رواية لعنة الخطيئه الفصل 11/12/13/14/15 بقلم الكاتبه فاطمه أحمد حصريه وجديده على مدونة أفكارنا
رواية لعنة الخطيئه الفصل 11/12/13/14/15 بقلم الكاتبه فاطمه أحمد حصريه وجديده على مدونة أفكارنا
الفصل الحادي عشر : داخل الأسوار
( قبل بضعة أشهر.
إجتمع بعض التجار مع العمدة واِتفقوا على إستيراد كمية ضخمة من الفاكهة فاِستدعى هذا الأخير آدم وصفوان وأخبرهما بوجوب تعاونهما في إتمام هذه الصفقة بما أن بساتينهما تعدُّ من أفضل بساتين البلدة وأكثرها إنتاجا.
وفي ذلك اليوم ذهبت نيجار لبساتين الصاوي حتى تتأكد من شحن صناديق الفاكهة بشكل مثالي ووقفت على رأس العمال تراقبهم بوجوم وتُملي عليهم أوامرها بحجة أن مايقومون به خاطئ.
فنظر لها أحد العمال بضيق مجيبا :
- احنا متعودين نشتغل بالطريقة ديه.
كتفت يداها ببعضهما وأردفت :
- ده لما كنتو بتشتغلو لوحدكو انما دلوقتي احنا شركاء ومينفعش يحصل أي غلط منكو لأن كده اسمنا هيتضرر معاكو.
زفر مستغفرا وتابع عمله فشعرت نيجار بالإستفزاز وكادت تتكلم إلا أن صوته الصلب الذي جاء من خلفها أوقفها :
- ايه اللي بيحصل هنا.
اِستدارت له باِندفاع وبهتت فجأة عندما رأت الشخص نفسه الذي إلتقت به في أعلى التل منذ أسبوع ، وبحركة تلقائية أسدلت خصلات من شعرها على وجهها حتى لا يعرفها ثم تمتمت بشجن :
- ومين حضرتك.
وقف آدم أمامها وقد أحس أنه سمع صوتها من قبل لكنه تجاهل أفكاره وأجابها بجدية :
- أنا صاحب الرزق ده من بعد الله والمفروض أنا اللي اسألك انتي مين وبتعملي ايه هنا .... على حد علمي اني اتفقت مع صفوان يجي للأرض بتاعتي مش يبعتلي حرمة مكانه.
شعرت نيجار أنه يقلل من شأنها ولسعتها كرامتها من أجل الرد فنست تلبكها ورفعت عيناها مطالعة إياه بتحدٍ :
- انا بنت الشرقاوي وليا كامل الحق اجي واطمن على شغل عيلتي زيي زي ابن عمي يا ... آدم بيه.
في هذه اللحظة ركز عليها جيدا متذكرا أين رآها حتى خطرت بباله صورة فتاة التل التي كانت تمتطي فرسها في إحدى الليالي، قطب حاجباه مفكرا في اِحتمالية أن تكون نفسه ولكنه لم يستطع التأكد فتنحنح مجليا صوته وأردف :
- طبعا ليكي الحق الكامل بس انا بعتقد انك خربطتي في الأماكن ... الارض ديه ارضي والعمال بتوعي يعني محدش غيري بيمشي كلمته عليهم بتقدري تروحي لبساتين عيلتك وتديهم الأوامر براحتك محدش هيعاتبك.
فتحت فمها للدفاع إلا أنه قاطعها وهو يرفع يده موقفا إياها واِستطرد بلهجة جادة :
- انتي في ضيافتي دلوقتي فلو احتجتي لأي حاجة بتقدري تطلبيها من العمال هنا احنا بردو ناس بتفهم في الأصول وبتقدر الضيف والغريب.
رغم لباقته في الحديث إلا أنه كان يرسل إليها تلميحات مبطنة مفادها أنها غريبة ولا يحق لها إعطاء الأوامر هنا وفهمت نيجار هذا فضغطت على طرف شفتها بغيظ مستمعة لضحكات العمال المنخفضة أما آدم فتركها وغادر....
مرت عليها دقائق وهي واقفة حتى شعرت بالملل وبدأت بنقل بصرها في المكان ولم تستطع تجاهل المناظر الساحرة المحيطة بها فوجدت نفسها تسير في البستان بإعجاب ظهر على محياها حتى توقفت مكانها مشاهدة المساحة الخضراء التي زينتها الأزهار بمختلف أنواعها وألوانها...
لمعت حدقتاها بإنبهار متأملة نوعا محددا من الورد الأحمر ذو البتلات الذهبية فاِقتربت تشمهم وأمسكت واحدة منها هامسة بلهفة :
- ايه الجمال ده كله.
- دارسي روز.
فاجأها صوت آدم مجددا فاِنتفضت بخضة والتفتت إليه ليبتسم ويقترب منها مشيرا بعينيه للزهرة التي بين يديها :
- اسمها دارسي روز لونها مميز ولازملها عناية كبيرة ... مع أنها هتذبل بعد شويا بين ايديكي.
تلجلجت نيجار بحرج لأنها اقتلعت الزهرة من مكانها بقوة حين استدارت، وتمتمت بحرج :
- اسفة مكنتش بقصد انا اتخضيت لما جيت من ورايا ومحستش بنفسي وانا بقطعها.
لاحظ آدم اِضطرابها واِبتسم بداخله على ذلك لكنه حمحم مصطنعا الصرامة :
- ابقي خدي بالك بعد كده المرة ديه جت على زهرة المرة الجاية الله اعلم هتؤذي مين.
عاد وجهها يرسم تعبيرات متضايقة فرفعت رأسها ناحيته مرددة بعنفوان :
- ايه اؤذي مين ديه حضرتك شايفني غول ؟
- بصراحة انا مشوفتش غول قبل كده بس اللي بعرفه انه مش هيبقى جميل كده أكيد ... اقصد مش هيبقى لسانه طويل زي لسانك.
هتف بمراوغة جعلت الإبتسامة تتسلل لشفتيها لكنها طمستها سريعا وتجاوزته حتى تغادر وهي مازالت تحمل الوردة بيدها، إلا أن آدم الذي كان يرغب بالتأكد من اذا كانت هي نفسها فتاة التلّ ناداها على حين غرة :
- نيجار !
حينها اِستدارت الأخيرة بتلقائية مجيبة :
- نعم ؟
ابتسم آدم بنصر وهو يوليها ظهره بينما اِنتبهت هي لمقصده فضربت جبينها بغيظ وركضت مغادرة أرضه ....)
** عودة إلى الحاضر.
بعد ليلة قضتها بين أحضانه، نهض عنها يرتدي ملابسه بوجوم أما هي فسحبت الغطاء على نفسها مرددة بجمود :
- خلاص خدت اللي عايزه ؟ ياترى ايه الخطوة الجاية في رحلة إنتقامك مني.
تجاهلها تماما فجزت نيجار على أسنانها بحنق منه وهرعت ترتدي قميص نومها الأبيض لتقف خلفه مرددة بغطرسة :
- لو فاكر أنك قدرت تكسر عيني بتبقى غلطان وسيبك من الليلة ديه انت لو لمستني مليون مرة مش هتأثر ولا هتفرق معايا خالص.
سهام من نار انبثقت من عيني آدم وقد اختض بنقمة منها ورغبة في قصّ لسانها الذي يجعل أعصابه تنفلت منه فاِقترب منها بسرعة كمن يود الإنقضاض على فريسته لتلتاع نيجار وتتراجع إلى الخلف بتلقائية.
وقف أمامها ينفث أنفاسه على بشرتها دون كلام فرمشت بتلجلج وجالت ببصرها في المكان من حولها حتى وقع على صدره الصلب الظاهر بوضوح من قميصه الذي لم يقفل أزراره بعد ولسبب ما تذكرت نيجار ملمس بشرته على يدها منذ قليل لكن آدم شتت إنتباهها عندما همس بحدة :
- اكسرك؟ انتي كسرتي عينك من لما قبلتي على كرامتك انك تستغلي نفسك عشان تقضي مصالح ابن عمك وشريكه ورجعتي عملتيها لما جيتي للمزرعة قصدا عشان تخليني اتجوزك بدل بنت عمك ومعملتيش حساب الناس تتكلم على شرفك.
قطبت حاجباها مفكرة في معنى كلماته حتى شهقت بإدراك مرددة :
- انا جيت لعندك عشان انقذ بنت عمي منك ومكنتش بعرف ان الناس هيتكلمو علينا.
لكن آدم الذي كان متأكدا في عقله الباطن أنها مجرد كاذبة لعينة لم يهدر عناء التفكير في مدى صحة دفاعها بل تابع رامقا إياها باِزدراء :
- بس هتخافي ع شرفك ليه اللي زيك معندهمش شرف ولا قيمة اصلا آخرك تكوني واحدة بتعرض جمالها لراجل عشان يتعلق بيها وبعد ما توقع عيلتها فمشاكل بترجع ترميها في حضنه لعلّ وعسى تخليه يحن ليها تاني.
نزلت حروفه عليها كخيوط من نار جلدت روحها وكسرت كبرياءها فاِلتمعت عيناها بالحقد واِحتد نسق أنفاسها بغضب ورفعت يدها حتى تضربه إلا أنها سُجنت بيده حينما قبض عليها بعنف مغمغما بتوحش :
- ديه تاني مرة أقسم بربي لو رجعتي عملتي كده هكسرلك إيدك ! ودلوقتي الليلة خلصت خلاص.
رمقته نيجار بنظرات لاذعة ساخرة :
- ايه هتمشي وتسيبني هنا لوحدي ولا هتبعتني لبيت أهلي عشان تخلي الناس يتكلمو ع العروسة اللي جوزها رماها ف تاني يوم جواز ... مش شايف أن الحركات ديه قديمة شويا ؟
- متستعجليش على رزقك ... انا مجهزلك مفاجأة هتعجبك اوي.
هدر ببرود فاقم إحساس الحيرة والتوجس لديها لكنها لم تجد وقتا للتساؤل لأنه انخفض يلتقط فستان زفافها الملقي على الأرض ثم قبض على ذراعها وطفق يجرها خلفه غير آبه بتعثراتها أو محاولاتها الفاشلة للتملص من قيده ، وصلا للطابق السفلي ودفعها فكادت تقع لولا أنها تمسكت في آخر لحظة وصاحت بعصبية :
- ايه اللي بتعمله ده انت اتجننت فاكر انك هتقدر تخوفني بالحركات ديه.
صوتها العالي لم يخفي إهتزازات كلماتها خاصة بوجودها في هذا الظلام المرعب وقبل أن يستنَّ لها الهروب رأت الظلام ينقشع بألسنة حمراء ساخنة عندما فتحت أبواب الجحيم أمام وجهها على مصراعيها !
صرخت نيجار متراجعة بهلع غير آبهة بالسقوط المدوي للمنضدة التي اصطدمت بها تماما كما تحطم ثباتها وهي ترى اللهب يتطاير بجنون مرعب من فستانها الذي أضرم فيه النيران للتو !
شهقت عندما شعرت بذراع حديدية تقبض عليها وتحنيها للأسفل فوجدت نفسها فجأة مقابلة تماما للنار وقد ضغط آدم على مؤخرة رأسها وأوشك على إلصاق وجهها بألسنة اللهب الحارة...
جحظت عيناها من هول ماتعايشه فبرطمت باِختناق :
- ا ... انت بتعمل ايه ... سيبني ..
ضحك بجنون وهمس أمام أذنها :
- المشهد ده عظيم بجد بيفكرني بيوم كتب كتابنا ومش عارف ليه شيطاني عماله يوزني عشان ارميكي هنا.
تلاحقت أنفاسها التي بدأت تضيق بفعل الدخان المتصاعد من الفستان وأحست بلفحات النار تلسع وجهها فعافرت لتبعده عن مرماها بهستيرية إلا أن آدم ثبت رأسها وتوهجت تقاسيمه بمتعة سادية متلفظا :
- سألتيني ايه هي الخطوة الجاية في رحلة إنتقامي وده جوابي مفيش خطوة جاية انا هخليكي تتحرقي هنا وتحسي بكل لسعة نار ع جسمك وانتي بتفتكري كل اللي عملتيه قبل كده.
اِرتعش جسدها بين ذراعيه وبدأ الدوار يداهمها فأغمضت عيناها باكية بإنهيار ثم وفي اللحظة التي ظنت أنه سيقذفها نحو النيران ... صفعتها برودة قاسية من حيث لا تدري !
شهقت نيجار وقد وجدت نفسها مرمية على الأرضية بعدما ألقى عليها آدم دلوا من الماء الذي كان بجانبه ودفعها بعيدا عن اللهيب الذي حول الفستان إلى ركام مشوه معدوم الملامح، ثم ناظرته باِرتجاف من بين خصلاتها المبللة وهو يدعس بقدمه على آخر بقايا الحريق لينظر إليها بعد انتهائه فهمست بعته :
- انت ... انت مريض ... مش طبيعي.
استندت على مرفقها ونهضت تضم جسدها المرتجف بذراعيها تشمله بنظرات مفزوعة كأنه مخبول ! وتراجعت خطوتين عندما اقترب هو منها خطوة متأملا حالتها التي كانت لتثير في نفسه الشفقة لو كانا بوضع مختلف ...
كانت تقف بوهن أمامه مبللة من رأسها لأخمص قدميها وقد التصق بها قميص النوم كجلدٍ ثانٍ لها، شفتاها ازرقتا من البرودة وعيناها تشتعلان ككتلة من الجمر ...
- انتي عارفة انا جبتك لهنا ليه ؟
همس آدم بنقمة سوداء وواصل قتل المسافة بينهما دون أن تتوقف نيجار ان التراجع :
- لأن كل حاجة بدأت من البيت ده ... لولا السبايك اللي خبيتهم هنا مكنتيش ظهرتي قدامي ورسمتي عليا دور البنت اللي تحبني ومكنتش جبتك عشان نكتب كتابنا ... ولا كنتي طعنتيني بخنجر مسموم وسبتيني مرمي وسط النار فنفس البيت.
هزت رأسها بنفي متمتمة بدفاع :
- انا مكنتش ناوية اقتلك مكنتش بعرف ان الخنجر مسموم ولا ....
قاطعها آدم الذي لم يبدو عليه وكأنه استمع لكلماتها حتى :
- بس لسوء حظكم أنا مموتش ربنا كتبلي عمر جديد وهحرص فيه على اني اخليكم تتحسرو على كل دقيقة فحياتكو ... ياحبيبتي.
اعتدلت نيجار بوقفتها ببعض من جلادة تدبرتها بصعوبة هامسة :
- وأنا مش هسيبك تلعب بحياتي يا آدم أنا مش هفضل معاك دقيقة واحدة حتى لو حبستني.
ضحك فجأة وتراجع عنها متحدثا :
- هحبسك ليه بالعكس انتي ليكي مطلق الحرية ولو عايزة بتقدري تمشي دلوقتي وترجعي لعيلتك وصدقيني أنا مش همنعك يلا اتفضلي.
أشار بذراعه للباب كعلامة لأن تغادر فهبت نيجار لتذهب إلا أنها توقفت فجأة وظهر العجز على ملامحها فإبتسم الآخر مدعيا الأسف :
- اه نسيت مش ابن عمك ووالدته نفسهم اللي ضحو بيكي ورموكي ليا بدل بنتهم لو روحتي وخبطتي ع بابهم مش هيفتحولك حتى وبراهن ع أن صفوان هيرجعك ليا بإيده بس مع ذلك بتقدري تجربي بنفسك يلا اتحركي.
تسمرت واقفة مكانها بعدما صدمها بالحقيقة التي تناستها هي كانت تعلم جيدا أنهم تخلوا عنها ولكن مواجهتها للأمر بهذه الطريقة تجرحها وتقلل منها إلا أنها ليست من النوع الذي يتخاذل أمام غيره لذلك لم تظهر تعبيرات الإحباط والحزن عليها.
راقبها آدم بسخرية ثم صعد للغرفة وجلب معطفه ليرميه عليها آمرا :
- يلا نمشي.
بعد مدة وصلا للسرايا وكان الوقت مايزال مبكرا فتح الباب ودلفا سويا فقابلتهما حكمت حينما كانت تهبط على درجات السلم ووقفت تطالع نيجار التي كانت في حال مزرية واِبتسمت بتهكم هاتفة :
- أحيانا البواب بيفكر نفسه صاحب البيت وبيتجبر على ولي نعمته عشان كده حلو أنك توري لكل واحد مقامه المناسب ياحفيدي.
ثم أردفت بجدية :
- انت دخلت عليها ؟
رفعت نيجار بصرها بدهشة من طرحها المباشر لهذا السؤال الذي يمسّ خصوصيتهما بينما عبس آدم محدجا إياها باِمتعاض لكن حكمت لم تلقِ له بالا بل تابعت تتساءل :
- اتأكدت من أنها عفيفة ولا حتى عفتها طلعت لعبة ؟
- انتي بتقولي ايه !
اعترضت نيجار التي تقدمت منهما بضع خطوات متشدقة بحدة :
- أنا مبسمحلكيش تتكلمي عني كده.
إلتفّ لها آدم بتحذير قبل أن ينحني مقبلا يد باِحترام ثم يغير الموضوع قائلا :
- صباح الخير.
ربتت على كتفه وقبض هو على ذراع نيجار دافعا إياها للأمام مغمغما بقتامة :
- بوسي إيدها.
نظرت له الأخرى بغضب ورفضت الإنصياع لأمره ليجز على أسنانه بسخط:
- متخلنيش اعيد كلامي.
رفعت حكمت يدها موقفة إياه :
- مفيش مشكلة خليها تطلع دلوقتي وتجهز نفسها لأن عيلتها والناس هيجم بعد شويا.
زفرت نيجار وصعدت للطابق العلوي بينما أردفت هي بغموض حاد :
- أنا افتكرتها هترجع وعينها مكسورة بس لسه قوية ولسانها طويل ... الواضح أنك معملتش اللي عليك.
قطب حاجباه بخنق وقد فهم ماترمي إليه فجدته كانت تود منه أخذ حقه من نيجار بقسوة وضربها واعتقدت أنه أخذها لبيت الهضبة من أجل هذا السبب أيضا، فتنحنح مجيبا عليها بنبرة جادة :
- احنا لسه في أول يوم و أي تصرف وحش مني كان هيوقعني في مشاكل ويخلي سيرتنا ع لسان الناس اللي هتجي لعندنا وبعدين عيلة نيجار هتعمل مشكلة لو جم وشافوها مضروبة ... خلي كل حاجة تحصل في الوقت المناسب.
***
دخلت للغرفة ورمت معطفه على الأرض مرددة :
- البيه بيحاول يولع فيا وجدته بترمي كلام عليا قال ايه لازم يتأكد اذا انا عفيفة ولا لأ.
شدت على شعرها بعصبية لاعنة آدم وصفوان واليوم الذي عرض عليها الدخول في هذه اللعبة التي دمرت حياتها ثم ألقت نفسها على السرير معيدة أحداث اليوم الماضي عليها وكلما جاء ببالها أنها أصبحت زوجة الرجل الذي غدرت به توشك على فقدان أعصابها والصراخ، مرت عليها بضع ساعات وهي على هذه الحال كانت نيجار قد غفت من شدة الإرهاق ثم أفاقت على طرق الباب ...
إعتدلت في جلستها لتدلف الخادمة أم محمود وتنظر لها من الأعلى للأسفل باِستغراب وفضول من حالتها حتى زفرت هذه الأخيرة متشدقة بغطرسة :
- انتي هتفضلي متنحة فيا كده اتكلمي في ايه.
حمحمت مخفضة بصرها وتمتمت :
- صباحية مباركة يا هانم، عيلتك والمعازيم جم يطمنو عليكي والست حكمت عايزاكي تجهزي نفسك وتنزلي.
نظرت نيجار لما تحمله بين يديها ثم أمرتها بوضعهم والخروج نهضت بتكاسل حتى تأخذ حماما وارتدت عباءة إستقبال زرقاء اللون، وضعت مكياجا بسيطا وزينت عنقها ويديها بأساور ذهبية وأرفقت طلتها بحذاء ذو كعب عالٍ لتقف متأملة نفسها بسخرية :
- على الأقل طلع عندها زوق حكمت هانم ديه.
في نفس اللحظة دخلت زوجة عمها مع إحدى النساء التي أطلقت زغاريد عالية مرددة ببهجة :
- صباحية مباركة يا عروسة بسم الله ماشاء الله ربنا يحرسك من العين.
اقتربت منها جميلة وقبلتها وقالت :
- طمنيني عليكي ياحبيبتي انتي كويسة.
نظرت لها بتهكم واضح لكنها ردت ببسمة مصطنعة أمام البقية :
- الحمد لله ربنا يبارك فيكو.
بعد قليل دخلت لصالة إستقبال النساء وجميع الأعين ترصدت بها مطالعين المرأة التي تزوجت من إبن أكبر عائلات البلدة بعدما كانوا يعادونهم، أحست نيجار بنظراتهن الفضولية تخترقها من كل صوب وهمساتهن تصل لأذنيها بوضوح فعضت على شفتها باِضطراب منفعل وتمتمت :
- صباح الخير.
ردوا عليها بالمباركات وقالت حكمت بدبلوماسية :
- في ايه هتفضلي واقفة كده ومش هتضيفيهم ؟
معلش يا جماعة العروسة جديدة ملحقناش نعلمها الأصول بس هتتعلم بإذن الله.
سحبت نفسا عميقا تكبت جماح غضبها وشرعت تقدم لهن واجب الضيافة ثم جلست جوار جميلة التي همستها :
- مقدرتش اسألك قدام الحريم فوق طمنيني عليكي عاملة ايه مع جوزك.
كان سؤالها يرمي لشيء واحد فهمته الأخرى وضغطت على يدها بينما تهز رأسها بإيجاب لتبتسم زوجة عمها براحة وهنا نطقت سيدة من الضيوف بينما ترتشف من كوب الشاي :
- الحمد لله انكم تصالحتو يا حكمت هانم احنا مصدقناش وقت قالولنا ان العيلتين هيبقو نسايب بس كويس اهو تقل المشاكل شويا.
تابعت امرأة أخرى استلمت دفة الحديث :
- حتى الجوازة حصلت بسرعة ومع أنها عدت على خير وعملتو الواجب بس احنا كلنا كنا متوقعين ان فرح حفيد الصاوي الوحيد هيكون أكبر وأفخم فرح في البلد ربنا يعلم اني بعتبر آدم زي ابني وزعلت اوي عليه.
تنهدت حكمت كمن تحمل أثقال العالم على كتفها وعلقت :
- عندك حق بس نعمل ايه ده نصيب حفيدي اللهم لا اعتراض.
ساد الصمت مجددا حتى قطعته سيدة أخرى وهي تسأل بتطفل :
- صحيح يابنتي انا لما كنت واقفة الفجر ع الشباك شوفت جوزك طالع من البيت مع انه عريس جديد ولازم يقضي الأيام ديه معاكي خير هو روح ع فين.
نظرت لها نيجار برفعة حاجب ثم ابتسمت مجيبة :
- معرفش ياخالتي بس طالما حضرتك شوفتيه وهو طالع الفجر المفروض تعرفي هو فين بالمرة وهيرجع امتى كمان.
اِحمر وجهها بحرج وصمتت أما ليلى فكتمت ضحكتها بصعوبة لترشقها حكمت بنظرات حازمة جعلتها تهدأ ...
__________________
وقف بمسافة أمتار عن الزجاجات التي تناثرت هنا وهناك وحمل البندقية بوضعيتها المناسبة مركزا على الهدف ثم بدأ بإطلاق النار عليها واحدة تلوَ الأخرى حتى جاء فاروق ووقف بجواره هاتفا :
- العمال عماله يبصولك ومستغربين لأنهم جم الصبح بدري ولقوك هنا بدل ماتكون في بيتك ومع عروستك.
قطب آدم حاجباه معقبا عليه دون أن يفقد تركيزه على التصويب :
- وأنت مستغرب زيهم ولا لأ.
ابتسم وأجاب عليه :
- بصراحة اللي استغربت منه هو هدوئك وسلامك النفسي دلوقتي يعني انا كنت خايف تعمل شيء يضرنا كلنا بس الحمد لله.
كسر آخر زجاجة وأعطى البندقية للعامل بينما يردد :
- بقدر اجزم أن صفوان مقدرش ينام طول الليل وهو بيفكر ف حاجات زي اللي انت كنت بتفكر فيها.
كاد يتكلم لكن وقع بصره على شخص ما قادم من بعيد فرفع حاجبيه متشدقا :
- مش لو جبنا سيرة حد تاني أحسن.
نظر آدم إلى حيث ينظر فاروق ووجد صفوان يسير نحوهما بملامح متجهمة فاِبتسم ساخرا ثم تحرك مقلصا المسافة بينهما حتى وصل إليه وقال ببرود :
- الله انا مش مصدق أن أجدع وأرجل واحد في البلد زارني في مزرعتي المتواضعة خير يا صفوان بيه انت ضيعت طريقك ولا ايه.
زم شفته بخنق منه وهتف على مضض :
- العمدة قال اني لازم اجي واكلمك عشان نصفي القلوب وانا اضطريت اعمل نفسي موافق عشان ميفتكرش اني بعارض أوامره.
همهم وكتف ذراعاه معقبا عليه بتلاعب :
- ومقولتلوش ان السواد ده مزروع في عروقك ومش هتقدر تصفيه.
تأفف صفوان ورد عليه مضيقا عيناه :
- بقولك ايه انا بحاول امسك نفسي ومعملش مشكلة بس متحاولش تستفزني لأني مش هسكتلك ... ولو فاكر ان بجوازك هتقدر ...
قاطعه آدم متابعا جملته بتنهيدة عابثة :
- لو فاكر اني هقدر اكسرك ببقى غلطان الجملة ديه طلعت متوارثة في عيلتكم بقى.
تأهب هذا الأخير وانكمش وجهه بخطورة هاتفا :
- مين قالهالك نيجار صح اوعى تكون أذيتها ولا لمست شعرة منها هطلع بروحك.
- انت بتهددني ليه مش شايفني بخاف.
علق عليه ساخرا فزفر صفوان واِستطرد مستفسرا :
- انت قربت منها لمستها ؟
- هشش عيب تسألني في الموضوع ده.
لاحظ آدم تحول ملامحه للعصبية الشديد ليبتسم وينحني عليه مردفا بهمس :
- ديه خصوصية اتنين متجوزين ومينفعش تطلع لبرا ... مع اني مش متأكد لو هعتبرها زوجة أو حاجة تانية.
قبض صفوان على ياقته باِنفعال شديد قابله الآخر ببرود مستفز فأفلته وغادر المزرعة بأعصاب منفلتة كمن يرى الشياطين في طريقه ...
________________
في المساء.
دخلت للغرفة بعد يوم طويل قضته وسط ثرثرة وغمزات النساء وتلميحات حكمت التي كانت تهين عائلتها بطريقة غير مباشرة وتجعل الضيوف يضحكون عليهم مما جعلها تستشيط غيظا وكادت ترد عليها لكن زوجة عمها أوقفتها ...
ولم يكفيها هذا بل جعلتها حكمت تنضف صالة الإستقبال بأكملها وتمسح السلالم مصطنعة البراءة وكأنها لا تقصد إهانتها ...
زفرت نيجار بضجر واِستندت على التسريحة مبرطمة :
- ده احنا لسه في أول يوم بس انا مش طايقة ولا قادرة استحملهم حاسة نفسي بختنق هنا ولسه لما آدم يجي ربنا يعلم ايه اللي ممكن يعمله فيا عشان ينتقم مني.
رن هاتفها فجأة ونظرت لهوية المتصل ولم تجب لكنه عاود الإتصال بها ففتحت الخط :
- نعم يا سلمى.
تنحنحت تجلي صوتها وردت عليها :
- عامله ايه اخبارك معلش انا مقدرتش اجي مع ماما النهارده لأني كنت تعبانة شويا.
- عادي مفيش مشكلة.
- طب انتي كويسة عيلة الصاوي عملتلك حاجة وحشة.
تنهدت نيجار وتوجهت نحو السرير بينما تردد بسخرية :
- مفيش أسوء من اني اكون قاعدة معاهم في مكان واحد س هعمل ايه المهم صفوان يرتاح ع حسابي.
تلبكت سلمى من تلمحيها وهتفت :
- بصراحة صفوان مضايق أوي امبارح رجع للبيت وهو سكران ومن شويا سمعته بيزعق مع ماما كان متعصب اوي و بيتكلم على ... جوزك.
استنفرت حواسها بإنتباه وسألتها عما حدث فقالت الأخرى :
- انا مسمعتش كل حاجة بس اللي فهمته انه شاف آدم النهارده واللهم أعلم هو قاله ايه استفزه وخلاه يتعصب بس واضح الكلام كان عليكي لأن ماما قالتله هي بقت مراته وانت مبتقدرش تعمل حاجة.
بعد دقائق دخل آدم ووجدها جالسة بشرود فتغضن وجهه بمقت وبدأ بتغيير ملابسه من أجل النوم تحت نظرات نيجار التي انكمشت على نفسها بقلق متوقعة مضايقته لها إلا أنه خالف توقعاتها عندما اقترب من السرير مغمغما دون النظر إليها :
- قومي من هنا ونامي في أي مكان بعيد عني.
رفعت رأسها له بحيرة وعدم فهم فأعاد كلامه بلهجة أصلب :
- انتي مش سامعة انا بقول ايه !
انتفضت واقفة وبرطمت بتلعثم :
- هنام فين طيب.
- في أي داهية جوا الأوضة ديه أنا لو عليا برميكي برا بس مينفعش عشان أختي هتفهم.
لفظ كلماته بقسوة حارقة مطالعا إياها باِزدراء جعلها تشعر بالإهانة فلفَّت حول السرير ووقفت أمامه مكتفة يداها بتعالي :
- مكنش ده كلامك امبارح وقت خطفتني لبيت الهضبة وخدتني غصب عني ولا انت عملت كده علشان تقهر ابن عمي وتبينله اني خلاص بقيت تحت إيدك.
مط آدم شفته ورشقها ببرود هاتفا :
- برافو كنت متوقع دماغك الخبيث يفهمني من امبارح بس اهو على الأقل استوعبتي انها كانت ليلة واحدة وراحت لحالها وكنت قرفان من نفسي وانا بقربلك.
وبالنسبة ل اني خدتك غصب عنك ف مش متأكد من النقطة ديه لأني لسه فاكر كنتي عاملة ازاي ليلة امبارح.
اِحمرّ وجهها من تلميحه وتذكيره بقربهما لكنها نفضت شعورها عنها وانتفضت مدافعة عن نفسها :
- انا لو كنت هادية فده علشان ااا...
قاطعها دون اكتراث :
- ميهمنيش امشي من وشي دلوقتي.
تأففت نيجار بحنق وهمَّت بالتحرك فأوقفها بإستدراك وهو ينتشل هاتفها من يدها مرددا :
- من النهارده انتي مش هتتكلمي مع عيلتك ديه كفاية انك موجودة هنا مش هقبل صوت واحد زيادة منكو يدنس بيتي اكتر.
شهقت بتفاجؤ وحاولت منعه فدفعها آدم ورمى الهاتف على الحائط بعنف أدى إلى تحطمه فورا لتصرخ :
- ايه الحركات ديه انت واحد مجنون !
وهنا صاحت مجددا لكن هذه المرة كانت ناتجة عن الألم عندما قبض آدم على شعرها من الخلف وجعلها تجثو على ركبتيها معيدا رأسها للخلف فسبب بذلك وجعا في فقرات ظهرها تأوهت نيجار وأمسكت مكان قبضته محاولة الإفلات بينما شدد عليها الآخر وبصق كلماته السوداوية :
- وحاجة تانية ... اوعى لسانك يطول عليا او تحاولي تتذاكي لأني ساعتها مش هخوفك بالنار لا هرميكي فيها بجد بس بعد ما اقطعلك لسانك ...علشان كده اتأدبي ومتستعجليش ع رزقك !
___________________
ستوووب انتهى البارت
رايكم فيه وتوقعاتكم للأحداث الجاية ؟
الصفحة بتتعرض للإبلاغات، رجاء التفاعل على البارت عشان ميتحذفش
الفصل الثاني عشر : داخل الأسوار 2
________________
تسلل ضوء الشمس الخافت للغرفة ووقع على تلك التي تفترش الأرضية فأرقَّ مضجعها ورمشت عدة مرات قبل أن تفتح عيناها باِنزعاج، اعتدلت في الجلوس وتمطعت بكسل مهمهمة :
- ااخ ظهري اتكسر من نومة الأرض ديه.
نظرت إلى السرير ووجدته فارغا كالعادة فمطت شفتها بعدم اكتراث ونهضت تلملم الأغطية وتضعها في الخزانة ثم نزلت ووجدت العائلة متجمعة على طاولة الفطور وعندما رأتها حكمت هدرت بحدة :
- انتي ملكيش مكان هنا.
- وانا مش جاية اقعد معاكو.
ردت نيجار بهدوء وتوجهت نحو المطبخ لتجلس بمفردها بينما تفكر ...
مرَّ شهران على زواجها من آدم ولم تذق فيهما طعم الراحة بسبب حكمت التي تشغلها عبدة في السرايا وتلقي الإهانات على عائلتها كل يوم مازالت تتذكر ماحدث الأسبوع الماضي حينما حاولت تلك العجوز صفعها فأمسكت هي يدها ودفعتها للخلف بتلقائية ليأتِ آدم في تلك اللحظة ويعتقد أنها هاجمت جدته !
وقتها شدها من شعرها وأجبرها على التذلل وطلب الصفح منها وحين رفضت حبسها في غرفة بالطابق السفلي يوما كاملا ولم يكد يفتح لها الباب حتى أوشكت على الإختناق من شدة ضيق الغرفة والظلام الدامس فيها !
كانت هذه المرة الوحيدة التي يتعامل آدم معها لأنه منذ حطم هاتفها ومنعها من التواصل مع عائلتها لم ينظر لوجهها أو حتى يتكلم معها ويغادر كل مكان تكون موجودة فيه وكأنها وباء مع أنه كان يتوعد لها بالعذاب، حسنا يبدو أن قرفه منها يجعله يرفض الإحتكاك بها لأي سبب كان.
تجهمت نيجار عندما طرأت ببالها هذه الفكرة وهمست باِمتعاض مغلف بالحسرة :
- تجاهلني المدة ديه كلها وفضل ساكت ع اهانات جدته ليا ويوم عبرني كان هيموتني.
ده مكنش بيهون عليه يشوف جرح ف إيديا حتى وفي مرة كنت معاه في البحيرة وخبطت راسي قام نط فورا عشان يشوف مالي.
صمتت وشرد عقلها دون شعور في ذكرى إحدى لقاءاتهما حينما كانا يتمشيان على العشب الأخضر تحت أشعة الشمس التي عكست نورها على مياه البحيرة ثم أهداها قلادة على شكل عباد الشمس وأخبرها بأنه يود التقدم لخطبتها وهي نفسها القلادة التي وقعت من رقبتها يوم طعنته فأعادها هو إليها يوم خطف صفوان واستدرجها إليه ...
كادت نيجار تغيس أكثر إلا أنها اِستفاقت وضربت رأسها بهلع عندما أدركت أن عضلات شفتيها كانت على وشك التقلص في إبتسامة وأدتها قبل الظهور ،ثم انغمست في تحريك كوب الشاي وهي تستعد ليوم حافل بالأشغال المنزلية كعادتها ....
_________________
في الخارج.
رفعت ليلى بصرها عن الطاولة وقالت بعد تردد :
- تيتا حضرتك ليه بتعاملي نيجار كده من يوم ما جت للبيت ده عمرها ما قعدت معانا وعلى طول بتقوليلها كلام انا مش فاهماه.
لم تجب عليها حكمت فتنهدت ونظرت لآدم الذي كان يتناول فطوره بهدوء :
- لو مبعرفكش كويس كنت هقول أنك بتعمل كده لأن عيلتها عدوة لعيلتنا من سنين لكن حتى السبب ده مش وارد لاني عارفة انك مش بتفكر بالطريقة ديه يبقى في حاجة تانية مخبيينها عليا صح ؟
اِرتشف من كوب الشاي ورد عليها مبرطما بجدية :
- من الأحسن متشغليش بالك بالحاجات اللي بتحصل هنا والتهي بدراستك.
فتحت ليلى فمها لتعارضه لكنه حدجها بنظرات حازمة مستطردا :
- انتي لسه صغيرة ع المشاغل ديه والحاجة الوحيدة اللي لازم تركزي فيها دلوقتي هي امتحاناتك ومش عايز كلام في أي موضوع غيرها.
تجهمت بضيق من اِعتبارها طفلة على الدوام وعدم اشراكها في أي شيء يخص العائلة لكنها كتمت إحساسها بداخلها وحضرت نفسها لتذهب إلى الكلية وحينما فتحت الباب اصطدمت بشكل عرضي بفاروق الذي ابتسم :
- صباح الخير يا ليلى ازيك.
بادلته الإبتسامة بأخرى مماثلة وردت عليه ليضيف متسائلا :
- عندك امتحان النهارده ؟
- ايوة.
- تمام بالتوفيق يلا روحي بسرعة عشان متتأخريش محمد مستنيكي برا.
توهجت عيناها فجأة وتلعثمت بلهفة محرجة :
- أخوك اللي هيوديني النهارده ؟
ردَّ عليها بإيجاب وتجاوزها فشرعت تعدل مظهرها بإرتباك ومشت بخطوات متزنة لتركب خلف السائق الشاب الذي حيَّاها ببرود وبدأ بالقيادة دون النظر إليها ...
*** دخل فاروق عليهما وألقى تحية الصباح فأشار له آدم بالجلوس مستفسرا :
- شوفت العمال لو خلصو شغل ع الشحنة الجديدة ؟
- أيوة الشحنة جاهزة وهنبعتها للتاجر بعد شويا بس ..
تردد في إنهاء الجملة لتسأله حكمت :
- بس ايه ؟
وجه آدم أنظاره له بينما يكمل الآخر :
- التاجر عيسى بيه اللي كنا متفقين معاه ع صفقة كبيرة واتصل بينا عشان يلغيها بحجة السيولة سمعت أنه اتفق مع صفوان وهيبدأو يشتغلو مع بعض.
رفع حاجبه مستنكرا :
- عيسى اللي أهم حاجة عنده الربح اتفق مع صفوان اللي بستانه ومحاصيله الزراعية اتحرقو والعمال بتوعه خلعو وغرق في الديون ازاي ده يحصل!
تنهد فاروق مجيبا بحيرة :
- عشان كده انا استغربت وقلت صفوان هيجيب فلوس منين عشان يشتغل ده المفروض محدش يقبل يتعامل معاه اصلا لأن وضعه المادي مش زي قبل.
تدخلت حكمت في الحوار بعدما استمعت لهما :
- يمكن صفوان كان مخبي فلوسه عشان اليوم ده او استلف من حد بيعرفه علشان كده قدر يعمل صفقة جديدة.
مسح آدم يداه بالمنديل ثم وضعه على الطاولة وهو ينهض هاتفا :
- عموما احنا مش خسرانين حاجة هو يدوب زبون واحد ومش هيأثر علينا بعد اذنك يا ستي خدي بالك من نفسك.
ودع جدته وأشار لفاروق بالخروج للبيت حكمت بمفردها على الطاولة لتهرع لها الخادمة وتقول :
- اؤمريني ياست هانم.
- جيتي انتي ليه يا أم محمود فين المحروسة التانية.
- أنا هنا.
قالتها نيجار وهي تقترب منها بتلكؤ لتشرع في تنظيف مائدة الفطور بهدوء دون قول كلمة إضافية فراقبتها حكمت بحقد أهوج متمنية لو تقتلها الآن وتنتقم لكرامتها وكرامة حفيدها لكنها تعلم بأن هذا ليس الوقت المناسب.
وقعت ملعقة من يدها فاِنحنت كي تلتقطها وهنا حركت حكمت ابريق الشاي النحاسي وأمالته ليسقط مع محتوياته على نيجار التي صاحت بألم وهي تقف فشهقت أم محمود بهلع مطالعة سيدتها ذات الوجه البارد ثم إلى الأخرى التي تأوهت بوجع وتحسست جبينها فوجدته ينزف ...
نهضت حكمت من مكانها مغمغمة ببلادة قبل أن تصعد لغرفتها :
- حتى السفرة مبتعرفيش تلميها زي الخلق.
ضغطت على شفتيها مانعة نفسها من التهجم عليها فاِقتربت منها الخادمة مرددة بتطفل :
- يالهوي انا قولت ان وشك اتحرق كويس ان الشاي كان دافي ... ايه اللي حصل مابينكو عشان تعمل فيكي كده ااا..
قاطعتها نيجار بنظرة حادة أسكتتها ثم غسلت وجهها وصعدت للغرفة كي تضمد جرحها بينما تقول بسخط :
- انا لو ف إيدي اقتلها مكنتش قصرت معقول انا يحصل فيا كده واضطر اسكت ... كله بسببك ياصفوان مش مسامحاك.
توقفت فجأة عما تفعله وجلست على السرير بعينين متلألئتين بالدموع وهمست :
- بقالي شهرين مرزوعة هنا ومهانش عليكو تسألو عني او تجو تطمنو عليا كأنكم ماصدقتو ترموني انا عملت كتير عشانكو وفي الاخر بتتخلو عني بكل سهولة كده.
نزلت عبراتها بحزن على حالها ورغبت في الإجهاش بالبكاء إلا أنها تمالكت نفسها بصعوبة ومسحت بقايا دموعها ثم خرجت كي تتابع القيام بالمهام المفروضة عليها ...
__________________
كان يقف في منتصف الساحة يراقب أشغال العمال برضا لأن أرضه بدأت تعود لسابق عهدها قبل قيام عائلة الصاوي بحرقها وهاهم عماله يحرصون على القيام بما يجب لكي تتحسن أكثر ...
اِبتسم ونظر الى مساعده الذي جاء للتو وقال له :
- شايف ازاي ربك مبيسيبش حد محتاج الشغل قرب يرجع زي الأول حتى التجارة دخلنا فيها من تاني وهنشتغل مع عيسى بيه.
أومأ مساعده موافقا إياه :
- معاك حق يا بيه القرض اللي حضرتك خدته هيساعدنا في تعمير الأرض وكمان العمال كانو هيطفشو لاننا مدينالهمش مستحقاتهم، بس...
همهم صفوان بإنتباه :
- بس ايه ؟
- انا كلمت الجماعة اللي خدهم آدم بيه وقت الحريق بس مرضيوش يرجعو قالو انهم مرتاحين في شغلهم معاه.
- ناكرين الجميل نسيو لما كانو بيجو لعندي ويترجوني عشان اشغلهم دلوقتي بقى شغل ابن سلطان بيكسبهم اكتر، بس هيجي يوم ويرجعو يبوسو رجليا ويطلبو العفو.
رددها بثقة ووعيد ليقاطعه رن الهاتف فذهب لمكان فارغ وأجاب :
- ألو اهلا يا مراد خير بقالك يومين مختفي.
رد عليه الآخر بهدوء بينما يلعب بغرض موجود فوق سطح المكتب :
- كان عندي مشاغل وملحقتش اكلم حد قولي انت قدرت تتفق مع عيسى بيه ولا لأ.
همهم صفوان متفاخرا :
- اتفقنا واتفاهمنا مع بعض هو كان متخوف في الأول وقالي ان الوضع بتاعي مبيسمحليش ادخل في صفقة كبيرة زي ديه بس أنا اقنعته وبصراحة الفلوس اللي انت اديتهالي ساعدتني مش عارف ازاي بقدر اكافيك.
دلّك صدغيه بيده بإرهاق مستمعا له وقال :
- انت المهم تنفذ الصفقة ديه وتثبتلهم انك احسن من آدم خد بالك أنك لو نجحت هيرجع صيتك زي الأول وتاخد صفقات ومشاريع أكتر.
- متقلقش هنفذها.
- احسنلك تعمل كده لأني موّلتك بمبلغ كبير من الفلوس وهتندم لو رجعلي بخسارة.
مط شفته باِمتعاض مجيبا بنعم وأغلق الخط، بينما عاد مراد يفرك عيناه واتصل برقم آخر :
- ايوة نعم ... طمنيني بقت عامله ازاي لسه صاحية ؟
- الهانم نامت من شويا يابيه بعد ما كلت وخدت الدوا بس شكلها كانت بتسأل عنك وعايزة تشوفك عينيها فضلو يدورو عليك.
شعر بغصة مؤلمة تحتكم حلقه وصعُب عليه بلعها بينما يجيب :
- غالبا مش هقدر ارجع النهارده لأن بقالنا يومين نايمين في المشفى والشغل متراكم عليا بس قوليلها اني هجي اول ما اخلص اللي ف ايديا تمام وخدي بالك من ميعاد الدوا واتأكدي انها شربته.
- أمرك.
أعاد مراد الهاتف لمكانه محدثا نفسه :
- ل امتى هنفضل نستحمل وهما عايشين في النعيم ولا كأنهم عملولنا حاجة ... قدرو يكملو حياتهم عادي بعدما ضيعو حياتنا احنا لو في ايدي اقتلكم مش هقصر بس انا هخليكم تموتو بالبطيء لما تخسرو الشيء اللي ضيعتونا علشانه.
__________________
في المساء.
بعدما تناول العشاء مع جدته وشقيقته صعد لغرفته المشتركة معها فقامت نيجار من مكانها وتشدقت ب :
- عايزة اطلب منك طلب.
لم يرد عليها آدم وفتح باب الخزانة كي يأخذ ملابس النوم دون أن يعيرها الإنتباه فزمت شفتيها بغيظ وتقدمت بضع خطوات منه متابعة :
- أنا عايزة اروح لبيت عيلتي بقالي زمان مشوفتهومش.
لم يردّ عليها واِنشغل بنزع قميصه واِرتداء تيشرت خفيف غير مكترث بتململها حوله وكأنها هواء وهذا ماجعل صبرها ينفذ لتقترب منه وتمسك ذراعه بحركة متهورة قائلة :
- لو سمحت بصلي انا بكلمك !
احتدت عيناه ونظر لها بحدة اهتزت قليلا عند رؤية الجرح الذي على جبينها فتلجلج لثوانٍ ثم دفعها عنه بعنف :
- انتي مش فاهمة اني مش طايقك ايه هو مش كفاية عليا مستحمل وجودك معايا فنفس الأوضة هضطر كمان اسمع صوتك ! اسكتي وخلي الليلة تعدي بلاش تعصبيني.
تجرعت نيجار الإهانة بقسوة ورغم ذلك قالت بصوت مختنق :
- بس انا مطلبتش غير اني اروح لبيتي شويا وارجع انت اللي اتعصبت لوحدك.
- ودلوقتي جه وقت تعملي نفسك مسكينة ومظلومة صح بلاش جو الصعبانيات ده لأنه مبياكلش معايا ويلا دلوقتي امشي من وشي.
صرخ عليها وتوقع أن تعانده لكنها تركته وذهبت لتنام على الأرض فزفر بإقتضاب وأخذ مكانه على السرير مستعدا للنوم لكنه عاد وفتح عيناه بعدما تيقظ لشيء ما فبقي يفكر قليلا حتى هتف بصوت خشن :
- هتروحي بكره وتقعدي ساعة وترجعي.
انتفضت جالسة وشهقت ببهجة :
- بتتكلم جد ؟
تفاجأ من فرحتها لهذه الدرجة فرفع اصبعه في وجهها منبها :
- ساعة واحدة بس وديه آخر مرة.
هزت رأسها سريعا وعادت تغطي جسدها ليقول بداخله :
- اكيد صفوان هيرجع لبيته اول مايعرف انك هناك ووقتها هتجيلي الفرصة عشان افهم انت بتخطط لإيه.
بينما كادت إبتسامة نيجار تشق وجهها وهي تهمس :
- هروح لبيتنا أخيرا و اخد الحاجات اللي نسيتهم ومجبتهمش معايا يوم فرحي ...
_________________
الفصل الثالث عشر : نوبة.
__________________
توقفت السيارة أمام باب منزلها فرفعت رأسها من على زجاج النافذة ونظرت له بشرود ممتزج بالحسرة ثم تنهدت وترجلت منها، نظرت للسائق الذي لم يتزحزح من مكانه بتعجب فشرح لها بنبرة جادة :
- البيه طلب مني استناكي هنا ومتحركش من مكاني لحد ما تخلصي.
تأففت نيجار بضيق وغادرت أما هو فاِتصل بشقيقه فاروق وأخبره بأنه فعل المطلوب فقال له الآخر :
- ماشي يا محمد وزي ما نبهتك لو صفوان جه اتصل بيا فورا.
- تمام مع ان المفروض انا مسؤول ع الهانم الصغيرة بس وبجيبها وبوديها ايه اللي يخليني سواق لمرات آدم بيه.
برطم محمد وهو يزفر شاكيا ليردعه فاروق :
- ديه أوامر آدم بيه مينفعش تعترض وبعدين هو احتاجك في الموضوع ده لمرة واحدة بس ومش هتتكرر ... يلا سلام دلوقتي.
*** بمجرد فتحها الباب ودخولها للبهو الواسع رفعت رأسها ممررة عينيها على كل ركن في السرايا لتنتبه لها سلمى التي كانت على الدرج فشهقت بذهول وهرعت راكضة إليها بينما تنادي ببهجة :
- ماما تعالي شوفي نيجار جت لعندنا.
عانقتها بقوة مرددة كلمات الشوق وبادلتها نيجار بهدوء ثم أزاحتها عنها مبتسمة فأمسكت سلمى يديها بعدم تصديق مرددة :
- انا مش مصدقة انك جيتي وأخيرا احنا حاولنا كتير نتواصل معاكي بس مقدرناش ... قوليلي انتي عامله ايه ازاي سمحلك آدم تجيلنا احنا كنا خايفين عليكي اوي.
جاءت جميلة وابتسمت ببهجة محتضنة إياها :
- حبيبتي وحشتيني ووحشتينا كلنا الحمد لله انك بخير قلقتينا عليكي اوي يابنتي.
ابتعدت عنها متفحصة إياها وتحولت ملامحها للتوجس عند رؤية لاصق طبي صغير على جبينها فشهقت بريبة :
- ايه اللي حصلك مين عمل فيكي كده ... اوعى يكونو ضاربينك !
طالعتها هذه الأخيرة هاتفة ببرود أذهلها :
- وحضرتك كنتي متخيلة انهم هيرمو عليا الورد مثلا ؟
تدخلت سلمى مشيرة لهما بالجلوس والحديث فتنهدت نيجار وتحركت معهما حتى جلست على إحدى المقاعد وقابلتها زوجة عمها باِستفهام :
- احكيلي عامله ايه وعايشة معاهم ازاي بيعملو فيكي ايه احنا كنا خايفين عليكي واتصلنا بيكي اكتر من مرة ولما مقدرناش نوصلك فهمنا انهم خدو تلفونك منك.
- لا مخدوهش آدم اللي كسره بس انتو اول ما معرفتوش تتواصلو معةيا استسلمتو ومرجعتوش سألتو عني صح ؟
ألقت عليها سؤالها بجمود لتجيب عليها جميلة بغرابة :
- طبعا سألنا عليكي وسلمى حبت تجيلك بس حكمت منعت حد مننا يدخل لبيتها ولما صفوان كلم آدم عشانك قاله انك بقيتي مراته والأفضل ننساكي.
همهمت بعدم اكتراث وصمتت لتنظر لموضع جرحها قليلا ثم همست متوجسة :
- جوزك اللي ضربك كده صح ؟
تحسسته نيجار متذكرة مافعلته معها السيدة حكمت البارحة وردت بتجاهل :
- لأ مش هو ... انا طالعة لأوضتي شويا.
تركتهما جالستان بحيرة منها حتى تمتمت سلمى بإحباط :
- باين انها لسه شايلة مننا عشان جوزتوها لـ آدم ديه مرضتش تبصلي في وشي حتى شوفي حالتها عامله ازاي ياريت لو معملناش كده.
زجرتها جميلة بضيق :
- اومال كنتي عايزانا نعمل ايه نبعتك انتي لبيت الصاوي وياخدو تارهم مننا بيكي ! سيبك من الكلام ده واتصلي بأخوكي يجي علشان يشوفها.
دلفت نيجار لغرفتها السابقة واتجهت مباشرة للخزانة وأخرجت حزمة من القماش ملفوفة بشريط أحمر ثم جلست على السرير وفتحتها بشوق فظهرت قطع بينها منديل زهري دفنت أنفها به لتشم رائحته بعمق متأوهة :
- ريحتك لسه موجودة عليه يا ماما أنا كنت خايفة تروح ومرجعش اشمها ...
طبعت قبلتها عليه بشفتين مرتعشتين ثم انتقلت لمجموعة الصور المرصوصة فوق بعضها بعناية بعضها كانت تجمعها مع والديها في طفولتها وبعضها في مراهقتها مع أمها فقط بعد وفاة أبيها، كانت السعادة تشع من وجوههم وضحكاتهم وملامحها هي لطيفة ومبتهجة... وبريئة.
فكرت نيجار بهذا الشيء لوهلة ثم مررت اصبعها على وجه والديها متمتمة بشجن وحنين :
- وحشتوني اوي كل لحظة معاكو وحشتني أنا لأول مرة بحس بفراغ ووحدة رهيبة للدرجة ديه كنت فاكرة اني ممكن اقدر اعوض فراغ غيابكو بوجود مرات عمي واخواتي بالرضاعة لدرجة اني صدقت الفكرة ديه بس اكتشفت اني ولا حاجة.
نزلت دمعتها فسارعت لمسحها مستطردة :
- أنا مش زعلانة من صفوان ووالدته هما مهما حبوني مش هيكون نفس حبهم لبنتهم الحقيقية طبيعي يفضلوها عليا ... لكن فكرة ان مفيش حد متمسك بيا وبدافع عني وجعاني جدا لو انتو لسه عايشين مكنتوش سمحتو اروح كبش فدا ... لو عايشين انا مكنتش هدخل في اللعبة ديه اصلا.
قابلها الصمت الطبيعي فتنهدت بحرقة وبقيت تتأمل في صورهم حتى طُرق الباب ودخل صفوان بلهفة مناديا إياها :
- نيجار !
هرع إليها وجذبها نحوه ليعانقها قائلا :
- انتي كويسة عامله ايه ازاي الندل إياه سمحلك تزورينا.
ردت عليه بإقتضاب ريثما تخفي بقايا دموعها :
- طلبت منه يسمحلي اجي وهو وافق بس لازم امشي دلوقتي لأنه منبه عليا عشان متأخرش.
لملمت محتويات الحزمة وأغلقت عليها فأوقفها صفوان مستفسرا بتعجب :
- طب استني شويا انا جاي ع ملى وشي عشان أشوفك معقول تسيبينا بسرعة وتمشي ... اقعدي جمبي كده.
أخذت نيجار مكانا بجواره على مضض وصمتت طالعها صفوان وضغط على كف يدها متمتما :
- على فكرة احنا مكناش ناسيينك زي انتي ما فاكرة على العكس سألنا عنك وقلقنا عليكي بس واضح ان ابن سلطان كان بيكيد فيا علشان كده منعك تكلمينا ومنعنا احنا نتواصل معاكي ... أنا فكرت اكتر من مرة اتهجم عليه واداهم بيته او اكلم العمدة بس ساعتها هيقولولي انك بقيتي مراته ومليش حق احشر نفسي مع اتنين متجوزين.
لم تُبدِ أية رد فعل وبقيت متجهمة وعابسة فتنهد وأدار وجهها إليه متابعا :
- أنا مستحيل اتخلى عنك صحيح جوزناكي ليه بس انتي عارفة اننا اضطرينا نعمل كده ... ردي عليا انتي عامله ايه معاه متقوليش انه بيضربك او...
قاطعته نيجار بنزق :
- وهتعمل ايه لو قولتلك ضربني وأهانني هتسحبني من إيدي وتقولي مفيش رجعة لبيته انا هطلقك منه !
إرتبك صفوان لهنيهة وأخفض رأسه ثم عاد وحدق بها مجيبا :
- انا مبقدرش اعمل ده دلوقتي الظروف مبتسمحليش الصلح مرهون بالجوازة ديه لو طلقك هيرجع يهاجمنا بطريقة مباشرة واحنا لسه مش مستعدين بس أوعدك اول ما اقف على رجليا هبعده عنك استحملي كام شهر بس.
إبتسمت وطالعته مستنكرة :
- كام شهر ؟ انا فاكرة انك قولتلي استنى اصبر كام يوم وارجعك ودلوقتي بتقولي استحمل كام شهر ياترى المرة الجاية هتقولي استني عليا كام سنة ولا تقولي ده بقى نصيبك خلاص ولازم ترضي فيه.
- لا انتي مش هتكملي معاه بصي انا خدت قرض من واحد معرفة وبدأت في صفقة كبيرة لو نجحت فيها التجار هيتكاترو عليا وينسو آدم فهو هيضعف وتقل مكانته وساعتها انا هكون الطرف الأقوى واقدر اطلقك منه.
والكلام ده محدش بيعرفه غيري أنا وناس في الشغل قريبة مني ومحدش هيسمع بيه لأن لو الخبر وصل لإبن سلطان وعرف انا متعاون مع مين هنقع فمشكلة لانه اكيد مش عايزني ارجع منافس ليه.
هتف صفوان مدافعا عن نفسه ومطمئنا إياها بما يتأمل حدوثه لتضعف عزيمة نيجار ويقل غضبها منه بعدما أدركت بأنه إن لم يستطع إعادتها لحياتها القديمة فعلى الأقل هو يفكر بها ... بقيت متجمدة مكانها ليبتسم الآخر ويحضنها مرددا عليها وعوده حتى انتهت زيارتها وعادت إلى سرايا الصاوي.
صعدت للطابق العلوي وتوجهت إلى غرفتها تحت أنظار حكمت التي أوقفتها ملقية كلماتها عليها :
- رجعتي من بيت الشياطين ياترى اتفقتو ع ايه المرة ديه وابن عمك وصاكي تعملي ايه تقولي آدم بالسم ولا الخنق ولا ... تضربيه بسكينة.
لم تجب عليها وكادت تكمل طريقها فأوقفتها مجددا :
- متغتريش بنفسك أوي كده ومتفتكريش ان حسابك هيكون مجرد تنظيف للبيت أنا لو عليا اطلع بروحك بس لازم أصبر عشان مضيعش اللي تعبت عليه سنين.
رشقتها حكمت بكره نضح من عينيها بوضوح وجزت على أسنانها هاسّة بحقد :
- اول ماعرفت ايه اللي عملتيه مع آدم كان نفسي احرقك انتي وعيلتك في نار واحدة وحفيدي كان هيعمل كده فعلا لولا الظروف مسمحتلناش وقتها..
بس بوعدك يابنت الشرقاوي اني اضيق الحياة عليكي واخليكي تتمني الموت ولا تطوليه عشان تعرفي انك لعبتي مع ابن سلطان اللي كانت تتهزله رجالة بشنبات وريس عيلة الصاوي.
أنهت تهديدها وتوقعت أن تصمت ولا تجادلها كعادتها لكن نيجار خالفت ظنونها واِبتسمت متمتمة :
- حقك تنتقمي مني مش هقول ليه بس في الأول انتي حددي مين اللي هتنتقميله حفيدك آدم ولا آدم الصاوي.
قطبت حكمت حاجباها مقتضبة فتابعت هذه الأخيرة برفعة حاجب متلاعبة :
- يعني انتي كل مرة بتفضلي تقولي ابن سلطان ابن اكبر تاجر والحفيد الوحيد لعيلة الصاوي ف انا مبقتش متأكدة لو زعلك كان عليه هو نفسه لأنه كان هيموت ولا على سمعة العيلة اللي هتتشوه لو حد عرف ان في واحدة غدرت بيه وطعنته.
شهقت من وقاحتها ورفعت يدها كي تقبض على تلابيب فستانها فأمسكتها نيجار باصقة كلماتها بتهكم حاد :
- انا لو مكانك عمري ماكنت هلاعب حد عزيز عليا واجبره يعمل حاجات غصب عنه عشان منصب طمعانة فيه مش انتي أقنعتي آدم يتجوزني عشان ميخسرش مكانته عند العمدة ومضطرة تستحملي وجودي عشان مصالحك اه اقصد عشان مصلحة حفيدك فبصراحة مبقتش عارفة مين اللي بيستغله فعلا أنا ولا حضرتك.
ثم غادرت تنهب الأرض نهبا تاركة وجهاً اِمتقع بغل من تلك الوقحة سليطة اللسان ...
___________________
في مكان آخر.
بينما كان يُشرف على أمور المزرعة ويساعد عُماله في تنظيف الإسطبل جاء إليه فاروق وبرفقته شخص ما فبادره بالإستفسار :
- عملت اللي قولتلك عليه ؟
هز رأسه بإيجاب :
- أيوة يا آدم بيه انا روحت لأرض صفوان بيه واستغليت غيابه وشوفت الحال عامل ازاي.
- ولقيت ايه.
- كانو بيشتغلو ع الجزء المحروق من البساتين وطلعو كلام بأن شغله هيرجع زي الأول وكمان أنا قدرت اسحب الكلام من واحد بعرفه وقالي سمع ان صفوان بيه خد قرض كبير وهيساعد نفسه بيه.
- هو خد قرض من البنك يعني ؟
- لا يا بيه قال انه استلفه من واحد صاحبه حب يساعده.
استمع آدم لكلماته بتركيز مفكرا في هوية هذا الشخص الذي أعطى له قرضا يكفي لإصلاح الأرض وبدء العمل عليها من جديد وهل هذا السبب الذي جعله يمتلك الشجاعة حتى يعقد صفقات مع تجار كبار، حسنا ربما هو يبالغ في تقدير الأمور ربما تلقى مساعدة من صديق بشكل إعتيادي لكن هل هذا يفسر إنسحاب التاجر عيسى من شراكته مع آدم الصاوي ويذهب لعقدها مع صفوان ؟
دلك آدم صدغيه لثوان وأشار للرجل بالمغادرة ثم قال لفاروق :
- عايزك تسأل ع الشخص اللي ساعد ابن عيلة الشرقاوي وتشوفلي هو مين لأني مش مستريح للموضوع ده.
أومأ مطيعا أوامره :
- ماشي يا آدم هعمل اللي بقدر عليه ... صحيح مراتك احم اقصد نيجار هانم رجعت للبيت من شويا محمد وداها وجابها زي ما أمرت.
حدق فيه بإمتعاظ من إلقائه لقب الزوجة على تلك المرأة ورغم ذلك لم يتكلم فهي زوجته فعلا شاء أم أبى والله وحده يعلم عمَّ تكلما هي وإبن عمها الوغد وأي خطة شيطانية تعاونا عليها ...
___________________
فتحت باب الشرفة لتراقب مشهد الغروب ورغم برودة الجو الإعتيادية بما أن موسم الشتاء على الأبواب إلا أن سماء هذا اليوم كانت صافية إلا من بعض كُتل الغيوم الصغيرة وهذا ماجعلها تعجب خاصة أن مزاجها اليوم يعتبر جيدا بسبب إسترجاعها للحزمة التي تحمل ذكرياتها مع والديها ...
وقفت نيجار على أعتاب الشرفة تتأمل المنظر أمامها كان الأشجار التي تمتد على طول الطريق تتكللها ثمار التفاح الامعة، وأغصان الأشجار الأخرى التي كادت تفقد جميع أوراقها تتشابك منحنية ومتراصة مثل القبة...
بينما شعت السماء عند نهاية الطريق موشاة بألوان الغروب وكأنها نافذة مستديرة مخرّمة تقع عند آخر الممر وكان هذا المنظر كفيلا بجعلها تمدح شيئا واحدا في هذا المبنى وهو أنها موجودة في غرفة ذات إطلالة هائلة تشتت أفكارها السوداوية ولو قليلا.
ضربتها نسمة باردة على حين غرة فرفعت نيجار وجهها مستقبلة إياها ببسمة حتى سمعت مناداة أم محمود لها فمطت شفتها ببلادة وخرجت إليها لتقول الأخرى :
- لمؤاخذة معلش تجي تساعديني تحت انا مش ملحقة ع الطبيخ وهما طالبين شاي دلوقتي.
- ماشي.
نزلت نيجار للمطبخ ووضعت أكواب الشاي على الصينية وتوجهت للصالة حيث تجلس حكمت مع حفيديها وعندما رآها آدم تجهم بشكل واضح وأشاح وجهه لكنها تجاهلت تصرفه وانحنت حتى تقدم له الكوب غير أن الجدة صاحت عليها بنقمة :
- انتي مين طلب منك تعمليه وتجيبيه لهنا ! يا ام محمود انتي فين تعالي.
سمعتها الخادمة وركضت لها فورا لتوبخها حكمت :
- انا كام مرة قولتلك البت ديه متقربش ناحية الطبيخ ولا ناحية اللي بنشربه ايه مبتفهميش.
شحب وجهها بخوف وأجابتها :
- لـ لا أنا ... أنا مكنتش ملحقة و...
قاطعتها بصوت أعلى وأشد قسوة :
- مش عايزة اسمع تبريراتك ديه آخر مرة تخليها تلمس حاجة بناكلها او نشربها ب ايديها القذرة ديه.
تفاجأت ليلى من هجومها غير المبرر من وجهة نظرها وهمست :
- الموضوع مش مستاهل الانفعال ده يا تيتا مينفعش كده.
رشقتها بنظرة محذرة ورفعت يدها تمنعها من المواصلة :
- متدخليش في اللي ملكيش فيه انتي مش عارفة حاجة ديه راحت النهارده لبيت أهلها والله اعلم اتفقت معاهم وحطتلنا ايه في الشاي عشان تخلص علينا مش بعيد عنها هي وعيلتها لأنهم متعودين ع الغدر.
إنقلب وجه آدم ونهض كي يجري مكالمة عمل بعيدا عنهن أما نيجار التي كانت تقف كالجماد غير مكترثة بإتهاماتها أخذت رشفة من الكوب قائلة بجمود :
- شربت اهو ومحصليش حاجة متخفيش انا لو حبيت اقتلك مش هخليكي تشكي فيا أصلا.
حملت الصينية من جديد وأخذتها إلى المطبخ لتغسل الأواني أما حكمت التي بدأت الشياطين تحوم حولها بسبب عديمة الأصل تلك توجهت بأنظارها نحو الخادمة مغمغمة :
- انا مش واثقة فيها خالص النهارده رجعت وهي جايبة معاها حزمة قماش من بيت الشرقاوي والله أعلم جواها ايه احنا لازم نتخلص منه يلا اطلعي للأوضة فوق ودوري عليها وجيبيهالي فورا.
- انا سألت عنها وقالتلي ان جواها حاجات ذكرى من أبوها وأمها.
- انتي مسمعتيش انا قلت ايه ؟
حدثت فيها ليلى مستنكرة أما أم محمود التي كانت تعلم شكل الحزمة جيدا لأنها رأت نيجار ظهر اليوم وهي تحملها ركضت تنفذ أوامر سيدتها رغم عدم إرتياحها لما ستفعله دلفت وفتحت الخزانة ووجدتها في المقدمة فحملتها وأخذتها لحكمت هاتفة :
- هي ديه يا ست هانم.
انكمشت أصابعها عليها بقرف ووقفت مفكرة في كيفية التخلص منها حتى وقع بصرها على صندوق الوقود فتوجهت ناحيته ورمت الحزمة على الأرض ثم دلقت عليها كمية معتبرة منه ومدّت يدها لعلبة الكبريت التي كانت بحوزة أم محمود، أعطتها هذه الأخيرة إياها لتصيح ليلى معترضة :
- مش للدرجة ديه يا تيتا حرام والله انتي بتعملي ايه.
سمعتها نيجار فخرجت من المطبخ لترى مايحدث وكذلك آدم الذي أنهى مكالمته للتو ورأى جدته تكب الوقود على شيء من الواضح أنه يخص -زوجته- لكنه لم يهتم وكاد يصعد للغرفة لولا شهقة نيجار التي وقع نظرها على الشريط الأحمر الملقي في الأرض وعرفت ماهيته فورا فصرخت بهسيترية وركضت إلى كومة النار التي بدأت في الإنتشار وأدخلت يداها بها !
إنتفض آدم بصدمة ووجد نفسه يركض ناحيتها وينتشلها صارخا :
- انتي بتعملي ايه يامجنونة.
تململت بين يديه بهستيرية هادرة بأعلى صوت لديها :
- لاااا ابـعـد عـنـي اوعى سيبني.
دفعته بقوة لم يستطع مجابهتها بسبب صدمته مما يحدث وحاولت إطفاء النار بيديها كي تنقذ ما يمكن إنقاذه وبالكاد استطاعت سحب منديل أمها ليعود آدم ويمسكها آمرا بجلب الماء فهرعت ليلى والخادمة تمسك كلتا منهما دلوا ممتلئا وأخمدتا الحريق ولم يبقَ من أثره سوى كومة رماد تشهد على آخر ذكرى لنيجار من طفولتها مع والديها ...
ساد الصمت فجأة بعد العاصفة التي هبّت في السرايا وأصبح كل واحد منهم على حال...
ليلى التي بقيت منصدمة مما رأت للتو وحكمت التي وقفت بشموخ وإحساس كبير بالرضا بعدما استطاعت تحطيم نيجار وآدم الذي كان مذهولا وغير مستوعب لسبب حالتها المجنونة.
أما هي، فكانت تجثو على ركبتيها بملامح ميتة تشخص بصرها في حزمتها المحترقة بعيون حمراء جافة و يدين محترقتين تمسكان بالمنديل المهترئ قليلا رفعته لأنفها ببطء كي تشم رائحة أمها لكنها لم تجدها ! لم تشم سوى رائحة الإحتراق وقد كادت تخنقها ...
كتمت أنفاسها ورفعت رأسها للشيطانة التي كانت تبتسم بظفر وسرعان ما ضحلت ابتسامتها عندما نهضت نيجار وانقضت عليها تقبض على عنقها بعنف صارخة بجنون :
- أنا هــقـتلـك هخلص عليكي !!
جحظت عينا حكمت بصدمة وانتفض آدم يحاول إبعادها لكنها كانت كالممسوسة لا تسمع ولا ترى ولا تفكر في شيء سوى قتلها ولعلّ حكمت محظوظة لكون نيجار لا تحمل سكينا الآن وإلا لم تكن ستفكر مرتين قبل أن تشق عنقها !
عمت الفوضى واسترعت إنتباه الحراس في الخارج وفاروق الذي وصلته صرخات أهل المنزل فهرع إلى الداخل ليرى الكارثة التي تحصل..
تشابكت الأيادي محاولين تخليص السيدة الكبيرة من قبضة نيجار المصممة على إزهاق روحها بيديها المحترقتين ولكنها لم تكن تشعر بالألم بسبب إنفعالها بَيد أنها وجدت نفسها فجأة تُقتلع بقوة ثم ألقاها بعنف على الأرض وهدر بعصبية :
- كفاية بقى !
وقعت حكمت وهي تسعل بتحشرج ممسكة برقبتها فاِنحنى الجميع عليها مهدئين إياها أما آدم فعاد وغرز أصابعه في ذراعها كي تقف وسحبها خلفه وسط استسلام غريب منها حتى دخل للغرفة ورماها بنفس العنف على السرير هادرا بوحشية :
- أقسم بربي لو مكنتيش واحدة ست كنت كسرتلك عظمك ف إيدي بس سبحان اللي مصبرني عليكي لغاية دلوقتي لكن هتتحاسبي أنا هندمك ع اللي عملتيه ده.
اتكأت نيجار على كوعها الذي أُصيب عند دفع الآخر لها ونهضت فتوضح جرح جبينها الذي عاد ونزف من جديد إثر نفس الدفعة وتلك الندب الحمراء على يديها إضافة لشعرها المشعث ووجهها المكدوم وفستانها الذي استحال لونه إلى الأسود.
حالتها المزرية جعلت آدم يتشوش للحظات قصيرة قطعتها هي بهمستها الميتة :
- انتو مبسوطين دلوقتي حالتي عجبتكم خلت قلبكو يبرد شويا.
لم يجبها فتلألأت عيناها بالدموع وتابعت بصوت مهتز :
- لو حرقتوني انا وخلاص ليه قربتو من حاجتي لييييه !
صرخت بآخر كلمة وهي تدفعه فجز على أسنانه غاضبا ووجد نفسه يرفع يده كي يصفعها لكنه توقف بأعجوبة قبل أن تصل لوجهها وهسَّ :
- قولتلك كفاية اخرسي.
نظرت لكفه وتدحرجت دموعها صائحة بحرقة :
- وقفت ليه عايز تضربني ؟ يلا اضربني ع وشي واشفي غليلك اساسا انت عملت فيا اسوء من كده !
انكمشت أصابعه على هيأة قبضة واحمرت عيناه بشدة متذكرا مافعلته بجدته فزفر هامسا :
- انتي جنس ملتك ايه بالضبط ها انتي ... بتطلعي أسوء ما فِيا.
- كفاية كفاية انا تعبت انت عايز مني ايه بالضبط عايزين مني ايه سبق وقولتلك لو عايز تنتقم مني اقتلني وريحني بس ليه تخليها تحرق روحي ليه خلصتني من الذكرى الوحيدة الفاضلة من أهلي ليه حرام عليك.
- انتي بتقولي ايه انا مش فاهمك.
سألها بذهول عما تتكلم عنه لكنها انشغلت بضم المنديل وشمته مجددا لتدخل في نوبة بكاء فظيعة مرددة :
- مفيش ريحة ... انا مش قادرة اشم ريحة ماما ابدا ولا هرجع اشوف وشها هي وبابا ياريتني مجبتهاش من بيتنا انتو ليه عملتو فيا كده ليييه.
استمع إليها وتوهج عقله بالإدراك وهو يربط الأحداث ببعض حتى توضح له الأمر، هل كانت تلك الحزمة تحوي على آخر ذكرياتها مع والديها وقامت جدته بإحراقها إذا هذا سبب فرحتها بذهابها لمنزلها لقد كانت تريد جلب حزمتها كي تبقى معها ولم تدري أنها ستفقدها فور وصولها !
راقب نيجار التي وقعت على الأرض مطلقة صيحات وشهقات ألم رافقتها دموعها الغزيرة كان إنهيارا لم يشهده من قبل عليها حتى عندما تركها للموت مع صفوان في بيت الهضبة هاهي نيجار تحترق بلوعة الفقدان ويكاد قلبها يتفتت من الألم ..
هذا ما أراده آدم دوما لكنه لسبب ما وعند خروجه والإغلاق عليها لم يستطع سوى إسدال رأسه على صفحة الباب والإستماع لصوت نشيجها وقهرها بوجه جامد ومشاعر تتَّسم ببعض الـ ... الحزن !
*****
مرت ساعات ومازالت على وضعها جالسة على الأرض وتسند رأسها على السرير مشخصة عينيها في الفراغ ودموعها تنزل بسكون بعدما هدأت من وصلة جنونها ...
صدع صوت طرقات الباب يليها دخول ليلى وهي تقدم خطواتها ببعض من الحرج لأنها تتعامل معها للمرة الأولى منذ مجيئها لمنزلهم.
رفعت نيجار بصرها نحوها فتنحنحت متمتمة وهي تشير إلى علبة الإسعافات التي بيدها :
- جيت عشان اساعدك لأن باين عليكي تعبانة أوي أنا هعقملك جروحك واحطلك مرهم على إيديكي.
زفرت وهمست باِنطفاء :
- مش عايزة حاجة اطلعي برا.
أجفلت ليلى من فظاظتها وساورها شعور بالضيق منها فكادت تغادر لكنها عادت وجلست جوارها مرددة :
- عارفة انك زعلانة من اللي حصل رغم ان اللي عملتيه في تيتا كبير اوي ونفسي تتحاسبي عليه بس مع ذلك في جزء مني متفهمك صعب الواحد يفقد حاجات تخص أهله المتوفيين.
شرعت في تعقيم جراحها بينما تتابع مستطردة :
- انا لحد دلوقتي مش فاهمة ايه دخلك لحياتنا فجأة وخلى ابيه آدم يتجوزك ومتنرفزة لأني حاسة في حاجة اكبر من عقد صلح بين العيلتين وانا مبعرفهاش.
- وايه اللي مخليكي متأكدة كده ؟
أجابت ليلى ببساطة :
- لأن كره تيتا ليكي غريب حتى اخويا هو راجل وعمره ما دخل الستات في عداوته يعني لو مكنش بيعرفك من قبل ولو هو متجوزك جواز تقليدي عشان الصلح كان ع الأقل هيعاملك بما يرضي الله بس اللي شايفاه عكس كده تماما ... هو مبيطيقش يسمع سيرتك حتى.
نظرت لها نيجار بجمود وكتمت تأوهها عندما بدأت الأخرى تضع المرهم على يديها ولحسن الحظ أن الحروق من الدرجة الأولى لذا لن تأخذ وقتا طويلا حتى تتحسن، أنهت تضميدها وخرجت متوجهة نحو ذلك الذي كان يقف عند الشرفة المطلة على الطابق الأول وقالت :
- عملت زي حضرتك ما قولتلي يا ابيه.
التفَّ إليها مومئا بإيجاب فتنهدت واقتربت منه متشدقة :
- انا مبقتش فاهمة ايه اللي بيحصل ده بظن ان مفيش أغرب من اللي عشناه النهارده.
تنهد آدم موافقا إياها :
- اه فعلا كلامك صحيح.
- طب انت شوفت تيتا واطمنت عليها ؟
- ايوة هي بقت كويسة دلوقتي.
- انت عارف ان حكمت هانم مش هتسكت لمراتك مش كده ويا عالم هتعمل فيها ايه ديه اتهجمت عليها قدامنا كلنا وكانت هتقتلها لو ملحقتهاش.
صمت متذكرا الحوار الذي دار بينه وبين جدته بعد الذي حدث فتنحنح متمتما :
- الوقت اتأخر وانتي عندك كلية بكره الصبح يلا روحي نامي.
همهمت ليلى بملل واحتضنته مبرطمة باِمتعاض :
- ماشي تصبح على خير.
قبل آدم جبينها مبتسما وعند مغادرتها زالت إبتسامته معيدا أحداث اليوم بذاكرته ظل جالسا بضع ساعات حتى تجاوزت الساعة الثانية بعد منتصف الليل وهنا نزل إلى الأسفل ووقف عند الركام المحترق يتذكر نوبة نيجار العصبية ودخولها في وصلة بكاء هستيري جعلت صوتها يُبح...
فرغم أنه مرت أسابيع عديدة على زواجهما إلا أنه لم يرَها هكذا من قبل لقد كانت تستقبل إهانات جدته ببرود وتقوم بسائر أشغال هذا المبنى الكبير دون إعتراض حتى يوم حبسها في القبو لم يلمح دمعة واحدة على وجهها فهل يعقل أن تكون متعلقة بذكرى والديها لدرجة إدخال يديها في النار بلا تردد !
زفر آدم مهمهما بينه وبين نفسه :
- كويس انها مكنتش شايلة سكينة ف إيديها وإلا مش عارف ايه كان ممكن يحصل.
وأثناء شروده أبصر شيئا موجودا بين الرماد حمل بين يديه وكاد يتخلص منه لكنه توقف مطرقا لثوانٍ قبل أن يحسم أمره ويصعد لها...
كانت نيجار مستلقية على الأرضية مغمضة عينيها ودموعها الجافة تظهر بوضوح على بشرتها انحنى آدم مطالعا إياها ولاحظ يدها المضمدة تمسك المنديل المشهور فتنهد ووضع ماوجده بجوار رأسها ثم خرج أما هي ففتحت عيناها كي ترى ماوضعه وهنا اعتلت الصدمة ملامحها حين وجدت صورتها مع والديها !
قبضت عليها فورا ممررة عينيها عليها بلهفة كانت الصورة التي تجمعها معهما مهترئة قليلا ومحروقة من الطرف لكن وجه أمها وأبيها لم يصب بضرر يبدو أنها الشيء الوحيد الذي نجى من الإحتراق بعدما إعتقدت بأنها فقدت الألبوم بأكمله.
التمعت عيناها بالدموع وهي تقبلها ثم ضمتها لصدرها هامسة :
- الحمد لله ... الحمد لله.
إشرأب عنقها ناحية الباب محدقة به وهي لا تصدق أن آدم فعل لها هذا الإحسان بعد كل ما ارتكبته من سوء في حقه رغم كرهه لها إلا أنه تفهم حزنها وقهرها وجاء بنفسه ليضع الصورة بجوارها ...
ارتجفت شفتي نيجار وابتسمت باِمتنان لأول مرة متمتمة :
- متشكرة ... متشكرة اوي يا آدم.
__________________
رجاء التفاعل على البارت لتفادي ضرر الإبلاغات، قراءة ممتعة.
الفصل الرابع عشر : تناقض.
__________________
مرَّ أسبوع على الحادثة ظلت فيه نيجار قابعة بغرفتها تحت تأثير ماتعرضت له بينما تابع البقية حياتهم بشكل طبيعي واليوم إستيقظت مبكرا وهي تشعر أنها في حال أفضل نهضت واغتسلت ثم رتبت الغرفة سريعا وخرجت لتصطدم بآدم بشكل عرضي.
عادت للخلف بتفاجؤ ورددت :
- معلش مخدتش بالي منك ... صباح الخير.
تأملها ببرود لبضع لحظات ثم قال :
- أخيرا قررتي تطلعي من الاوضة وتشرفينا بحضورك.
رفعت نيجار يداها أمام وجهه مجيبة بنبرة هادئة :
- مكنتش هقدر اعمل حاجة وإيديا محروقين بس الحمد لله الندوب خفت دلوقتي مش زي الأول.
ثم تابعت بنبرة شابها الإمتنان وهي تنوي شكره على اللفتة التي قام بها عندما أعاد لها الصورة :
- احنا بقالنا كام يوم في وضع صعب ومجتش فرصة مناسبة عشان اكلمك بس بما اننا واقفين دلوقتي أنا عاوزة ااا...
- انتي عاوزة تعتذري من ستي وتطلبي العفو منها تمام أساسا ده اللي كنت جاييلك علشانه.
أكمل آدم الجملة ممليا عليها ما يود منها فعله فاِتسعت عينا نيجار بدهشة تمكنت منها لقد كانت تريد شكره لأنه أحضر لها آخر صورة ظلت سليمة لكنه قاطعها وأخبرها بأنه جاء ليجعلها تعتذر من جدته !
هزت رأسها رافضة مباشرة :
- أنا مش هعمل كده.
- وأنا مش بسألك عن رأيك ياحبيبتي هتعتذري وتبوسي ايدها غصب عنك ولا عايزة تتحبسي زي المرة اللي فاتت اوعى تكوني فاكرة اني نسيت تهجمك على حكمت هانم لا أنا كنت ناوي في اليوم إياه اقطعلك إيديكي اللي اتمدت عليها بس قطع الإيد مش هيفيدنا لو معتذرتيش.
رمقته نيجار بدهشة ممزوجة بالإستنكار لكنها رغم ذلك لم تبين له بل كتفت يديها ببعض متسائلة بملل :
- وهتعملي ايه لو معتذرتش ؟ انت عملت نفس الشي من فترة وأمرتني اعتذر ولما معملتش كده حبستني في اوضة صغيرة لحد ما اتخنقت ومع ذلك فضلت مصممة ع موقفي يبقى ايه اللي هيجبرني دلوقتي.
ابتسم آدم بدهاء وتقدم منها يهمس مصطنعا الإستفسار :
- صحيح هو مش أخوكي دخل في صفقة مهمة ومسألة وقوفه ع رجليه من تاني معتمد عليها وسمعت كمان أنه خد قرض كبير من واحد بيعرفه ياترى ايه اللي هيحصل لو الأرض رجعت اتحرقت هي والرزق اللي عليها وخسر الفلوس اللي مستلفها بصراحة انا مش قادر اتخيل الكارثة اللي هتنزل ع راس صفوان.
إختفت ملامحها الهزلية واعتدلت في وقفتها بتوجس متسائلة بداخلها عن كيفية معرفته لتفاصيل معلومات تخص عمل صفوان فعلى حسب ما أخبرها هو أنه لا أحد يعلم بإقتراضه سوى بضعة أشخاص فقط إذا كيف عرف آدم وهل سينفذ تهديده حقا ويحرق أرضه مجددا ؟
- ايه تحرق الأرض ديه هي شغلانة يعني وبعدين أنت فاكر انك هتقدر ترجع تحرقها من غير حد ما يكشفك ليه الدنيا سايبة.
هدرت نيجار بحدة وأردفت :
- مستحيل اسمحلك تعمل كده وهخلي العمدة يعرف بتهديدك ده.
تنهد واضعا يده بجيب بنطاله وقال :
- ماشي قوليله ونشوف هو هيصدقك ولا يصدقني انا وابقي عرفيه باللي عملتيه انتي وأخوكي من قبل وخلاني انتقم منكم ساعتها هنشوف العمدة هيدي الحق لمين.
- ع اساس مش عارفة انك مش عايز حد يعرف باللي حصل ما بيننا عشان متتبهدلش مش ده اللي خلاك توافق تتجوزني ؟
- اللي خلاني اوافق اجيبك لبيتي هو رغبتي في العمودية لو انا رفضت طلب العمدة كان الكل هيفتكر اني مبحترموش أما عديم الشرف بتاعك هيكسب رضاه خاصة لو هو عمل نفسه موافق ع الصلح عكسي، بس انتي دلوقتي بقيتي مراتي يعني هكون في نظر العمدة واحد اتجاهل كرهه وغضبه وحب يعمل الصلح مع عدوه اللي غدر بيه وسرقه
أما انتي وعيلتك فـ مفيش داعي اقولك هتبقو ايه في نظره ونظر أهل البلد.
هذه المرة استطاع آدم إفشالها بحجته القوية أي في حالة رفضها للإعتذار ستكون أمام إحتمالين أحلاهما مُرّ فإما سيفسد محاولات صفوان في الوقوف على قدميه مجددا وتظل هي صامتة وإما تعترض فيعلم العمدة بتعاونها مع إبن عمها ضد عائلة الصاوي.
وقفت نيجار تتخبط كأمواج البحر ولم يسعفها التفكير في أي حل من جهة لا تريد التأسف للسيدة الشمطاء لأنها أحرقت قامت بإحراق روحها دون شفقة ومن جهة هي لا تريد إلحاق الضرر بصفوان إذا ماذا ستفعل الآن ...
كان آدم قادرا على رؤية عجزها ينضح من عينيها المضطربتين وتأكد أنه تمكن منها لذا أحكم القيد على ذراعها وجرَّها خلفه حتى وصلا إلى حيث تجلس حكمت التي كانت ترتشف من كوب الشاي ببرود يناقض الخبث بداخلها ... هذا ما فكرت به نيجار وهي تحاول التملص من قيده إلا أنه تركها بنفسه عندما دفعها بعنف حتى وقعت على ركبتيها وأمرها بخشونة :
- يلا اعتذري.
نظرت له ليلى بتوجس وكذلك أم محمود التي كانت تخدمهما بينما انكمشت نيجار مكانها وضغطت على طرف ثوبها بكرامة مجروحة وهي تتمتم بصوت يكاد لا يصل الى أسماعها هي شخصيا :
- ا ... اسفة.
نهرها الآخر بقسوة :
- علي صوتك.
رمقتها حكمت بخبث ورضا وهي تراها تجثو على ركبتيها بخنوع تطلب الصفح منها بوجه ذليل وعينين مكسورتين أما نيجار فكتمت دموعها ثم رفعت رأسها لتلك التي تبتسم بشماتة لتأخذ نفسا عميقا وتقول بصوت يغلفه الكبرياء رغم الموقف الذي وقعت به :
- بعتذر منك يا حكمت هانم مكنش ينفع افقد اعصابي وأخنقك بإيديا صحيح حضرتك اتعديتي على حاجتي بس مع ذلك كان لازم اراعي سنك ومردش عليكي بنفس طريقتك.
ثم سحبت يدها وقبلتها بجمود تحت أنظار الجميع لتهتف حكمت ببلادة بعدما فهمت الإهانات المبطنة التي وجهتها نيجار عليها :
- شايف يا حفيدي ديه آخرة اللي يخاطر ويدخل واحدة متسواش لبيته بس كده كده مكنتش بتوقع أي أدب ولا أخلاق من بنت الشرقاوي وعموما أنا هغض نظر ع اللي عملتيه وديه آخر مرة ... لأن المرة الجاية هيبقى فيها موتك.
انتصبت واقفة وتحركت كي تتجاوزها فاِصطدمت قدمها بنيجار التي ارتدَّ جسدها للخلف لكنها نهضت وكأنه لم يحدث معها شيء ونظرت لآدم قائلة :
- تمام عملت المطلوب مني عايز حاجة تانية ؟
حدجها بتجهم ولم يجب عليها فتقلصت شفتيها في ابتسامة ساخرة وعادت للغرفة ليتبعها هو بعد دقائق كي يأخذ هاتفه ويرحل إلا أن نيجار أوقفته بسؤالها :
- ليه خليتني اعتذر من جدتك وهي اللي غلطت نسيت انها حرقت الحزمة بتاعتي وصوري وكل ذكرياتي مع أهلي !
لم يُعر لها آدم بالا وتجاهلها مما جعلها تغتاظ فاِعترضت طريقه هاتفة بثورة :
- طالما شايفني غلطانة وبستاهل العقاب يبقى ليه بعدتني عن النار لما دخلت ايديا جواها ليه رجعتلي آخر صورة فضلت سليمة وحطيتها جمبي وليه حسستني انك ... انك حسيت بيا وتفهمت موقفي.
حينها هز كتفه مجيبا ببساطة :
- لأن مينفعش حد غيري يأذيكي حتى لو كان انتي ... لو ايدك هتتحرق فـ انا اللي هحرقها ولو لازم تعيطي وتتقهري انا اللي هعمل فيكي كده
وبالنسبة للصورة بتقدري تعتبريها حسنة يعني انتي اشتركتي مع ابن عمك فلعبة قذرة وحاولتو تقتلوني لكن بالمقابل مهانش عليا اشوف حد بيتحرم من آخر ذكرى ليه من أهله حتى لو عدوي وده بيظهر الفرق بيني وبينكم.
جحظت عيناها بذهول ولمعتا بخيبة درأتها سريعا ومع هذا كان هو قد لاحظها فضحك بسخرية معقبا :
- خير ياحبيبتي كنتي مستنية اقولك صعبتي عليا ومقدرتش اشوف دموعك ولا ايه ؟ معقول انتي فاكرة انك لسه واقفة قدام آدم القديم آدم اللي عاملك كـ إنسانة مش وسيلة توصله لأهدافه.
ولا استني يمكن افتكرتي ان انهيارك وعياطك خلو قلبي يرجع يحن ليكي وهسامحك وكده ؟
وقفت نيجار تستمع له بصمت بعدما عجزت عن إيجاد كلمات مناسبة في هذا الموقف فهي بالفعل اعتقدت لوهلة بأن كرهه ناحيتها أصبح أقل من السابق أو على الأقل لن يهينها كما يفعل عادة ولكنها الآن تقف تناظره بإحباط لا تعلم سببه نهائيا.
وأكثر ما يؤلمها هو أن آدم جعلها تجثو على ركبتيها وتتوسل المغفرة أمام الجميع هي نيجار التي لم ترضخ لأحد يوما جاء هو ببساطة وأجبرها على التأسف من أكثر شخص أذاها !
عندما وجدها آدم كان بشكل ما قادرا على قراءة مدى تخبطها من عينيها وإدراك مايجول في خلدها ربما لأنه أصبح يعلم ماهية شخصيتها الحقيقية بعيدا عن ما كانت تمثله في الماضي.
إلا أنه لم يكن يرغب في الجدال أكثر لذا تابع خطواته متجها لخارج الغرفة تاركا إياها تشتعل بعواصف تكاد تحرقها هي قبل أن تفعلها في الآخرين خاصة حين تذكرت تهديد آدم فعقدت حاجباها بقلق مبرطمة :
- لو نفذ كلامه ورجع حرق الأرض هيقع صفوان في مصيبة كبيرة وبعدين هو قالي محدش من برا بيعرف بالقرض وتفاصيل الصفقة يبقى آدم عرف منين عشان يساومني، أنا لازم احذره بس هعملها ازاي مفيش أي طريقة اتواصل بيها معاه.
ظلت تحوم في الغرفة ذهابا وإيابا حتى خطرت ببالها فكرة فخرجت للفناء كي تتأكد من عدم وجود أحد ثم دلفت للمطبخ لتلاحظ أم محمود وجودها وتحمحم باِحتراز :
- معلش انتي عارفة ان الست حكمت منعتك تلمسي أي حاجة تخص الطبيخ لو عايزة تساعدي روحي امسحي برا.
مطت نيجار شفتها باِمتعاض معقبة :
- انا جاية عشان افطر مكلتش حاجة من امبارح ولا ده كمان ممنوع ؟
- لا طبعا اتفضلي.
وقع بصرها على هاتف الخادمة الموضوع فوق سطح المطبخ فتنحنحت واِدعت تجهيز فطورها بينما تفكر في خطة لجعلها تغادر حتى قالت :
- اه صحيح انا بعتقد أن حكمت هانم كان بتنادي عليكي من شويا.
نظرت لها باِستغراب :
- ايه ده بجد انا مسمعتهاش.
- طيب روحي عشان متزعقلكيش بسبب تأخيرك.
- هروحلها استني اجيب موبايلي.
أوقفتها نيجار مصطنعة الحذر :
- بقولك هي عماله تناديكي وانتي قاعدة تضيعي وقتك هنا اطلعيلها احسن ما تتعصب علينا احنا الاتنين.
أحست بالرهبة وخرجت فورا فتركت نيجار الصينية من يدها واِلتقطت الهاتف قديم الطراز تنوي الإتصال بصفوان حاولت تذكر رقمه بشكل صحيح وكتبته بأصابع مرتجفة لكن لسوء حظها سمعت صوت خطوات قادمة فألغت عملية الاتصال ورمت الهاتف بعشوائية مدعية الإنشغال في تجهيز فطورها.
دلفت ليلى وناظرتها بهدوء قبل أن تجلس على المائدة متمتمة :
- باين شهيتك مفتوحة ع الأكل النهارده غالبا اعتذارك من تيتا جه عليكي بفايدة.
قلبت عيناها بضيق من هذه الصغيرة التي أفشلت خطتها لكنها لم تظهر ذلك بل رسمت إبتسامة مزيفة على وجهها وهي تجلس أمامها وتجيبها :
- اه يمكن ... هو حد يطول ياخد رضا ست البلد.
استقبلت ليلى سخريتها المبطنة ببرود وأردفت :
- بصراحة اتوقعت أبيه يخليكي تعتذري ماهو مش معقول يسيب مراته تتهجم ع جدته ويسكت من غير ما يعاقبها بس اللي محيرني انهم اكتفو بـ اعتذار وبس كده خاصة تيتا.
همهمت نيجار ببرودة أعصاب معقبة :
- يمكن مكتفوش بإعتذاري ويمكن جدتك قاعدة في اوضتها دلوقتي وبتفكر ازاي تنتقم مني.
- ده أكيد.
- غريبة انك من فترة عالجتي جروحي والنهارده جاية تتكلمي ع العقاب باين ان عيلة الصاوي كلها متناقضة وكل يوم في حال.
رشقتها ليلى بنظرات هادئة مجيبة ببساطة :
- ديه حاجة وديه حاجة تانية اللي عملته كان علشان أنا بنت اصول سبق وقولتلك ان نفسي تتحاسبي ع تهجمك على جدتي وده مبيعنيش انك غلطانة انا لو مكانك وشوفت حد بيحرق ذكريات طفولتي هقتله فورا بس مع ذلك حكمت هانم هي ست البيت ده والحقيقة ديه مش هتتغير مهما عملت.
إنها شبيهة آدم فعلا نفس الغطرسة والحركات والكلمات حسنا لقد إتضح أن أبناء الصاوي يمتلكون نفس الأفكار وشعارات (إتبع مبادئ الأخلاق حتى في العداوة) !
هذا مافكرت به نيجار وهي تحدجها بشرود لتكمل الأخرى بنفس النبرة :
- على فكرة أنا خسرت بابا في طفولتي وماما اتوفت من سنتين يعني يتيمة زيك لكن بصراحة ابيه آدم فضل جمبي مسابنيش لحظة وحاول يعوضني عن غيابهم هو كان ولسه أحن واحد عليا ... وعلشان كده أنا مبحبكيش.
اندهشت نيجار من تصريحها المفاجئ ثم تمالكت نفسها ابتسمت بإستهزاء معقبة :
- ايه الصراحة ديه كلها.
أوضحت لها ليلى وجهة نظرها بجدية :
- متفهمنيش غلط أنا معنديش كره لشخصك بالذات بس من لما دخلتي انتي لبيتنا مشوفناش لحظة هدوء و ابيه آدم مش مبسوط بجوازه منك خالص ده غير القصص اللي بتحصل بينك وبين تيتا يعني بصراحة وجودك هنا بيسبب مشاكل وحوارات احنا في غنى عنها.
انزلقت ضحكة خفيفة من نيجار وهي تفكر أن هذه الفتاة لا تحبها لمجرد أن وجودها معهم يسبب الإزعاج إذا مالذي ستقوم به عندما تعرف بأنها طعنت أخاها المبجل وكادت تقتله ؟
قطع تفكيرها دخول أم محمود التي كانت تحمل أكياسا بيدها وقالت :
- وصيت الرجالة برا ع لحمة وخضرة عشان العشا ولسه واصلين دلوقتي ... صحيح أنا روحت لحكمت هانم وسألتها ع اللي عايزاه بس هي قالتلي انها مطلبتنيش.
- اها يبقى أنا سمعت غلط.
ردت عليها نيجار ببرود وهي تنهض متمتمة بعبارات مفادها أنها ستذهب لتنظيف صالة الإستقبال، وبمجرد مغادرتها ظهرت ملامح الخنق جلية على وجهها وجزت على أسنانها بينما تردد ساخطة :
- لو البت ديه مجتش من شويا كان زماني كلمت صفوان ونبهته.
__________________
في بساتين عائلة الصاوي.
إرتدى ملابسا مناسبة للعمل وبدأ في حمل صناديق الفاكهة إلى شاحنات النقل بحرص حتى أنهى الشحنة الأولى فاِستند بيده على الباب كي يلتقط أنفاسه بضع لحظات ثم مسح عرقه وأمر السائق بالإنطلاق.
التفّ متابعا حمل البقية في الشاحنة الثانية حتى لاحظ أحد العمال ينحني واضعا يداه على ركبتيه وهو يلهث بعياء كان مراهقا توفى والده منذ فترة وأصبح هو المعيل الوحيد لعائلته لذلك شغله عنده كي يستطيع الصرف عليهم.
اقترب آدم منه والتقط الصندوق واضعا إياه في الشاحنة فقال الشاب بتلجلج :
- عنك يا بيه أنا هشيلهم بنفسي بعتذر لأني وقفت مش هعمل كده تاني.
ربت على كتفه بجدية مطمئنا إياه :
- خلاص هناخد فترة استراحة عشان الغدا روح اغسل وشك وتعالى كُل مع الجماعة.
هز رأسه بنعم ليستطرد الآخر مستفسرا :
- صحيح نسيت اسألك عامل ايه مع دروسك وامتحاناتك اوعى تقولي انك مبتروحش لمدرستك.
- لأ انا بروح بس مش كل يوم عشان الشغل وكده و اه ع فكرة احنا عملنا الامتحان وطلعت الأول في الصف بتاعي.
أجابه بسعادة ممزوجة بالخجل لكونه يحادث سيده في العمل فاِبتسم آدم برضا :
- جدع افضل ع طول كده وبإذن الله هتنجح.
أومأ الشاب بإيجاب وغادر مع البقية ليظهر فاروق فجأة ويناديه باِضطراب :
- آدم بيه ... في حاجة حصلت ولازم تعرف.
نظر له باِستفهام متسائلا عما حدث فدنى منه وقال محترزا :
- فاكر المستثمر اللي حضرتك اتفقت معاه عشان مشروع البناء في الأرض بتاعتك هو اتصل بيا من شويا وقالي أنه بطل يشتغل معانا.
ذهل آدم واحتدت عيناه بغضب :
- ايه الكلام ده حصب ايه عشان يبطل يشتغل معانا وليه متصلش بيا أنا.
- قالي انه اتصل بيك بس انت كنت قافل تلفونك.
- ومع ذلك لازم يتواصل معايا شخصيا وبعدين ايه الجرأة ديه ازاي ياخد القرار ده من غير ما يتناقش معايا هو فاكر الموضوع لعبة !
هدر بعصبية مستشعرا بالإهانة وأضاف :
- ده تاني واحد بيتراجع عن صفقة معايا والاتنين دول كانو بيتمنو يتعاملو معايا من قبل والغريب انهم اتراجعو قبل يوم واحد من توقيع العقد مش شايف انها مش مجرد صدفة ؟
وافقه فاروق الرأي على الفور :
- كنت لسه هقولك نفس الكلام فعلا الكل كان عايز يشتغل معاك بس فجأة الاوضاع اتقلبت ... انا بفكر في احتمال يكون لصفوان علاقة يعني التاجر عيسى فسخ الصفقة معانا واتفق معاه وسمعنا انه خد قرض من واحد بيعرفه ودلوقتي مش بعيد نسمع ع أن المستثمر عمل صفقة معاه.
أطرق رأسه مفكرا وربط الخيوط ببعضها ليجد الأمر منطقيا لكنه رغم ذلك قال بأعصاب منفلتة :
- طريقة تراجعه عن الصفقة فيها إهانة ليا انا مكنتش هضايق لو كلمني وحليناها بالتراضي بس هو عمل غير كده تماما.
أنا بفكر دلوقتي اروح لمكتبه واعلمه درس مينساهوش عشان يعرف مين هو ابن سلطان الصاوي بس كده هنبقى ضيعنا فرصة اننا نلاقي مين اللي عماله يسبب مشاكل في شغلنا.
تنهد فاروق بإحباط :
- أنا بحثت في موضوع القرض اللي خده صفوان ومين اداله مبلغ كبير كده بس مقدرتش اوصل لحاجة اللي عرفته ان هو واحد من اصحاب المكاتب بس لسه معرفتش هويته.
زفر آدم بخنق شاردا في هذه المعضلة حتى استدرك شيئا مهما وقال :
- سألت ع مراد اللي اتعاون معاه من قبل عشان يسرقو سبايك الدهب ؟ احتمال تكون ليه علاقة بالموضوع.
همهم بنفي للفكرة :
- وانا شكيت في نفس الشي بس صفوان ومراد ملتقوش ببعض من وقت الحادثة انا بعتقد ان تعاونه معاه كان عشان ياخد الربح يبقى ايه اللي هيخليه يساعد صفوان ويديله فلوس عشان الأرض بتاعته بعدين انا دورت ع الماضي بتاعه وملقتش حاجة تخصه هو مجرد سمسار وسيط بين الزبون وصاحب الأصل بس يعني موظف عادي.
همهم بتركيز ودهاء معقبا :
- وهو ده بيت القصيد عايز افهم ازاي سمسار بسيط مقدرناش نعرف عنه حاجة لو هو زي انت ما بتقول كنا هنوصل بسهولة لكل تفصيل يخصه بس حصل معانا العكس ومقدرناش نعرف غير الاسم المتسجل بيه.
- طيب نعمل ايه دلوقتي.
- كملو بحث عن مراد وحاول تعرف من الراجل اللي حاطينه في بستان الشرقاوي عن هوية اللي اتعاون مع صفوان واسأله مين بيدخل وبيطلع من هناك ممكن نلاقي طرف الخيط.
ردد يإيجاب ملتزما بالأمر واستطرد :
- طيب وبالنسبة للمستثمر تحب نروقه عشان يتعلم ازاي يحترمنا ؟
برطم آدم رافضا :
- لا احنا كده كأننا بنظهرلهم قد ايه تأثرنا باللي بيعملوه وبعدين هو الخسران صفقته معايا كانت هتخليه يربح كتير بس هنشوف دلوقتي ايه اللي هيكسبه لما يشترك مع حد غيري.
- انت بتشك في أنه هيتعاون هو كمان مع ابن الشرقاوي ؟
- يمكن اه ويمكن لأ بس نستنى ونشوف.
قالها آدم بغموض واِبتعد عن فاروق قليلا ليهمس :
- يبقى انا كنت بحاول اسكت الفترة ديه عشان منبينش حاجة للعمدة بس انت لازم جلدك يحكك زي كل مرة صح ... ماشي يا صفوان اقسم بربي لدفعك التمن غالي لو طلع ليك يد في الموضوع انت وكل اللي بتتشددله.
__________________
تفاعل على الفضل عشان متتضررش الصفحة من الإبلاغات، قراءة ممتعة
الفصل الخامس عشر : تهجم.
_________________
مرَّ أسبوع آخر كان فيه الجو مستقرا بعض الشيء داخل السرايا، لم يحدث أي احتكاك بين حكمت ونيجار التي عجزت عن إيجاد فرصة أخرى للتواصل مع إبن عمها وتنبيهه
أما آدم فكان مشغولا في بساتينه ينتظر أي نتيجة مفيدة من فاروق الذي كان يبحث خلف صفوان والشخص الذي يساعده.
في صباح يوم جديد كان أفراد العائلة متجمعين حول مائدة الفطور حينما دخلت الخادمة وبدأت بتوزيع الأطباق بعناية ونيجار تقف بعيدا نسبيا تنتظر أي أوامر قد تصدرها السيدة حكمت فهي لا تريد أن تكون غائبة فتضطر لسماع توبيخاتها.
وبالفعل نطقت هذه الأخيرة وهي تعتدل في جلستها بوقار :
- بخصوص العزيمة اللي عملناها لحريم كبار البلد امبارح في واحدة منهم طلبت مني اتوسطلها عندك عشان ولدها الكبير هو عايز يعمل مشروع مستقل وبعيد عن والده وبتسأل لو بيقدر يدخل في شراكة معاك ...
قطب حاجباه بتغضن هاتفا :
- مين ده وبعدين هو لو عايز يشتغل معايا مجاش بنفسه كلمني ليه من امتى الحريم بتتوسط عشان رجالتهم وولادهم.
- وانا قولتلها كده فعلا بس هي قالتلي ولدها مش عارف انها هتحكيلي هو فتح الموضوع معاها وكان متردد يجي يكلمك ... ده بيبقى سامح ولد الحج جمال.
- مش ده اللي كان بيدرس في المدينة وفتح محل هناك ؟
- ايوة نفسه ورجع من شهرين علشان يكمل شغله هنا انت ايه رأيك.
سألته حكت بجدية ليجيبها بلا مبالاة :
- هشوف لو جه لعندي وساعتها هفكر في الموضوع ... يلا انا هروح دلوقتي عندي شغل كتير ولازم الحق عليه.
نهض عن الطاولة ومرَّ على نيجار دون النظر إليها فأوقفته نيجار بتلقائية :
- استنى انا هجيبلك البالطو بتاعك.
حدجها آدم بغرابة لأنها علمت بأنه يريد الصعود للغرفة لإحضاره لكنه لم يهتم كثيرا بهذا وبعد لحظات عادت نيجار ومدت يديها تعطيه البالطو الخاص به فتنحنح وأخذه منها ثم غادر.
بينما نهضت ليلى آخذة مستلزماتها وخرجت هي أيضا كي تذهب لجامعتها وجدت محمد شقيق فاروق واقفا وعندما رآها فتح الباب مغمغما بجدية :
- اتفضلي.
شكرته ببضع كلمات ثم ركبت وأسندت رأسها على زجاج النافذة كان محمد صامتا طوال الطريق ولم ينظر لها قط عكسها هي التي كانت تطالعه بطرف عينها من حين لآخر وداخلها مليء بالمشاعر المتناقضة.
لقد جاء هذا الشاب منذ سنة وبدأ بالعمل كسائق لديها يأخذها صباحا ويعيدها مساءً دون التفوه بحرف واحد وهذا ما جعل الفضول يراودها ناحيته ودون شعور منها أصبحت تترقب موعد حضوره لربما تراه يتخلى عن القشرة الصلبة المحيطة به.
حمحمت ليلى محاولة منها لتبادل أطراف الحديث معه :
- كأن الجو حر النهارده أنا حاسة بسخونية كده.
انتظرت حتى يجيبها لكنها تفاجأت بمحمد يُنزل زجاج النافذة وهو يطالع الطريق أمامه فجزت على أسنانها بغيظ من بروده وحدثت نفسها :
- يعني ده اللي فهمه من الجو حر ده تلاجة ولا ايه.
كتمت شعورها بداخلها وصمتت محافظة على ما تبقى من كرامتها لكنها شهقت فجأة حينما توقفت السيارة على حين غرة وارتدت هي للأمام بذعر متمتمة :
- في ايه !
ركز محمد بعينيه على السيارة التي توقفت معترضة طريقه وأطلق مسبة بداخله ثم التف لها وسألها بجدية :
- انتي كويسة حصلك حاجة ؟
- لا انا كويسة بس مين ده.
ردت عليه وهي تشير للرجل الذي خرج فقال الآخر بوعيد :
- هشوف هو مين متطلعيش من العربيه.
ترجل واقترب من ذاك الغريب والذي لم يكن سوى مراد وردد بغضب :
- خير انت مش شايف العربيات قدامك ولا البيه فاكر الطريق ده بتاعه.
حدق به مراد بهدوء ثم رمى بصره على الفتاة الجالسة في السيارة متأملا إياها ولاحظ محمد ذلك فقبض على يده مغمغما بحدة :
- انا اللي بكلمك هنا بُصلي انا.
استفاق من شروده وتنهد قائلا :
- لمؤاخذة ده غلطي لو عايز مني تعويض فـ أنا جاهز.
استنكر ردة فعله وغطرسته الواضحة وكاد يدخل معه في شجار لكنه لم يرغب في افتعال المشاكل في وجود شقيقة رب عمله لهذا حاول تهدئة نفسه وردد :
- ابقى خد بالك تاني مرة عشان متتسببش في حادث ودلوقتي ممكن تبعد عربيتك عشان نمشي !
تركه وركب السيارة مجددا لتسأله ليلى بتوجس :
- مين ده وانت قولتله ايه.
أجابها محمد بنزق :
- معرفش مين البلوة ديه بس شكله مش في وعيه خلاص سيبك منه حضرتك متأكدة انك بخير ؟
أومأت ببسمة وهي تشكر ذلك الغريب لأنه جعل محمد يتخلى عن جموده ويتحدث معها :
- اه الحمد لله محصليش حاجة بس ممكن نمشي لأننا تأخرنا.
- أكيد.
انطلق مجددا بينما ظلت نظرات مراد تلاحقهما مركزا على ليلى حتى اختفى أثرهما وفجأة رن هاتفه ففتح الخط :
- نعم يا صفوان.
رد عليه الآخر بضيق :
- أنا قعدت مع المستثمر أحمد بيه بس مقدرناش نتفق ع الشروط وفوق ده كله عايز ياخد النسبة الأكبر من الربح ولما رفضت قالي انه مش هيقدر يوقع ع العقد في الوضع ده.
- ايوة انت عايز ايه يعني.
- هكون عايز ايه مش انت أقنعته يتراجع عن الشراكة مع ابن سلطان ورشحتني ليه اقنعه دلوقتي يتساهل معايا.
مط مراد شفته بتهكم وعقب عليه :
- لا والله ايه رأيك اشتغل بدالك بالمرة وانت تاخد كل حاجة ع الجاهز ! بص انا عملت اللي عليا وخليت احمد بيه ينسحب من شراكة الصاوي بحجة آدم مشغول في عدة مشاريع حاليا ومش هيقدر يلتهي معاه بس اقناعه والاتفاق معاه مسؤوليتك انت وبعدين حضرتك كنت فاكر أن الموضوع سهل كده ولا ايه ده بيبقى مستثمر كبير وأكيد مش هيتساهل معاك.
- اشمعنا ابن سلطان قدر يتفق معاه بسهولة بيفرق ايه عني !
- احنا هنضحك على بعض يا شرقاوي انت فين و آدم فين ده سمعته سابقاه وأراضيه واسعة ومعندوش ديون مش زيك انت.
تقوس حاجبا صفوان بضيق واستشعر الإهانة منه فجز على أسنانه مغمغما :
- ايه لزوم الكلام ده وبعدين أنا ليا سمعتي زيه والديون قربت اقفلها كمان مش فاضل غير حاجة بسيطة.
رد عليه مراد بتأكيد :
- وده اللي عايز اوصله انت قفلت ديونك بفلوسي أنا ورجعت عملت أرضك بفلوسي برضو علشان كده خد بالك تضيعهم ع الفاضي لأني ساعتها مش عارف ممكن اعمل ايه فاهم !
كاد صفوان يتكلم لكنه سمع صافرة إنهاذ المكالمة فلعنه بداخله وتمتم :
- ماله ده كمان مش طايق هدومه ليه هو هيفضل شايف نفسه عليا كده ... لولا حاجتي مكنتش هقبل مساعدته مراد فاكرني ناوي افضل في منافسة مع آدم ونعمل مسابقة مين الأفضل ومش فاهم اني بستغله علشان وضعي يتحسن شويا وارجع اخلص من ابن سلطان بس معلش كل حاجة ليها وقتها.
_________________
داخل سرايا الصاوي.
كانت نيجار ترتب الغرفة وتلملم الملابس المنثورة هنا وهناك وهي تتمتم :
- ديه أول مرة آدم بيسيب هدومه ع الأرض كده شكله كان مستعجل فعلا وملحقش يرتبهم زي عوايده هو أصلا منظم اكتر مني.
استقامت في وقفتها وفتحت الخزانة لترى إن كان هناك قطع غير مرتبة لكنها تذكرت أن آدم سبق وحذرها من العبث بأشيائه الخاصة فكادت تتراجع إلا أن فضولها تغلب عليها ووجدت نفسها تتلمس مستلزماته من الملابس والساعات والعطور، قربت إحدى الزجاجات من أنفها وشمَّتها لتبتسم بتلقائية هامسة :
- معقولة ده نفس البرفيوم اللي كان بيستخدمه ...
Flash back
( قبل سبعة أشهر.
امتطت الفرس وركضت به نحو البحيرة التي يلتقيان بها عادة وعند وصولها ربطت فرسها على جذع الشجرة وبدأت تمرر يدها عليها بشرود حتى قالت :
- مش مطمنة للي بعمله ده يعني كنت مخططة اقعد مع آدم واسحب الكلام منه عشان اعرف هو هيخبي السبايك فين بس مقدرتش والقصة شكلها قلبت جد ... أنا خايفة انه يفتكرني واحدة بتحب تتسلى ويحاول يقرب مني ساعتها مش هقدر استحمل ويمكن اهاجمه.
تنهدت بإحباط مضيفة :
- ياربي انا مش عارفة الموضوع ده هيخلص عـ ايه يا "مهرة" بس اللي بعرفه اني لازم الاقي مكان السبايك وبكده آدم هيقع في وضع صعب جدا وصفوان يقدر ياخد مكانه انتي ايه رأيك.
صهلت الفرس بإنزعاج وكأنها تفهمها فضحكت نيجار وقالت :
- كأنك مش موافقة يا مهرة اوعى تكوني حبيتي آدم وصعب عليكي ده مينفعش خالص لأنه عدو عيلتنا واحنا مستعدين نعمل أي حاجة عشان العيلة مش كده.
اخترق خلوتها مع فرسها صوت ركض الحصان فاِلتفتت ووجدت آدم يدخل للمكان قفز من على حصانه وربطه بجانب مهرة ثم قال :
- انا اتأخرت عليكي صح بس كنت في اجتماع مع العمدة علشان كده مقدرتش اوصل بدري.
ابتسمت وهزت رأسها بتفهم مصطنع :
- ولا يهمك بس الاجتماع طول خير في مشكلة.
سألته محاولة حثه على الحديث إلا أن آدم رد عليها بعدم اكتراث وهو يشير لها للسير بجانبه :
- متشغليش بالك قوليلي انتي عامله دلوقتي كنتي بتكحي جامد من يومين.
حمحمت نيجار مجيبة :
- بقيت أحسن بفضل الدوا اللي اديتهولي انا عادة مبينفعش معايا أي علاج تاني بس المرة ديه ضبطت معايا.
- كويس حمد لله على سلامتك.
نظر لها بتفصيل جعلها تتوتر مدت يدها لتعيد خصلة من شعرها خلف أذنها فسقط القرط على الأرض لتنخفض هي كي تلتقطه وانحنى آدم في نفس الوقت وهنا أصبحا قريبان من بعضهما البعض واستطاع أنفها التقاط الرائحة الرجولية المنبعثة منه بشكل أفضل فنالت إعجابها و احمرَّ وجهها بحرج طفيف نتيجة لذلك.
لكنها سرعان ماتمالكت نفسها ووقفت مرددة بينما يعطيها هو القرط في يدها :
- شكرا.
- العفو. )
Back
عادت من ذكرياتها بملامح منبسطة سرعان ما تشجنت عندما فُتح البلب ودخلت السيدة حكمت بوقار مطالعة كل ركن في الغرفة حتى استقرت عيناها عليها فكتمت نيجار ضيقها من دخولها بهذه الطريقة وسألتها :
- خير يا حكمت هانم في مشكلة عايزاني اعمل حاجة ؟
نظرت للملابس بين يديها وقالت بهدوء :
- ايه اللي فـ ايدك ده.
ردت عليها هي ببساطة :
- زي حضرتك ما شايفة انا بلم الهدوم اللي محتاجة غسيل بعد ما رتبت الأوضة وهنزل دلوقتي عشان اغسلهم.
همهمت حكمت وعلقت عليها ساخرة :
- الواضح ان دور الزوجة المطيعة بدأ يعجبك الصبح بتجري تجيبي بالطو حفيدي وحاليا عايزة تغسلي هدومه ولا ديه طريقة جديدة عشان تقدري توقعيه في شباكك من تاني.
شعرت نيجار بالإستفزاز ولسعتها كرامتها للجواب خاصة أنها مازالت حاقدة على هذه العجوز الشمطاء بسبب ما فعلته بمستلزماتها، لكنها استطاعت تمالك نفسها بأعجوبة وردت عليها ببسمة باردة مستفزة :
- والله أنا بعمل المطلوب مني مش انتي بردو اللي بقالك شهرين مشغلاني خدامة في السرايا الكبيرة ديه فيها ايه لما اخدم جوزي نفسه و اخد بالي منه.
صمتت قليلا ثم تابعت بتحدي :
- إلا لو حضرتك خايفة يرجع يتعلق بيا بجد ويطلع عن شورك.
دنت منها حكمت بضع خطوات حتى وقفت أمامها مباشرة وطالعتها بإحتقار ثم هتفت :
- من ناحية يتعلق بيكي من تاني فـ انسي لأن ولاد الصاوي لو غلطو مرة مش هيعيدوها في التانية وانتي حاليا مجرد واحدة ملهاش قيمة بتخدم أهله الصبح وبتخدمه هو بليل وقت يجيبه مزاجه ليها يعني متطمعيش في الأكتر بس خدي بالك من حاجة واحدة ومتنسيهاش.
سكتت نيجار منتظرة إنهاء حديثها لتفعل حكمت ذلك وهي تحذرها بعينين حادتين :
- اوعى تفكري تحملي وتخلفي منه مفهوم لأن نسل الصاوي مستحيل يستمر من عيلة الشرقاوي ولو مسمعتيش الكلام وجربتي تلعبي بديلك ساعتها اتأكدي من اني هندمك.
لكن هذه الأخيرة لم تركز على تهديدها بل نصبت اهتمامها على الكلمات الأولى وهمست بغرابة :
- احمل و اخلف ؟ ازاي يعني.
سمعتها حكمت وقطبت حاجباها بإستنكار :
- ايه هتعملي نفسك غبية قدامي ومبتعرفيش الستات بتحمل ازاي ! سيبك من اللعب ده وافهمي تحذيري و اوعى يا بنت الشرقاوي تفكري تتحديني.
ألقت عليها نظرة ساخطة وغادرت بينما وقفت نيجار تفكر قليلا حتى اتسعت عيناها بدهشة محدثة نفسها :
- يعني حكمت هانم مبتعرفش ان آدم مقربش مني غير فـ ليلة الفرح وبعدها سابني انام ع الأرض ! ده انا كنت فاكرة انها عارفة وبتشمت فيا بس طلع العكس تماما وحاطة في دماغها احتمالية الحمل كمان.
وقفت للحظات محاولة التفكير في الأمر ثم ابتسمت بتهكم ونزلت إلى الأسفل بينما تردد :
- قال حمل قال ع أساس هموت واخلفلكم ماهو ده اللي ناقصني.
وضعت الملابس في الغسالة وانشغلت في القيام بأشغال أخرى حتى لمحت أم محمود تضع هاتفها جانبا والذي نادرا ما تتركه وصعدت بسلة الغسيل النظيف الى السطح قصد نشره، عضت نيجار على شفتها باِحتراز وتوجس قبل أن تحسم أمرها وتلتقط الهاتف ثم تدخل إلى المطبخ وتطلب رقم صفوان لم يجب على المكالمة من أول مرة وهذا ماجعلها تعيد الإتصال بسخط ليرد عليها :
- الو مين معايا.
- صفوان ديه أنا.
همست نيجار باِضطراب فتجمد صفوان مكانه بدهشة سرعان ما تلاشت وردد على الفور :
- نيجار ديه انتي ازاي اتصلتي ومنين.
- من تلفون الشغالة بقالي كتير بحاول اتصل بيك ومقدرتش اعملها غير دلوقتي.
- خير في حاجة انتي اتصلتي ليه.
رفعت حاجبها بغرابة واستهزاء معقبة :
- مكنش ده أول سؤال انا مستنياه.
ضرب جبينه بغلظة واعتذر :
- اسف كنت لسه هسألك ان كنتي كويسة ولا لأ بس اتصالك فاجأني جدا.
تنهدت متجاوزة الأمر وأطلت برأسها للخارج تتأكد من عدم وجود أحد بينما تهمس بحذر :
- انت سبق وقولتلي انك دخلت في صفقة وخدت قرض من واحد عشان تقدر تصلح الأراضي اللي اتحرقت بس الواضح ان آدم عرف بالموضوع ده وبيدور ع الشخص اللي ساعدك لأنه هددني من اسبوع بحرق الأرض لو منفذتش كلامه.
تغضنت ملامحه بضيق مفكرا في كيفية معرفة آدم بهذه المعلومة، حسنا سيكون عاديا لو علم بها اليوم فالأخبار تنتشر بسرعة في القرية لكن نيجار ذكرت مرور أسبوع كامل أي حينما كان الأمر مخفيا عن الجميع اذا كيف استطاع هو اكتشاف مسألة اقتراضه بتلك السرعة.
وعند سماعه بالتهديد قبض على يده بعصبية متشدقا :
- يحرق ايه هو فاكر نفسه هيقدر يعمل كده تاني أنا هقتله قبل ما يتجرأ يعملها.
زفرت نيجار مغمغمة :
- معرفش بس هو كان واثق جدا من كلامه ابقى خد بالك يلا هقفل دلوقتي واوعى تتصل ع الرقم ده لأنه مش بتاعي ... سلام.
أغلقت الخط وأعادت الهاتف لمكانه في نفس اللحظة التي وجدت فيها حكمت تنزل على السلم فاِصطنعت مسح المنضدة لتقف الأخرى أمامها وتقول :
- انتي خلصتي شغلك ؟
حمحمت وردت عليها بنبرة أكسبتها بعض الهدوء :
- لسه فاضل شويا في حاجة تانية اعملها ؟
رمقتها حكمت بنظرات غامضة وهتفت :
- أيوة، الراجل المسؤول عن الطلبات غايب النهاردة والمؤونة قربت تخلص علشان كده عايزاكي انتي تروحي تجيبيهم.
اتسعت عيناها بدهشة وفغرت فمها بعدم تصديق لما تقوله فعادت تسألها كي تتأكد من أنها لم تسمعها بشكل خاطئ :
- عايزاني أنا اجبلك الطلبات !
حدجتها الأخرى بعنهجية مستنكرة ذهولها :
- مالك تنحتي كده ليه اوعى يكون الشغل ده مش قد المقام.
استعادت نيجار رشدها ونفت رأسها بإمتعاض مرددة بشك :
- يعني طلبك غريب انا جيت لهنا بقالي شهرين ونص مسمحتوليش فيهم اخرج من البيت غير مرة واحدة ازاي فجأة كده عايزاني اطلع واتمشى في الشوارع كمان.
- لأن ده اللي انا رايداه كل حاجة بتحصل هنا بتبقى بمزاجي وأنا دلوقتي عاوزاكي تنفذي أوامري وتروحي تجيبي طلبات البيت وياويلك لو نقصتي حاجة او اتأخرتي نص ساعة وتكوني هنا.
هدرت بلهجة حادة جعلت نيجار تأخذ نفسا عميقا كي تكتم غضبها ولا تتهجم عليها مجددا ثم تشدقت من بين أسنانها :
- أمرك يا هانم بس آدم عارف اني هخرج ولا حضرتك مقولتيلوش.
مالت شفة حكنت في إبتسامة غامضة استرعت توجس الأخرى خاصة عندما ردت :
- أكيد وهو بنفسه عايزك تعملي الشغل ده بدل الغفير.
لم تكن نيجار غبية لتصدق نيتها السليمة بهذه البساطة فهي تعلم جيدا بأن السماح لها بالخروج يكمن خلفه سبب لا تعلمه ومع ذلك لم تجد فرصة للرفض فأخذت ورقة المستلزمات وخرجت تسير في الأزقة بعقل شارد حتى طرأت الفكرة ببالها وقالت :
- معقول آدم عاوز يختبرني لو هحاول اروح لبيتنا أو اتواصل مع حد فيهم علشان كده خلاها تبعتني لبرا ؟ وممكن كمان يكون باعت واحد ورايا يراقبني.
تلكأت في مشيتها وجالت بأنظارها حولها بسرعة كي تتأكد من شكوكها غير أنها لم تجد أحدا في المكان.
وفي الحقيقة قد كان الزقاق فارغا بدرجة موحشة أثارت ريبتها خاصة أن الوقت قارب على الغروب فبدأت تسرع وفجأة توقفت عند رؤيتها لمجموعة من النساء وهُن يقطعن طريقها.
طالعت نيجار أجسادهن الضخمة وملامحهن الموحشة بريبة مستشعرة الخطر خاصة من نظراتهن الحادة عليها فقبضت بيدها على ثوبها وأسرعت في خطواتها كي تتجاوزهن إلا أن واحدة من النساء منعتها من المرور وهي تردد :
- على فين يا ست الحسن.
جاءت الأخرى متابعة بضحكة مائعة :
- هتمشي كده من غير ما نوجب معاكي.
وفي لحظة وجدت نيجار نفسها وسط دائرة من هؤلاء النسوة اللواتي كان الشر ينضج من وجه كل واحدة منهن مما جعل نبضات قلبها ترتفع وفمها يجف لكن مع ذلك ابتسمت بإستفزاز معلقة :
- مش قطاع الطرق دول كانو رجالة ولا الحريم خدت الصنعة منهم وبقيتو تشتغلو معاهم عموما لو جايين ع طمع فـ مع الأسف معنديش حاجة اديهالكو دوري على غيري بقى.
همهمت المرأة الأولى مشيرة للأخريات بنظرات تلميحية وهي تقول :
- بس احنا مش عايزين غيرك مش انتي المحروسة نيجار بردو.
وهنا تأكدت بأنهن يستهدفنها هي شخصيا لشيء غير السرقة فدفعت إحداهن كي تهرب لكن الأخرى أمسكتها لترفع نيجار يدها في ذات اللحظة وتنزلها على وجه المرأة صارخة :
- اوعى ايدك !
وضعت يدها على مكان الصفعة متحسسة إياها ثم احمر وجهها بملامح إجرامية وأشارت لرفيقتها بإمساك نيجار التي حاولت قدر الإمكان ضربهن وبالفعل أصابتهن في أماكن متفرقة وهي مصممة على عدم الإستسلام لآخر ذرة من طاقتها إلا أنه مثلما يقال الكثرة تغلب الشجاعة وفعلا قامت النسوة بالسيطرة على حركتها بعدما خدشت هذه وصفعت هذه وركلت تلك ...
ثم صاحت بألم حين وقعت ضربة قوية على وجهها تلتها أخرى وأخرى ورغم ما تتعرض له نيجار حاليا إلا أنها ظلت تقاوم حتى سمعت واحدة تضحك بتفاخر مرددة :
- اضربوها كويس يا حريم حكمت هانم وحفيدها متوصيين بيها جامد.
رمقتها هذه الأخيرة بصدمة غير مستوعبة ما قيل وبسبب غفلتها المؤقتة استطعن إلقاءها أرضا وانهالت عليها النسوة بالضرب وسط مقاومتها الفاشلة حتى نفذت طاقتها وتوقفت عن الجدال لتغمض عيناها أخيرا ... وقد سقطت دمعة ساخنة منهما.
__________________
ستوووب انتهى البارت
رايكم فيه وتوقعاتكم ؟
🌹🌺🌹🌺🌹🌺🌹🌺🌹🌺🌹🌺🌹🌺🌹🌺🌹🌺
اتفضلوا حضراتكم كملوا معنا هنا 👇 ❤️ 👇
وكمان اروع الروايات هنا 👇
انضموا معنا على تليجرام ليصلكم اشعار بالروايات فور نزولها من هنااااااااا
🌹🌹🌹🌹🌹🌹🌹🌹🌹🌹🌹🌹🌹🌹🌹🌺🌺🌺🌺🌺🌺🌺🌺🌺🌺🌺🌺