رواية متاهة مشاعر الفصل 25/26/27/28الخامس والعشرون حتى الفصل الثامن والعشرون حصريه وجديده على مدونة أفكارنا
رواية متاهة مشاعر الفصل 25/26/27/28الخامس والعشرون حتى الفصل الثامن والعشرون حصريه وجديده على مدونة أفكارنا
في الحب لا توجد تفاصيل..
الحب اثنان..
حرفان..
أنا وأنتِ..
حسن و...
مهلاً..
أين أنتِ؟!
حاء الحب اقترنت بلا شيء!
بل ربما حرف وحيد..
حسن وحيد..
هل تعلمين أنكِ امرأةٌ مخادعة؟
نعم.. مخادعة واخترتِ الهروب
أترحلين؟!
قبل أن أسرد جميع تفاصيل عشقك..
أتهربين؟!
قبل أن أُنهي الدرس..
تُراكِ نسيتِ..
كان لدي درس..
بل مجلدات ولم أنهي منها سوى كتاباً واحداً!
بالأمس اخترت بقعة سحرية..
أسطر فيها عشقي نحوك..
لا ليس فوق كتاب ولا أوراق..
هي مجرد خيالات مؤلمة..
هل تعلمين أنني اشتهيتك بالأمس؟!
نعم اشتهيتك..
بكل ما تحمله الكلمة من عبث..
حمقاء!!
لا زلتِ خجلة وحتى أنتِ بين براثن الموت!
لا زلتِ حية تنبضين في صدري..
لا زلتِ هنا وهنا..
وأفعل المستحيل كي ترحلين..
ولكنكِ امرأة قاسية..
لا ترحلين..
في الحب مؤلمة هي التفاصيل..
لحرف واحد دون اثنين!!
خاطرة الفصل بقلم:
مروة جمال..
اتكأ يزيد بكتفه على مدخل المطبخ يراقب علياء التي وقفت حافية القدمين ترتدي ذلك الثوب الفضفاض الذي وصل إلى ركبتيها بالكاد.. كانت ترفع إحدى ساقيها تداعب بها الأخرى وهي تلعق ملعقة المربى باستمتاع أشعل الدماء في عروقه.. أراد الاقتراب, ولكنه يعلم أنها غاضبة.. فتواجده يكاد يكون منعدماً منذ عودتهما من رحلة المعمورة مع مازن ونيرة.. وعندما وصل الليلة الماضية وجدها تنام وسط أولادها بغرفتهما.. وكأنها ترسل له إنذار بعدم الاقتراب.. وكأن الصغيرة أدركت مكر النساء وبدأت تعاقبه به..
ولكنه عاجز عن تغيير الوضع في الوقت الحالي على الأقل.. ريناد بدأت المتابعة مع طبيب جديد.. وأدوية جديدة.. وأنظمة ومواعيد جديدة.. وهو لا يستطيع التخلف عن كل هذا.. هي تريد طفلاً.. ولا يستطيع إنكار حقها بأن تصبح أماً.. وهي غير مقتنعة.. وغير مكتفية بما يقوم به.. أكثر من ثلاث سنوات.. دارت فيهم على جميع أطباء الخصوبة.. في مصر وخارجها.. والكل أجمع على سلامتها الجسدية.. والسبب الأرجح لتأخر الحمل هو التوتر الشديد.. ليظهر أمل كما تقول هي مع الطبيب الجديد.. والذي تطلب منه التواجد المستمر معها.. والابتعاد الإجباري عن علياء.. وهو ما يغضبها.. بشدة.. ولكنه لا يمتلك حكمة لقمان ليتمكن من مراضتهما سوياً.. ولا صبر أيوب.. حتى يبتعد عن علياء أكثر...
اقترب منها حتى التصق بها, أحاطها بذراعيه.. وجمع شعرها_الذي استطال في السنوات السابقة ليصل إلى منتصف ظهرها_ جمعه على كتف واحد ليكشف عن كتفها الآخر الذي انزاح عنه طرف الثوب.. ليطبع قبلات دافئة على كتفها.. وجانب عنقها.. هامساً:
ـ صاحية بدري؟!..
حاولت التملص من بين ذراعيه ولم تنجح سوى في الاستقرار بين ذراعيه أكثر وأكثر.. وهو مستمر في توزيع قبلاته التي أصبحت أكثر عمقاً ونهماً..
تناولت ملعقة مربى أخرى قبل أن تجبه بخفوت:
ـ عايزة أروح المستشفى لنيرة بدري..
كان يمرغ أنفه في جانب عنقها باستمتاع ويتشمم خصلاتها بهوس تقريباً.. وهو يهمس:
ـ يعني ما ينفعش تتأخري شويه؟..
أجابته بغضب مكتوم:
ـ طبعاً ما هو كله تبع مزاجك وكيفك!
همس بخشونة وهو يلفها لتواجهه:
ـ علياء.. أنتِ عمرك ما كنتِ أنانية.. ليه..
قاطعته تحول التملص من بين ذراعيه ولكنه لم يكن ليفلتها:
ـ بس أنا زهقت.. أنت عارف بقى لك قد إيه غايب.. وكله على دماغي..
التهم باقي جملتها بين شفتيه بقبلة مشتاقة وهمس أمام شفتيها:
ـ طب ما وحشتكيش..
دفعته بضعف وبالطبع لم يتزحزح:
ـ ابعد.. كده هتأخرني.. كفاية إني بسيبها تبات لوحدها.. بناء على أوامرك..
أجاب بخشونة:
ـ مش هتقضي ليلة واحدة بره البيت..
ثم تغيرت نبرته بفعل معجزة ما لشقاوة عابثة:
ـ إلا لما تولدي.. بالمناسبة صحيح.. مربى إيه دي؟..
وعاد لتقبيلها مرة أخرى حتى يتأكد بنفسه من نكهة المربى.. وهي بادلته قبلاته بقلة حيلة.. تريد أن تأخذ موقفاً حاسماً منه مرة واحدة.. ولكنه في كل مرة يكتسحها.. وينسيها غضبها وأسبابه.. ينسيها زمانها وما يحيط بها..
حاولت مرة أخرى التملص منه وهمست بتوسل:
ـ يزيد.. اعقل الله يخليك.. أم علي..
همس أمام شفتيها:
ـ هي فين؟..
سألته بلوم:
ـ لسه فاكر تسأل دلوقتِ.. أنت ناوي تفضحني معاها.. وإيه ده؟.. كمان مش لابس جاكت البيجامة؟..
سألها بعبث:
ـ أنتِ لسه واخدة بالك؟.. إيه اللي كان شغلك!
خبطته بقوة على ظهره فتظاهر بالألم:
ـ آآه.. بقيتِ قاسية يا فراشتي..
أحنى رأسه ليعاود تقبيلها, ولكنه توقف في منتصف المسافة ليسأل بتوجس:
ـ هي فين صحيح؟..
هزت كتفها بدلال:
ـ راحت السوق..
رفعها بين ذراعيه ليهتف:
ـ وقاعدة تضيعي الوقت في الكلام..
استمر بتقبيلها ورفعها بين ذراعيه ليمددها برفق فوق العارضة الرخامية وهو يسألها بعبث:
ـ فاكرة.. اليوم ده.. والرخامة..
هتفت بحنق:
ـ يزيد.. نزلني.. الولاد.. أم علي..
قطع كلماتها بقبلاته المجنونة كعادته.. يسحبها معه في دوامته ولكن تلك المرة شعر هو بمن يجذبه من سرواله:
ـ بابا.. زيد.. بتعمل إيه؟..
نظر لأسفل ليفاجئ بعلي ابنه ينظر إليه بدهشة وتساؤل عما يفعله بأمه فوق العارضة الرخامية.. بينما أكمل علي ببساطة وهو يشب على قدميه حتى يرى علياء التي كانت ذراع يزيد تمنعها من الجلوس:
ـ ماما.. لولو.. عايز كورن ليكس..
تملصت علياء من ذراع يزيد التي تكتف حركتها وهي تتمتم غاضبة من الموقف المحرج الذي وضعها به, وتحاول السيطرة على الدماء التي تتصاعد إلى وجنتيها لتفاجئ بدخول أم علي إلى المطبخ وهي تشهق عالياً:
ـ هو أنت ما تسمعش عن أوض النوم والسراير!!.. في المطبخ يا...
وسكتت لتكمل بخفوت شديد:
ـ يا مفضوح..
رفع علياء بين ذراعيه وهي تحاول التخلص منه ولكنه منعها على الفور وهتف بأم علي:
ـ فطري علي.. ومش عايز أسمع ولا كلمة..
واتجه على الفور إلى غرفته وهو يحمل علياء.. دخل وأغلق الباب بقدمه.. ليلتفت لها ويأخذها بين ذراعيه مرة أخرى..
حاولت معاتبته ولكنه لم يتح لها الفرصة وهو يهمس لها بشوقه الكبير لها..
وبعدما ارتوى قليلاً من نبعها الذي لا ينضب..
همس لها:
ـ طلعت مربى توت!..
ابتسمت برقة وهي تلومه بغضب مفتعل:
ـ كده أم علي تقول علينا إيه!..
دس رأسه في تجويف عنقها هامساً:
ـ الدكتورة قالت لك إيه؟..
دفعته بقوة وابتعدت عنه وذهبت لتجلس على الأريكة واضعة ساقاً فوق أخرى وقد نسيت ردائها القصير.. وهتفت به بحنق:
ـ لو كنت مهتم كنت جيت معايا..
تحرك ليجلس على الأريكة ويجذبها لتستقر على ركبتيه:
ـ وبعدين بقى.. علياء.. طيب أراضيكي إزاي بس..
هزت كتفيها بدلال أنثوي اكتسبته مؤخراً دفعه ليقربها منه هامساً:
ـ هو إحنا هنوصل لمرحلة البرفيوم امتى؟..
كتم شهقتها بقبلته.. ولكن لو كانت علياء تضيع وسط عاطفته.. فمنزله أصبح مليئاً الآن بمن يمكنه هدم لحظات جنونه ودفعه للتعقل.. وكانت تلك المرة الصغيرة نادية التي دخلت عليهما الغرفة وهي تمسك الهاتف بيدها الصغيرة وتتحدث مع المتكلم بود:
ـ زيد هنا.. مع لولو.. بيديها سكر.. سكر.. بيبوسها..
وأطلقت ضحكة طفولية بريئة غافلة عن نظرات والدها المذهول وعلياء التي تحول وجهها إلى لوحة من الألوان... من الأحمر القرمزي, إلى الوردي, وأخيراً الأصفر الشاحب عندما أجاب يزيد عن الهاتف لتسمعه يهمس:
ـ مين؟.. مااااااااازن!!..
قطع شهقتها المحرجة هتاف يزيد:
ـ لا حول ولا قوة الا بالله.. إنا لله وإنا إليه راجعون.
****
استقرت دنيا بين ذراعي مازن.. رأسها على صدره.. أنامله تداعب شعرها بحركة رتيبة.. رغم الإجهاد الذي تصرخ به خلايا جسديهما, إلا أن النوم يجافيهما..
مازن تبنى حالة من الصمت المذهول بعد تلقيه رسالة حسن.. ولم يفتح الموضوع معها ثانية.. بينما تدبر أمر إجراءات الدفن وطقوس العزاء..
أدار الأمر بمهارة كعادته.. واسى أب مكلوم.. وقدم تعازيه لأم ثكلى.. اعتذر عن حضور شقيقه.. وبرر ذلك بانهيار أعصابه واحتجازه بإحدى مشافي باريس.. كذبة حمقاء.. ابتلعها والدي منى بدون تساؤل.. فبداخلهما يدركا عجز حسن عن مواجهتهما.. وقد منحاه طفلتهما كزهرة يانعة في ثوب زفافها الأبيض, ليعيدها إليهما ملفوفة بكفنها.. يدركا أن لا ذنب له.. ولكن يجب أن يكون هناك من يتحمل وزر كل مأساة تلم بنا.. تلك إحدى قوانين الحياة.. حتى لو كان قانوناً بلا معنى..
لا تنكر أن يزيد كان نعم الصديق.. جاور مازن في كل خطوة.. تقبل تفسيره عن غياب حسن_وقد أخبره الحقيقة_ بصمت تام.. لم يزعج مازن بتساؤل بلا معنى.. علياء كانت موجودة أيضاً.. تبدو جميلة بصورة غير اعتيادية.. استطاعت بحنانها الفطري احتواء والدة منى ومواساتها ولو قليلاً.. إلا أنه رغم كل النضوج الذي بدا أنها اكتسبته لم تستطع إخفاء دهشتها من وجودها هي.. "دنيا"!!!..
لا تنكر أنها تتعجب من إصرار مازن على الظهور برفقتها.. هناك في باريس أمام صبا وفريدة.. وفي عزاء منى أيضاً.. لا تدري_للمرة الأولى_ فيما يفكر.. ويخطط.. رغم تفهمها لعدم إخباره لنيرة بوفاة منى, بل أنه لم يخبرها بعودته من الأساس.. ولم يكن السبب وعده لحسن فقط.. حاستها الأنثوية أخبرتها أن نيرة لن تستطيع مواساته كما ينبغي.. كما يريد.. تتفهم ذلك.. كما تتفهمه دائماً.. وتستطيع معرفة ردود أفعالة حتى قبل أن يفكر بها..
شعرت بتوقف حركة أنامله في شعرها فرفعت رأسها قليلاً.. لتراه أغمض عينيه.. طبعت قبلة رقيقة على جبينه.. وتحركت من الفراش لترتدي روباً خفيفاً وتذهب لتحضير كوب من اللبن الدافئ.. عله يساعدها على النوم..
كادت أن تخرج من الغرفة حين استوقفتها صورتها المنعكسة في المرآة..
وقفت تتأمل نفسها قليلاً.. مازالت تتمتع بذلك الجمال الوحشي.. تحسست ملامح وجهها بإجهاد.. وهي تميز ظهور بعض التجاعيد الخفيفة.. الزمن بدأ يترك بصماته.. وستمر السنوات سريعاً وستتزايد تلك البصمات بسرعة أكبر.. لا تخيفها تلك التجاعيد, بل تخيفها الوحدة.. أن تنتهي وحيدة.. ألا تترك أثراً ورائها..
اسمها كأشهر مصممات الأزياء!..
الآن.. لا تعده شيئاً أمام رغبتها الجامحة لتكون أم.. نعم أم.. رغبة لم تظن أن تراودها يوماً.. ولكنها أصبحت الآن هاجساً مسيطراً عليها بقوة.. وما مرت به في اليومين السابقين؛ وفاة منى.. المرأة الشابة المليئة بالحيوية.. التي انتهت.. بلا أثر.. لم تبقِ ورائها شيئاً إلا ذكرى في قلب عاشق قرر أن يتناسى تلك الذكرى ولو كانت روحه الثمن.. كل تلك الأمور تدفعها دفعاً للاستجابة لرغبة الحياة.. تريد طفلاً.. طفله.. وبداخلها تعلم أنها لن تستطيع الاحتفاظ بالاثنين معاً.. الرجل والطفل.. عليها مواجهة نفسها.. مصارحة قلبها بما تهربت منه كثيراً.. عليها الانسحاب كما أخبرته يوماً.. فهي بكل حماقة الأنثى وقوتها سقطت في حبه.. عليها مصارحته والانسحاب.. ولكن قبلها.. عليها أن تسأله.. فهي لا تتحمل أن يكون لطفلها أباً غيره..
رأت صورته تنعكس أمامها في المرآة وهو يلتصق بها من الخلف.. يضمها إليه بقوة وهو يطبع قبلة خفيفة جنب أذنها ويهمس لها:
ـ زي القمر..
ابتسمت برقة وهي تسأله بشك:
ـ فعلاً!!
قبلة رقيقة أخرى على عنقها صاحبها سؤاله:
ـ في إيه يا دنيا؟.. أنتِ مش طبيعية..
التفتت له وهي تضم نفسها له.. وتضع رأسها على كتفه:
ـ وهو في إيه في الدنيا طبيعي!..
علم أنها تشير إلى وفاة منى وزواج حسن السريع.. فدس أنامله في خصلاتها ليرفع لها رأسها:
ـ غريب أنك بتقولي كده.. مع أنكِ شرحتِ لي تفهمك لسبب جواز حسن السريع..
ـ أتفهمه شيء.. وأنه يسبب لي الغضب شيء تاني..
حاول أن يتكلم فوضعت أناملها على شفتيه لتمنعه هامسة:
ـ مش هقدر أتكلم عن حسن ومنى.. لأني عاوزة أكلمك في موضوع تاني..
وضع ذراعه فوق كتفها واصطحبها ليجلسا سوياً فوق الفراش.. أراح جسده إلى ظاهر الفراش وثنى أحد قدميه وبسط الأخرى وجذبها لتجلس بينهما فالتصق ظهرها بصدره.. وارتكز بذقنه على قمة رأسها وتنهد هامساً:
ـ أيوه كده.. دلوقتِ نقدر نتكلم.. بس وأنتِ في حضني..
ابتسمت وهي تترك نفسها له لترتاح على صدره.. وتتساءل بداخلها.. إذا كان يدرك ما بها بالفعل.. ولهذا يبقيها بين أحضانه.. تعلم تشبثه بها.. هل يحاول أن يجعل الأمر أكثر صعوبة مما هو..
خيم الصمت عليهما لعدة دقائق.. اكتفت فيها بالإمساك بكف يده وتوزيع قبلات رقيقة عليه.. وأخيراً همست له:
ـ أنت إنسان جميل يا مازن..
قاطعها:
ـ دنيا.. أنا..
التفتت له لتضع أناملها على شفتيه مرة أخرى:
ـ أنا بحبك..
راقبت اتساع عيناه ذهولاً من اعترافها.. ثم ارتسم الذهول والغضب على كل ملامحه وهي تكمل:
ـ لازم ننفصل..
انتفض لينهض من الفراش بينما استندت هي على ركبتيها لتتمسك بكتفيه قبل أن يبتعد وتحيط صدره بذراعيها:
ـ مازن.. أرجوك افهمني..
التفت لها يهتف بغضب:
ـ أفهم إيه!.. بتحبيني وعاوزة تنفصلي في نفس الجملة.. وفي اكتر ليلة أنا محتاج لك فيها..
نزلت من فوق فراشها ومازالت ذراعيها تحيط بعنقه وهمست:
ـ لأن دي أكتر ليلة أنت محتاج فيها تسمع الحقيقة مني.. أنا بحبك يا مازن.. حبيتك.. امتى وازاي؟.. مش عارفة.. أنا أخدت عهد على نفسي.. على قلبي.. أنه يبعد عن الحب.. يهجره.. لكن أنت.. أنت من غير ما أحس.. وضد إرادتي اقتحمت قلبي.. دخلت تحت جلدي.. بقيت بتسري في دمي..
أغمض عينيه وهو يسمع اعترافاتها الصادقة.. لقد كانت محقة.. هو بحاجة لسماع ذلك.. سمعها تكمل:
ـ يمكن وفاة منى أجبرتني إني أواجه نفسي.. العمر قصير.. الحياة بتجري.. لا.. دي بتتبخر.. وممكن أموت في لحظة..
أسكتها بقبلة نهمة تركتهما يلهثان معاً.. وأكملت:
ـ أنا كنت محتاجة إني أقولك إني بحبك.. زي ما أنت بالظبط محتاج انك تسمعها..
امسك وجهها بكفيه متسائلاً بحيرة:
ـ ومع الحب ده كله.. بتطلبي الانفصال؟!..
أومأت لتهمس بألم:
ـ أنا قلتها مرة يا مازن.. يوم ما هبدأ أغير من نيرة.. يبقى هنسحب من حياتك.. ودلوقتِ..
هزت كتفيها بعجز.. ليهتف هو بتوسل:
ـ دنيا.. أنا ما اقدرش..
لم يكمل جملته بل التهم شفتيها بقبلة مفترسة.. شرحت عنه حاجته اليائسة لها.. تركت شفتيها له.. جسدها.. ومن قبلهما روحها وقلبها.. سلمت راياتها واحدة بعد الأخرى وهي تعترف لها بالسيادة الكاملة...
شعرت به يحملها ليضعها فوق الفراش بنعومة.. فاعتدلت جالسة وهي تبعد خصلاتها عن وجهها وتضع يدها على صدره لتوقف اقترابه وتهمس:
ـ مازن.. أرجوك.. اسمعني للآخر..
هز رأسه رافضاً:
ـ مش عاوز اسمع كلمة انفصال.. أنا بخطط من مدة أني أعلن جوازنا..
قاطعته والكلمات تجري على لسانها بلا إرادة منها:
ـ أنا عاوزة أكون أم يا مازن.
هتف بغضب:
ـ عايزة تطلقي عشان....
قاطعته حتى لا يجرحها بكلمات لا يقصدها:
ـ عاوزة يكون لنا طفل يا مازن.. عاوزاك توافق أنك تكون أب.. لطفل لنا إحنا الاتنين..
أغمض عينيه.. لا يستطيع تصديق أذنيه.. انها تتوسله طفل.. تحتاج طفله هو.. تريده أن يجعلها أم.. ويعلم أنها ستكون أم رائعة.. مجنونة قليلاً ربما.. ولكنها مذهلة.. وصالحة..
اقترب منها برغم منعها له وأمسك بوجهها بين كفيه وهو يهز رأسه بالموافقة فقد منعته قوة مشاعره من الإجابة.. بينما همست هي له بتوسل:
ـ وبعد الولادة.. هنتطلق..
********
فتح حسن عينيه ببطء.. رمش عدة مرات يحاول إدراك ما حدث ويحدث.. يعلم أنه مستلقِ على فراش ضيق.. فراش غريب.. جدران ذات لون أزرق فاتح جداً.. سجاد وستائر في غاية الفخامة بلون أكثر زرقة..
أين هو؟.. كيف وصل إلى هنا؟.. أين ومتى وكيف؟.. كلها كانت أسئلة بديهية.. لكن لا إجابة في عقله المشوش..
اعتدل جالساً وتلفت حوله عدة مرات.. محاولاً بضراوة التذكر.. لكن .. لا شيء.. ذاكرته صفحة بيضاء تماماً..
صفحة تلونت بالسواد.. بل تلطخت به.. تمزقت وتبعثرت وتناثرت قصاصتها.. عندما دوى في ذهنه السؤال الأهم؟..
مَن؟..
مَن أنت بدونها؟.. لا شيء.. قلب مبعثر بلا معنى.. بلا هدف.. روح هائمة.. ضالة وضائعة.. دائماً كانت هي الأقوى.. الأشجع.. للنهاية.. اختارت الرحيل بشجاعة.. بشموخ وكبرياء كما اعتاد منها.. لم تضعف ولم تنحنِ للمرض.. فقط.. اختارت الرحيل قبل أن يزداد العذاب فلا تتحمله روحها البريئة, أو فليقُل.. قُدِر لها الرحيل بكبرياء.. واستجابت دعوتها.. بألا يزداد العذاب.. فالمرض هاجمها بسرعة وشراسة كما أخبرته لورا..
لورا!!!..
لقد سطعت الإجابة في رأسه على الفور.. كانت لورا هي إجابة تساؤلاته العصية..
مد يده يلتقط علبة سجائره ليشعل إحداها, ومع شعلة اللهب البسيطة للقداحة هاجمته ذكريات ثلاثة أيام مضت.. ثلاثة أيام وهو يعيش الغيبوبة..
غيبوبة رمادية.. قاتمة.. بلا ملامح.. مشاهد وصور هلامية تتكاثف في عقله ليسترجع أحداث أيامه السابقة.. وكيف انتهى به الأمر بفراش لورا..
فبعد أن ترك المشفى هائماً على وجهه.. لم يحتمل الابتعاد.. لم يستطع.. فتهالك على أقرب مقعد خارج المشفى.. يراقب مدخله.. ينتظر آخر نظرة.. وآخر وداع.. مرت ساعات تجمد بها على وضعية واحدة.. عيناه شاخصة لباب المشفى.. ويداه تهدلت بجواره.. وقد ابتل حتى عظامه.. فالمطر لم يكف عن الانهمار وكأن السماء تبكيها بدلاً منه.. فدموعه تحجرت في مآقيه تأبى الهطول.. وكأنه ذرف كل ما يملك منها.. وكأنه يخشى أن يبكي مجدداً فيتأكد أنه يعيش حقيقة.. وليس كابوس قاتل..
دقائق من جحيم عاشها وهو يلمح سيارة الإسعاف تتحرك بها.. وخلفها سيارة فريدة.. لم يهتم بمن في السيارة.. فقط شعر بروحه تنتزع انتزاعاً لتحوم فوق منى لتصاحبها في رحلتها الأخيرة.. قلبه رحل معها.. لقد ناشدته تحرير قلبها.. ولكن ماذا عنه هو؟.. مَن يمنحه الخلاص؟.. مَن يريح ذلك الألم؟..
ألم!!.. إن أقل ما يشعر به هو الألم.. هو كالطائر المذبوح.. ولكنهم أساءوا ذبحه.. فلم يمت.. ولم يحيا أيضاً.. بقي على خط رفيع بين الحياة والموت.. عاجزاً عن التعبير حتى عما يشعر به فقط دمعة وحيدة.. ثقيلة.. جرحت جفنيه وهطلت بقوة.. لينتبه على يد رقيقة تربت على كتفه.. وبطرف عينه لمح لورا تجلس بجانبه وقد أمسكت بمعطف واقي من المطر تعرضه عليه..
هز رأسه رافضاً.. فهو يريد برودة تلك الأمطار.. يحتاجها.. بل يسعى إليها.. فقد تجمد مشاعره.. وقد تحييها..
وصله صوت لورا الهامس:
ـ حسن.. لماذا لم تسافر معها؟..
رمقها بنظرة مذبوحة ليهمس بالعربية وهو يشير إلى صدره:
ـ هي هنا.. ما بعدتش.. ولا عمرها هتبعد..
أومأت برأسها لتوضح أنها فهمت كلماته.. وأخبرته بشرود:
ـ قصتكما رائعة.. أنت عاشق متفاني, حسن..
أجابها بالعربية مرة أخرى:
ـ هي اللي عملت مني عاشق.. أنا زعلتها كتير.. وأذيتها كتير.. منى حكيت لك وصورتني بطل, لكن الحقيقة.. أنها هي.. هي منى..
غص بكلماته ولم يستطع إكمالها, ولم يتمكن من البكاء أيضاً.. ما بال تلك الدموع تعانده بحماقة..
صمت خيم عليهما طويلاً.. لتقطعه لورا بشهقة حزينة:
ـ حسن.. أنت مبتل تماماً.. هيا.. تعالى معي.. سأدعك تبقى في غرفتي بالمشفى حتى انتهي من مناوبتي..
مدت يدها لتساعده على النهوض وهي تتخيل أنه سيقاومها ولكن لدهشتها وجدته يتحرك معها بسهولة ويسر.. اصطحبته إلى غرفتها.. وهناك عرضت عليه أن يبدل ملابسه وينام حتى تأتي إليه...
غابت عدة ساعات.. وعادت لتجده على حاله كما تركته.. جالساً على الفراش.. يبدو كتمثال حجري بعينيه الساهمتين الشاردتين.. وهو ينظر إلى اللاشيء..
اقتربت منه ببطء وجلست إلى جانبه تهمس بعربية ضعيفة:
ـ حسن.. ليه مش تنام؟..
ظل على وضعه.. ولم يبدِ أي رد فعل.. فاقتربت منه أكثر تداعب شعره بأناملها وهي تهمس بجوار أذنه:
ـ حسن..
كانت همستها خافتة.. واقترابها بطئ ولكن موحي.. شفتيها تحركت على صدغه ببطء وإغراء شديد.. قبلات صغيرة دافئة.. عناق حنون.. رأسه يرتاح على كتفها براحة.. يدها تتحرك ببطء على ظهره تقربه منها.. ثوانٍ وكانت تداعب بشرة ظهره وكتفيه بعد أن خلصته من قميصه.. كانت تريد منحه الراحة.. السلام.. ولم تعرف سبيلاً آخر سوى ذلك.. قبلاتها توزعت على وجهه حتى وصلت لشفتيه.. وهو لم يقاومها.. تجاوب معها.. بضعف في البداية.. ثم بقوة.. ضراوة وشراسة.. بيأس جعله يستلقي فوقها ويلتهمها بشراهة.. بعنف.. عنف تألمت منه بضعف فانتفض بقوة.. ليبتعد عنها وهو يدرك ما كاد أن يحدث..
ابتعد قليلاً عن الفراش وكانت شفتيه تردد بهمس..
"آسف"..
ولكن لورا لم ترد اعتذاره.. أرادت منح الراحة.. السلام.. لذلك العاشق المكلوم.. تريد مواساته.. وتلقِي دموعه بين ضلوعها.. ذلك الفارس العاشق لا يجب أن يترك مهجوراً.. محروماً.. ومنبوذاً بعيداً عن الجميع..
نهضت من الفراش وهي تقترب منه ببطء وتمنعه من ارتداء قميصه هامسة:
ـ Hassan... plz... I know what i’m doing... I want to be with you.
نظر حسن إليها بيأس.. عاجز عن اتخاذ قرار.. هل يجاريها ويخسر ذاته معها.. هل بقي من حسن شيء بعدما فقد قلبه وكيانه؟..
أغمض عينيه بألم.. ليجدها تحاول تقبيله مرة أخرى.. قبلة.. وأخرى.. وأخرى.. ليهمس بضياع:
ـ marry me... marry me, Loraa.. now!...
حاولت لورا الاعتراض.. ولكنه اقترب هذه المرة ملتهماً شفتيها بعنف:
ـ أرجوكِ..
همسها كمن يلقي بنفسه من جرف عالٍ.. كمن أراد الخلاص من حياته.. أنه ظالم.. يظلم لورا.. يظلمها وهو يتزوجها ليموت بين ذراعيها.. لن يستطيع قتل نفسه.. يعجز عن الانتحار الفعلي.. لكن يمكنه قتل ألمه.. أن ينسى..
وهل يستطيع نسيانها؟.. كلا.. فلينسى فقدانها.. مستحيل آخر.. كيف يتجاهل ذلك الخواء بداخله.. دوامة سوداء تبتلعه ببطء.. وبقدر عجزه عن مقاومة الغرق بها, بقدر عجزه عن مقاومة النجاة منها..
فلينسى أن يتذكر.. ليستخدم ذراعي لورا.. وشفتيها.. وجسدها.. كممر للهروب.. الهروب من الذكريات.. الهروب من الضياع بضياع آخر..
ضياع استمر إلى الآن لثلاث أيام طويلة.. ثلاثة أيام لم يسمح لها فيهم بالابتعاد عنه.. يسكر بخمر شفتيها ويغيب عقله في طيات شعرها.. يضيع جسده معها كما أضاع قلبه مع منى..
وقفت بباب الغرفة تتأمل شروده.. تعلم أنه غارق مع غيرها.. ولكنها ستنتظره.. ستطهره من ذلك الحزن القاتل لتنال جائزتها.. فارسها العاشق الذي سقطت غارقة في غرام عينيه منذ اللحظة الأولى.. لقد أحبته حتى أنها صلت لتعيش منى.. لتجنبه وجع القلب.. فهي تدرك أنه ضائع بدون محبوبته.. تدرك أنه سيتشبث بها بخوف طفل يحتمي بأمه.. وسيرفضها بقوة عاشق ينتمي لامرأة غيرها..
انطلقت بدون إرادة منها همسة عاشقة:
ـ I love you Hassan...
فاجأته.. بل صدمته.. فقد أدخلت قلبها في المعادلة.. وهذا ما لم يضعه في حسبانه..
****
استعجلت الرحيل ياعمري
فما زلت لليوم أذكر نفسي
أن حب عمري قد أصبح
حلمي
وأضحى بين يدي عشقي
وأمسى ذكرى تتلاحقها الدموع
أتتركيني ها هنا أبكي على ضحكة
وأذكر منك تلك الكلمة
ويناديك ذلك الخافق الرابض في صدري
أيا روحه.. أيا نصفه
أيا دمي الذي يضخه قلبي
عبر شرياني
ليصب في قلبك
فبالله عليكِ قولي أنني
أحلم
وسوف أصحى مفزوعاً
وتصحين لتلميني في حضنك
وتهديني ترنيمة عشق
بأنني هنا أسكن في صدرك
الخاطرة الأخيرة
بقلم: نداء الحق ع
الفصل السادس والعشرون
الاحتياج
اجتياح كل العوائق والمسميات
يتسلط على العقل ويلغي الفؤاد
بسمتك.. نظرتك.. لمستك.. قربك
وجودك بجواري في الحياة
أنت دون الجميع أشعر معه بالضعف والاحتياج
رغم قوتي أدنو إليك باحتياج
تكمل الناقص والمطلوب دون تعقيدات
انصهار.. ذوبان.. إغداق.. نشوة.. متعة.. رغبات
نصفي الغائب وتفصل بيننا الظروف والمسافات
ولكنه الاحتياج يتحدى المستحيلات
معك أنسى الواقع والحاضر وكل ما هو آت
معك أهزم العالم وأقبل كل الإستثناءات
أخضع وأرضى وأتحول لكتلة احتياج
مشتعلة لا يطفئها إلا نيرانك المستعرة
ليكون الجنون في أغرب الحالات
خاطرة الفصل بقلم:
إيمان حسن
ظل مازن جالساً بسيارته يتأمل مدخل الفيلا لفترة طويلة.. خلف تلك الجدران يكمن حب حياته.. حلمه الذي ظن لوهلة خاطفة أنه حققه, وأمسك به بين يديه.. رفيقة طفولته.. حلم صباه وهوس شبابه.. جمع معاني الحب كلها باسمها؛ نيرة.. ولكنها ظلت حلم.. سراب.. أمل كان يخفت على مر السنين, ولكن في لحظة أصبح هو فارسها ليتوهج ذلك الأمل من جديد.. فخدع نفسه لفترة بكونه حبيبها.. لتصدمه بحقيقة أدركها قلبه العاشق منذ الأزل.. فهي قد تكون حبيبته الوحيدة.. ولكنه لم ولن يكون حبيبها أبداً.. وصرختها السعيدة بخبر مرض منى كانت صفعة قوية على وجه زواجهما هش الأسس..
"يعني منى عيانة وهتموت!"..
صرختها بفرحة طاغية.. لتنتبه لصدمته القاسية.. ولم تنتبه لقسوتها.. أو نبرة الشماتة بصوتها.. يومها نظر إليها مطولاً وكأنه بالفعل يراها للمرة الأولى على حقيقتها, فبرغم كل مساوئها التي يدركها ويتعامل معها, بل أنه بطريقة ما أحبها.. لكنه لم يتخيل يوماً أن تشمت وتفرح بموت إنسانة.. لقد شعر بالاشمئزاز منها, بل من قلبه لأنه أحبها يوماً..
جاءت رغبة حسن بعدم حضورها عزاء منى كقشة إنقاذ تمسك بها حتى لا يرى فرحة عينيها.. فرحة يتوقعها ويخشاها..
زفر بحنق وهو يتذكر أن عليه الآن أن يخبرها بموت منى, ليس ذلك فقط بل بوجود دنيا في حياته.. وجود لن يستغنى عنه ولن يخسره.. بل سيدعمه بموافقته على إنجاب دنيا لطفله, طفل ترفض نيرة وبإصرار إنجابه ولا يحق لها الاعتراض على رغبته في ممارسة أبوته بعيداً عنها..
يكاد يتخيل ردة فعلها.. صراخ وزعيق واتهامات متوالية بالخيانة والظلم والقسوة.. ستعاني صدمة حتماً وقد تحطم البيت فوق رأسه حرفياً.. ولكنها لن تنسحب.. يعرفها جيداً ليدرك أنها ستواجه.. وستحارب.. ليس من أجله للأسف, بل من أجلها هي.. من أجل نيرة.. ابتسم بسخرية لنفسه.. نعم.. لقد تعلم الدرس.. فنيرة لا يهمها إلا نيرة.. تحارب وتقاتل وتهاجم وتدافع فقط عن نفسها.. حتى كرهها توجهه لنفسها ولمن يتجرأ على خدش ذات النفس ولو بخدش خفيف.. وهو لن يخدش فقط.. بل سيغرز السكين ويلويه في الجرح؛
سيفضل عليها أخرى...
دلف إلى فيلته ليقابله هدوء تام.. لا وجود لأي صوت والمكان غارق في ظلام تام.. وكأن البيت قد هجره سكانه.. ساوره شك طفيف أن تكون إحدى مفاجآت نيرة الحسية التي دأبت على اغراقه بها... ولكن سرعان ما صرف ذهنه عن الأمر فهي لم تعلم بعودته بعد..
وفي غرفته قابله نفس الهدوء حتى بدأ يشك أنها خارج المنزل.. أضاء الغرفة ليفاجئ بكومة صغيرة فوق الفراش... تحركت بتعب وهي ترفع رأسها وتهتف بإجهاد:
ـ مازن!.. أنت وصلت؟..
التفت ليلمحها وهاله الشحوب الواضح على وجهها.. اقترب ليجلس أمامها بالفراش وهو يهتف بقلق:
ـ نيرة.. أنتِ تعبانة ولا إيه؟.. وشك أصفر قوي وشاحب ليه؟!..
ومد يده ليتلمس وجهها برقة:
ـ ملامحك مجهدة وعينيكِ تحتها هالات سودا.. حصل إيه وأنا مسافر؟؟..
ابتلعت ريقها بتوتر وهي تخبره:
ـ ولا حاجة يا حبي.. هيكون إيه.. أنت وحشتني قوي.. ما كنتش أعرف أني هفتقدك بالصورة دي؟؟..
واقتربت منه لترتكز على ركبتيها فوق الفراش وتطوقه بذراعيها وهي تطبع قبلات صغيرة متفرقة على وجهه حتى وصلت لشفتيه, فبادلها قبلاتها بلهفة.. لثوانِ فقط ثم ابتعد عنها مستفسراً:
ـ يعني أنتِ كويسة.. مش تعبانة ولا أي حاجة؟
أراحت رأسها على كتفه واقتربت أكثر حتى تقبله في عنقه.. تريد صرف ذهنه بأي طريقة عن شحوبها وهزالها الواضح.. فتمادت بقبلاتها تحاول أثارته بأقصى جهدها وهي تهمس:
ـ ما فيش حاجة بتتعبني قد بعدك عني!..
أبعدها عنه.. ونهض من فوق الفراش مبتعداً وهو يدعك عنقه بإرهاق وبداخله يتعجب لما لا يستجيب لها جسده كالسابق.. هل السبب هو إرهاقها الواضح.. أو فقط توتره من المواجهة القادمة..
تنحنح حرجاً وهو يخبرها بكلمات بسيطة:
ـ أنا مجهد, ومحتاج شاور دافي..
وتركها ليدخل الحمام بينما هي رمت بجسدها على الفراش متنهدة بعمق وبداخلها تبتهل أن تمر الليلة على خير.. فهي لا تريد إخباره.. لن تستطيع.. ولا تجد فائدة من إخباره.. لقد انتهى الأمر..
أجرت أناملها بين خصلات شعرها الذي فقد حيويته نوعاً ما.. وهي تهتف بداخلها بحنق..
"نسيت أسأله منى ماتت ولا لسه؟"..
**************
جلست علياء على الأريكة العريضة بغرفة المعيشة تراقب التلفاز بعينين شاردتين, "أم علي" تفترش وسادة عريضة على أرض الغرفة تثرثر مع نادية في حوار طويل, وأدهم نائم بجوارها على الأريكة, بينما علي يمارس هوايته المفضلة بـــعض عنقها!.. ومع كل ذلك الصخب لم تكن أفكارها معهم, بل كانت معه.. هو من سيتسبب في فقدانها ما تملك من بواقي العقل..
أخذت تسترجع بذاكرتها أحداث اليومين الماضيين.. لقد بدا حزيناً جداً لسماعه خبر وفاة منى.. وهي تأثرت كثيراً.. فبالرغم من أنها لم تكن صلتها بها قوية, إلا أنها تذكرها كامرأة شابة قوية ذات كرامة, وكبرياء, وجمال ناعم يخطف القلب.. بالطبع تأثرت لوفاتها.. وامتثلت لأمر يزيد ألا تخبر نيرة بأي شيء.. فهي بداخلها تتفق معه في ذلك.. رغم أنها طلبت منه أكثر من مرة أن يخبر مازن بوجود نيرة في المستشفى إلا أنه رفض, وعلل ذلك برغبة حسن في عدم تواجد نيرة بالعزاء.. وذلك ضاعف الحِمل على كاهل علياء.. فذهبت لنيرة وجالستها محاولة عدم ذكر أي شيء عن مازن وتواجده بمصر.. وانشغاله بمراسم عزاء منى.. واللغز الأكبر.. دنيا.. وعندما أنهت زيارة نيرة ذهبت إلى العزاء.. لتعود منهكة القوى.. وتفاجئ بعودة يزيد معها إلى منزلهما وليس بيت ريناد كما كانت تظن.. كان غامضاً.. حزيناً وكئيباً.. ويخفي غضباً مكبوتاً.. والأغرب من كل ذلك تشبثه بها بقوة.. حتى أنه اكتفى فقط بنومها بين ذراعيه.. فهي كانت غاية في الإنهاك.. وهو كان في قمة المراعاة.. لم يحاول إغوائها.. أو حتى مغازلتها, رغم أنها رأت رغبته تصرخ حية في عينيه.. رغبة لم يستطع كبحها في الليلة التالية.. بعد عودتهما من العزاء مباشرة.. اصطحبها لغرفتهما.. ولم يتركها إلا في الصباح... وأثناء تناولهما الافطار أخبرها عرضاً بخبر زواج حسن وبدا كأنه ينتظر ردة فعلها.. وعندما أخبرته ببساطة.."حسن مسكين".. انقبضت ملامحه وتوترت بشدة وكان على وشك إخبارها شيئاً.. ولكنه آثر الصمت.. وترك المائدة بغضب مكبوت وأخبرها أنه بانتظارها ليقلا نيرة من المشفى..
عضة قوية من "علي" أفاقتها من شرودها.. فأمسكته من خدوده لتقبلهما وتنهره برقة:
ـ مش بابا قال العض عيب؟..
ليجيبها علي ببراءة وهو يمسك بوجنتيها هو الآخر:
ـ أنا سوفته بيعضك..
شهقت علياء بحرج وغمغمت "أم علي":
ـ المفضوح هيتلف أمل العيال!
زجرتها علياء:
ـ وبعدين يا ست "أم علي"!
قامت "أم علي" بحركة بشفتيها:
ـ أنتِ جاية تتشطري علي أنا.. ابقي..
قاطعتها علياء:
ـ خلاص يا ست "أم علي".. الولاد موجودين.. ممكن تاخديهم تعشيهم؟..
صاح "علي" معترضاً وهو يتعلق برقبة علياء:
ـ لا.. أنا سعباااااان... يا ستي سااااااعبااااان..
ضحكت علياء بمرح وهي تمرغ أنفها في بطنه فأطلق ضحكات عالية.. وعاد يتعلق بعنقها فأخبرت "أم علي" بهدوء:
ـ طيب حضري العشا للولاد وأنا هأكلهم..
توجهت "أم علي" للمطبخ لتعد العشاء وتسلقت نادية الأريكة لتزاحم شقيقها وتستقر في أحضان أمها هي أيضاً..
ابتسمت علياء بحنين فالصغيرة تغار بشدة كوالدها تماماً.. وسرعان ما تحولت ابتسامتها الى ضحكة صافية وهي ترى يزيد أمامها.. لم تعرف متى أتى وكأنها أخرجته من ابتسامتها وهو يقوم بحركته المعتادة ويرفع "علي" من شعره.. وهو يؤنبه بغيظ:
ـ أنا مش قلت ما تعضش ماما!!
وتوجه نحوها بنظرة نارية.. فحاولت كبح ضحكاتها وهي تضع نادية على الأريكة لتنهض وتتوجه نحوه هامسة:
ـ هو بيقلدك.. ما تفتحش معاه الموضوع وهو هيبطله لوحده..
ليأتي صوت "أم علي" المتهكم:
ـ هيبطله لوحده إزاي طول ما هو شايف أبوه بيعمله!
أحاط يزيد خصر علياء بذراعه وزغر بعينه "لأم علي" ثم التفت موجهاً كلماته لعلياء:
ـ النهارده كان عندي ناس من جهة أمنية بيسألوا على "أم علي"!
كانت علياء تحاول كبت ابتسماتها فهي أدركت مزحته على الفور بينما شهقت السيدة بعنف وهي تسأله بتوتر:
ـ خير يا بيه كانوا عايزين إيه؟!
ـ كانوا عايزين يستخدموكِ كأول رادار بشري.. أصلهم سمعوا عن مؤهلاتك!
وكزته "أم علي" في كتفه وهي تتنهد براحة:
ـ يوه جاتك إيه يا بيه.. ده أنا صدقت!
هز رأسه بيأس.. لا فائدة.. سيموت قبل موعده بسبب تلك العجوز.. لمح الأطباق التي رصتها على المائدة الصغيرة.. فأمرها بحسم:
ـ عشي الولاد ونيميهم في أوضتهم..
وسحب علياء التي غرقت في حرجها إلى غرفتهما وهو يخبرها:
ـ عايزك في موضوع مهم..
أغلق باب الغرفة بالمفتاح تلك المرة.. والتفت إلى علياء التي بادرته بالهجوم:
ـ وبعدين معاك بقى يا يزيد!.. دي مش طريقة.. أنت ولا إنسان الكهف اللي بيجر الست وراه يدخلها الجحر بتاعه..
رفع حاجبيه بحيرة:
ـ إيه يا علياء؟.. فيها إيه اما أقول إني عايزك في موضوع مهم؟..
هتفت بحنق:
ـ لأني عارفة أنت عايز إيه.. و"أم علي" واقفة.. و..
قطعت كلماتها فجأة وهي تسأله:
ـ أنت تقصد أنه في حاجة مهمة فعلاً؟
تلاعبت ابتسامته العابثة على شفتيه وهو يقترب منها ليداعب خصلاتها برقة.. ويقترب من أذنها هامساً:
ـ هو كاااان في حاجة مهمة, بس لو أنتِ بتفكري..
ثم قطع كلماته وهو يطلق لفظاً بذيئاً.. فرفعت علياء عينيها إليه بدهشة ليهتف بغيظ وهو يلامس عنقها بإبهامه:
ـ الواد "علي" عضك بجد.. دي سنانه معلمة!
أطلقت ضحكة خافتة:
ـ معقولة يا يزيد!.. أنت متضايق فعلاً؟.. ده ابني.. ما حصلش حاجة لده كله!
لامبالاتها زادت من غضبه, فــلفها بذراعه بعنف وهو يهبط بشفتيه على عنقها ليمحو أي أثر آخر فهي امرأته هو.. ملكه هو.. كان يهمس لها بتلك الكلمات وهو يقبلها بوحشية وعنف لم تعهدهما به..
غضب.. غضب شديد يتملكه ولا تعلم له سبباً.. منذ وفاة منى بالتحديد.. وهو يكتم ذلك الغضب بداخله.. واليوم بعد ما قاما بإيصال نيرة إلى منزلها بدا أن غضبه بدأ يتسلل من تحت سيطرة قوية يمارسها على نفسه.. ولكنه لم يتمكن من ردع نفسه عن إلقاء النظرات الغاضبة نحو نيرة طوال الطريق.. ورفض تماماً أن تظل برفقتها في المنزل.. واصطحبها تقريباً بالقوة إلى السيارة..
هو غاضب.. وهي عاجزة عن التوصل إلى أسباب غضبه.. غضبه الذي مازال يمارسه عليها في صورة قبلات ولمسات وحشية.. لم تعد تحتملها.. فأبعدته عنها قليلاً.. لتلمح نظراته الغائمة برغبة غاضبة..
لم تره بهذا الغضب من قبل, حتى حينما كان يتهمها بأنها خططت لتوقعه في فخ الزواج.. لم يكن غاضباً هكذا.. لفت ذراعيها حول عنقه وهي تضع رأسها على كتفه تحاول تهدئة غضبه قليلاً.. وقد يحالفها الحظ فتعلم له سبباً..
ملست فوق عضلات ظهره المنقبضة فشعرت به يلين قليلاً.. فرفعت جسدها لتقف على أصابع قدميها وتطبع قبلات رقيقة صغيرة على وجنتيه.. وهمست له:
ـ مالك يا حبيبي؟..
زاد من ضغط ذراعيه حول خصرها فأصدرت آه خافتة.. دفعته ليبتعد قليلاً ويرفعها بين ذراعيها ليجلسا معاً على الأريكة الواسعة..
مسح وجهه بكفيه وكأنه يحاول إخراج المارد الذي تلبسه.. والتفت نحوها.. ليخبرها:
ـ أنا عايزك في موضوع مهم فعلاً..
ابتسمت بقلق.. فهي تخشى أن يفاتحها في موضوع رؤية والدته لأحفادها مرة أخرى.. وكان ذلك مثار مشاجرات عدة بينهما على مدار السنة الماضية.. وبالتحديد منذ ولادة أدهم..
ـ خير يا يزيد قلقتني!
اقترب منها ليخرج شيئاً من جيبه.. فعلمت أنه سيهديها قطعة مجوهرات جديدة.. فهو دأب على اهدائها تلك القطع, وعلل ذلك بأنه غير قادر على تسجيل أي أملاك باسمها حتى تصل الواحدة والعشرون.. ولكنها أتمتها بالفعل منذ شهور طويلة.. فهتفت بعجب:
ـ مش ممكن تكون اشتريت مجوهرات تاني!.. أنا عندي كتير قوي.. مش هلحق ألبسهم أساساً..
منعها من استكمال كلماتها وأغلق فمها بكفه:
ـ بعد الشر عليكِ.. إن شاء الله تلبسيهم وأزودهم كمان..
وأخرج بالفعل علبة مخملية مستطيلة ومنحها لها لتفتحها تطالعها قلادة على شكل فراشة ماسية براقة.. ولها نفس اللون الأزرق الشاحب الذي يميز خاتم زواجها.. تناول القلادة من العلبة وأدار علياء ليساعدها في ارتدائها وهو يهمس لها:
ـ جميلة.. بس الماسة صاحبتي لها معزة تانية في قلبي..
ضحكت علياء برقة وهمست له:
ـ وأنا كمان بحب الماسة دي قوي..
ثم التفتت له مؤنبة:
ـ يعني هو ده الموضوع المهم!
تنحنح ليجلي حنجرته وبدا أنه متردد في الكلام فأيقنت بما هو قادم وكما توقعت من قبل:
ـ علياء.. ماما.. ماما نفسها تشوف الولاد..
ابتعدت علياء عنه لتنهض وهي تهتف بحدة:
ـ لأ..
ـ علياء...
صرخت به:
ـ إحنا اتناقشنا في الموضوع ده قبل كده.. وردي ما اتغيرش..
ـ علياء... أرجوكِ فكري تاني..
قاطعته:
ـ أفكر!!.. أفكر في إيه.. إنها أول مرة طلبت تشوفهم اشترطت أني ما كونش موجودة.. ولا أنها كانت عايزة تشوف علي وأدهم بس من غير نادية.. أفكر في إيه!!..
ـ أيوة بس هي جدتهم ومن حقها..
هتفت بغيظ وهي تحاول التحكم في نوبة غضب لا تجيد التعامل معه.. فهي لم تعرف الغضب من قبل:
ـ حقها!!.. حقها!!.. لا مش من حقها.. لو على الحق هم ولادي.. وأنا اللي من حقي أرفض أو أقبل..
هتف محتداً:
ـ بلاش قسوة يا علياء..
كان ذكره القسوة هو ما فجر مارد من الغضب لم تدرك أنها تختزنه فصرخت:
ـ قسوة!!.. بتقولي أنا قسوة!!.. أنا يا يزيد!!.. أنت مش فاكر هي عملت إيه بكل برودة دم وأعصاب.. لو مش فاكر اللي حصل, العلامات اللي في جسمي مش بتفكرك بتعذيب أعمامي.. ما أخدتش بالك من علامات الحروق.. ولا أنت مش بيكون في بالك غير أنك ترضي نفسك بس..
صرخ بغضب مماثل:
ـ علياء.. خودي بالك من كلامك..
تقافزت دموعها وهي تصرخ بألم:
ـ أنت نسيت كل اللي حصلي.. لكن أنا ما نسيتش ومش هقدر أنسى.. ازاي عايزني آمنها على ولادي.. إزاي..
ـ بقولك أحفادها..
قاطعته:
ـ أحفادها اللي هتخلفهم ريناد..
ـ معقولة يا علياء.. شمتانة في ريناد عشان ما بتخلفش..
هتفت به:
ـ شمتانة!.. شمتانة!.. أنا يا يزيد..
وهزت رأسها بألم:
ـ أنا بحسدها.. أنت معاها على طول.. بتيجي هنا يوم ولا يومين.. والباقي عندها.. مرة بحجة دكتور ومواعيد.. ومرة بحجة حفلات وسهرات عمل..
بدا ضائعاً وهو يردد:
ـ أيوه يا علياء.. السهرات والحفلات دي ريناد بتعرف تنظمها صح.. و..
قاطعته:
ـ وأنا إيه؟.. بعرف أخلف صح.. وأخليك مبسوط صح.. وبسمع الكلام واسكت صح..
مسح وجهه بين كفيه يحاول السيطرة على أعصابه.. فهو يختزن غضب صامت منذ يومين.. ولا يريد أن يفجره بوجهها ولكنها تزيده بتمردها الذي لم يعتده منها.. تكلم بهدوء قدر استطاعته:
ـ أنا بحاول يا علياء.. بحاول أن حياتنا كلنا تنتظم.. ما تنسيش أننا جرحنا ريناد جامد.. وأن علاقتي بماما زي الزفت من يوم جوازنا.. و..
صرخت بغضب:
ـ وأنت بتكسب رضا ريناد على حساب وقتي معاك.. وعايز ترجع تكسب رضا مامتك على حساب ولادي.. لأ.. لأول مرة هقولك لأ يا يزيد.. كله إلا ولادي.. كله إلا ولادي..
ـ أنتِ ناسية إنهم ولادي أنا كمان!
ـ لا مش ناسية.. يا ريت ما تنساش أنت كمان.. تقدري تقولي كام مرة روحت معاهم لدكتور.. تطعيم.. كام مرة أجبرتني إني أبدل ميعاد حفلة عيد ميلاد التوأم عشان ميعادها الأصلي مش مناسب مواعيد ريناد هانم.. ولا بالصدفة عندك ارتباط في الوقت ده.. كام مرة سهرت جنب واحد فيهم لما بيتعب..
سكتت وقد ارتعش جسدها تألماً وغضباً:
ـ جاي دلوقتِ عشان تصالح مامتك بيهم تقول ولادي.. أما يكون لهم دور في حياتك ابقى سميهم ولادك...
همس بغضب:
ـ علياء.. اسكتي..
صرخت:
ـ لا.. مش هسكت.. هو ده كمان بمزاجك..
وتحركت لتخرج من الغرفة.. فأوقفها صارخاً:
ـ على فين؟
غمغمت وهي توليه ظهرها:
ـ هنام مع ولادي..
جذبها من يدها:
ـ ما فيش نوم غير هنا..
التفتت له وقد كتفت ذراعيها وتفجرت نوبة تمرد:
ـ طبعاً.. ما هو أنت جاي وسارق من وقت ريناد وكمان جايب لي هدية.. وبعد ده كله... أنام بعيد.. ما يصحش برضوه.. ما هو كله بمزاجك..
جذبها بعنف وهو يهتف بغضب:
ـ يعني هو ده بس اللي جابني؟..
رمقته بصمت وقد زمت شفتيها بغضب وتمرد.. يكره هذا التمرد.. يقلقه.. ويخافه..
تقدم منها ورفعها بين ذراعيه وهمس من بين أسنانه:
ـ خلاص يا علياء.. طالما أنتِ شايفة إنه كله بمزاجي..
وسقط بها في الفراش مطلقاً خوف وغضب وقلق اليومين الماضيين من عقالهم وهو يهمس بفحيح غاضب:
ـ يبقى هاخد مزاجي..
لم يكن عنيفاً, ولكنه لم يكن رقيقاً مراعياً أيضاً.. تغلب على مقاومتها بسهولة.. فبرغم غضبها منه إلا أنها لم تتمكن من مقاومته بقوة.. سيطر على قبضتيها في ثوانِ.. وغزتها شفتاه باجتياح يائس.. تتنقل بجنون بين وجهها وعنقها وصدرها الذي مزق ثوبها من عليه, لتصطدم شفتاه بدمعته الماسية فيلتقطها بلهفة, وكأنها تعويذة سحرية تأسره وتحجم من غضبه فسرعان ما تخلت قبضته عن كفيها ليتمكن من احتضانها برقة اختلفت عن عنفه السابق.. عادت تحاول دفعه عنها ثانية.. لا تريد أن تقدم حبها بتلك الطريقة.. لن تستلم لسطوة اشتهائه لها..
همسة يائسة أطلقها وسط صراعهما.. جعلتها تستسلم وتسكن بين ذراعيه.. لتمنحه ما يريد من حبها.. ولم تدرك أنه كان تلك المرة يستجدي هذا الحب ويحتاجه..
"ما تبعديش عني.. أنا محتاجك.. ما تبعديش يا علياء"..
مازالت همسته يتردد صداها بداخلها حتى الآن بعدما هدأت عاصفته ورفضت هي أن تسكن صدره كعادتها, بل ابتعدت عنه لتتحول إلى الجهة الأخرى موليه إياه ظهرها.. متجاهلة حركة أناملة المستمرة على ذراعها وبين خصلاتها.. لن يسترضيها بكلمات لطيفة بعدما قام بما قام به.. لن ترضى تلك المرة.. ولن تسامح..
"لن تسامحه تلك المرة"..
كان هذا ما يفكر به يزيد بالتحديد وهو يتأمل خصلاتها الداكنة المنتشرة على ظهرها بعبث.. ويراقب حركة تنفسها السريعة.. يعلم أنها تجاهد الدموع, وأنها غاضبة.. تفكر بأنه تصرف تحت سيطرة رغبة وشهوة.. تظن أنه انتهكها.. ولكنه لم يفعل.. وبأعماقها تدرك ذلك.. أنه فقط خائف.. خائف ويكره خوفه.. وغاضب للحالة التي وصل إليها.. يخاف فقدانها.. فقدان ما تدعيه له من حب.. لا يحتمل أن تكون ملكاً لغيره.. فهي له.. ملكه.. امرأته.. حتى لو تعالت آلاف الأصوات النسائية تعارض ملكية الرجل لأنثاه.. فلتهاجمن ملكية سائر النساء, لكن تلك المرأة له..
"تباً لك يا حسن"
لفظتها أفكاره الهائجة.. فهو لم يظن لحظة أن خبر زواج حسن السريع قد يبدل أحواله بتلك الطريقة.. فهو طالما تفهم حاجة الرجل إلى وجود امرأة في حياته.. ولم يزعج رأسه بتوصيف تلك الحاجة.. وتزيينها بكلمات كالحب والعشق أو حتى الإعجاب.. فالغاية واحدة.. والغرض معروف.. ولكن مع حسن.. كان يعلم أن تفكيره يختلف.. سلوكه وتصرفاته.. حسن بأكمله مختلف.. وأكبر دليل هو حربه المستمرة للزواج من منى.. والآن ماذا؟.. ماتت منى, وتزوج حسن!!.. مات الملك.. عاش الملك..
كيف؟.. اذاً هو على حق.. لا وجود للحب.. إنما هي مجرد مجموعة تفاعلات كيمائية بين البشر.. رغبات وأهواء.. يجملونها في النهاية بكلمات عشق لينأوا بأنفسهم عن أخلاق الحيوانات..
ابتسم بسخرية متخيلاً ملامح علياء وهي تستمع نظريته عن المشاعر والحب.. والتي تبجلهما, بل وتقدسهما تماماً.. وسرعان ما انمحت البسمة من على شفتيه وأفكاره تسحبه إلى دوامة الخوف, والغضب مرة أخرى..
هل من الممكن أن يختفي حبه من قلب علياء.. هل من الممكن أن تهجره.. أو تكون لغيره.. مع سهولة زواج حسن ثانية ماذا يمنع الحب من أن يتبخر بقلب علياء؟.. وتتركه!!!..
يعلم أنها معه فقط لأنها تحبه كما تدعي.. كما تؤمن هي بالحب.. لأنها مختلفة.. ليست كريناد.. تربطها به حسابات اجتماعية وعائلية.. ليست كأمه.. تربطها بأبيه علاقة سيكوباتية لا يفهمها..
هي مختلفة.. تحبه.. لذلك تمنح كل ما تملك تحت لواء حبها.. وهو خائف.. خائف أن يفقد حبها هذا.. أن تبتعد.. ألا تكون له.. أنه لا يثق بالحب.. كيف يأمن لشيء لا يفهمه ولا يثق به.. كيف يطمئن لدوامه وصموده بقلبها.. كيف وإمارات تمردها عليه وغضبها منه تزداد يوماً بعد الآخر..
تباً.. أنه يفكر كالنساء.. لقد حوله التفكير في الحب إلى امرأة بائسة..
تذكر جملة مازن عندما علم منه بحمل علياء..
"أنت بتربطها لتهرب منك ولا إيه!"..
قالها بصيغة مزح.. ولكنه لم يكن يمزح.. كان يلخص كل مخاوف يزيد نحو علياء.. فهو يعترف.. أنه يتعمد بالفعل أن يجعلها تحمل .. فلو تبخر حبها.. يظل أولادهما كأوتاد تربطها به على الدوام..
تباً أنه يفكر كالنساء بالفعل.. ولهذا تجنب على الدوام فكرة الحب.. لا يريد أن يكون رقيقاً هشاً كحسن.. أو مشتتاً ضائعاً كمازن..
الحب كان دائماً بالنسبة له.. رغبة ليشبعها.. ولكن.. ولكنه كان غبياً.. غبياً أخذ أربع سنوات ليفهم.. ويدرك.. ما يشعر به.. معنى علياء بحياته.. احتياجه لها.. واجتياحها لقلبه ومشاعره.. وجسده.. كيان متكامل.. ذلك ما يجمعهما.. وذلك ما يخشى بشدة فقدانه..
تحرك ليلتصق بها وضمها بين ذراعيه لتتوسد رأسها صدره كما اعتادت.. سيطر على مقاومتها له وهو يهمس لها بسؤال يفقده صوابه:
ـ علياء.. أنتِ ممكن تفكري تعملي زي حسن وتتجوزي راجل غيري؟..
ساد الصمت وكانت إجابتها على سؤاله دمعة ساخنة سقطت على صدره...
وهمسة بداخلها..
"هتفضل على طول طفل أناني يا حبيبي"
***************
خرج مازن من الحمام ليجد نيرة راحت في سبات عميق.. ولم يعرف لم انتابته الراحة لذلك, فدخل بجانبها تحت الغطاء محاولاً استدعاء النوم بلا جدوى..
وأخيراً سأم المحاولة.. نهض متجهاً إلى المطبخ ليعد لنفسه وجبة بسيطة.. وابتسم ساخراً.. زوجته كانت تتلهف إغرائه.. ولكنها لم تفكر حتى أن تسأله إذا كان تناول طعامه أم لا؟!..
قطب قليلاً وهو يضع شرائح الجبن مع الخيار في شريحة من الخبز يتذكر أنها لم تسأله عن منى.. أو حسن؟..
هل تعلم؟... هل أخبرتها علياء؟.. لا.. لا يعتقد.. علياء لا تخالف أمراً ليزيد.. محظوظ أنت يا يزيد.. فلا يعتقد أن تتركه علياء ينام بدون أن يتناول عشائه...
ـ صباح الخير يا مازن بيه.. حمد لله على السلامة..
التفت ليجد السيدة أنيسة مديرة المنزل_كما تدعوها نيرة_ تواجهه وهي تخبره ببشاشة:
ـ عنك أنت يا بيه.. أنا هحضر لك لقمة تاكلها..
أخذت تثرثر ببضع كلمات أثناء إعدادها لطعامه.. لم يكن منتبهاً لها في البداية, ولكن فجأة جذبت انتباهه بجملتها:
ـ الحمد لله أن حضرتك رجعت بالسلامة.. أكيد مدام نيرة هتحتاج وجودك جنبها اليومين دول.. معلش ربنا يعوض عليكوا أنتوا لسه صغيرين و..
قاطعها بحيرة:
ـ لسه صغيرين على إيه؟.. أنا مش فاهم حاجة!..
رفعت نظراتها له وهي تخبره بتعجب:
ـ هو سيادتك مش رجعت عشان عرفت بخبر إجهاض.. بس مدام علياء...
قاطعها بصراخ:
ـ إجهاض إيه!.. مين اللي اجهضت.. مدام علياء؟..
شهقت أنيسة بإنكار:
ـ لا.. بعد الشر عليها ربنا يكملها على خير.. أنا بتكلم على مدام نيرة..
تردد هتافه وهو يختفي من أمامها ليصعد الطابق العلوي في لحظات:
ـ نيرة... نيرررررة..
اقتحم الغرفة ليجدها جالسة أمام منضدة الزينة تمشط خصلاتها وبدا في ضوء النهار معالم الشحوب والإجهاد واضحة على ملامحها الجميلة..
التفتت على الفور.. فاقترب منها بلهفة وهو يركع على ركبة واحدة أمامها ويضم وجهها بين كفيه.. ويسألها بقلق:
ـ نيرة.. أنتِ كويسة يا حبيبتي؟.. أنتِ بخير؟..
همست بتوتر:
ـ أيوه الحمد لله .. أنا بخير.. ليه؟.. بتسأل ليه؟
ترك إحدى كفيه تحتضن وجهها بينما تحسست أنامله وجهها وجسدها كأنه يتأكد من أنها بخير بالفعل.. ثم عاد يضم وجهها بكفيه ويريح جبهتها فوق جبهته وهو يسأل:
ـ يعني أنتِ كويسة بجد؟.. أومال إيه موضوع الإجهاض ده؟..
رفعت رأسها بعنف وهي تهتف بتوتر:
ـ أنت عرفت منين؟..
ابتعد عنها وتحرك ليقف على قدميه ويسأل بتعجب:
ـ هو أنت ما كنتيش عايزاني أعرف ولا إيه؟..
ابتلعت ريقها بتوتر وهي تنهض بدورها وتحتضن جسدها بذراعيها:
ـ لا يا حبي مش قصدي..
قاطعها:
ـ أومال قصدك إيه؟.. وما قولتليش ليه امبارح بالليل لما سألتك؟..
اقتربت منه وقد تحكمت في توترها وانفعالها.. ورفعت كفها لتريحه على كتفه بينما أخذت تداعب أزرار قميصه وهي تخبره برقة:
ـ أنا كنت هقولك النهارده طبعاً يا حبي.. ما هو مش معقول كنت أبلغك بخبر زي ده وأنت لسه واصل من السفر وتعبان..
سألها بنبرة قلقة:
ـ وده حصل إزاي؟.. وليه ما قولتليش أنك حامل قبل ما أسافر؟..
أراحت جسدها عليه وهي مستمرة في مداعبة أزرار قميصه:
ـ ما هو أنا ما كنتش أعرف إني حامل.. أنت عارف أنا كنت مقررة تأجيل الحكاية دي.. أنا عرفت لما روحت المستشفى..
ورفعت عينيها إليه ببراءة وهي تكمل ولكن نبرتها شابها الكثير من التوتر:
ـ كنت نازلة السلم بسرعة.. واتكعبلت... وقعت.. و..
قاطعها بسرعة:
ـ سلم إيه؟.. كنتِ فين أساساً ومين وداكِ المستشفى؟..
لفت أحد أزرار القميص بقوة حتى انتزعته من موضعه فطار في أحد أركان الغرفة.. فابتلعت ريقها بصعوبة:
ـ كنت.. كنت عند علياء.. وهي اللي راحت معايا المستشفى..
قطب حاجبيه بحيرة:
ـ علياء!.. يعني يزيد عارف؟..
أومأت برأسها موافقة:
ـ آه.. أيوه طبعاً.. هو ما كانش موجود في الأول.. بس علياء اتصلت به وجه.. وكانوا معايا ليل ونهار اليومين اللي فاتوا..
نظر إليها بشك.. فيزيد رافقه معظم الوقت طوال أيام العزاء.. ولم يخبره بشيء.. وعلياء أيضاً كانت موجودة بجوار والدة منى معظم الوقت.. فكيف رافقاها طوال الوقت!!..
سمعها تكمل بتردد:
ـ حتى هما اللي وصلوني من المستشفى.. أنا خرجت إمبارح بس..
ردد بحيرة:
ـ إمبارح بس!.. وما كلمتنيش ليه يا نيرة؟.. هو موضوع زي ده مش لازم تبلغيني به؟.. إزاي ما تتصليش بيا؟..
ـ هو أنت كنت في إيه ولا إيه يا مازن.. معقول كنت اتصل بيك أبلغك خبر زي ده.. وأنت مسافر, وكمان ظروف مرض منى و..
قطعت كلماتها بغتة وهي تسأله:
ـ صحيح هي ماتت ولا لسه؟..
دفعها عنه بغلظة متناسياً وضعها الصحي وهو يهتف بتأنيب:
ـ ده مش أسلوب سؤال..
هزت كتفيها بلامبالاة:
ـ أنت عارف أني مش بحبها..
مسح وجهه بيديه وهو يهمس:
ـ الله يرحمها..
صرخت بلهفة:
ـ هي ماتت؟..
ثم أردفت بلهفة لم تستطع اخفائها:
ـ وحسن.. حسن عامل إيه؟.. رجع معاك؟..
رمقها لوهلة.. عاجز عن تحديد ما يشعر به.. دمائه تغلي في عروقه.. وقبضة من صقيع تعتصر قلبه في ذات الوقت.. الحقيقة الوقحة تصفعه مرة أخرى.. "لست حبيبها ولن تكون"..
وجد نفسه يخبرها ببرود وتشفي تقريباً:
ـ حسن اتجوز بنت فرنساوية وهيكمل حياته في باريس..
شهقت بغضب:
ـ إيه اتجوز!.. اتجوز إزاي؟.. وامتى؟.. طب ما هو عرف يتجوز واحدة غير منى.. اشمعنى..
قطعت كلماتها وعضت شفتيها لتمنع نفسها من الاسترسال.. ولكن بعد فوات الآوان.. فقد أدرك ما تريد قوله بالفعل.. وارتسمت في عينيه نظرة لم تستطع تفسيرها.. وكأن عينيه تصرخ بها بحزن.. حزن مقهور متألم..
وهي صمتت تبادله نظرات الأسف.. تطلب مغفرته التي منحها إياها طويلاً..
تأملا بعضهما قليلاً في صمت قطعه رنين هاتف نيرة فالتقطه مازن تلقائياً ليلمح الشاشة تضيء باسم..
"abortion clinic"
تنقلت نظراته بين وجهها وشاشة الهاتف.. لتتحول نظراته من الحزن إلى الغضب العاصف.. غضب لون ملامحه كلها بشراسة وقسوة وهو يلقي بالهاتف نحوها ويهز رأسه ببرود:
ـ ردي على تليفونك يا مدام..
تناولت نيرة منه الهاتف ولمحت بدورها المتصل.. فصرخت وهي تتمسك بذراعة متوسلة:
ـ لا يا مازن.. أنت فاهم غلط.. أنا..
قاطعها:
ـ أنا كنت.. كنت فاهم غلط.. بس أخيراً فهمت.. معلش كنت غبي شوية..
نفض يديها عن ذراعه وخرج من الغرفة.. بل من المنزل بأكمله..
**********
وقفت علياء في المطبخ وهي تعد طبق العسل الأسود بالطحينة وهو ما يفضله يزيد على الإفطار.. مع بعض شرائح التوست المقرمشة والتي تعدها له خصيصاً عندما وصلها صوت "أم علي" وهي تمصمص شفتيها:
ـ هو أنتِ تتخانقي معاه بالليل وتجهزي له فطاره الصبح!.. أومال يحس على دمه ازاي!
هتفت بها علياء بغضب:
ـ أم علي.. وبعدين معاكِ.. ما ينفعش تتكلمي عليه كده.. ولا عشان هو طيب وبيسكت لك..
بهتت "أم علي" للحظات.. وهي تدرك غضب علياء منها.. واعتذرت باحراج:
ـ معلش.. أنا بكلمك زي بنتي.. عندك حق.. يظهر أني نسيت نفسي..
التفتت لها علياء وقد شعرت بالذنب لتعاملها الجاف مع السيدة العجوز.. واقتربت منها لتطبع قبلة رقيقة على جبهتها:
ـ حقك علي.. أنا ما اقصدش أزعلك.. بس برضوه ما حبش أنك تتكلمي عنه بالطريقة دي..
سكتت السيدة العجوز وقد ارتسمت على ملامحها معالم الامتعاض.. فاستدركت علياء:
ـ بس أنتِ عرفتِ منين أنه احنا متخانقين؟..
أخذت "أم علي" تنهي غسيل الاطباق وهي تغمغم:
ـ ما هو قاعد بره ومش جاي يلزق فيكي زي عادته.. تبقوا اتخانقتوا!..
هزت علياء رأسها وهي تبتسم بعجز:
ـ أنتِ ما لكيش حل فعلاً..
بادلتها السيدة الابتسام.. وهي تدرك أن السيدة الصغيرة رضيت عنها ثانية.. وسمعت علياء تخبرها:
ـ يلا.. خودي الفطار بتاعه وحطيه على السفرة وبلغيه أن الفطار جاهز..
شهقت "أم علي" بعجب:
ـ لا طبعاً.. روحي افطري وفطري جوزك.. ازعلي واغضبي براحتك.. بس لا تنزليه من عندك غضبان.. ولا تنيميه غضبان.. أنتِ ناسية أن عندك شريكة مستنية أنك تبعتيهولها غضبان عشان هي تصالحه..
توسعت عينا علياء بإدراك ووجدت أن وجهة نظر "أم علي" صحيحة.. فحملت الأطباق وخرجت لتضعها على مائدة الطعام التي كان يزيد جالساً يقرأ الجريدة على رأسها.. وما أن انتهت من رص الأطباق حتى وجدته يجذبها من يدها ليجلسها على ركبتيه وهو يهمس بأذنها:
ـ أنتِ كويسة؟.. امبارح.. أنا..
أشاحت بوجهها عنه ولم تدعه يكمل كلماته ولكنه أدار وجهها ليقابله بينما كفه يتحسس بطنها:
ـ أنتِ كويسة؟.. محتاجة تروحي للدكتورة ولا حاجة؟..
هزت رأسها نفياً.. وقد تجمعت الدموع بعينيها وأخبرته بهمس:
ـ انا محتاجة آخد الولاد واروح يومين المعمورة..
وافقها بسرعة:
ـ وماله.. نروح..
قاطعته وهي تنهض من فوق ركبتيه وتهز رأسها رافضة:
ـ لا.. هاروح مع الولاد وأم علي بس..
صرخ بغضب:
ـ لا طبعاً.. ما فيش سفر لوحدك..
قطع صوت جرس الباب كلماته.. فتحرك ليفتحه بسرعة حتى يوقف الكلمات الغاضبة من الاندفاع على لسانه.. فها هو ما يخشاه يتحقق.. هي تريد الابتعاد عنه..
ذهب ليفتح الباب ليفاجئ بقبضة مازن تنطلق في وجهه فسقط أرضاً وسط صرخات علياء..
الفصل السابع والعشرون
والثامن والعشرون
حلم جميل طاردته منذ لاح..
بعت لأجلك كل نفيس وتحديت المحال..
وتخطيت لعيونك الخطوب والصعاب..
ونسفت لوصلك التقاليد والأعراف..
وسكبت دمعي ودموعي لكِ كل صباح..
وقدمت حبي وحياتي وكل مباح..
وتغاضيت عن كثير وسكبت السماح..
وللأسف لم تكونى إلا وهماً وسراب..
طاووساً جميلاً وفي داخله غراب نواح..
أبكي على قلبي المحطم تذروه الرياح..
خاطرة الفصل بقلم:
إيمان حسن
"همسات حالمة"
ارتمت نيرة على المقعد العريض بالغرفة ترمق مكان اختفاء مازن بذهول وقد تجمدت دموعها وذلك الهاجس المميت يخبرها أن مازن لم يخرج فقط من البيت, بل من حياتها بأكملها.. ستفقده مثلما فقدت كل ما هو مهم في حياتها.. وآخرهم طفلها..
أغمضت عينيها لتسمح للعبرات المحبوسة بالهبوط على وجنتيها.. فيبدو أنها لا تمتلك موهبة الاحتفاظ بأحبائها.. بداية بأمها.. ومروراً بأبيها ثم حسن.. وآخرهم مازن.. مازن الذي ابتذلت حبه لها.. وأفقدته معناه وقيمته.. وأخيراً نحرته عندما فكرت في التخلص من طفلهما..
حسناً.. لم يكن الأمر مجرد تفكير.. فهي خططت واتخذت خطوات بالفعل.. ولكنها عجزت عن التنفيذ.. لم تظن يوماً أنها تمتلك ما يسمى بعاطفة الأمومة, لذا كان قرارها حاسماً بالتخلص من طفل استقر في رحمها عن طريق الخطأ.. طفل لا تريده ولم تسعى له, بل وجوده سيزيد من تعقيد الموقف فإذا ما ماتت منى وقرر حسن العودة.. لا يجب أن يعود ليراها منتفخة بطفل رجل آخر.. طفل لا تريده في المقام الأول.. أو هذا ما كانت تظنه حتى تمددت على سرير الكشف أمام ذلك الطبيب الكريه..
لم تعرف كيف تردد بداخلها صوت نبضات صغيرها أو لعلها نبضات رعبها هي.. أو ربما هو صوت مازن تتخيله يدوي..
"هتقتلي ابننا يا نيرة؟.. هتقتلي ابننا؟"..
كان صوته يزلزل أعماقها.. وكأنه حقيقة.. عيناه احتلت المشهد تماماً حتى اختفى الطبيب ومساعدته خلف تعبيراتهما الحزينة اللائمة... وكلمة "ابننا" تتخيلها تدوي في الغرفة بأكملها.. ولم تدرك ما حدث بالفعل.. لكنها وجدت نفسها تلهث راكضة وهي تحاول الهروب من أمام الطبيب, بل أنها لم تنتظر المصعد واندفعت تركض على درجات السلم لتجد جسدها يطير في الهواء لينخفض زاحفاً متدحرجاً على سلم المبنى..
لم تشعر بآلام السقوط.. ولم تلتفت لوجع جسدها وكدماته فقط سيطر على عقلها شعورها بالسائل الدافئ يتسرب بين ساقيها لتدرك أنها لم تعد بحاجة لخدمات الطبيب.. وبالتأكيد لا داعي للقلق من وجود طفل لا ترغب به.. فالطفل نفسه أبى الاستمرار برحمها.. ولكن ما عليها القلق بشأنه بالفعل.. هو رد فعل مازن.. وهل سيصدق ما حدث؟.. هل سيسامحها؟..
أفاقها من شرودها صوت أنيسة وهي تطرق الباب المفتوح بالفعل وتسألها بتردد:
ـ مدام نيرة.. أحضر الغدا دلوقتِ.. ولا هننتظر مازن بيه؟..
رمقتها نيرة بشرود وهي تتعجب لمرور الوقت وهي غارقة في ذكرياتها.. وأخبرت أنيسة بجمود:
ـ اعمليلي فنجان قهوة بس..
هتفت السيدة بعجب:
ـ قهوة يا مدام!.. حضرتك محتاجة تتغذي كويس..
صرخت بها نيرة بغضب:
ـ أنتِ هتناقشيني.. روحي اعملي القهوة..
خرجت السيدة مسرعة لتنفذ الأمر فهي لا تحتمل إحدى ثورات نيرة.. بينما تكومت الأخيرة على المقعد وأفكارها كلها تدور حول مازن وكيف يمكنها احتواء غضبه.. واسترجاع نظراته العاشقة لها مرة أخرى...
*********
سقط يزيد أرضاً وهو يمسد جانب وجهه ويتأوه بخفوت بينما اندفعت علياء نحوه لتهبط على ركبتيها بجواره وتهتف بهلع:
ـ يزيد.. يزيد أنت كويس؟..
ثم التفتت إلى مازن لتصرخ به بشراسة:
ـ في ايه يا مازن؟.. أنت اتجننت!
لم يجبها مازن بل تبادل النظرات مع يزيد في صمت قبل أن يعتدل يزيد من سقطته ويرفع علياء معه ليخبرها بهدوء بدون أن يحيد بنظراته عن عيني مازن:
ـ ما تدخليش يا علياء وادخلي جوه دلوقتِ...
تذمرت بغضب وهي تقترب منه:
ـ ازاي ما اتدخلش وهو ضربك!
قطع يزيد التواصل البصري بينه وبين مازن ليلتفت لعلياء هاتفاً بحنق:
ـ جوه يا علياء!
قاطعه مازن بغضب أكبر:
ـ خايف عليها قوي!.. طبعاً ما هي طول عمرها شريكة نيرة هانم في كل جرايمها!..
التفتت علياء بذهول لمازن:
ـ أنا!!.. شريكة في جريمة!.. أنا مش فاهمة حاجة..
هتف بها يزيد من بين أسنانه:
ـ ادخلي جوه وما تتحركيش من أوضتك..
والتفت لمازن بسرعة وهو يشير له:
ـ الكلام هيكون بيننا.. مالكش دعوة بمراتي.. اتفضل على المكتب..
وصرخ بأم علي قبل أن يدخلا إلى غرفة المكتب:
ـ اياكِ اشوفك جنب المكتب..
أغلق باب غرفة المكتب بإحكام واستند عليه مواجهاً مازن الذي وقف في منتصف الغرفة بتحفز شديد بينما يزيد يخبره بهدوء:
ـ خلص شحنة الغضب اللي جواك كلها وبعدين نتكلم..
لوح له مازن بقبضته:
ـ ما تستفزنيش يا يزيد..
أومأ يزيد موافقاً:
ـ حاضر يا مازن.. أنت معاك حق.. أنا غلطت وكان لازم أبلغك أن نيرة في المستشفى من أول لحظة.. لكن الظروف كلها منعتني.. وهي ما كانتش لوحدها.. علياء كانت بتراعيها.. وعرضت عليها أني أبلغك, بس هي رفضت.. و..
هتف مازن بغضب:
ـ وأنت طبعاً ما صدقت عشان تحمي مراتك!
ضيق يزيد عينيه وأخبره بهدوء غاضب:
ـ احمي مراتي!.. أنت عايز تمشي الموضوع كده يا مازن.. والغلطة غلطتي أنا وعلياء.. صح؟..
أخذ مازن يبادله النظرات الغاضبة لعدة لحظات ثم التفت ليتناول أول ما طالته يداه وكانت مزهرية كريستالية فقذفها بكل قوته نحو الحائط.. وأخذ يتأمل حطامها المبعثر أمامه ويشير إليها بأصبع مرتعش وهو يردد بحروف مبعثرة:
ـ قتلته.. ابني.. قتلته...
كان جسده يرتجف مع حروفه.. وأكمل كلماته المبعثرة وكأنه يخاطب قلبه الذي امتدت قبضته لتضربه بعنف:
ـ الست الوحيدة اللي حبيتها.. اللي اتمنتها.. كنت بدعي ربنا أنه ما ينزعش حبها من قلبي حتى وأنا فاقد الأمل أنها تكون ليا.. كنت مكتفي بإحساسي أنه ما فيش راجل هيحبها قدي.. يبقى ده جزائي!.. ده المقابل لحبي, أنها تقتل ابني جواها.. للدرجة دي بايعاني.. للدرجة دي أنا ولا حاجة عندها..
راقبه يزيد بقلق وهو يدرك أنها لحظة مصارحة مع النفس.. لا يريد التدخل بها وفي نفس الوقت لن يستطيع ترك مازن يدمر عنفوانه بتلك الطريقة.. فجذبه ليجلسه على الأريكة.. وتحرك ليملأ له كوباً من الماء ويدفعه بيده قائلاً:
ـ مازن.. بلاش نسبق الأحداث.. تقرير الاسعاف بيقول..
ضغط مازن بكل قوته على الكوب الزجاجي ليتحطم بين يديه مسبباً بعض الجروح الخفيفة.. وسال الماء من بين أصابعه ممتزجاً بدمائه وهو يتأمل المشهد بشرود بينما اندفع يزيد ببضعة مناديل ورقية ليجفف يدي مازن ودمائه.. قائلاً:
ـ نروح دلوقتِ المستشفى ونستفسر عن حالتها بالظبط..
قاطعه مازن ونهض بقوة وقد بدا العزم على وجهه وألقى بالمناديل المدماة أرضاً:
ـ أنت هتيجي معايا فعلاً.. بس عشان نسجل عقد جوازي من دنيا عند مأذون شرعي..
*********
أغلقت دنيا الباب خلف يزيد ومن معه بعدما أخبرها يزيد بهمس أن مازن في حالة نفسية سيئة ولم يزد عن ذلك بأي كلمة..
التفتت لتواجه مازن الذي مدد جسده على الأريكة, واضعاً إحدى ذراعيه فوق رأسه بينما ترك الأخرى لتسقط بجانبه.. أخذت تتأمله لثوانٍ وقد بدا على وجهه معالم إرهاق عميق وأغمض عينيه يخفي عنها ما يفكر به..
تحركت لتجلس أرضاً على ركبتيها بجواره وسحبت يده الجريحة وأخذت تطهر جروحه وتعالجها برقة وهو مستسلم لها تماماً, وما أن انتهت من عملها حتى رفعت كفه إلى شفتيها تقبل باطن يده بعمق ثم بدأت في توزيع قبلات صغيرة على جروحه وارتكزت على ركبتيها لتتمكن من ملامسة وجهه باليد الثانية.. فأخذت تتبع ملامحه بأناملها الرقيقة واقتربت بوجهها منه لتهمس بقلق:
ـ أنت تعبان يا مازن؟..
فتح عينيه أخيراً وأحاط وجهها بكفه وهو يتأمل ملامحها الجميلة بحنين وارتسمت على وجهه ابتسامة حزينة وهو يخبرها:
ـ ما تشغليش بالك.. شوية إرهاق بس..
تمسكت بكفه الجريح وهي تسأله بقلق:
ـ والجروح اللي في ايدك؟..
داعب خصلاتها برقة وهو يرسم ابتسامة حزينة:
ـ زي ما يزيد قالك.. ايدي اتخبطت في كوباية واتكسرت..
هزت رأسها بعدم تصديق ولكنها لم تضغط عليه أكثر وتحركت على ركبتيها حتى التصقت بالأريكة وألقت برأسها على صدره فأحاطتها ذراعه تلقائياً بينما يديها كانت تمسد كتفيه وهي تهمس:
ـ قلبك تعبان يا مازن.. أنا حاسة به..
وحركت ذراعيها ليحيطا بعنقه وترتاح رأسه على كتفها وهي تكمل:
ـ احكي لي بس فيك ايه..
شعرت بتنهيدته الحارة تلفح عنقها وهو يرفعها من الأرض لتتمدد فوقه وإحدى ذراعيه تدعمها بينما الأخرى تتلاعب بخصلات شعرها بعبث وعلى شفتيه ابتسامة شاردة.. بينما هي رفعت رأسها قليلاً للتأمل ملامحه الحزينة وتسأله بقلق:
ـ مازن.. هو موضوع جوازنا سبب لك مشاكل مع.. مع.. نيرة؟..
اختفت ابتسامته وقست تعبيرات عينيه عند سماعه لاسم نيرة, وانتبهت دنيا لذلك ولكنها ظنت أن إعلان زواجه بها هو السبب.. فحاولت الابتعاد عنه ولكنه تمسك بها بقوة ومنعها من التحرك وهو يخبرها بحسم:
ـ دنيا.. وجودك في حياتي عمره ما كان ولا هيكون سبب لأي مشكلة.. واعلان جوازنا خطوة اتأخرت فيها كتير..
حاولت التملص من قبضته القوية عليها بينما هو تشبث بها بيأس لمحته في ملامح وجهه وتعبيرات عينيه فهتفت بقلق:
ـ اومال مالك بس يا مازن؟.. في ايه؟.. هي رفضت وجود زوجة تانية في حياتك؟..
أبعد عينيه عنها وشرد بنظراته بعيداً وهمس بقسوة:
ـ هي الزوجة التانية مش أنتِ..
انتفض قلبها من قسوة نظراته.. وسألته بخوف:
ـ اعلان جوازنا النهارده.. عقاب لنيرة يا مازن؟
تملصت منه تلك المرة بنجاح ونهضت واقفة وهي تكتف إحدى ذراعيها حول نفسها وتضع كفها على فمها تحاول كبت غصة كادت تفلت منها.. وعادت تكرر بألم:
ـ بتعاقبها بيا يا مازن؟.
نهض مازن ببطء واقترب منها ليمسك بكتفيها ويرتكز بجبهته على جبهتها وهو يهمس:
ـ أنتِ وجودك في حياتي مكافأة ليا.. وطلبك أني أكون أب لطفل منك هو جايزتي الحقيقية..
حاولت أن تجبه ولكنه قاطعها هامساً وهو يضع أصابعه على شفتيها:
ـ خلاص يا دنيا.. أنا مش قادر أتناقش.. أرجوكِ..
ارتفعت على أطراف أصابعها لتحتضنه وتقربه منها وبداخلها قلق عاصف لا تدري ما به.. أو ما يعانيه.. فقط تشعر بتشبثه اليائس بها.. تخللت أناملها خصلاته برقة فسحبها معه ليجلسا معاً على الأريكة الواسعة ورأسه تتوسد صدرها..
خيم عليهما صمتاً شجياً قطعه مازن بقوله:
ـ تعرفي أنا نفسي في بنت..
ابتسمت دنيا برقة وأناملها تداعب وجهه وهي تكرر:
ـ بنت!..
أكمل كلماته وهو يعدل جلساته فيريح رأسه على ركبتيها ويرفع باقي جسده على الأريكة:
ـ ايوه.. بنوتة.. أنا بحب نادية بنت يزيد قوي..
رفع عينيه لها وأكمل:
ـ بس علميها الحنية يا دنيا.. عايزها تبقى حنينة على الناس اللي بيحبوها..
صمت للحظات ولم تقاطعه دنيا ليكمل بعدها:
ـ أصعب حاجة أن القسوة تيجي من الناس اللي بنحبهم.. بتبقى مش عارف تتوجع من قسوتهم ولا من القلب اللي عاجز عن كراهيتهم..
همست دنيا بألم وقد بدأت دموعها تتساقط صدى للوجع الذي تستشعره بداخله:
ـ مازن..
ولكنه أكمل وكأنه لم يسمعها:
ـ بتبقى كرامتك بتصرخ فيك تاخد موقف.. وكبريائك بتدبحك.. وقلبك بيتنفض مجروح, لكن مش قادر يقسى..
شهقت دنيا بدموعها فرفع مازن رأسه متسائلاً:
ـ بتعيطي ليه يا دنيا؟..
منعتها دموعها من الرد عليه فاعتدل في جلسته ليمسح دموعها بأنامله ويكرر همسه:
ـ بتعيطي ليه يا دنيا.. أنا..
همست من وسط شهقات دموعها:
ـ أنت تعبان يا مازن وأنا مش فاهمة ليه.. ومش عارفة أعمل ايه!!
ضمها لصدره بقوة وهو يدفن ألمه داخل طيات شعرها ويتمسك بها بقوة:
ـ مش بقولك أنك مكافأة الدنيا ليا..
تمسكت به بقوة وهي تحاول التحكم في دموعها:
ـ قولي بس أريحك ازاي..
ابتسم لها محاولاً إلهائها عن ألمه وهو يخبرها بعبث حزين:
ـ مازن عايز عسل..
ضحكت وسط دموعها وهي تتحرك لتضم رأسه لصدرها بقوة وهي تهمس:
ـ مازن يستحق الحب كله..
لم يغرق مازن بالعسل, ولم تتركه دنيا يغرق في رثائه لنفسه أيضاً.. بل منحته كل ما يستحق من حب.. وكل ما تملكه من مشاعر.. لم تقدم له ذراعيها ليسقط بينهما.. ولا أحضانها لينسى ألمه.. ولكنها جعلته يدرك كيف تقدم امرأة حبها من خلال قلبها ومشاعرها وليس جسدها فقط..
***********
دلف مازن إلى غرفته بهدوء بارد ليلمح نيرة المتكومة على مقعد عريض بالغرفة.. بدا أنها سقطت نائمة وهي بانتظار عودته.. أغمض عينيه قليلاً وهو يشعر بالإمتنان لوجود دنيا في حياته.. فلولا حوارهما الطويل الليلة.. وقدرتها الفائقة على امتصاص شحنة الغضب بداخله.. كلا.. ليس الغضب فقط.. بل الحزن والقهر وكسرة القلب.. لولا حبها الذي قدمته بلا شروط.. بلا مقابل, لكان قام بقتل نيرة كما قتلت ابنه بدم بارد.. ولكنه الآن قادر على مواجهتها بدون أن تشعر بما يعتمل داخله من حزن.. من انكسار وخزي لأنه أحبها يوماً.. ويبدو أن لعنته مستمرة فهو عاجز عن التخلص من تلك المشاعر الصاخبة, فقط تحولت من عشق جارف إلى كراهية مريرة.. كم يحلم باللحظة التي يتحرر بها من قيد تلك المشاعر.. قد يدفع عمره كله ليصل بقلبه إلى نقطة الحياد..
يا الهي.. كم تبدو اللامبالاة حلماً ثميناً في عيون رجل غلبته مشاعره على أمره.. وقهرت رجولته وكبريائه..
زفر بألم وتحرك ليقف أمامها ويتأملها للحظات وقد بدا شحوب وجهها واضحاً والدموع قد تركت أثاراً واضحة على وجنتيها..
قلب شفتيه يتساءل بمرارة ساخرة عن سبب دموعها.. أهو انكشاف كذبتها؟.. أم زواج حسن وتفضيله امرأة أخرى للمرة الثانية؟..
هز رأسه بحزن وتوجه إلى خزانته ليخرج منها ما يحتاجه.. فهو لن يبقى معها في مكان واحد.. لن يسمح لرئتيه أن يتنشقا نفس الهواء الذي تتنفسه..
حركته المستمرة أيقظت نيرة ففتحت عينيها ببطء لتراه يتحرك في جميع أرجاء الغرفة, وما هي إلا ثوانٍ حتى اكتشفت أنه يجمع أشيائه في حقيبة كبيرة...
انتفضت بقوة فوق مقعدها وهي تتحرك متوجهة نحوه:
ـ مازن.. مازن.. أنت بتعمل ايه؟..
التفت إليها يرمقها بنظرة بلا معنى.. ثم أكمل جمع أشيائه.. فهتفت بجزع:
ـ ماااازن..
واقتربت منه لتتمسك بذراعه:
ـ مازن.. رد عليّ..
توقف عن الحركة وأبعدها عنه ليكتف ذراعيه ويجيبها ببرود:
ـ افندم..
ترقرقت الدموع بعينيها وهمست بحزن:
ـ ليه.. ليه بتكلمني كده؟..
هز رأسه بعجز:
ـ ليه؟!.. أبداً.. ما فيش أي حاجة..
هتفت بتساؤل متعجب:
ـ أنت بتعمل ايه؟.. واخد هدومك على فين؟...
أجابها بهدوء بارد:
ـ مع أنه شيء ما يهمكيش في حاجة.. بس هقولك.. أنا هرجع أوضتي القديمة..
وأشار إلى أرجاء غرفتهما بإزدراء:
ـ وجودي في المكان ده بيخنقني!
همست:
ـ وجودك معايا بيخنقك!.. ازاي؟.. فين كلامك عن حبك ليا..
التفت لها بغضب وهو يجذبها من ذراعها بعنف:
ـ حبي!.. بتكلميني عن الحب.. وأنتِ حتى ما اقدرتيش تحبي ابنك اللي من دمك!
مدت يديها لتتمسك بذراعيه وهي تهمس له بتوسل:
ـ لا.. لا.. مازن أنت فاهم غلط..
دفعها بقوة وهو يقاطع كلماتها:
ـ مش عايز أفهم ولا أسمع منك حاجة..
عادت تتمسك بذراعه وهي تخبره:
ـ أنا وقعت على السلم.. اللي حصل كان مجرد حادثة.. قضاء وقدر..
أطلق ضحكة ساخرة:
ـ والمفروض بقى أني أصدق..
أشاح بيده بمرارة قائلاً:
ـ خلاص يا مدام.. أنا كبرت وما بقيتش أصدق القصص الخيالية..
هتفت بثقة واهية:
ـ صدقني يا مازن.. أنت ممكن تشوف تقرير الإسعاف..
صرخ بها:
ـ كداااااابة..
ثم وضع وجهه بين كفيه وهو يحاول استعادة هدوئه.. فهو لن يمنحها أي من مشاعره حتى ولو كان الغضب.. حاول السيطرة على انفعلاته.. وابتعد عنها ليكمل جمع أشيائه.. وقد تحولت ملامحه لقناع ثلجي متجمد..
أخذت تراقبه بقلق وبدأ شعور قارص بالخوف يهاجمها.. فهو لم يصدقها, بل لم يمنحها الفرصة للدفاع عن نفسها.. والأدهى أنه سيتركها.. سيهجر فراشهما وستفقد كل سبل التأثير عليه..
اقتربت منه وهي تحاول محايلته والتغلب على حاجز البرود الذي يرفعه أمامها:
ـ مازن.. احنا الاتنين أعصابنا تعبانة..
التفت لها ورمقها بنظرة مزدرية وهو يهز رأسه بعجب.. بينما أكملت هي تحاول إحكام خطتها:
ـ ايه رأيك نسافر يومين نغير جو.. ولما أعصابك تهدى هنتكلم وأشرح لك كل حاجة..
رمى قطعة الثياب التي كان يحملها بيده في الحقيبة والتفت لها مبتسماً بسخرية مريرة:
ـ تعب أعصاب!.. أنتِ شايفة أن المشكلة كلها تعب أعصاب!!
اقتربت منه بسرعة لتتمسك بكتفيه.. وكلماتها تخرج بسرعة:
ـ مازن.. أنا عايزة نحاول نبدأ من جديد.. و..
قاطع كلماتها محاولاً ابعادها عنه إلا أنها تمسكت به ورفعت كفيها لتحيط بهما وجهه وهي تكمل كلماتها السريعة:
ـ أنا هتغير.. هتغير يا مازن.. أنا مش ممكن هخسرك..
أبعد كفيها عن وجهه وهو يردد:
ـ تخسريني!..
وتحرك مبتعداً عنها وهو يهتف:
ـ المسألة كلها بالنسبة لك مكسب وخسارة.. حسبة باردة بدون مشاعر.. المهم أن نيرة هي اللي تنتصر..
هتفت بقوة:
ـ لا يا مازن.. صدقني.. الموضوع مش كده.. أنا لسه عايزاك..
رد عليها ببرود وهو يعود لوقفته المتحفزة ويكتف ذراعيه على صدره:
ـ وأنا ما عدتش يهمني!..
هزت رأسها بعدم تصديق وهي تحاول استيعاب كلماته:
ـ يعني ايه يا مازن؟!
أجابها ببرود:
ـ يعني أنا عايز.. محتاج.. زوجة حقيقية.. زوجة تكون إنسانة عندها قلب ومشاعر قبل ما تكون مجرد...
وأشار إلى مفاتنها بازدراء, فهتفت بإتهام غاضب:
ـ أنت تعرف واحدة تانية فعلاً؟
ابتسم بسخرية.. وسرعان ما تحولت الابتسامة إلى ضحكة, ثم إلى قهقهات عالية وهو يصفق لها ساخراً:
ـ برافو..
قطبت حاجبيها بغضب وهي تهتف به:
ـ بتضحك.. أنت جاي تتهمني بقايمة اتهامات طويلة علشان تغطي على خيانتك ليا.. وكمان بتضحك؟!..
احتفظ مازن ببسمة ساخرة على شفتيه وهو يعاود التصفيق لها هاتفاً:
ـ أنتِ مش معقولة.. بجد.. مش معقولة..
ثم جذبها من ذراعها فجأة فارتطمت بصدره بعنف ومد يده ليمسك ذقنها ويقرب وجهه منها هاتفاً بقسوة:
ـ أنتِ مصدقة نفسك؟!.. ولو مصدقاها.. تعتقدي أني ممكن أصدقك.. أو أصدق حلمك الخيالي ببداية جديدة؟.. بداية لمين؟ ومع مين؟.. معاكِ!.. أنتِ؟!.. مع واحدة قتلت ابني بمنتهى القسوة والتجبر.. وجاية تدور على بداية!.. البداية أنتِ قتلتيها.. زي ما قتلتِ أي مشاعر كانت جوايا..
هزت رأسها بشدة فتناثرت خصلاتها:
ـ لا.. لا.. أنت بتقول الكلام ده لأنك زعلان وغضبان.. أنت بتحبني.. أنا متأكدة.. أنت مش ممكن تحب غيري.. أنت..
أبعدها عنه محاولاً السيطرة على غضبه ثم أخبرها بأقصى ما استطاعه من هدوء:
ـ أنا فــحياتي واحدة تانية فعلاً.. أنا متجوز..
صرخت بغضب:
ـ أنت بتعاقبني.. بتعاقبني على جريمة اخترعتها في خيالك..
مط شفتيه بسخرية:
ـ خيالي!.. ما فيش فايدة فيكي.. ما فيش فايدة.. حتى ما فكرتيش تعتذري..
اقتربت منه تحاول لمس وجنته وهي تخبره بهيسترية:
ـ مازن.. بص.. أنا غلطت.. وأنت عاقبتني واتجوزت.. خلاص خالصين.. طلق اللي أنت اتجوزتها دي.. وأنا هسامحك.. وهعتبرها نزوة وعدت.. و..
صرخ بها وقد عجز عن السيطرة على غضبه:
ـ نزوة!.. وهتسامحيني؟!.. فوقي بقى.. فوقي يا مدام.. أنا ودنيا متجوزين من أكتر من خمس سنين..
رمشت بجفونها عدة مرات.. وبدا أنها تعاني في استيعاب ما قاله:
ـ خمس سنين.. خمس سنين ايه؟!.. أنت بتقول ايه؟!
وابتعدت عنه وهي تشير له بعد تصديق:
ـ محاولة فاشلة يا مازن.. أنا مش ممكن أصدق الكلام ده..
هز كتفيه بعدم اهتمام:
ـ أنتِ حرة.. صدقي.. ما تصدقيش.. شيء يرجع لك..
وضعت يدها على جبهتها تدعكها بقوة وكأنها تحاول تنقية أفكارها:
ـ يعني.. يعني أنا الزوجة التانية.. وأنا... احنا.. أنت.. تلات سنين عايشهم معايا وأنت في واحدة تانية فحياتك.. ازاي؟.. ازاي قدرت تخدعني الفترة دي كلها؟..
أجابها بسخرية:
ـ ازاي قدرت أخدعك!!.. تفتكري ده السؤال؟!.. لا يا مدام.. السؤال هو ازاي زوجة ما قدرتش تحس بوجود واحدة تانية في حياة جوزها لمدة تلات سنين وأكتر؟.. عارفة ليه؟..
أطلق ضحكة مريرة قبل أن يخبرها:
ـ لأنها ببساطة مش حاسة به كزوج.. ولا هي اتعاملت معاه كزوجة..
صمت للحظة يتأمل أثر كلماته عليها.. ولكنه وجد أن ملامحها تحمل معالم عدم الاستيعاب.. وعدم التصديق.. فأكمل ما يريد قوله:
ـ خبر جوازي بدنيا هيكون منشور في كل الجرايد والمجلات بكره.. أنا طلبت من قسم العلاقات العامة عندنا في المجموعة يوزعوا بيان يأكد الخبر.. دنيا لها اسمها ومركزها ومش هسمح لأي شخص أنه يمسها..
رفعت عينيها له وقد تجمدت دموعها:
ـ دنيا!.. دنيا الموجي.. مصممة الأزياء؟..
أومأ برأسه موافقاً وهو يكمل كلماته:
ـ البيان مع السكرتيرة بتاعتك.. يا ريت تتابعي الموضوع بنفسك.. وأنا مستعد أرد على أي استفسار.. ولو احتاج الموضوع مؤتمر صحفي ما فيش مشاكل.. نحدد ميعاد ونعمل واحد..
صرخت به بعنف:
ـ أنت جبت القسوة دي كلها منين؟!..
ضحك ضحكة ساخرة:
ـ من أستاذة في القسوة..
حمل حقيبته خارجاً من غرفتها.. لعله يوماً يستطيع الخروج من حياتها بأكملها.. عالفصل الثامن والعشرون
ـ I love you Hassan...
فاجأته.. بل صدمته.. فقد أدخلت قلبها في المعادلة.. وهذا ما لم يضعه في حسبانه..
التفت لها بحدة وقد ظهرت بعينيه نظرات غاضبة.. لا يريدها أن تحبه, بل لا يريد أن يسمع كلمة حب من الأساس.. أنه لم يتزوجها من أجل الحب وهمسات القلب, بل ليقتل ذلك القلب.. يدفنه كما دُفِنت حبيبته..
سحب سيجارة أخرى ونفث دخانها ببطء وأخذ يتأمل لورا قليلاً.. ثم همس ببرود:
" you are really pretty!"
كانت جميلة بالفعل وكأنها أخذت خلاصة الفتنة الإنجليزية والعربية.. فخصلاتها شقراء فاتحة تكاد تكون بلاتينية.. بشرة ناعمة برونزية لامعة وليست شاحبة كعادة الانجليز.. عيون رمادية خضراء كعيون القطط..
كانت لورا ستيفنز قطعة فنية راقية.. وهو ما صرح به للتو.. فهو لم يتخيلها بهذا الجمال.. بل لم يكن يرها من الأساس!
من يصدق أنه قضى ثلاث ليال بين أحضان امرأة أدرك لتوه لون عينيها!..
ارتسمت بسمة ساخرة على شفتيه دفعت لورا لسؤاله عما يضحكه.. فعاد يتأملها لثوانٍ قبل أن يسألها:
ـ أنتِ لم تخبريني بقصتك بعد.. أعني أنه من الواضح أنه كان بحياتك رجل ما..
كتفت ذراعيها وهي تتأمله بدورها تحاول معرفة سبب تغييره للموضوع وتجنبه تماماً الحديث عن تصريحها بالحب.. فأجابته وهي تهز كتفيها:
ـ هل هو الفضول أم هي مجرد أفكار شرقية عتيقة!
حرك يديه أمام وجهه وكأنه يدفع تهمة ما:
ـ أنا لا أحكم عليكِ..
قاطعته ببرود:
ـ وليس من حقك الحكم علي..
أغضبه برودها.. فكرر سؤاله مرة أخرى:
ـ أعتقد أنه من حقي أن أعلم إذا ما كان هناك زوج خفي في ماضيكِ!
ابتسمت بمرارة:
ـ تريد أن تسمع قصة وجعي.. أم تريد الهروب من وجعك أنت؟
هز رأسه بمرارة وهو ينهي سيجارته ليبدأ واحدة جديدة وغمغم بصوت خافت:
"هروب!.. نعم.. هروب"..
ورفع صوته وعينيه إليها ليعاود السؤال بهدوء.. فتحركت ببطء لتجلس بجواره على الفراش.. وتسند ظهرها إلى إحدى الوسائد.. وتغمض عينيها لتقص عليه حكايتها:
ـ كان والديّ مدمنا مغامرات مجنونة.. تسلق جبال.. رحلات سفاري.. زيارات مختلفة لغابات أفريقية.. كان يستهلكان كل ذرة سعادة يستطيعا الحصول عليها.. حتى.. كانت مغامراتهما الأخيرة.. قفزا معاً من إحدى الطائرات..
مطت شفتيها بأسى قبل أن تحاول ابتلاع ريقها وتهمس بخفوت:
ـ لم تفتح المظلة.. ولم يضع أي منهما المظلة الإضافية..
همس بتأثر لم يستشعره بالفعل.. فهذان الأخرقان اختارا الموت.. فكيف يحزن على موتهما:
ـ آسف..
سقطت دمعة وحيدة على وجنتها مسحتها بسرعة.. قبل أن تكمل وهي ترسم بسمة خفيفة على شفتيها:
ـ لا داعي لذلك.. أنا لم أفتقدهما كوالدين.. فقط افتقدت هالة المرح والإعجاب حولهما.. ولكني دائماً كنت حبة قلب جداي.. كان يكفي فقط أن أتمنى شيئاً لأجده بين يدي في التو..
التفتت له لتبتسم برقة وهي تمد يدها تداعب وجهه لتكمل بعدها:
ـ هذا لا يعني أنني كنت فاسدة.. فقط..
أكمل لها وهو يبتعد بوجهه:
ـ مدللة..
أومأت موافقة.. ثم بدا أنها تجد صعوبة في اكمال قصتها.. فقد انقبضت ملامحها الجميلة بألم وهي تكمل:
ـ جيرارد, ذلك كان اسمه..
ابتلعت ريقها بصعوبة:
ـ كانت علاقتي بجداي رائعة.. حتى.. حتى التقيت به.. كنت في السابعة عشر فقط وكان هو مبهراً.. آخاذاً.. سلب قلبي من أول لحظة.. فتنت به.. ولم أرى غيره.. ولم أعد أقتنع إلا بكلماته..
صمتت قليلاً لترى رد فعله على كلماتها العاشقة لغيره.. ولكن ملامحه بقيت كما هي.. ثابتة كقناع بلاستيكي وسط سحابة من دخان السجائر.. فهزت كتفيها لتخبره بتردد وهي ترفع عينيها إليه:
ـ كان أول رجل في حياتي.. والوحيد.. حتى جئت أنت!
قطب حاجبيه بتساؤل:
ـ ما الذي يعنيه هذا؟.
أجابته بخفوت:
ـ يعني أنني لا أقوم بعلاقات كيفما اتفق.. أنا فقط ارتبط بمن أحب حقاً..
رفع رأسه بعنف وهو يستمع إلى تلميحها بالحب.. كلا.. يجب أن تتوقف عن حشر كلمة حب كلما تحدثا معاً... فما يجري بينه وبينها ليس حباً وبالكاد يطلق عليه زواجاً.. وهو ما يجب أن تفهمه تماماً..
نهض من الفراش وهو يشير إليه ببرود:
"That”s not love... we just slept together"
نظرت إليه بألم.. ونهضت بدورها لتواجهه هامسة وهي تلف ذراعيها حول عنقه:
" No Hassan, I just made love to you"
أبعد ذراعيها عن عنقه ليبتعد عنها إلى آخر الغرفة هاتفاً بقسوة:
" Stop it ...stop saying that.. don”t"...
قاطعته بقوة:
" No, I”ll say it and repeat it.. hopping.. you listen one day"..
مسح وجهه بكفيه بإجهاد وهو يردد:
ـ لماذا ترغبين في تعذيب نفسك وتحميلي المزيد من الذنب؟.. ألا يكفي ما أشعر به؟..
اقتربت منه لتحيطه بذراعيها برقة:
ـ لا يجب أن تشعر بالذنب.. منى لن يسعدها شعورك ذاك..
دفعها بعيداً وهو يهتف بغضب:
ـ منى ماتت.. كيف يمكن أن تسعد أو تحزن؟.. الأموات لا يشعرون.. فقط يبتعدون.. يقررون الهجر والفراق.
هتفت بذهول:
" you are blaming her!!!!"
ارتج جسده بقوة وكأنها رمته برصاصة.. وكلماتها تتردد في ذهنه مرة أخرى.. هل يلوم منى على موتها؟.. أم غطاء اتخذه عقله الباطن ليبرر لنفسه ارتباطه بلورا؟.. أو مجرد وسيلة هروب سهلة ليتمكن من النجاة من فجوة سوداء هائلة تمتص نبضاته..
أراد الهروب من أفكاره.. كلماته.. مشاعر لورا.. لا يريد مزيداً من النقاش حول منى.. حول الحب والعشق..
غير الموضوع هرباً من الاجابة:
ـ لم تخبريني ماذا حدث مع زوجك؟..
تساءلت بدهشة:
ـ زوجي!!
ـ نعم.. الرجل الذي أحببته..
ضحكت بسخرية تعجب لها:
ـ نعم.. الرجل الذي أحببته.. من خسرت بسببه احترام جداي.. من تركت بلدي وجريت خلفه لاهثة إلى باريس.. لأكتشف في ليلة سوداء.. أنه زوج.. وأب لطفلين..
ضحكة مريرة أخرى صدرت منها وحبست دموعها ببسالة:
ـ ولا داعي لذكر مجموعة منتقاة من الصديقات..
أومأ برأسه بتفهم وهو يسألها بواقعية:
ـ وبالطبع عجزتِ عن العودة لجديك.. واستقريتِ هنا..
ـ نعم.. وبعد مجهود كبير.. استطعت الحصول على غفران جدي قبل وفاته..
ـ جيد..
اقتربت منه ببطء وهي تقول بتردد:
ـ حسن.. يجب أن تعلم أن جيرارد انتهى من حياتي منذ سنوات طويلة..
قاطعها:
ـ منذ أن عرفتِ بوجود زوجته؟..
رفعت عينيها إليه وقد تجمدت الدموع بعيونها وهي تسأله:
ـ لا يمكنك أن ترى الأمور إلا بالأبيض أو الأسود!.. هل تعتقد أن المشاعر تختفي بضغطة زر؟..
تكلم بإقرار وغضب مكتوم:
ـ بقيتِ معه رغم علمك بزواجه..
هتفت بشراسة:
ـ لقد أخبرتني أنك لن تحكم علي!..
تجاهلها متسائلاً:
ـ كم استمرت علاقتك معه؟..
برقت عينيها القططية بشراسة وهي تسأل بدورها:
ـ هل ستسمح بتبادل الأدوار؟..
ضيق عينيه بحيرة.. فأكملت لتوضح له:
ـ أن أقوم باستجواب مماثل؟..
أشاح بيده:
ـ أنتِ تعلمين كل شيء عني بالفعل..
كتفت ذراعيها وهي تجاوبه بتحد:
ـ ما أعرفه عنك كان على لسان منى..
صمتت عندما برقت عيناه غضباً.. فتنهدت بإجهاد وتهالكت على الفراش لتسأله بواقعية:
ـ حسن.. هل تنوي الاستمرار في زواجنا؟...
سؤال يحتاج لاجابة.. اجابة هو لا يملكها.. على الأقل في الوقت الحالي..
*********
عدلت نيرة مرآة السيارة لتتأكد من مظهرها قبل أن تتوجه إلى الأتيليه الخاص بدنيا.. لتبدأ أولى معاركها مع من فتنت زوجها.. وتزوجته.. وسرقته منها منذ سنوات..
داعبت خصلاتها الحمراء الثائرة والتي تناثرت بفتنة لتغطي صدرها وذراعيها وظهرها أيضاً المكشوفين تماماً.. رفعت صدر ثوبها الأحمر الناري ليغطي مقدمة صدرها قليلاً.. ويظهر بعض من بشرتها الوردية اللامعة بين خصلاتها.. وعندما ترجلت من سيارتها جحظت عيون من حولها ونظراتهم تجري على ساقيها الطويلتين لتصل لنهاية ثوبها الذي ارتفع فوق ركبتيها بعدة إنشات..
ابتسمت بثقة وهي تستشعر اعجاب الرجال بها في كل خطوة تخطوها بدلال بالغ أبرزه كعب حذائها العالي..
تعلم أن مازن سيقتلها لو رآها بذلك الثوب.. ولكنها في تلك اللحظة لا تهتم.. فهو دمرها بالفعل الليلة الماضية.. وارتدائها لذلك الثوب لهو أقل انتقام تستطيعه, كما أنها ستذهب لمواجهة إحدى أيقونات الأناقة والموضة في العالم العربي.. وارتدائها لمثل ذلك الثوب الصاعق يزيد من ثقتها بنفسها.. تلك الثقة الواهية التي بعثرها حسن ثم جاء مازن ليجمعها مرة أخرى ولكن ليلقي بها في أقرب سلة مهملات وهو يخبرها بمنتهى البرود أنه متزوج من قبل حتى أن يتزوجها أو يرتبط بها..
وبين تدافع أفكارها وجدت نفسها أمام مكتب مساعدة دنيا التي رحبت بها.. وأبلغت دنيا بوصولها مما أثار تعجبها.. هل كانت تتوقعها؟..
دلفت إلى مكتب دنيا الفخم وتحركت الأخيرة لاستقبالها عند الباب مما سمح لها بتأملها جيداً... جميلة.. بل فاتنة.. تمتلك جمال شرس.. لا شك أنه يثير اعجاب العديد من الرجال.. وأولهم مازن, بشعرها الأسود الطويل والذي تصففه اليوم بجديلة فرنسية معقدة ورغم هذا يصل طولها لنهاية خصرها الذي التف بزنار فضي يجمع ثوبها الوردي اللون والذي تلتف تنورته حول ركبتيها..
كانت خامته رقيقة مما سمح بإظهار تناسق قدها الممشوق مع المحافظة على أناقتها ووقارها.. وذلك أغضب نيرة بشدة.. فدنيا ببساطتها وأناقتها تمثل ما يعجب مازن.. ما يريده ويستحقه رجلاً مثله..
أغضبها تفكيرها بشدة وهزت رأسها بعنف لتقذف منها تلك الأفكار فتناثرت خصلاتها حولها وظهر عُري ثوبها بوضوح, فزمت دنيا شفتيها بعدم رضا وهي تدعوها للجلوس على إحدى الأرائك.. ولكن نيرة هزت رأسها رفضاً وكتفت ذراعيها ووقفت بتحدي وهي تخاطب دنيا بترفع:
ـ أكيد دي مش زيارة ودية..
وأشارت بيدها بطريقة مسرحية مترفعة:
ـ وواضح أنك كنتِ منتظرها..
ابتسمت دنيا ببرود:
ـ أكيد.. الخبر النهارده في كل الجرايد..
وصمتت لحظة لتردف وقد اتسعت ابتسامتها باستفزاز:
ـ أنا لازم أشكرك.. مازن قالي أنك أشرفتِ بنفسك على توزيع البيان على الجرايد..
هتفت نيرة بحنق وقد أغاظها برود دنيا:
ـ يا بجاحتك.. ايه مش مكسوفة من نفسك؟..
قطبت دنيا بتساؤل:
ـ اتكسف!.. اتكسف من ايه؟.. أنا لا عملت حاجة عيب ولا حرام؟..
صرخت بها نيرة:
ـ أنتِ سافلة..
تقدمت دنيا خطوتين وهي تشير لها بسبابتها محذرة:
ـ يا ريت تتعاملي بأدب.. وتحتفظي بتحضرك..
ثم أضافت وهي تلوي شفتيها باستهزاء:
ـ ده لو كنتِ تعرفي يعني ايه تحضر!
هتفت بها نيرة:
ـ تحضر!.. خطفتِ جوزي وجاية تكلميني عن التحضر!!
أجابتها دنيا ببرود سيدة أعمال تدير جلسة مفاوضات غير مرغوبة:
ـ بيتهيألي مازن وضح لك أني الزوجة الأولى..
ـ ولما أنتِ الأولى وافقتِ تكوني في الضل ليه؟..
رفعت دنيا حاجبها وهي تحاول التمسك بواجهة البرود:
ـ أسبابي ما تخصكيش..
ـ لا.. خلاص.. ما عادش ينفع تقوليلي يخصك ويخصني.. دلوقتِ مصيرنا مرتبط ببعضه..
أجابتها دنيا بعجب:
ـ ايه الكلام العجيب ده.. مصيرنا ازاي مرتبط ببعضه.. أنا مصيري بإيد ربنا سبحانه وتعالى وبعدها قرارتي في إيدي.. وطبعاً بالتفاهم مع مازن.. أنتِ ليه متخيلة أنه ممكن يجبر أي واحدة على وضع مش مقبول..
هزأت نيرة منها:
ـ طبعاً.. أنتِ بقى فهماه كويس وعاملة لي فيها الصدر الحنين..
هتفت دنيا بغضب وقد بدأ برودها في التبخر:
ـ مدام نيرة.. افتكري أني قلت لك احتفظي بتحضرك..
صرخت نيرة:
ـ أنتِ جايبة البرود ده منين!.. ولا أنتِ ساذجة ومش متخيلة وضعنا الجديد..
أشارت دنيا بسبابتها محذرة:
ـ ما تعليش صوتك هنا.. وأنا مش ساذجة أبداً.. الوضع ده مستمر بقى له سنين.. أنا أقلمت نفسي معاه.. حاولي أنتِ كمان تتأقلمي.. على الأقل عشان خاطر مازن..
ضحكت نيرة ضحكة مريرة:
ـ وأنتِ طبعاً بتعملي كل حاجة عشان خاطر مازن..
ثم سألت بصرامة خافتة:
ـ بتحبيه؟..
ارتسمت على ملامح دنيا رقة عذبة وهي تجيبها معترفة:
ـ جداً..
العشق الخالص الذي استشعرته نيرة من تلك الكلمة البسيطة التي ألقتها دنيا بنبرة حالمة أشعلت الدماء في عروق نيرة لتهتف بغيظ:
ـ جداً!!.. شغلتيه ولعبتي بيه, عميتي عيونه عني وعن..
قاطعتها دنيا بغضب:
ـ عميت عيونه!!.. بيتهيألي أنتِ عارفة كويس من اللي عيونه معمية..
حاولت نيرة مقاطعتها فمنعتها دنيا هاتفة بحسم:
ـ اسمعيني كويس.. أنا ساكتة على إهاناتك وتطاولاتك لأني مقدرة الصدمة اللي بتمري بيها.. لكن مش هسمح لك تستخدميني كشماعة تعلقي عليها مشاكلك مع مازن.. أنا موجودة في حياته من قبلك.. حقيقة وواقع تقبليهم.. زي بالظبط ما أنا تقبلت احتياجه لوجودك في حياته.. احتياج أنتِ حولتيه للعنة عليكِ وعليه بدل ما تعملي منه قصة حب جميلة.. وجاية تكلميني على عمى البصر..
بهتت نيرة لهجوم دنيا الغير متوقع واشتعلت مراجل غضبها وهي تدرك قوة علاقة دنيا بمازن.. مدى تفهمها له.. وتقديرها لمشاعره..
هتفت بشراسة وهي ترغب في جرح دنيا.. رغبة أعمتها عن كل شيء:
ـ بللا بللا بللا.. أنتِ فاكرة أن كلامك ده هيقلقني.. أو حتى تهديدك بأنك في حياته.. و... وشوية الكلام الفارغ ده.. أنتِ كل اللي يهمك أنك تحتفظي به.. عشان خاطر مزاجك.. شاب وغني ووسيم.. وأصغر منك.. يعني بصراحة كده.. هتلاقي زيه منين يوافق أنه يرتبط بواحدة في سنك!.. واحدة خلاص السنين اللي باقية لأنوثتها تتعد على صوابع الأيد الواحدة..
رمشة جفن وعضلة بسيطة تحركت في جانب وجه دنيا كانا الدليل الوحيد على تأثرها الشديد بهجوم نيرة.. لكنها تمالكت نفسها وتحركت بهدوء نحو الباب لتفتحه وتشير لنيرة:
ـ اتفضلي يا مدام نيرة.. الوقت اللي حددته لزيارتك انتهى وأنا ورايا شغل كتير..
رمقتها نيرة بغضب وتحركت بهدوء لتخرج من الغرفة وهي تحاول الحفاظ على رأسها مرفوع.. لتتوقف أمامها لثوانٍ هامسة:
ـ الشركة الثلاثية دي مش هتستمر كتير.. وأنا مش هنسحب ولا ناوية أتهزم بسهولة..
وخرجت مسرعة بينما أغلقت دنيا الباب وهي تطلب من مساعدتها إلغاء كافة مواعيدها.. فهي أمامها نهار طويل من العمل والبكاء.. فلقد أصابتها جملة نيرة بمقتل..
لكنها لم تعرف أن أعماق نيرة كانت في حالة فوضى.. لم تستطع تحديد مشاعرها أو ما يجب أن تشعر به بالتحديد.. فلقد كان سبب زيارتها الأساسي لدنيا هو اظهار قوتها وتماسكها بعدما صدمها مازن بخبر زواجه.. أرادت أن تظهر لدنيا أن ذلك الزواج ما هو إلا نزوة حمقاء لمازن وهي كأي زوجة عاقلة ستتقبل جموح زوجها لفترة ثم ستعيده إلى بيته وعش زواجهما.. ولكن ما حدث هو العكس تماماً.. لقد شعرت بأنها هي الدخيلة.. بأنها هي النزوة العابرة التي تتحملها دنيا في مقابل اسعاد مازن.. لم تدري لم أغضبتها قوة مشاعر دنيا نحو مازن أكثر من فكرة أنها ستشاركها به بالفعل.. هل تغار من قدرة دنيا على احتواء مازن؟.. هل تغار من حب دنيا له رغم رغبتها العميقة بتصديق أن مشاعره لها هي وحدها, حتى لو أنكر ذلك وحاربه..
فوضى مهلكة ذلك ما تشعر به... هل أحبت مازن.. أم أحبت حبه لها؟..
هل تريد استعادته كرجل وزوج أم فقط تريد الانتصار في معركة افتعلتها مع دنيا؟.. من خلال حوارها معها أدركت أن مازن لم يخبرها بأمر الاجهاض.. فهل كان ذلك حفاظاً على خصوصية علاقته بها؟.. إذاً فهو لا يريد تشويه صورتها أمام غريمتها.. هل ما زال يحبها ولو قليلاً؟..
هاجمها هاجس خفي أرعبها, بأن مازن أخفى الأمر عن دنيا حفاظاً على مشاعرها, فهي لم تنجب منه.. كما أن سنواتها تجري وقد لا تتتمكن من الانجاب بسهولة..
بقدر ما أغضبها ذلك الهاجس بقدر ما جعل ذهنها يبرق بفكرة جهنمية.. الحمل.. ذلك هو الحل.. يجب أن تعوض مازن عن الحمل الضائع..
وحينها ستتمكن استعادته, بل وطرد دنيا من حياته...
*********
اضجع يزيد براحة على الأريكة الوثيرة بغرفة المعيشة الفخمة بفيلا ريناد..
مدد ساقيه أمامه على المائدة الصغيرة المواجهة للأريكة وأخذ يقلب في قنوات التلفاز بملل وذهن غائب.. ليس غائباً بالتحديد.. بل هو هناك معها.. فهو حتى وإن هرب من مواجهتها لكنها تسيطر على عقله بسهولة.. لا يعلم إلى متى يمكنه تأجيل المواجهة.. فهو يراعي هشاشة نفسيتها أثناء الحمل.. ولذلك يحاول الانتظار حتى يهدأ غضبه ولو قليلاً.. لا يستطيع مواجهتها وأفكاره تتصارع بين قلق يكاد يبلغ حد المرض من فقدانها, وبين غضب شديد لاخفائها أمور عنه.. بداية من وظيفة حسن وانتهاء بجريمة نيرة المقززة..
كيف أمكنها مجاراتها فيما قامت به؟.. كيف؟.. يعلم أنها تعشق الأطفال.. ولن تسمح بقتل واحد.. كيف استطاعت مساعدة نيرة على التخلص من جنينها؟..
زفر بغيظ وهو يدرك أنه كان يجب عليه مواجهتها بدلاً من هروب جبان نحو ريناد والتي بالقطع لن تساعد في اخماد حيرته.. فهو لا يتبادل معها حوارات كــتلك..
لوى شفتيه ساخراً وهو يتذكر غيرة علياء من تواجده المستمر برفقة ريناد.. آه لو تعلم فقط ما تطلقه ريناد نفسها على وجودها في حياته.. فهي تسمي نفسها.."منسقة حفلات بدوام دائم.. زوجة لحين اشعار آخر"..
تباً.. لقد أفسد حياته بالفعل وحياة من حوله.. و...
وانتفض في جلسته إثر صرخة غاضبة من ريناد:
ـ يزيــــــــــــــد.. أنت اتجننت ترفع رجليك على الترابيزة كده..
ثم شهقت بصدمة مذهولة:
ـ كمان بتحط عليها كوباية العصير من غير طبق..
قطع يزيد جملتها الغاضبة بأن جذبها نحوه ليلفها بذراعيه هامساً بشقاوة:
ـ آسف يا أبلة الناظرة.. آخر مرة..
تملصت من بين ذراعيه وهي تخبره بغضب:
ـ ابعد يا يزيد.. أنت عارف أني متعصبة منك.. أولاً..
ورفعت يدها لتعدد على أصابعها:
ـ كان لازم تعرفني بوفاة منى مرات حسن.. على الأقل اعمل الواجب.. واروح لوالدتها.. ثانياً.. نيرة كانت في المستشفى وخرجت وحصلها اجهاض.. ده كله من غير ما تقولي.. ثالثاً.. ايه اللي شلفط وشك كده؟..
دعك جانب وجهه الذي يؤلمه نتيجة لكمة مازن له وتجاهل اخبارها عنها بينما
قطب حاجبيه بحيرة:
ـ تعملي الواجب مع والدة منى!!!.. ازاي؟!.. مش ده المكان اللوكال اللي مش بتطقيه؟..
هزت كتفيها بلامبالاة:
ـ أيوه.. بس عليا راحت.. عايز الناس تفتكر أنها هي صاحبة الذوق والواجب وأنا لآ.. ولا عايزهم يفكروا أنك طلقتني وهي بقيت مدامتك الوحيدة..
لوى شفتيه بامتعاض وهو يغمغم:
ـ لا.. بجد أفحمتيني.. أسباب وجيهة فعلاً..
ثم ابتعد عنها ناهضاً وهو يدرك أنها فقدت اهتمامها بالكدمة الزرقاء بوجهه عندما قررت التركيز على نفسها.. تنهد بتعب وهو يسألها بوقاحة:
ـ يا ترى الليلة مطلوب خدماتي.. ولا ممكن أروح أنام..
أجابته بغضب:
ـ ايه الطريقة اللي بتتكلم بيها دي.. من فضلك يا يزيد حسن أسلوبك شوية..
ثم جذبته من يده ليعاود الجلوس بجوارها وأمسكت كفه تداعب أنامله وهي تسأله:
ـ عليا وافقت أن خالتو تشوف الولاد؟..
نظر إليها بطرف عينه متسائلاً:
ـ طبعاً ماما اللي طلبت منك تسأليني؟..
ألقت برأسها على كتفه ثم مرغت وجنتها حتى استقرت على صدره وداعبته بإغواء وهي تردد:
ـ يا حبيبي.. دي حاجة ما تزعلش.. واحدة ونفسها تشوف أحفادها.. شيء طبيعي.. عليا اللي مكبرة الموضوع.. والحكاية اللي حصلت زمان مستحيل تتكرر.. يعني خالتو هتعمل ايه للولاد!!.. شيء عجيب والله..
اجابها بهدوء:
ـ ولادها وهي حرة.. وخلينا نقفل على الموضوع ده.. ممكن؟..
طوقته بذراعيها وهي تحرك شفتيها على عنقه وتهمس:
ـ ايه رأيك لو أخدت اجازة يومين وسافرنا في أي مكان نغير جو.. الدكتور بيقول ده هيساعد مع النظام الجديد..
غمغم بتردد:
ـ أيوه.. بس أسافر وأسيب علياء ازاي!.. دي حامل و..
ابتعدت ريناد عنه بعنف وهي تهتف:
ـ أيوه.. حامل.. للمرة الكام؟.. التالتة.. صح؟.. أظن ممكن تنساها يومين وتركز معايا.. لأني نفسي أعرف معنى كلمة حامل..
جذبها لتجلس بجواره ثانية ويطوقها بذراعه مربتاً على كتفيها:
ـ طيب ايه رأيك نعمل حقن مجهري؟..
هزت رأسها بغضب:
ـ لأ طبعاً.. قلت لك قبل كده كتير.. لأ.. طالما الدكتور قال أني سليمة.. وممكن الحمل يتم طبيعي.. عايز ليه نلجأ للحقن المجهري؟.. أنت عارف هيكون شكلي ازاي وسط اصحابي وهما عارفين أن الهانم بتحمل ولا الأرانب.. وأنا.. اضطر ألجأ لطرق صناعية!!
هز رأسه بحيرة:
ـ ريناد.. أنتِ عايزة طفل عشان محتاجة تكوني أم.. ولا عشان لازم تكوني أم؟..
ظهرت معالم الحزن على ملامحها وبدأت تعصر عينيها لتستدعي بضعة دمعات:
ـ يعني ايه؟.. أنت بتلعب بالكلام ليه؟.. عايز تتهرب من الموضوع صح؟.. حتى مش قادر تشاركني حاجة طبيعية وبسيطة زي دي؟..
وفجأة أجهشت بنوبة بكاء.. وهي تتمتم برغبتها في طفل ينمو بداخلها.. فلم يجد أمامه بداً من الموافقة على الإجازة الاجبارية..
*********
قررت نيرة وضع خطتها في حيز التنفيذ في أسرع وقت.. فابتاعت في طريقها للمنزل أكثر أثواب النوم إثارة.. واختارته باللون الوردي كما يحب..
وأغرقت جسدها.. وشعرها بعطره المفضل.. وأضافت لمسة أخيرة من طلاء شفاه بلون الكرز.. وتمددت في فراشه بإغراء مميت.. تنتظر عودته.. وتدعو بداخلها ألا تخبره دنيا بلقائهما العاصف صباح اليوم..
لم يطل انتظارها فسرعان ما دخل مازن إلى الغرفة ليفاجئ بالمشهد المغري الذي أعدته له.. وريقات الزهور منثورة على الفراش.. والشموع المعطرة موزعة في أرجاء الغرفة المظلمة جزئياً.. وموسيقى حالمة تذيب أشد القلوب قساوة.. ووسط كل ذلك.. الشعلات الحمراء متناثرة على وسادته.. ومعذبته ترتدي ثوب وردي شفاف.. يلتصق بجسدها كجلدٍ ثاني لها..
وقف يتأملها قليلاً ورغبته الطبيعية كرجل تتحرك نحوها.. ولكن بطريقة بدائية وغريزية مقززة.. سرعان ما عبر عنها عندما جذبها بشدة ليطبع على شفتيها قبلة عنيفة.. نهمة.. تعبر عن شهوة خالصة.. استشعرتها هي على الفور.. لتدفعه عنها قليلاً وهي تهمس:
ـ سامحني يا مازن.. أنا آسفة..
أسكت شفتيها بقبلة أخرى عنيفة.. جعلتها تبتعد على الفور وهي تسأله بغضب:
ـ في ايه؟.. ليه كده؟..
ضحك بسخرية وهو يردد كلماتها:
ـ ليه؟.. مش هو ده اللي أنتِ عايزاه؟.. ده اللي قررتِ تعمليه؟.. مشهد اغواء متكامل..
ثم لوى شفتيه باشمئزاز:
ـ مشهد رخيص.. رخيص بالظبط زي مفهومك للحب.. زي ما حولتِ مشاعر حلوة.. وأحاسيس رقيقة لشيء مبتذل ورخيص.. مجرد علاقة جنسية مثيرة.. تسيطري بها تاني على الزوج الأحمق.. صح؟..
جذبها من ذراعها بقوة وهو يهمس بغضب:
ـ طول السنين اللي فاتت وأنا بحاول أصحح مفهومك عن تبادل المشاعر وتبادل الحب.. بس الظاهر ما فيش فايدة.. برضوه عقلك صورلك أن حل مشكلتنا هو علاقة سريعة تهدي بيها غضبي وتقدري تسيطري علي بالجنس..
هز كتفيه بلامبالاة:
ـ خلاص.. أنتِ قررتِ أن منزلتك ما تتعداش مكانة المومس.. مين أنا عشان أعترض..
ثم أبعدها عنه قليلاً وهو يتأمل جسدها بنظرات اشتهاء وقحة قبل أن يأمرها بحسم:
ـ اقلعي هدومك..
شهقت بقوة وابتعدت عنه وهي تحمي جسدها بذراعيها.. وتهز رأسها يميناً ويساراً بقوة رافضة كلماته المهينة..
دفعها لتسقط على فراشه وهو يخبرها ببرود بينما يخلع ملابسه:
ـ أنا هدخل آخد شاور.. أخرج آلاقيكي قلعتِ ومنتظراني في السرير..
وسكت لوهلة قبل أن يقول ببرود قاتل:
ـ أو أخرج آلاقيكي بره الأوضة خالص وتكوني نضفتِ القرف ده..
قال ذلك وهو يشير إلى الورود والشموع المتناثرة.. وأردف بوقاحة:
ـ وبعد كده ما تدخليش أوضتي إلا لو أنا طلبت منك.. ده لو احتجت خدماتك..
تركها تنفجر في نوبة بكاء هيستيري ودخل إلى الحمام ليتأمل صورته المنعكسة في المرآة.. رأى ملامحه ولكن بنظرات ميتة.. بقلب بدأ يتحول لقطعة من الصخر الجليدي.. ولكنه رغم ذلك ينتفض بعذاب مُهِلك.. فبرغم أنه أهانها وجرحها وقسي عليها ولكن قلبه الصخري كما يظن يلومه ويعاتبه على قسوته وينتفض باكياً حزناً على محبوبته..
لكم صورته في المرآة بغضب وهو يهتف:
ـ لأمتى... العذاب ده لأمتى!..
***********
وهناك عبر البحار.. وفي بلدٍ آخر.. بل قارة أخرى.. قلب آخر يريد صاحبه ذبحه.. ودفنه.. والرقص فوق بقاياه كل ليلة بين أحضان الإثارة..
يتسلل من فراشها.. ويبحث وسط أشيائه عن هاتف محمول ينتمي لحبيبة غائبة بجسدها ولكنها تحيا في قلب يريد قتله.. فيعبث بأزاره قليلاً.. ثم يسمع صوت مميز لوصول رسالة في هاتفه
ويفتح الرسالة ليجد تحيتهما المعهودة..
"تصبح على خير.. لا اله الا الله"..
ويرد هو برسالته..
"استنيني يا ملاكي أنا هفضل أحلم بيكي ليل ونهار"..
وأردف برسالة أخرى
"محمد رسول الله"...
يتبع
🌹🌺🌹🌺🌹🌺🌹🌺🌹🌺🌹🌺🌹🌺🌹🌺🌹🌺