادئة ومرتخية وقد اختفت معالم الشراسة التي اكتسبها مؤخراً..

تهوى كثيراً مراقبته أثناء نومه, وهو ما لم تعد تفعله كثراً في الآونة الأخيرة بسبب صعوبة ساعات عمله.. عمله الذي توقف عن الذهاب إليه منذ تلك الليلة التي وجدته بها نائماً على الأريكة خارج شقتهما الصغيرة.. ومنذ تلك اللحظة وهو يتشبث بها.. يلتصق بها كما يلتصق الطفل بأمه, وكأنه يخشى أنه بابتعاده عنها سيستدعي حسن الآخر.. ذاك الذي دأب على الإساءة لها.. وجرحها مؤخراً..

مرت بأناملها برقة على ملامحه.. مسترخية.. نعم.. ولكنها مجهدة.. وكأن ذهنه لا يتوقف عن التفكير حتى أثناء نومه.. فقط لو تستطيع الدخول إلى عقله لتريحه من الدوامة التي تسحبه من الحياة.. دوامة يصارع للهروب منها.. بإغراق نفسه بين أحضانها هي.. ليس بحثاً عن متعة, ولكن عن أمان.. كما لو كان يبحث بها عن هويته.. عن حسن الذي كانه مرة وأصبح عاجزاً عن استعادته إلا بين ذراعيها...


شعر حسن بحركة أناملها البطيئة على وجهه ففتح عينيه ومد يده ليمسك بأناملها الرفيعة وابتسم لها, فأخفضت عينيها خجلاً وبادرته:


ـ صباح الخير..


ضغط يدها على شفتيه ليطبع قبلة داخل كفها ويردد:


ـ صباح الخير على عيونك الحلوة..


ابتسمت لرده الغير مألوف.. وقبل أن تجبه جذبها بين ذراعيه لتتوسد رأسها كتفه ومد يده ليرفع يدها أمام عينيه وهو يهمس بتعجب:


ـ أنا ما جبتش ليكي شبكة!.. ازاي نسيت؟..


لفت لتواجهه وهي تسأله بذهول:


ـ شبكة!!.. شبكة ايه يا حسن؟.. هو ده وقته؟!


رفع جسده قليلاً وظل محتفظ بها بين ذراعيه:


ـ ومش وقته ليه؟.. تعالي ننزل نختار..


قاطعته قبل أن يكمل كلامه:


ـ مش هتروح شغلك يا حسن؟..


أشاح بوجهه بعيداً:


ـ لا.. أنا مجهد ومش قادر أنزل..


مدت يدها لتعيد وجهه ليقابلها:


ـ حسن..


قاطعها بسرعة:


ـ طب.. تعالي نخرج نروح أي مكان.. من فترة ما خرجناش سوا..


نادته برقة:


ـ حسن..


تنهد عالياً ورد بقلة حيلة:

ـ ايوه يا منى..

أحاطت وجهه بكفيها وقربت وجهها من وجهه هامسة:

ـ حسن حبيبي.. لازم ترجع شغلك.. أنت قدامك هدف ولازم تحققه.. الهدف هدفك.. والنجاح هيبقى ملكك أنت.. ليه تشغل بالك بأي حاجة تانية.. ليه تسمح لأي حد أو أي حاجة تعطلك وتبعدك عن اللي أنت عايزه..

همس بتردد:

ـ منى.. منى.. الفترة اللي فاتت غيرت جوايا حاجات كتير.. أنتِ أكتر واحدة حست بده.. منى..


قاطعته بحب:


ـ منى معاك وجنبك.. أنت قبل كده قلت لي احنا مش عايشين في فيلم قديم.. وأنا بقولك بقى دلوقتِ.. أوعى تكون فاكر أن اللي حصل الفترة اللي فاتت هيخليني أبعد عنك.. ولا أقولك روح ارجع لحياتك الأولانية يا ابن الناس.. لا.. مش أنا اللي هعمل كده.. أنت اخترت يا حسن.. اخترتني أنا فوق حاجات كتير.. ولازم أثبت لك أنك اخترت صح.. وأني فعلاً بحبك.. حتى لو اتغيرت شوية.. كلنا بنتغير.. مش هتخدعني بقشرة بتحاول تبنيها حوالين حسن القديم.. حسن ابن الذوات اللي بيحاول يتعامل مع مجتمع جديد عليه عشان خاطري وعشان خاطر حبنا..


وحركت يدها لتضغط على قلبه قليلاً:


ـ طول ما ده بيدق لمنى.. منى هتتحمل كل حاجة.. وحتى لو دق لغيرها..


طوقها بذراعيه قبل أن تكمل كلامها وهمس:


ـ كفاية يا منى.. أرجوكِ.. أنتِ كده بتعذبيني بطيبتك دي.. أنتِ ازاي كده؟..


أبعدت نفسها عنه قليلاً وهي تمسح جانب وجهه بكفها:


ـ أنا كده عشان أنا عارفة حسن.. وقلب حسن اللي عمره ما هيتغير.. انزل شغلك يا حسن.. انزل وارجع لي تاني.. وما تقلقش.. أنا عارفة ازاي أوصل لقلبك.. وهو ده اللي مش ممكن هخاف منه..


ظلت منى بجواره تحثه على النزول لعمله, حتى خضع أخيراً وتوجه إلى عمله مجبراً.. يملؤه شعور بغيض بأن كل ما يفعله هو محض عبث.. يرغب في هجر تلك المهنة وتلك الحياة إلى الأبد.. ولكنه لا يمتلك أي بديل..


أما منى فقد تحركت بسرعة لترتدي ملابسها فهناك زيارة عليها القيام بها.. قد لا تحبذ ما تنوي القيام به.. ولكن ليس أمامها طريق آخر.. فهي كانت صادقة عندما أخبرته أنها لا تنوي التخلي عنه ليعود مهزوماً مكسوراً إلى والده.. ستثبت لهم جميعاً أنه لم يخطئ عندما اختارها هي فوق الجميع.. خاصة وأنه يتشبث بها كما يتشبث الطفل الخائف بأمه.. وطفلها بحاجة إلى تدخلها السريع..


أنهت علياء اللمسات الأخيرة على مظهرها قبل أن تخرج إلى كليتها.. سوت خصلاتها القصيرة.. وامتنعت تماماً عن استخدام مستحضرات التجميل.. وأخيراً لفت وشاح عريض حول عنقها.. كما طلب منها يزيد.. الذي يحرص على ترك علاماته المميزة عليه دائماً حتى يضطرها لارتداء الوشاح.. ولا تدري سبباً وراء هوسه بإخفاء عنقها.. قد تكون غيرة!.. ربما.. فهو كاد أن ينفجر غيظاً منذ يومين عندما لاحظ أنها لا ترتدي خاتمه في إصبعها.. وكانت تلك إحدى المرات التي يباغتها بسؤال غاضب فتضطر إلى اجابته غافلة تماماً عن عقابها الصامت له.. فكانت صرخته المباغتة يومها:

ـ علياء!.. فين خاتمك ودبلتك؟..

اجابت بدفاع:


ـ قلعتهم.. ضاقوا علي..


جذبها من يدها بقوة:


ـ واما تقلعي الدبلة.. زمايلك.. يعرفوا ازاي أنك متجوزة.. ولا عايزة حد يجي يخطبك مني؟..


نظرت له بذهول ويدها تملس على بطنها التي برزت بوضوح.. رغم كونها في منتصف شهرها الرابع إلا أن حملها بتوأمين.. ظهر بوضوح تام.. وأدرك أفكارها تماماً بدون أن تفصح عنها.. وشعر بسخافته التامة, ولكنه عاجز.. عاجز عن ردع غيرته عليها.. خاصة مع دخولها إلى الجامعة.. وزيادة معارفها.. وأصدقائها.. يخشى أن تتسرب من بين يديه.. أو يقل حبها له.. فهي تصر وبشدة على استمرار الصمت العقابي.. ولا تبادله الحوار إلا فيما ندر..


جاءه صوتها وهي تهتف بحنق:


ـ الخاتم والدبلة علقتهم في سلسلة ومش بقلعها من صدري..


ولحماقتها التامة.. وجدت نفسه تكشف له عن مكان خاتمه بدلاً من أن تخرجه لتلقيه في وجهه لإثارته أعصابها وصراخه عليها..


بالطبع قابل تهورها بتهور أكبر.. ففي اللحظة التالية كانت تستلقي بين ذراعيه في استسلام تام.. وعلى الأريكة العريضة بغرفة المعيشة.. ولم ينتبه أي منهما إلى مرور الوقت.. إلا بعدما سمعا طرقات عالية.. أدركا بعدها أن مصدرها"أم علي".. تنبههما إلى وجودهما خارج غرفة نومهما..


تورد وجه علياء وهي تتذكر ذلك الموقف.. وزاد تورده عندما وجدت "أم علي" أمامها تحاول أن تنبهها لوجودها.. فسألتها بهدوء مصطنع:


ـ خير يا ست أم علي.. في حاجة؟..


ـ ايوه يا ست عليا.. في واحدة عايزة تقابلك بره.. قلت لها أنك هتنزلي تروحي.. كليتك.. بس هي مُصرة..


شحب وجه علياء وقد ظنت للحظة أن سهام تنتظرها لتسمعها المزيد من اتهامتها الجارحة.. أو الأدهى تدبر لها مكيدة أخرى.. لمت يديها حول بطنها بحماية وهي تسأل "أم علي" بخوف:


ـ واحدة!.. واحدة مين؟.. ما قالتش اسمها؟..


هزت "أم علي" رأسها نفياً وهي تقول:


ـ لا.. مش عايزة تقول.. هي شابة صغيرة كده.. و..


تنهدت علياء براحة عندما سمعت تلك الكلمات.. وقالت بهدوء:


ـ طيب. ممكن تقدمي لها عصير.. وأنا جاية وراكي حالاً..


أومأت السيدة وخرجت مسرعة لتعد العصير للضيفة الشابة التي ما أن رأتها علياء حتى اتسعت عيناها ذهولاً وتمتمت في عجب:


ـ منى!!..


ثم استدركت بترحيب وهي تمد يدها بالتحية:


ـ أهلاً وسهلاً.. اتفضلي..


نظرت منى إلى يد علياء الممدودة باحتقار ممزوج بغضب بارد.. ولاحظت علياء ذلك على الفور فسحبت يدها إلى جوارها بحرج.. بينما منى كانت تتأملها بثوبها البسيط ولكن بأناقة ليظهر بروز بطنها الصغير.. وذلك الوشاح حول عنقها.. وخصلاتها القصيرة التي تغطي أذنيها بالكاد.. تذكرت المرة الأخيرة التي رأتها فيها.. تلك الذكرى الأليمة حين طُرِدت منى من عملها ظلماً وتمت إهانتها بدون وجه حق..


ظهرت أفكار منى جلية على وجهها, فأشاحت به بعيداً.. بينما تمتمت علياء بأسف:


ـ أنا.. أنا آسفة.. والله حاولت اعتذر لك كتير.. و.. و.. يزيد قالي أنه فهم حسن.. وأنا.. أنا غلطت.. و..


قاطعتها منى بحزم:


ـ أنتِ غلطتِ في حقي.. صح.. ولي دين في رقبتك.. وأنا جاية أطالبك تردي الدين ده!


هزت علياء رأسها بحيرة.. ومدت يديها بعجز وهي تهمس:


ـ مش فاهمة.. أنا..


قاطعتها منى بسرعة فهي تخشى أن تختفي قسوتها المصطنعة أمام الهشاشة الواضحة للطفلة التي أمامها.. أدركت بوضوح لما حسن حاول جاهداً أن يفهمها أن علياء ضحية لا حول لها في مكيدة نيرة.. حتى أنها شعرت بالغيرة وقتها منها.. فالفتاة.. صححت لنفسها بسخرية.. المرأة الحامل.. أمامها غاية في الرقة والهشاشة يوجد بها ذلك الشيء الغامض الذي يدفعك لمحاولة حمايتها, لا الصراخ بوجهها كما كانت تعتزم.. وهي الآن عاجزة عن استرجاع ذلك الغضب الذي حركها من البداية لتأتي إلى منزل علياء وتطالبها برد دينها..


عاد صوت علياء يتردد بتردد:


ـ منى.. ممكن تقعدي عشان نعرف نتكلم..


ثم أكملت بحرج:


ـ أنا مش بقدر أقف كتير..


جلست منى على المقعد خلفها وبادرت علياء بطلب صريح ولكن بنبرة تلونت برقة غريبة:


ـ أنتِ مديونة لي بوظيفة.. وأنا عايزاكِ تردي الدين..


سألتها علياء بحيرة:


ـ أنتِ عايزة تشتغلي؟..


هزت منى رأسها نفياً:


ـ الوظيفة مش لي..


ثم ابتلعت ريقها بحرج وهي تقول بتردد:


ـ وظيفة.. لــ.... وظيفة..


أكملت علياء وقد استوعبت الموقف:


ـ وظيفة لحسن؟..


أومأت منى برأسها موافقة وهي تطلق تنهيدة ارتياح.. وتقول:


ـ عصام بيه.. ممكن يساعده.. ممكن يتصرف.. أنتِ تقدري تكلميه.. أنا عارفة أنه له مصالح مع والد حسن.. لكن..


قاطعتها علياء وهي ترتكز على جانبي المقعد لتنهض ببطء:


ـ أنا هكلم عمو عصام حالاً.. ما تقلقيش.. واعتبري الموضوع منتهي.. وحسن هيكون له وظيفة تليق به.. و..


قاطعتها منى:


ـ وحسن مش لازم يعرف حاجة..


أومأت علياء بتفهم بينما منى تكمل:


ـ ولا يزيد.. مش عايزة أي حد يعرف أي حاجة عن المقابلة دي.. أنا..


قاطعتها علياء بتفهم:


ـ خلاص.. زي ما تحبي.. ما فيش حد هياخد خبر أبداً..


هتفت منى بعنف:


ـ ونيرة؟..


غمغمت علياء بحرج:


ـ منى.. يا ريت تنسي الموقف القديم والله أنا مش كده.. وأنا وعدتك أنه ما فيش أي حد هيعرف.. صدقيني..


أومأت منى برأسها ومدت يدها لعلياء بتردد, فأسرعت علياء لتتمسك بها وهي تحيها مودعة:


ـ إن شاء الله هيوصلك خبر قريب.. وهيكون خبر كويس..


حيتها منى بهزة رأس خفيفة وخرجت مسرعة وهي تبتهل بداخلها أن تكون قامت بخطوة صحيحة.. ولم تزد المشكلة تعقيداً.. أما علياء فقد التقطت حقيبتها وانطلقت نحو مقر مجموعة الغمراوي المواجه للمبنى الذي تقطن به..


وبعد عدة دقائق كانت تقف أمام عصام الغمراوي في غرفة مكتبه.. وهو يرمقها بمزيج من الدهشة والحرج.. فتلك كانت المرة الأولى التي يلتقيان فيها بعد اختطافها من قِبل أعمامها.. تأملته علياء للحظات قبل أن تبادره بسرعة:


ـ عمو.. لو سمحت أنا عايزة منك خدمة..


وانطلقت في الحديث ولم تتح له فرصة ليقاطعها.. وبعد انتهائها.. سألته بهدوء:


ـ ممكن تلبي ليا الطلب ده؟


تأملها عصام للحظات.. وتنحنح بحرج ليجلي صوته:


ـ عليا.. أنا اعطيت كلمتي لحاتم العدوي و..


قاطعته علياء بسرعة:


ـ بس أنا أول مرة أطلب من حضرتك حاجة..


مرت بذهنه مواقفه الأخيرة مع علياء وكيف خذلها مرة تلو الأخرى.. رأى في تلبية طلبها فرصة ولو ضئيلة ليعوضها عن خيبة أملها به.. وبلا تردد رفع سماعة الهاتف ليجري اتصالاً مع حاتم العدوي..


دقائق قليلة.. بعدها أغلق هاتفه والتفت إلى علياء وهو يبتسم في ود:


ـ خلاص يا ستي.. أنا اتفاهمت مع حاتم.. ويظهر أنه ما صدق يلاقي طريقة يساعد بها ابنه ويكون بعيد عن عيونه في نفس الوقت..


سألته علياء بتردد:


ـ يعني عمو حاتم ممكن يتصالح مع حسن؟..


ابتسم بهدوء:


ـ ده شيء أنا ما اعرفش اجابته.. لكن اللي اعرفه أن حسن هيمسك فرعنا الجديد في دبي.. مكان يزيد.. وأعتقد أن دي وظيفة كويسة جداً.. ولا ايه!..


ضحكت علياء بسعادة:


ـ بجد يا عمو!.. متشكرة جداً..


سكتت لحظة ثم أردفت:


ـ بس لو سمحت بلاش أي حد يعرف أني طلبت منك الطلب ده.. ولا حتى يزيد.. وطبعاً حسن ما يعرفش هو كمان..


سألها بتعجب:


ـ ليه يا عليا؟.. ده طلب غريب شوية..


ـ آسفة يا عمو.. مش هقدر أقول السبب لحضرتك.. أنا وعدت ومتأكدة أن حضرتك بتثق فيا..


أومأ عصام برأسه موافقاً وهو يشعر أنه مضطر لمنحها تلك الموافقة.. فابتسمت علياء بسعادة.. ودعته بسرعة متعذرة بموعد محاضراتها الذي اقترب ولم تتح له الفرصة حتى ليقدم اعتذار عن موقفه نحوها.. لا تريد أن تسترجع تلك الذكريات أبداً.. تحاول بقدر الامكان أن تبقيها مدفونة في أعماق ذاكرتها.. حيث لا يمكنها الوصول أو التذكر..


بينما هو وعدها بالاتصال بحسن على الفور وعرض الوظيفة عليه..


ظلت علياء على سعادتها ونشوتها بتحقيق طلب منى طوال اليوم.. ولكن ما لم تعمل له حساباً كان حضور يزيد إلى شقتهما في المساء_برغم أنه أخبرها صباحاً أنه سيقضي ليلته في منزل ريناد_ ليخبرها بتوتر شديد أنه مضطر للسفر بعد ساعات قليلة إلى دبي..


انتفضت علياء في جلستها على الأريكة وهي تصرخ:


ـ ايه!.. تسافر!!.. تسافر ليه؟.. أنت عايز تسيبني تاني وتسافر..


اقترب منها محاولاً تهدئتها وهو يخبرها:


ـ علياء.. اسمعيني بس..


صرخت بقوة وهي تبتعد عنه ببطء لتذهب إلى غرفتها وهو في إثرها محاولاً جعلها تستمع إليه:


ـ أنا مش هسمع حاجة.. أنت وعدتني.. بس زي كل مرة.. هتخلف وعدك وتجرحني.. وتسيبني لوحدي.. هتسيبني لوحدي..


جاءت كلمتها الأخيرة بصوت متهدج دفعه إلى احتوائها بين ذراعيه وهو يهمس:


ـ يا علياء.. ده اسبوع واحد بس.. بابا عرض على حسن أنه يمسك الفرع بتاع دبي.. وأنا هروح معاه عشان أسلمه الشغل وأنسق معاه.. الفرع هناك تقريباً واقف من يوم ما سيبته ورجعت..


دفعته عنها وابتعدت عن مدى ذراعيه وهي تسأله:


ـ وليه أنت اللي تسافر؟.. أي حد ممكن يقوم بالمهمة دي مكانك..


مسح وجهه بكفيه بتعب:


ـ لا.. ما ينفعش.. أنا اللي بدأت تأسيس الفرع ولازم أنا اللي أسافر.. وعلى فكرة هسافر لوحدي..


كتفت ذراعيها وهي تستوعب المعلومة الأخيرة.. ولكنها لم تهدأ.. فعادت تهتف:


ـ أنت وعدتني.. أنت وعدت يا يزيد.. أنا مش هستحمل أنني أكون لوحدي تاني..


اقترب منها ليحتوي وجهها بين يديه:


ـ ما تقلقيش.. وما تخافيش من حاجة أنا مأمنك المرة دي كويس.. وزودت الأمن على الشقة.. صدقيني الأسبوع هيعدي بسرعة..


هزت رأسها برفض وهي تبعد وجهها عن كفيه:


ـ بس هتسبني لوحدي..


ـ يا علياء ما أنا بروح عند ريناد وبتكوني لوحدك.. مش هتفرق صدقيني..


رمقته بغيظ وصرخت بوجهه:


ـ ابعد عني يا يزيد.. روح سافر.. ولا روح لريناد.. اخرج من هنا..


ضرب كفيه ببعضهما وهو يصيح:


ـ بلاش طريقة الأطفال دي.. وافهميني.. ده شغل.. اسبوع وهرجع.. ولو كان ينفع آخدك كنت أخدتك معايا..


كانت تغلي غضباً وغيرة من تذكيره لها بوجود ريناد في حياته ولم تسعفها هرموناتها بأي هدوء فلم يصلها من كلماته سوى لفظة أطفال... فتعالى صراخها بوجهه ودموعها بدأت تهطل بلا توقف:


ـ اخرج يا يزيد.. روح سافر.. روح.. يلا من هنا..


ارتفاع صوتها جذب "أم علي" للغرفتهما فدخلت مسرعة بدون استئذان وضمت علياء التي ترتجف بقوة وهي تحاول حبس دموعها مع ذكريات لا ترغب في استعادتها ولكنها لم تكف عن الصراخ:


ـ ابعد من هنا.. ابعد.. ابعد..


خرج يزيد وتركها بين ذراعي "أم علي" فانفجرت في عاصفة من البكاء.. والسيدة الطيبة تربت عليها وتهدهدها حتى هدأت قليلاً.. واصطحبتها "أم علي" إلى فراشها لتريح جسدها وذهبت لتعد لها كوب من العصير وعادت بسرعة لتهمس علياء وسط دموعها:


ـ شوفتِ يا ست أم علي اهو سابني ومشي تاني..


ـ مش ده كان طلبك؟..


شهقت علياء بقوة:


ـ آه.. وهو بينفذ كل طلباتي!


ربتت السيدة العجوز على كتفها بطيبة:


ـ بس هو ما بعدش.. هو قاعد بره وعلى آخره.. وبعدين أنا سامعاه بيقولك أنه شغله عايز كده.. ايه لازمة الدلع ده والعياط.. أنتِ مش عارفة أن البكا مش حلو على اللي في بطنك!..


ـ ما شاء الله يا ست أم علي.. أنتِ مركبة رادار.. بتسمعي دبة النملة..


كان ذلك صوت يزيد الذي وقف على مدخل الغرفة يراقبهما.. فأصدرت صوت ينم عن السخرية بشفتيها وهي تتمتم:


ـ وأنا اللي كنت ناوية احنن قلبها عليك.. وأنت قاعد تقولها لما بنام في بيتي التاني و..


قاطعها يزيد:


ـ خلاص.. خلاص.. عرفت أنك سمعتِ كل الكلام.. روحي حطي الغدا..


تخصرت له وهي تغمغم:


ـ ولك نفس تاكل بعد ما نكدت عليها!..


هتف بغيظ:


ـ اعملي قهوة.. شاي.. أي حاجة.. بس روحي من هنا..


خرجت السيدة وهي تغمغم بكلمات وتعبيرات اعتادها منها.. بينما اتجه هو نحو فراش علياء التي أولته ظهرها على الفور.. وجلس بجوارها وهو يهمس:


ـ أسبوع واحد يا علياء.. هتصل بيكي كل ساعة.. لا.. كل نص ساعة..


ظلت صامتة ولم تجبه.. فتنهد بيأس:


ـ رجعنا للسكوت..


ظلت صامتة ورفعت الغطاء حتى غطى وجهها.. فعاد يحاول جذبها للحديث:


ـ ما هو كده ما ينفعش يا علياء.. حاولي تفهمي الموقف.. رجوعي بدون سابق إنذار وقف حاجات كتير.. ولازم أسافر.. شغلي له حق عليّ.. وأم علي معاكِ.. وأنا مش هتأخر.. صدقيني..


طبع قبلة على رأسها المخفي تحت الغطاء وهو يشاكسها:


ـ قومي يلا نتغدى وتحضري لي الشنطة..


ظلت صامتة وهي تحاول اقناع نفسها بكلامه.. ولم تجبه بشيء فزفر بغيظ:


ـ مش هتردي علي.. طيب أنا هكلم ريناد تجهز..


لم تدعه يكمل كلماته وصرخت به:


ـ روح لبيتك التاني.. أنا مش عايزاك هنا..


جذب الغطاء من فوق رأسها بعنف وهو يهتف غاضباً:


ـ ماشي يا علياء.. أنا نازل.. وخلي شغل الأطفال ده ينفعك..


خرج من الغرفة ومن الشقة بأكملها لتنفجر هي في نوبة جديدة من البكاء.. أتت على إثرها "أم علي" مرة أخرى لتحتضنها برقة وهي تخبرها:


ـ معلش.. الرجالة ما لهاش في شغل المحايلة والمدادية.. وأنتِ زودتيها شوية.. مادام كده كده هيسافر, تسيبيه ليه يسافر زعلان منك.. أهو هيروح للتانية تدلعه وتجهز له شنطته.. وأنتِ قاعدة مفحومة عياط..


استمرت علياء ببكائها ولم تعد تعرف ما الخطأ وما الصواب..


*************


وصل مازن إلى منزله وهو يشعر بالإجهاد الشديد نتيجة تراكم العمل في الفترة السابقة.. فهو لم يذهب إلى عمله لمدة أسبوع كامل.. أسبوع عسل كما أطلق عليه.. قضاه برفقة نيرة لم يدخر جهداً في اسعادها أو تلبية طلباتها.. فالخروج والسهر كل ليلة وفي كل مرة مكان مختلف من اختيارها.. كان يختبر معنى أن يمتلك المرأة التي حلم بها لسنوات طويلة.. فلم يبخل عليها بأي شيء بدئاً من وقته ونهاية بهداياه الثمينة التي أغرقها بها.. يكفيه فقط أن تشير بإصبعها إلى ما تريد فيكون بين يديها في لحظتها.. كان يدللها بكل ما تعني الكلمة من معنى وهي كانت تتلقى ذلك الدلال بسعادة قصوى وهي تحكم من سيطرة أنوثتها على حبه لها..


صعد درجات السلم الداخلي مسرعاً يمني نفسه بليلة أخرى تغمره فيها بأحد مفاجآتها التي تسيطر على حواسه بالكامل.. ففي كل ليلة تكون عروس جديدة.. خجولة وناعمة.. وأحياناً شقية عابثة.. والليلة لم تخيب ظنه فقد فاجئته بتمددها في مغطس الحمام وقد ملأته بالمياه واستبدلت رغوة الصابون بأوراق الورد.. فغرق جسدها في غيمة ملونة من الأبيض والوردي ودرجات الأحمر والأصفر.. وتألقت خصلاتها كشعلة وسط ضوء الشموع العطرية التي تنير المكان.. ويدها الناعمة تمدها بكل اغراء وهي تشير له بسبابتها.. ليرافقها في حمامها العطري بأوراق الورد.. ويغرق أكثر وأكثر في أنوثتها السخية.. ولكن إلى متى؟..


**************


وصل حسن إلى شقته الصغيرة وهو يكاد يطير من سعادته.. لم يصدق أن تبتسم له الحياة أخيراً.. هل آن الأوان ليبتعد عن نوعية الحياة المزعجة التي اختبرها مؤخراً.. هل سيمكنه تحقيق أحلامه أخيرا؟ً.. سيعود لعمله الذي يعشقه.. وليس كمهندس فقط.. ولكن مسئول عن فرع شركة الغمراوي في دبي.. حقاً لا يستطيع تصديق نفسه.. وما يسعده بالفعل أن يزيد لم يتدخل ليمنحه الوظيفة.. فالذهول الذي سطر على وجهه وعصام الغمراوي يبلغهما معاً باختياره لحسن للإدارة الفرع كان أكبر دليل أن عصام اختاره بدون أي محاباة من يزيد.. أو حتى تدخل من والده حاتم العدوي.. بقي فقط أن يفاتح منى في الموضوع.. وهو أكثر ما يخشاه.. فالمفروض أن يسافر الليلة.. وبالطبع ستنتظر منى لبعض الوقت حتى تعد جواز سفر لها.. وهو يخشى رفضها ابتعاده ولو لعدة أيام..


دلف إلى شقته ليجد منى قد أعدت الطعام بالفعل.. ووزعت بعض الشموع على المائدة الصغيرة التي وقفت بجوارها ترتدي ثوباً قصيراً من الشيفون الناعم.. وبدا واضحاً من ثوبها الجرئ أنها أعدت نفسها لسهرة رومانسية برفقته..


اقترب منها ليضمها بين ذراعيه طويلاً ليهمس بعدها بفظاظة:


ـ هو احنا ليلتنا فل ولا حاجة!..


ارتفعت عيناها نحوه بذهول.. لتنطلق منه ضحكة قوية لم يستطع كبحها وهو يقول:


ـ آه لو تشوفي وشك.. وتعبيراتك دلوقتِ عاملة ازاي..


وكزته في كتفه بغيظ:


ـ كده برضوه يا حسن.. بتتريق عليا!


عاد ليضمها إلى صدره بقوة:


ـ لا يا حبيبتي.. أنا بس سعيد جداً جداً جداً..


ابتسمت بسعادة لسعادته الواضحة:


ـ خير يا حبيبي.. فرحني معاك..


جذبها من يدها وجلسا معاً إلى مائدة الطعام وبدأ يحكي لها عن مكالمة عصام الغمراوي وذهابه إليه في مقر مجموعة الغمراوي.. لينتهي بعرض العمل الذي عرضه عليه بمرتب يفوق كل ما تمنى يوماً.. أنهى حديثه وهو يخبرها بقلق:


ـ المهم يا منى.. أنا وافقت.. بس لازم أسافر الليلة مع يزيد..


سألته بتردد:


ـ تسافر!.. هو أنا مش هاجي معاك؟..


أمسك يدها يقبلها:


ـ أكيد يا حبيبتي.. بس أنتِ لسه هتعملي جواز سفر.. أنا هسبقك الليلة واظبط الأمور كمان هناك.. وانسق الشغل مع يزيد.. وأنتِ أول ما تخلصي أوراقك هتحصليني.. ده يضايقك في حاجة؟..


تحركت من مقعدها لتجلس على ركبتيه وتحتضنه بقوة:


ـ لا يا حبيب عمري.. أسبوع بالكتير وأكون عندك.. بس أنت اوعى تشتري حاجة لبيتنا لوحدك.. لازم نكون سوا.. متفقين!..


لفها بذراعيه وهو يحملها إلى غرفتهما ويهمس بعبث:


ـ أكيد لازم نكون سوا.. هو أنتِ عندك شك!..


ضحكت بدلال:


ـ والسفر يا حسن؟..


أجاب بصوت أجش:


ـ قدامنا لسه وقت.. ما تقلقيش..


ضحكت بسعادة وبداخلها تشكر علياء التي لم تتصورها بذلك النبل على الاطلاق..


*************


جلس يزيد بجوار حسن في مقعده بالدرجة الأولى في الطائرة المتجهة إلى دبي وهو يتأمل الرسالة القصيرة التي وصلته من علياء..


"توصل بالسلامة.. ابقى طمني عليك"..


زفر بغيظ.. وهو يتمتم بداخله..


"يعني قلقانة عليّ اهوه!.. يبقى ايه لازمة الغضب والغلط"..


تذكر ذهابه إلى منزله هو وريناد التي امتصت غضبه الواضح بكل يسر.. لا يعرف كيف وجد نفسه يقص عليها ما حدث بينه وبين والده وحسن.. واستطاعت بذكائها الأنثوي أن تخرجه من غضبه ليعبر عن سعادته بالفرصة التي منحها والده لحسن.. ليبتعد حسن أخيراً عن المجموعة الغريبة التي تعرف إليها مؤخراً.. امتد الحديث بينهما لفترة.. بعدها أعدت له ريناد حقيبته بهدوء..


واقتربت منه بخجل لتخبره بهمس عملي:


ـ يزيد.. الدكتور قالي أن الليلة مناسبة عشان الحمل والاخصاب وكده..


تنهد بعجب وهو يتذكر الليلة الماضية حيث أجلسها بين ذراعيه وهما يشاهدا أحد الأفلام الرومانسية وعندما حاول التقرب منها فاجئته بصرخة غاضبة.. واعتراض واضح لأن الليلة غير مناسبة لحدوث حمل.. وأنها أخبرته بذلك قبل بداية السهرة..


أخرجته من ذكريات الليلة الماضية بلمسات مغوية لا تجيدها إلا في الليالي التي يحددها لها الطبيب.. ولكنها للأسف تجيدها للغاية.. وهو مجرد.. رجل.. رجل محبط.. وضعيف أمام تلك الفتنة الأنثوية الشقراء... ولكنه رغم كل شيء يشتاق للحمقاء الصامتة التي تسبب له أقصى حالات الغضب..


التفت إلى حسن الجالس بجواره ليخبره بحسم:


ـ تلات أيام بس يا حسن.. هنخلص شغلنا في تلات أيام.. ارجع بعدهم مصر..


وكان له ما أراد.. فواصلا الليل بالنهار ليُنهيا أعمال أسبوع في ثلاثة أيام فقط..


لم يغمض لكليهما جفن بالفعل.. حسن يبذل قصارى جهده ليُلم بكل المعطيات التي يبلغه بها يزيد وبنفس الوقت يقاوم شوقه لزوجته الرقيقة.. ويزيد يكافح قلق عاصف وشوق حارق إلى علياء لا تطفئه مكالماته الهاتفية لها والتي تظهر له بوضوح أنها غاضبة.. وأيضاً.. خائفة..


وصل أخيراً إلى شقة علياء وهو يشعر بالاجهاد في كل خلية بجسده.. واتجه إلى غرفتها.. ليجدها تمسك بزجاجة العطر الخاصة به تستنشقها بعمق وعلى وجهها ابتسامة حالمة سرعان ما انتقلت لشفتيه هو لتتحول إلى شهقة عجب وهو يراها تنثر القليل من عطره على كفها لتلعقه بعدها باستمتاع جم.. جعله يصرخ بها:


ـ علياء!!.. أنتِ اتجننتِ بتعملي ايه!


التفتت له علياء بذعر وهي تخفي زجاجة العطر خلف ظهرها.. وتهمس بخوف:


ـ ما فيش.. ما فيش حاجة..


ـ ما فيش حاجة ازاي!.. وازازة البرفيوم اللي مخبياها دي بتعملي بيها ايه!!


أظهرت علياء يدها من خلف ظهرها لتتهدل بجانبها بتعب وتحركت لتجلس على الفراش لترفع عينيها نحوه بطفولية:


ـ طعمها حلو قوي..


تمتم بذهول:


ـ نعم!.. أنتِ شربتي منه!!


لتكمل هي:


ـ أم علي بتقول ده وحم.. بس الدكتورة زعقت لي ومش موافقة أني اشربه!!..


برقت عيناه في ذهول.. ثم انطلقت ضحكاته بلا توقف حتى دمعت عيناه.. فنهضت من جواره وقد تملكها الغضب.. ولكنه تمكن من الإمساك بها بسهولة بسبب بطء حركتها وأجلسها على ركبتيه وأحاطها بذراعه ومد يده ليأخذ الزجاجة من يدها ويغرق بها نفسه.. ثم همس لها بخبث:


ـ ايه رأيك كده ممكن تدوقيها من غير ما الدكتورة تزعق لك!!


احمرت وجنتاها بقوة ولكزته في كتفه:


ـ أنت قليل الأدب!!


ضحك باستمتاع وهمس لها:


ـ وحشتيني.. وحشتيني قوي.. ووحشني الكلام معاكِ.. وحشني صوتك يا علياء..


أخفضت عينيها أرضاً وحاولت التملص منه.. ولكنه منعها بلطف:


ـ رايحة فين!.. ده أنا ما صدقت..


رددت بخجل:


ـ أنت رجعت بدري..


دفن شفتيه في عنقها وهو يهمس:


ـ علشان خاطر عيونك.. تصدقي أنا ما نمت ولا خليت حسن ينام.. شوفتي بقى معزتك عندي.. أنا ما اقدرش على زعلك..


داعبت أناملها خصلات شعره ومرت بلطف على ملامحه ثم ضمت نفسها إلى صدره لتهمس بتوسل:


ـ أنا بحبك قوي يا يزيد.. بلاش تجرحني.. ولا تبعد عني..


رفعها بين ذراعيه ليستلقي على الفراش وهي بين ذراعيه ويهمس:


ـ اوعي تخاصميني تاني.. أنا خلاص استويت والله.. ومش قادر على زعلك..


دفنت وجهها بصدره وهي تحيطه بذراعيها.. بينما غرق هو في النوم على الفور.. فهو مستيقظ منذ ثلاثة أيام...


**********


وصلت دنيا إلى شقتها لتجد مازن ممدد على الأريكة باسترخاء.. وقد خلع سترته ورابطة عنقه واكتفى بقميص البذلة..


نهض فور دخولها ليستقبلها بلهفة بينما هي كانت في قمة الاجهاد.. فقد كانت عائدة للتو من العرض الأخير الخاص بدار الأزياء التي تملكها..


ضمها لصدره برقة ثم أمسك بها ليلفها بين ذراعيه وهو يطلق صفيراً عالياً.. فهي كانت ترتدي ثوباً فضياً طويلاً.. يلتصق بجسدها ليبرز قدها الرشيق ويتسع عند ركبتيها ليتداخل قماشه الفضي اللامع بقماش شيفون رمادي خفيف..


عاد ليضمها له ويلف خصرها بإحدى ذراعيه ويمد أنامله لتجري على فتحة صدر الفستان الواسعة التي كشفت عن عظام ترقوتيها الرقيقة..


فهمست له:


ـ شكراً لوجودك الليلة يا مازن..


داعب عنقها برقة:


ـ هو أنا عمري فاتني عرض ليكي..


همست:


ـ أنا عارفة أن الوضع اختلف...


وضع أنامله على شفتيها:


ـ هششش.. ما فيش حاجة اختلفت..


ثم أخرج علبة مخملية من جيب بنطاله.. وفتحها أمام عينيها.. لتظهر قلادة ماسية رائعة شكلت لتمثل الشمس بكل آشعتها المبهرة.. ولف حول دنيا ليثبت القلادة خلف عنقها.. ويضمها له بقوة وهو يهمس لأذنها من الخلف:


ـ وحشتيني..


ابتعدت دنيا عنه بمسافة كافية وهي تفكر جيداً فيما تود قوله له:


ـ مازن.. احنا لازم نتكلم جد شوية..


ـ خير يا دنيا؟.. قلقتيني..


ترددت قليلاً.. ثم تكلمت:


ـ الفترة.. الفترة اللي قضناها مع بعض كانت أيام جميلة.. بس أنت ظروفك اختلفت.. دلوقتِ في فحياتك زوجة.. وبيتهيألي نحاول نبعد واحنا لسه أصدقاء.. و..


قاطعها بغضب وهو يقترب منها بسرعة:


ـ وايه يا دنيا!.. ايه الكلام الغريب ده.. ايه اللي حصلك؟.. في حد دخل حياتك؟..


لم يدرِ أيهما ما حدث ولكن صوت الصفعة على وجنة مازن كان يدوي في أذنيهما.. بينما احمرت عينيه غضباً.. ولكنها لم تدع غضبه يؤثر بها فصرخت بعنف:


ـ لولا أنك مازن ما كنتش هتشوف وشي تاني.. أنت عارف كويس مين دنيا..


حرك يده على وجنته وهو يحاول كبح غضبه.. واقترب منها قليلاً:


ـ عايزاني اعتذر يا دنيا.. يبقى أنتِ كمان لازم تعتذري.. لأن كلامك معناه يضايق.. أنا ما كنتش مرتبط بيكي عشان مجرد رغبة أو شهوة.. مجرد ما بقى عندي زوجة يبقى هبعد..


قاطعته بغضب لم تستطع كبحه:


ـ أنت بعدت فعلاً..


ـ لفترة بسيطة.. وأظن وجودي الليلة في الديفيليه دليل على أنك في بالي وأني ما نسيتش أي حاجة تخصك..


مسحت جبهتها بتعب وهي تتهالك على أحد المقاعد:


ـ أنا ما بقيتش عارفة أي حاجة.. أنا حاولت بس أرفع عنك أي حرج..


اقترب ليجلس أمامها على نصف ركبة ومد أنامله ليرفع ذقنها:


ـ تحبي نعلن جوازنا؟.. أنا عرضت عليكِ الموضوع أكتر من مرة..


ابتسمت بتعب:


ـ وكل مرة كانت بتكون عقاب لنيرة..


ـ لكن المرة دي..


قاطعته:


ـ المرة دي ما ينفعش أني أوافق.. كده يبقى بندمر جوازك قل ما يبتدي..


جلس على الأريكة وجذبها من على مقعدها لتسقط بين ذراعيه وبدأ يحرك كفيه بحركات دائرية على كتفيها وعنقها وهمس لها:


ـ هعملك مساج مخصوص.. هدلعك المرة دي.. وآخر مرة اسمع كلام عن البعد ونفترق والكلام ده.. ووقت ما تحبي نعلن جوازنا أنا موافق..


********


مرت ثلاثة أشهر..


جلس يزيد بجانب علياء على فراشها وهي تحتضن صغيرها وتضمه إلى صدرها لترضعه للمرة الأولى.. ليهمس بغيظ:


ـ بيعمل ايه الواد ده؟..


ضحكت بتعب:


ـ زي ما أنت شايف.. وبعدين دي حمد لله على السلامة بتاعتك!


أحاطها بذراعه وهو ينظر إلى ابنه بغيظ مما دفعها إلى الضحك بقوة وهي تهمس:


ـ بتغير من ابنك يا يزيد!..


قطب حاجبيه وهو يسألها:


ـ مش بترضعي أخته ليه؟..


ابتسمت وهي تغير الموضوع وتسأله:


ـ أنت لسه ما سميتهموش؟..


ضحك وهو يتحرك ليرفع ابنته الصغيرة من سريرها:


ـ ازاي.. طبعاً سميتهم.. اتفضلي يا ستي.. أقدم لك الآنسة.. نادية.. والواد الشقي اللي مش بيبطل رضاعة ده.. هسميه علي..


ترقرقت الدموع في عينيّ علياء وهي تتأمله وتهمس:


ـ نادية!.. هتسميها نادية!!.. و..


قاطعها وهو يقترب ليطبع قبلة على جبينها:


ـ حمد لله على سلامتك.. أنتِ ونادية وعلي..


***********


بعد ثلاث سنوااااات...


........


الفصل القادم بإذن الله...... عالفصل الرابع والعشرون


"الحب صبور دائماً وليس غيوراً أبداً, الحب أبداً ليس متبجّح ولا مغرور, وهو ليس وقح أو أناني أبداً ولا يعاتب ولا يستاء, الحبُ لا يسعد بذنوبِ الناسِ الآخرين.. لكن المسرات في الحقيقة..

هو جاهز دائماً للإعتذار للإئِتمان, للتَمنّي.. وللتَحَمُل, مَهما يحدث.."


A walk to remember


انهمكت منى في تنسيق ورودها التي بدأت بالتفتح.. ومراعاة براعم أخرى على وشك التفتح.. أنها حديقتها التي طالما حلمت بها.. وقدمها حسن لها مع منزلهما الرائع هذا.. لقد أعدها حتى قبل أن يعد المنزل من الداخل..


مسحت على جبهتها بإنهاك وقد تساقطت منها قطرات العرق البارد.. يبدو أن نزلة البرد الأخيرة تصر على مصاحبتها لفترة طويلة.. ذلك الشعور بالإرهاق المستمر لا يفارقها في الآونة الأخيرة.. وحسن يتوسلها الذهاب إلى طبيب.. وهي تعاند.. لا تريد إزعاجه ولا إثارة قلقه.. وبداخلها أمل خفي أن يكون ذلك الإرهاق سببه بذرة حبهما تنمو في أحشائها أخيراً.. فقد تأخر حملها كثيراً.. وكلما فاتحت حسن في الموضوع يخبرها أن كل شيء بأمر الله.. وهو لا يريد من يشاركه اهتمامها وحبها.. كانت ترضى بذلك في البداية مدركة أن السبب الرئيسي هو الظروف المادية المتعثرة.. ولكن الآن بعد مرور ثلاث سنوات قضياها بدبي.. وتحسن أحوالهما المادية بصورة فاقت كل توقعاتها.. أصبح تأخر حملها هاجس يرافقها طوال الوقت.. بينما حسن يصب اهتمامه الدائم على عمله والنجاح به.. حتى أن اسمه بدأ يتردد بقوة بين رجال الأعمال.. ويتهافت الجميع للتعاقد مع شركة الغمراوي حتى يقوم البشمهندس حسن العدوي بتصميم فيلا.. أو شاليه.. أو.. أو...


تحمد الله على كل هذا النجاح.. ولكنها تفتقد حسن العاشق الذي يبحث عن أمانه معها.. تغير حسن.. ليس كالتغير السابق.. حمداً لله.. لكن المادة أصبحت تشكل جانب هام من حياته.. طموحه أصبح بلا حدود.. بحثه عن النجاح لا يهدأ.. ولولا بقايا حسن القديم الذي يدين بولاء لا ينضب لعصام الغمراوي, لكان بدأ في تأسيس شركة خاصة به.. وهو قد كون من العملاء ما يكفي لانطلاقه ناجحة.. ولكن حسن القديم مازالت له القليل من السطوة في هذا الأمر.. ولا تعتقد منى أن تلك السطوة ستستمر طويلاً..


أمسكت رأسها بإنهاك.. فقد هاجمها دواراً آخر جعلها تترنح بقوة.. ولسوء حظها تزامن ذلك مع وصول حسن الذي سارع ليتلقاها بين ذراعيه قبل أن تلامس أرض حديقتها الغالية التي طالما حلمت بها..


وضعها على فراشها برقة.. نادى اسمها عدة مرات.. ودعك وجنتيها وجبهتها بقوة قبل أن تفتح عينيها بإجهاد هامسة:


ـ آه.. هو إيه اللي جرى!


هتف حسن:


ـ اللي جرى أنه أغمى عليكِ.. اللي جرى أن عِندك مالوش آخر.. مش عارف منشفة دماغك ليه؟..


دعكت منى جبهتها بتعب:


ـ خلاص يا حسن.. دول شوية إرهاق و..


قاطعها:


ـ ما فيش و.. احنا هنروح المستشفى النهارده.. وما فيش نقاش..


********


جلس مازن ويزيد بمواجهة شاطئ البحر أمام الشاليه الخاص بيزيد بالمعمورة.. وعلي يلعب بين قدمي يزيد بالرمال.. بينما رفع مازن نادية بين ذراعيه وهو يداعبها بقوة لتضحك الفتاة بسعادة وتهتف:


ـ ماسن.. ماسن.. أيزة قوة..


ضحك مازن بقوة وهو يوبخها بمداعبة:


ـ يا شقية.. بتستغليني عشان تشربي قهوة..


هتف يزيد بتوسل:


ـ بلاش أبوس إيديك يا مازن.. كده مش هتنام.. كفاية أدهم أخوها الصغير.. 10 شهور أهوه.. وصاحي ليل ونهار..


ضحك مازن بقوة:


ـ ما حدش قالك تتهبل وتخلف تاني وولادك يا دوب كملوا السنة.. الدنيا مش هتطير.. إرحم حالك شوية..


هتف يزيد بغضب:


ـ لِم نفسك يا مازن.. والله لولا أنك ماسك نادية كنت وريتك شغلك.. عيب عليك.. بدل ما تتشطر كده.. وتجيب لك كام نونو يقرفوك.. وينكدوا عليك عيشتك ليل ونهار.. وخصوصاً في الليل..


غامت عينا مازن قليلاً وهو يتذكر مناقشاته المستمرة مع نيرة من أجل الإنجاب.. ورفضها المستمر بحجة أن الوقت ما زال أمامهما طويلاً وهي تريد الاستمتاع بحبه ودلاله لها بدون أن يشاركها بهما أي شخص.. كما أنها سعيدة بما حققته من نجاح في عملها في مجال العلاقات العامة بمجموعة العدوي_غيث.. ولا تريد ما يعطلها عن نجاحها حالياً...


همس مازن بخفوت:


ـ مش كل ست تنفع تكون أم..


سأله يزيد:


ـ إيه؟ بتقول حاجة؟..


هز مازن رأسه نافياً:


ـ لا.. بس بتعجب من حب نادية للقهوة؟..


زفر يزيد بحنق:


ـ البركة في سي أدهم.. علياء اتوحمت على القهوة فيه.. ونادية من يومها وهي عايزة قهوة..


ضحكت نادية بشقاوة لتصيح:


ـ زيد.. أيزة قوة..


ضحك يزيد وأخذ ابنته من بين ذراعي مازن ليرفعها عالياً ويعود لالتقاطها مرة أخرى وضحكات الفتاة تتعالى.. وهو يعاود الكرة.. مرة بعد مرة.. حتى سمع صوت علياء تصرخ من داخل شرفة الشاليه وتسرع نحوه:


ـ يزيد.. بالراحة.. البنت.. مش كده..


وصلت عنده لتجذب نادية ناحيتها فأخبرها بشقاوة:


ـ روحي يا ندوش لماما.. هي هتجيب لك القهوة..


ثم اقترب منها وهمس لها لتسمع هي فقط:


ـ بس بيتهيألي المرة دي مربى!..


وغمز لعلياء بعبث فشهقت بقوة وتضرجت وجنتاها حرجاً.. بينما تظاهر مازن بمشاركة علي اللعب بالرمال..


سأل يزيد:


ـ أومال أدهم فين؟..


أجابته علياء:


ـ مع نيرة..


صرخ يزيد بهلع:


ـ إيه.. سيبتي الواد معاها لوحده.. دي ممكن تاكله!..


وكزته علياء في جنبه فصرخ متأوهاً:


ـ إيه.. جوزها قدامك وسامع كلامي وما اعترضش..


ضحك مازن بغموض وأخبر علياء:


ـ أهم حاجة أنه ما يوسخش فساتنها.. وإلا..


هتفت علياء بحنق:


ـ أنتوا.. أنتوا..


ولم تسعفها الكلمات فأخذت ابنتها وذهبت وهي تتمتم ليزيد:


ـ خلي بالك من علي..


فهتف مازن:


ـ سيبي نادية ألعب معاها شوية.. لو ممكن؟


ابتسمت علياء وابنتها تهتف:


ـ ماسن.. ماسن..


سلمتها لمازن وهي تعتذر بحرج:


ـ آسفة والله.. هي بتنادي على كل الناس بأساميهم..


وزغرت ليزيد الذي ارتدى قناع البراءة:


ـ كله من أبوها..


تركتهما وذهبت لتجالس نيرة في شرفة الشاليه.. والتي دفعت إليها بأدهم ما أن جلست على مقعدها وهي تهتف:


ـ امسكي ابنك.. مُصر يشد شعري..


ضحكت علياء وهي تسأل نيرة بود:


ـ مش بتفكري في الأطفال يا نيرة؟..


تغير وجه نيرة قليلاً.. ونظرت للشاطيء حيث تتعالى ضحكات مازن مع الصغيرين.. وخاصة نادية.. همست:


ـ مازن بيحب نادية قوي..


ـ نيرة..؟..


التفتت نيرة لعلياء لتسألها:


ـ هي.. منى وحسن لسه ما خلفوش؟..


شهقت علياء بغضب:


ـ إيه لازمة السؤال ده دلوقتِ يا نيرة؟..


ـ عادي بسأل.. عايزة أعرف.. فضول..


ـ فضول!!.. أنتِ كل فترة بتحاولي تعرفي أخبار حسن.. ليه يا نيرة؟


همست نيرة بغضب:


ـ مش قادرة أنساه يا عليا.. أنا اشتغلت في الشركة مخصوص على أمل أنه يرجع وأكون قريبة منه..


هتفت علياء بذهول:


ـ إيه الكلام ده!!.. معقولة بعد السنين دي كلها.. ومازن؟.. مازن بيحبك قوي يا نيرة.. ليه تظلميه كده؟..


هزت نيرة كتفيها وهي تراقب مازن أنه يعشقها بالفعل.. وهي تحب ذلك.. تحب علاقتهما معاً.. ستكون كاذبة إن أنكرت أنها تريد مازن كزوج.. وكرجل.. ولكنها غير قادرة على محو حسن من قلبها.. غير قادرة على منحه العفو لخطيئته بحقها.. ذنبه الذي لن يغفره إلا عودته متوسلاً السماح.. أو ربما.. العودة إليها..


التفتت لعلياء تسألها:


ـ يزيد مش بيقولك إذا كان حسن ناوي يرجع ولا لأ؟..


هتفت علياء بحنق:


ـ يووووه يا نيرة.. لازم تنسي حسن خالص.. أنتِ مرات أخوه.. فاهمة يعني إيه أخوه!..


هزت نيرة كتفيها:


ـ مازن إنسان كويس جداً.. بس برضوه غامض جداً.. الحياة معاه مش سهلة.. مش سهلة أبداً..


سرحت بنظرها لتراقبه وهو يرفع نادية فوق كتفيه.. ويجري خلف علي الصغير يطارده ضاحكاً.. ومسدت بيدها على بطنها وقد ارتسم على وجهها تعبير غامض.. وغاضب..


********


تمسك حسن بمقود السيارة بكلتا يديه وهو يضغط عليه بشدة يحاول جاهداً حبس دموع تتسابق لتعبر جفنيه.. وهو يقاوم ببسالة.. نعم لابد من المقاومة.. لابد من أن يظل صامداً حتى لا يسبب لها الفزع.. لا يريدها أن تحمل هماً سابقاً لأوانه..


لا يصدق ما مر به.. بعد دوامة كبيرة من التحاليل والآشعة.. وبعد إعادة الفحص والتحاليل أكثر من مرة.. كانت النتيجة لا تتغير.. وبدا على الطبيب التأثر وهو يخبره بكلمات موجزة عملية..


"آسف جداً.. زي ما توقعت.. كل التحاليل بتأكد التشخيص الأولي..


وفي مرحلة متقدمة.. بص.. هنا الطب متقدم جداًHepatic cancer


لكن نصيحة لو تقدر تسافر فرنسا.. هيكون أفضل"


"في أمل يا دكتور؟"..


وهنا كانت ربتة مواساة من الطبيب على كتفه..


"الأمل في ربنا كبير"..


أوقف السيارة على جانب الطريق.. ولم يعد يحتمل ضغط الدموع أكثر فتركها تسيل بصمت.. بألم.. وجع لا يحتمل.. لا يصدق أن تنتهي الرحلة بتلك السرعة.. لقد بدآ مؤخراً فقط الاستمتاع بالحياة وترفها سوياً.. ولكنها فقط أشياء بسيطة.. عشاء رومانسي في مطعم فخم.. رحلة بحرية صغيرة.. قطع بسيطة من المجوهرات.. شبكتها التي وعدها بها منذ زمن.. تجول بين واجهات المحلات وهما يدركان أنهما يملكان القدرة على شراء ما يحلو لهما.. بيت وحديقة كما تمنت يوماً.. أنها فقط أشياء بسيطة فقد أجل الأحلام الكبيرة لــ لاحقاً.. لكي يصفعه الواقع المر.. بأنه قد لا يكون هناك لاحقاً..


مسح دموعه وبدأ سلسلة من الاتصالات التليفونية.. بدأت بمازن.. وانتهت مع فريدة والدة صبا.. وقد وعدته بإنهاء كافة الاجراءات وتسهيل حضوره ومنى إلى باريس في أقرب وقت... وكانت عند كلمتها بالفعل فلم يمر يومان إلا وكانا على متن الطائرة المتجهة إلى مطار شارل ديجول بباريس..


مدت منى أناملها تتمسك بيد حسن وهي تهمس له بحنان:


ـ وبعدين يا حسن.. سيبها لله.. أنا مش خايفة.. وراضية بقضائه..


ضغط على يديها بعنف.. عنف لا ينبع من قسوة بل خوف.. فزع.. لا يقوى على تخيل حياته بدونها.. أنها منى.. منى وكفى.. عندما صارحها بحقيقة مرضها ابتسمت ابتسامة راضية.. وتمتمت بهدوء..


"قدر الله وما شاء فعل"..


كانت هي من تواسيه وتهدئ من روعه, وظلت على تجلدها وصبرها حتى وصلت إلى الحرم المكي.. وكان قد لبى لها طلبها بأن تقوم بالعمرة قبل السفر للعلاج.. وهناك فقط فقدت تماسكها.. وانهارت في نوبة بكاء.. ظنها في البداية خوفاً من القادم.. ولكنها كانت خوفاً من أن يكون مرضها ابتلاء لذنب ارتكبته.. وظلت تدعو وتتوسل المغفرة والعفو.. وهو يتوسل لها الشفاء..


وأخيراً.. انتهت نوبة بكائها.. وارتسمت على وجهها ابتسامة رائعة.. وكأنها تشع رضا وراحة.. بل ضياءً..


عاد من شروده ليرد عليها بصوت متحشرج:


ـ إن شاء الله خير.. مدام فريدة حجزت لنا في المستشفى الأمريكي في باريس.. مستشفى كبير قوي.. دول حتى بيوفروا مساعدة للمرضى العرب.. وفي ممرضة إنجليزية من أصول عربية.. هتكون شبه مرافقة ليكي.. مدام فريدة بلغتني بكده..


وضعت رأسها على كتفه تخبره بحنان:


ـ شوفت ازاي ربنا مسهلها.. سيبها لله بس.. وبلاش تعمل في نفسك كده..


أحاطها بذراعه بقوة يريد أن يزرعها بداخلها.. يداريها بين عينيه.. يخفيها عن الموت المتربص بها.. والذي يهدد بأخذها منه مع كل نفس..


وصلا إلى المطار.. وكانت فريدة بانتظارهما تصحبها صبا ابنتها فقد كانت في زيارة لها بذلك الوقت وبدا على شفتيها ابتسامة هادئة..


حياها حسن بمودة.. وهو يسألها عن أخبار والدها.. بينما تحفظت منى منها قليلاً.. فهي شقيقة نيرة ولا تعلم كيف تتعامل معها.. إلا أن تصرفات صبا السلسة والمرحة سرعان ما أذابت برود منى نحوها..


اقتربت فريدة من حسن تخبره بكل ما قامت به من ترتيبات لإقامة منى:


ـ وعلى فكرة يا حسن الممرضة اللي كلفوها بمرافقة منى اسمها لورا ستيفنز.. هي إنجليزية من أصل لبناني.. وإن شاء الله هتكون معاكوا في كل خطوة جوه المستشفى.. أنا اخترتها انجليزية لسهولة التواصل..


أومأ حسن موافقاً بامتنان.. واتجهوا جميعاً إلى المشفى, حسن قلبه ينتفض بداخله مع كل خطوة يشعر أنه في طريقه ليفقدها للأبد.. ومنى ترتسم على وجهها إمارات الرضا وابتسامة هادئة شجاعة.. تتأملها كلاً من فريدة وصبا بإعجاب يصل حد الانبهار من قوة تماسكها وصلابتها..


هناك التقوا مع لورا ستيفنز التي رافقتهم حتى الغرفة التي تم حجزها لمنى.. وهناك بدأت الشرح بطريقة عملية بحتة تناقض ملامحها الشقراء الرقيقة:


ـ أنا أدعى "لورا ستيفنز".. سوف أكون مرافقة للسيدة "العدوي" طوال إقامتها بالمستشفى.. في البداية سوف نقوم بإعادة جميع التحاليل والآشعة.. وبناء على ما يظهر بها سوف يتم التعامل مع الوضع.. الطبيب المشرف على الحالة يدعى دكتور "راندال آدمز".. وهو من أمهر جراحي المستشفى.. أي سؤال أو استفسار سأكون في خدمتكم..


ثم أكملت بلغة عربية ضعيفة نوعاً:


ـ أنا بفضل التعامل بالانجليزية.. هي أسهل شوي.. أنا بتكلم عربي بسيط.. لكن بفهم عربي كويس قوي..


ـ هل من الممكن معرفة متى أبدأ التحاليل؟.. وهل مطلوب مني أي شيء؟..


كانت منى التي ألقت السؤال.. فاقتربت منها لورا لتحادثها بود:


ـ ارتاحي الآن سيدة "العدوي".. وغداً نبدأ في جميع الاجراءات وسوف أكون معكِ في كل خطوة..


أومأت لها منى بامتنان وهي تحادثها بالعربية:


ـ يا ريت تناديني منى..


أشارت لها لورا موافقة:


..ok ـ


سألها حسن:


ـ ما هو الإجراء المتوقع بعد ظهور نتيجة التحاليل؟..


ـ في الغالب قد يقرر الطبيب إجراء جراحة لو وجد أنه من السهل استئصال الورم.. وستكون جراحة عاجلة... ولكنه رأي الطبيب في النهاية.. أي سؤال آخر؟..


رد حسن بهدوء:


ـ شكراً لكِ..


أومأت لهم وخرجت بهدوء تاركة اياهم تحت صمت رهيب لم تقطعه سوى ضحكة منى المتوترة:


ـ إيه.. ساكتين ليه؟.. هي بتقول أن الجراحة ضرورة وممكن الدكتور يستئصل الورم.. دي أخبار كويسة!!..


اقترب حسن من فراشها ليربت على كتفها بحب:


ـ أكيد يا حبيبتي أخبار كويسة..


تنحنحت فريدة بحرج فرغماً عنها روح الفنانة بداخلها قد سحبتها نحو ملامح لورا تريد أن تخطها على لوحة رسم فوراً:


ـ هنسيبك دلوقتِ عشان ترتاحي يا منى.. وأنت يا حسن.. كل تليفوناتي معاك.. أي حاجة تليفون صغير هتلاقيني عندك.. سلام دلوقت..


خرجتا معاً وتركتا حسن وهو يجاور منى في فراشها.. يلتصق بها وكأنه يخشى أن يفقدها.. منذ أن علم بحقيقة مرضها وهو يخشى النوم.. يخشى أن يغفل لحظة تختفي بعدها من أمام ناظريه.. يشعر أنه يحارب عدو مجهول.. يحارب في معركة خاسرة..


ربتت منى على كتفه وهي تجذب رأسه ليتوسد صدرها:


ـ نام أنت يا حسن.. ارتاح شويه يا حبيبي..


رفع عينيه نحوها يتوسلها ألا ترحل.. ألا تتركه.. فمالت لتقبله على جبهته هامسة:


ـ أنا هكون جنبك.. ودايماً معاك..


لفها بذراعيه.. رأسه ترتاح لقلبها يدق تحت أذنيه.. وحركة تنفسها المستقرة كانت بمثابة مهدئ لأفكاره البائسة.. فخلد للنوم ملتصقاً بها.. وهي تربت على رأسه وتداعب شعره بحنان..


وبدأت سلسلة التحاليل والآشعة مرة أخرى.. وبدأت معها تظهر أعراض المرض العديدة.. وأبرزها الآلام المبرحة التي بدأت تهاجمها وكأنها كمنت لسنوات ثم قررت مباغتتها مرة واحدة.. كانت تتمزق حرفياً من شدة الألم, ولكنها حاولت ببسالة أن تصمد وتظهر الراحة والعافية أمام حسن..


ظهرت نتائج التحاليل والآشعة وقرر الطبيب اجراء جراحة عاجلة محاولاً انقاذ الوضع..


**********


دخلت لورا بابتسامتها الهادئة إلى غرفة منى.. وهي تحمل مجموعة متنوعة من المستحضرات والمعدات الطبية المختلفة:


ـ مساء الخير..


ردت منى بإنهاك:


ـ مساء الخير, لورا.. هل حان الوقت؟..


اقتربت لورا منها بهدوء وابتسامتها الهادئة مازالت على شفتيها:


ـ لا تقلقي عزيزتي.. دكتور آدامز.. من أمهر الجراحين..


أومأت منى بتعب بالغ.. وسألت لورا:


ـ هل من الممكن أن تستدعي زوجي؟..


ـ بالطبع..


غابت لورا لدقائق عادت بعدها وحسن في إثرها... وقد ارتسمت على وجهه إمارات القلق:


ـ خير يا منى في حاجة؟..


مدت له يدها فهرع ليتمسك بها.. واقترب منها:


ـ ممكن أكلم بابا وماما؟..


ـ طبعاً يا حبيبتي ممكن.. أنتِ اللي رفضتِ تقوليلهم أي حاجة من الأول..


أومأت بتعب:


ـ معلش.. غيرت رأيي.. حابة أسمع صوتهم قبل ما أدخل العمليات..


اتصل على الفور بالعم نصر وأعطى لها الهاتف لتحادث والدها..


ـ أيوه يا بابا..


سكتت قليلاً:


ـ لا يا حبيبي.. أنا كويسة.. صوتي تعبان؟.. لا ده دور برد شديد حبتين.. كنت عايزة أكلم ماما وأطمن عليكوا..


حادثت والدتها قليلاً.. ومع كل جملة منها كان حسن يشعر أنها تلقي بكلمات الوداع.. رغم أنها كانت تخبرهم بإصرار أنها بخير.. وأن ما بها وعكة صحية طارئة.. إلا أن نبرة صوتها وملامح وجهها أخبراه أنها تودعهم.. وفي نفس الوقت لا تريد إشعارهم بأي قلق..


اختتمت كلماتها لوالدتها هامسة لها:


ـ خدي بالك من بابا يا ماما.. أنا بحبكوا قوي.. وبُعدي السنين اللي فاتت كان غصب عننا أنا وحسن.. كنا فاهمين..


قطعت كلماتها لتعيد صياغتها:


ـ كنا فاهمين أننا لازم نكون نفسنا بسرعة.. خدي بالك من صحتك ومن بابا.. لا إله إلا الله..


أخذ حسن منها الهاتف وطمئن والدتها ببعض كلمات بدت فارغة لأذنيه.. وأغلق الهاتف.. ليضمها بقوة لصدره ودموعه تتساقط فوق وجنتها:


ـ منى.. أنتِ بتستسلمي ولا إيه؟.. ليه طريقتك دي في الكلام.. إحنا هنعمل العملية ودي أول خطوة..


ابتسمت منى بتعب:


ـ طيب والدموع لازمتها إيه.. معلش بقى أنا اصلي جبانة وأول مرة أدخل عمليات فقلت أعمل شويتين زي الافلام.. ما تقلقش أنت وروح نادي لورا عشان تجهزني للعملية..


قبلها على جبينها بقوة وهمس:


ـ إوعي تستسلمي يا منى.. اوعي.. مش هسمح لك..


أمسكت يده وقبلتها بحب:


ـ أنا قوية بيك وليك يا حسن..


قاطعهما صوت لورا الرقيق:


ـ آسفة.. منى.. يجب أن نبدأ في إعدادك الآن..


ضمها حسن مرة أخرى.. وتحرك مبتعداً ليخرج من الغرفة.. وسرعان ما وجد منى تتوجه إلى غرفة العمليات محمولة على فراش متحرك.. فاقترب منها بسرعة ليهمس:


ـ لا إله إلا الله يا منى.. هستناكِ.. لازم تقاومي يا منى..


ابتسمت منى وقد بدت معالم الراحة على وجهها:


ـ هقاوم عشان خاطرك يا حسن.. محمد رسول الله..


همست لها لورا:


ـ أنه يحبك للغاية.. يبدو كالتائه بدونك.. فلتقاومي من أجله عزيزتي..


أومأت منى بابتسامتها الرقيقة:


ـ هل يمكنكِ أن تطمئنيه على مسار العملية أولاً بأول؟..


ـ بالطبع عزيزتي.. يسعدني ذلك..


غابت منى عن عينيّ حسن داخل المنطقة المخصصة للعمليات.. وهمست له لورا بأنها ستأتي له بالأخبار كلما استطاعت.. فالعملية قد تطول مدتها لساعات.. تبعاً لما قد يراه الجراح.. وبالفعل انتظر حسن في إحدى قاعات الانتظار.. ولكن لغرابة الأمر لم يطل انتظاره عن ساعة.. وجد بعدها لورا تأتي بصحبة الطبيب آدامز الذي أخبره بطريقة عملية واحترافية شديدة ونقلت لورا كلماته حرفياً:


ـ آسف سيد "عدوي".. لقد ظننت أن الجراحة من الممكن أن تشتري لنا بعض الوقت.. وقد نتبعها باجراءات قصوى.. كالعلاج الذري.. ولكننا اكتشفنا بعد أن بدأنا الجراحة أن المرض بدأ بالانتشار بالفعل وانتقل إلى عدة أجهزة أخرى.. وأي تدخل جراحي سيسبب الوفاة حتماً.. تقبل أسفي..


صرخ حسن بقوة في وجه لورا وهو غير قادر على استيعاب كلماتها:


ـ أنتِ بتقول إيه!..


ثم انتقل إلى الانجليزية:


ـ ما الذي يعنيه هذا؟.. لورا.. تكلمي بما أفهمه بالله عليكِ..


رمقته لورا بشفقة وأخبرته بتوضيح:


ـ الطبيب آدمز.. يقصد.. أعني.. أنه لا داعي للجراحة.. و..


قاطعها بلهفة:


ـ وماذا؟.. ما الخطوة التالية؟..


هزت لورا كتفيها بعجز وهي تحاول أن تستدعي أسلوبها العملي بلا فائدة:


ـ احممم.. لا توجد خطوة تالية.. أقصى ما في استطاعتنا فعله هو توفير سبل الراحة لها.. وتقليل آلامها قدر الامكان.. فحدة الآم ستتزايد في الأيام المقبلة..


ردد بلا وعي:


ـ أيام!!.. هل تخبريني أنه تبقى لها أيام؟!!..


ثم توجه للطبيب الذي كان يراقبه بشفقة وإن لم يتخلَ عن أسلوبه العملي:


ـ دكتور.. أرجوك.. تكلم.. أخبرني بالحقيقة..


أجاب الطبيب باحتراف:


ـ آسف سيد "عدوي".. تلك هي الحقيقة.. وسنحاول قصارى جهدنا أن تكون الفترة القادمة مريحة لها بقدر الامكان.. تقبل أسفي مرة أخرى.. معذرة..


غادر الطبيب تاركاً حسن غارقاً في شقائه.. تائهاً بين دروب وحدة يستشعرها تقترب منه لتقضي عليه.. سيفقدها.. لقد حارب.. وقاتل لتكون له.. عادى والده ومجتمعه.. كاد أن يدمر علاقته بشقيقه وأصدقائه.. انتصر عليهم جميعاً.. تقاليد بالية لم ينظر لها.. أعراف وعادات لم تهمه بشيء.. ضحى بمهنته لشهور.. باع الكل واشترى وجودها بجانبه.. لتأتي معركته الأخيرة.. يحارب ضد الموت.. ومن يحارب الموت يخسر بجدارة..


جاءت صرخة قاتلة من أعماقه:


ـ لاااااااااااااااااااااأ..


لتصرخ لورا بمن حولها:


ـ فليأتني أحدكم بأمبول مهدئ في الحال..


وصلت فريدة وصبا في تلك اللحظة لتشهدا انهيار حسن تحت قدمي لورا فأسرعتا نحوها لتخبرهما باختصار بما حدث وتطلب منهما التواجد مع منى حتى يستفيق حسن..


فترة بسيطة مرت استفاق حسن من غيبوبته الاصطناعية.. وكانت لورا وقتها بجواره.. رمش بعينيه عدة مرات.. ثم فتحهما ليسألها بهمس:


ـ هل الأمر حقيقياً؟.. ألا يوجد أي أمل؟..


ابتسمت لورا بعطف:


ـ حسن.. إن زوجتك بطلة.. صدقني بكل المقاييس هي بطلة.. إنها سيدة نادرة.. الآلام التي تحملتها في صمت الفترة السابقة لا يمكن أن يتحملها أشد الرجال..


اتسعت عينا حسن بذهول بينما هي تكمل:


ـ لا تتعجب.. لقد تحدثنا مطولاً في الأيام السابقة.. هي سيدة ودودة للغاية.. أنها تعاني من الألم منذ مدة.. وظنت أنه مرض ما سرعان ما يزول.. أو..


صمتت للحظة وبدا على وجهها التأثر:


ـ كانت تظن أنها تعاني من متاعب الحمل..


شهق حسن بحزن بينما أكملت لورا:


ـ لا يذهب عقلك بعيداً.. فلم يكن من الممكن تجنب المحتوم.. والمرض لدى زوجتك للأسف غاية في الشراسة.. وحتى لو تم اكتشافه مبكراً لم يكن ليحدث أي فرق.. أعلم أن كلماتي صادمة.. ولكنك بالفعل بحاجة لتناسي ألمك وحزنك الآن لتستطيع دعمها في الأيام القادمة.. أنها ستحتاج وجودك بشدة.. سأتركك لترتاح قليلاً.. أن السيدة فريدة والآنسة صبا برفقتها الآن وهي لم تستفق من المخدر بعد..


خرجت وتركته مستلقياً في فراشه.. عيناه معلقتان بالسقف.. وعقله فارغ من كل شيء بينما يشعر بقلبه محطم.. سوف تزهق روحه ويموت كمداً.. لقد قرأ في مكان ما عن مرض يسمى "القلب المفطور".. وهو ما تسببه الآلام النفسية والعاطفية الطاحنة.. هذا ما يشعر به الآن.. لقد فطر ذلك الطبيب قلبه.. ذبحه وهو يخبره بأن الأمل منعدم.. أنها سترحل.. حبة قلبه.. ستهجر القلب الذي ذاب عشقاً لها.. كيف يتحمل؟.. كيف يدعمها وهي تواجه الموت؟.. لقد كانت هي الداعمة على الدوام.. كانت السند والأهل وقت تخلى عنه أهله.. كانت الصديق وقت ما أحتاج لصاحب.. كانت الحبيبة والزوجة.. الوطن.. أنها وطنه.. والآن الطبيب يخبره أن يساعدها على الرحيل في صمت.. أي طلب أحمق هذا؟!.. وأي قدرة إعجازية يطالبه بها الرجل..


***


مرت عدة أسابيع بعد ذلك اليوم واظبت فيها فريدة وصبا على الحضور يومياً نشأت علاقة طيبة بين منى وصبا, فاتخذتها منى كشقيقة صغرى قضت معها أوقاتاً لطيفة كانت كمهدئ رقيق لآلام منى من غربتها وبعدها عن أهلها وآلام مرضها التي أصبحت في تزايد مستمر.. بينما قويت علاقة منى بلورا التي أبهرتها قصة حب حسن ومنى.. وكانت تدفع منى لتقصها عليها مراراً.. فالجانب الرومانسي منها عشق محاربة حسن ليحتفظ بمنى إلى جانبه.. فكانت ترمقه دائماً بانبهار من ذلك الفارس الذي حارب الجميع حتى عادات مجتمعه ليفوز بأميرته الرقيقة..


دلف حسن إلى غرفة منى فوجد لورا جالسة بجوارها كالعادة وتتهامسان سوياً.. فابتسم بحنان واقترب ليمسك كفي منى ويقبلهما ثم يقبل جبينها..


حيا لورا بهدوء وجلس ملتصقاً بمنى وسألها بحنان:


ـ هل دفعتكِ لورا لتقصي عليها قصة زواجنا مرة أخرى؟..


ابتسمت لورا:


ـ كلا.. لقد كنت أقص أنا عليها تلك المرة قصة أجدادي.. فقد عشق جدي وهو رجل إنجليزي.. وكما تقولون.. من أصحاب الأملاك والألقاب.. عشق جدتي عندما زار بيروت منذ خمسين عاماً.. ولم يعد إلى لندن إلا وقد أصبحت زوجته.. أرأيت.. توجد لدي قصص رومانسية, بل وصراعات حضارية أيضاً!..


ضحكت منى برقة فضمها حسن لصدره وطبع قبلة أخرى على جبينها.. وسأل لورا بابتسامة:


ـ إذاً.. لماذا أتيتِ إلى باريس وتركتِ لندن؟.. بالتأكيد توجد قصة أخرى هنا..


تغير وجه لورا ونهضت فجأة:


ـ سوف أذهب الآن.. حتى ترتاح منى قليلاً..


خرجت وتركتهما معاً.. فسارع حسن بوضع رأسه على صدر منى.. يريد أن يختفي بداخل قلبها.. فيذهب معها عندما ترحل.. ضمها بقوة وهمس لها:


ـ مازن ودنيا وصلوا باريس.. وهيجوا بالليل يطمنوا عليكِ..


سألت منى بسعادة:


ـ دنيا!.. دنيا جت معاه؟..


وافقها حسن بإشارة بسيطة من رأسه وهو يتذكر التآلف الفطري الذي نشأ بين منى ودنيا.. عندما زاره مازن في منزله بدبي بعد سفر حسن بفترة وجيزة.. واصطحب معه دنيا في تلك الزيارة التي عاتب فيها حسن لسفره حتى دون أن يودع شقيقه الوحيد.. فقط اكتفى بوداع سريع للجدة روح.. سافر بعدها تاركاً كل شيء ورائه..


كان حسن وقتها مازال غاضباً من الحياة المزدوجة التي يحياها شقيقه, ورافض كلياً لوجود دنيا في حياة مازن.. وجود لم يجد له حسن أي تفسير.. ولكن الصداقة السريعة التي نمت بين منى ودنيا أجبرت حسن على تقبل الثنائي الغريب.. تقبل تحول لمودة عميقة نحو دنيا بعدما تعددت زياراتها لمنى سواء برفقة مازن أو في رحلاتها المنفردة.. وقد بدأ يستشعر ذلك الشيء الخفي الذي يجذب شقيقه إليها.. ويربطه بها.. ورغماً عنه اعترف لنفسه أنها كزوجة لمازن أفضل من نيرة بمراحل.. ولكنها حياة مازن الذي يصر على استمراره مع نيرة..


استيقظ حسن من أفكاره أو ربما غفوة بسيطة نالها على همسة منى المتألمة:


ـ حسن.. من فضلك اضغط على الجرس.. محتاجة المسكن.. حاسة بألم رهيب..


رفع رأسه ليرى وجهها وقد تقلص بآلام مضنية.. سارع باستدعاء إحدى الممرضات.. التي سارعت بإعطائها جرعة المسكن.. وبدا أن الوقت يمر والألم لا تخف حدته فوجه منى زاد احتقانه من الألم حتى كاد أن يتحول إلى الأزرق.. والممرضة الشابة تسألها برفق:


ـ سيدتي.. هل خفت حدة الألم أم مازال كما هو؟..


لم تستطع منى الاجابة بينما هتف حسن بغضب:


ـ إنها تتألم بشدة.. ألا تستطيعين القيام بشي ما؟


أومأت الفتاة بالايجاب وهي تخبره:


ـ بلى سيدي.. يمكنني.. ولكن السيدة منى ترفض أن أزيد من جرعة المورفين كما أمر دكتور آدمز.. وتخبرني أنها ستتحمل.. ولكن..


ـ آآآآآآآآآآآه..


صرخة قوية من منى دفعت حسن ليصرخ بالفتاة:


ـ أعطيها الجرعة التي أمر بها الطبيب.. أنها تتعذب بشدة..


نفذت الفتاة ما طلبه منها حسن على الفور.. بينما تحرك هو ليضم منى إلى صدره.. وقد بدأت حدة آلامها تخف قليلاً ووجدها تهمس:


ـ يا رب.. ما اتعذبش اكتر.. يا رب ارحمني..


هتف حسن:


ـ منى!.. لا يا منى ما تقوليش كده..


ربتت على رأسه بإنهاك وهي تردد:


ـ عارف يا حسن.. أفضل حاجة حصلت أن شعري مش هيوقع.. وشكلي مش هيختلف قوي.. عشان تفضل فاكر منى.. منى اللي حبيتها ومن هي بضفاير..


سكتت قليلاً لتستجمع قواها:


ـ كانوا البنات في المدرسة.. وحتى في الكلية بعدها.. يقولوا لي.. ده بيتسلى بيكي.. وعمره ما هيفكر يتجوزك.. وأنا أقولهم.. أبداً.. حبيبي وواثقة فيه بعمري كله..


ترقرقت دمعة بعينيه فهمست له:


ـ ما تبكيش.. يا حسن.. طب أقولك على حاجة.. أما مرينا بالفترة الصعبة.. وأما.. أما كنت بتشرب سجاير وكده.. كنت مرعوبة أنك تكون ندمت على ارتباطنا.. أو بتراجع نفسك.. أنا كنت واثقة في حبك صحيح.. بس جه جوايا قلق أنه حبي مش كافية..


قاطعها بسرعة:


ـ يا منى أنتِ تكفيني عن العالم كله.. أنتِ دنيتي كلها..


ربتت على كفه بحب:


ـ بعد ما قابلت دنيا فهمت سبب غضبك.. أنت غضبت للحب نفسه يا حسن.. فكرت أن مازن شوه فكرة الحب النضيف اللي أنت ما عرفتش غيره.. وقتها حبيتك أكتر.. مع أني مش عارفة إزاي ممكن أحبك أكتر.. بس يظهر قلبي ما عادتش قادر يتحمل حب أكتر من كده.. حبك كان طاهر وبرئ ومركز يا حسن تشبعت به للعمر كله.. حتى لو كان العمر ده قرب يخلص..


همس بصوت متحشرج:


ـ ما تسيبينيش يا منى.. ما تسيبينيش..


خرج صوتها منهكاً:


ـ لو بتحبني يا حسن..


قاطع كلماتها ووضع أصابعه على شفتيها:


ـ لا يا منى.. لا ما تكمليش..


أغمضت عينيها بإنهاك ودمعة ألم هربت على جانب وجهها سارع هو بمسحها.. وسألته:


ـ لسه رنة موبايلك.."حبيبي يا عاشق"؟..


أومأ بالايجاب.. فردت هي:


ـ أنا بحب الأغنية دي قوي.. بتحكي حكايتنا يا حسن..


وأخذت تردد:


ـ حبيبي يا عاشق.. يا حر زي الطير..


فأكمل لها وهو يبكي:


ـ شاور هقول حاضر..


خفت صوتها لتهمس:


ـ للحب قلبي أسير...


ثم ضغطت بيدها على كف حسن بقوتها الواهية لتهمس:


ـ حرره يا حسن.. أرجوك حرره من الأسر.. أنا تعبانة وعايزة أرتاح.. عايزاك تعتق قلبي..


أجهش بالبكاء وسقطت رأسه بجانب يدها على الفراش وهو يردد:


ـ مش قادر.. مش ممكن أستغني عنك.. قاومي يا منى..


رددت بخفوت:


ـ حررني يا حسن.. تعباااانة..


همسة خافتة أخيرة:


ـ لا إله إلا الله..


خفت صوتها للغاية.. حتى اختفى تماماً فرفع حسن رأسه بهلع:


ـ منى.. منى.. منىىىىىىىىىىىى


دخلت بضعة فتيات من طاقم التمريض وعدة أطباء الغرفة استجابة لصرخته وسرعان ما ظهرت لورا في الغرفة.. وبدأ الأطباء بفحصها... وتبادلوا بضعة كلمات قبل أن يخبره كبيرهم:


ـ لقد دخلت السيدة منى في غيبوبة.. ولا ندري هل ستيستيقظ منها أم لا.. لقد هاجمها المرض بقوة وشراسة وسرعة.. ولا أستطيع توقع القادم..


خرجوا جميعاً من الغرفة وبقيت لورا فقط.. وحسن يراقبهم بذهول ويشير إلى منى ويردد:


ـ لا.. هو بيقول إيه؟.. مش هتفوق تاني!!.. مش هكلمها تاني.. إزاي!!.. بسرعة كده..


وهبط ليركع على ركبتيه بجوار فراشها:


ـ لا يا منى.. لسه بدري.. في كلام كتير ما قولناهوش.. في حاجات كتير ما اعتذرتش عنها..


صرخ بقوة:


ـ لاااااااا.. لا يا منى أنتِ قلتِ مش هتسيبيني.. مش هقدر أحررك يا منى.. ما اقدرش.. ما اقدرش..


دخل في تلك اللحظة مازن تصحبه دنيا.. ولمحا المشهد المآساوي.. حسن راكع على ركبتيه.. ومنى غائبة في عالم قد لا تعود منه.. اندفع مازن نحو شقيقه يرفعه أرضاً وهو يهمس بلهفة:


ـ حسن.. حسن..


ما أن سمع صوت أخيه حتى أغرق نفسه بين ذراعيه وهو ينتفض ببكاء مرير.. وما أصعب بكاء الرجال.. عندما يكون عن عجز.. عن فقد.. وحرمان..


همس لأخيه:


ـ خلاص.. خلاص يا مازن دخلت غيبوبة والدكتور بيقول.. بيقول..


لم يستطع إكمال كلامه واستمرت دموعه في الهطول بلا توقف.. فتحركت دنيا وهي تراقب حسن بإشفاق وقد خنقتها غصة مريرة لتمهس لمازن:


ـ مازن.. خده بره عشان يهدى شوية.. وأنا هانتظر مع منى هنا..


وافقها مازن واصطحب شقيقه الذي تحول إلى دمية لا حول لها

 

الفصل 25/26/27/28 من هنا


قارئاتي وقمراتي وقرائي الغاليين بعد ما تخلصوا القراءه هتلاقوا الروايات الجديده والحصريه إللي هتستعموا بيها من هنا 👇 ❤️ 👇 💙 👇 ❤️ 👇 




🌹🌺🌹🌺🌹🌺🌹🌺🌹🌺🌹🌺🌹🌺🌹🌺🌹🌺


إرسال تعليق

أحدث أقدم