القائمة الرئيسية

الصفحات

أخبار الرياضة

رواية ظننتك قلبي الفصل الحادي عشر حتى الفصل الخامس عشر بقلم الكاتبه رشا روميه قوت القلوب حصريه وجديده على مدونة أفكارنا

 رواية ظننتك قلبي الفصل الحادي عشر حتى الفصل الخامس عشر بقلم الكاتبه رشا روميه قوت القلوب حصريه وجديده على مدونة أفكارنا 



رواية ظننتك قلبي الفصل الحادي عشر حتى الفصل الخامس عشر بقلم الكاتبه رشا روميه قوت القلوب حصريه وجديده على مدونة أفكارنا 


في بعض الروايات ودون علم منك تصبح أنت بطلها الشرير ، لكنني اليوم أعلم أنني هذا البطل بل أتقن هذا الدور ببراعة أيضًا فدور المحب لم يعد يليق بي ...

على الإنعطاف بهذا الطريق وإن كان قاسيًا فبعض المنعطفات حتمية لمواصلة الطريق وإن لم أستطع التجاوز فيجب على أن أفسد الأمر برمته ...


❈-❈-❈


الكوخ ...

من طبعِه الغموض فهذه سمة مميزة لشخصيته وتعبيراته التى تظهر جليًا على ملامحه ، لا أحد يستطيع التنبؤ بما يفكر به ويحدد إنطباعه عن الأمر ، هكذا هو "معتصم" ، لكنه على خلاف ذلك أظهر بوضوح إندهاشه وهو ينظر تجاه شاشة حاسوبه حين وردتهُ إحدى الرسائل الإلكترونية للتو فور أن دلفت "كاتينا" تحمل أكواب القهوة ..

- غريبة ..! !!!

إنتبهت له "كاتينا" متسائلة ...

- هل قلت شيئًا "ماوصي" ...؟؟

رفع رأسه تجاهها ومازالت تلك النظرة المندهشة تعلو عيناه القاتمتان قائلًا ...

- لقد وصلت لي رسالة غريبة الآن ... لقد عرض على أحدهم عرض سخي للغاية لشراء برنامجي ... إنه عرض لم أحلم به حتى ...

رواية بقلم قوت القلوب رشا روميه

بإهتمام بالغ وفضول إعترى ملامحها الباهته ...

- وماذا عرض عليك ...؟!؟

تقوست شفته السفلى قليلًا ببعض التعجب وهو يجيب "كاتينا" ...

- إنهم يودون شرء برنامجي الذى قد أخبرتك عنه بمقابل خيالي ...

تهللت "كاتينا" بحماس وهى تهتف بسعادة بالغة ...

- رائع يا "ماوصي" ... إنها فرصة رائعة لا يمكنك رفضها ...

مال برأسه للجانب قليلًا وهو يمط شفته الممتلئة بتفكر وتردد ..

- أتظنين ذلك ... أخشى أن أخسر شيئًا لا أفهمه بعد ... فعرضهم مثير للريبة بشكل غريب  ...

حملت كوب من القهوة لتقدمه له وهي تحثه على قبول العرض الذى لا يرفض مطلقًا ...

- ولم لا ... إنها فرصة لا تعوض للثراء ... لقد صممته من قبل لبيعه ... فلم الرفض الآن ..!!!

حمل "معتصم" الكوب بيده اليمنى ليدق فوق لوحة المفاتيح الخاصة بحاسوبه بكفه الأيسر ببراعة ليشير إليها تجاه شاشته ...

- إنظري ... كم هو رائع وجاهز للعمل ... لم يتبقى سوى خطوة واحدة للإنتهاء منه ..

لمعت عينا "كاتينا" ببريق إنبهار لمهارة "معتصم" التى لا مثيل لها ...

- إنك ماهر للغاية يا "ماوصي" ... هيا .. إقبل هذا العرض إنها فرصة رائعة لا يمكنك هدرها ...

نظرة مطولة دون إجابة محدده فقد عاد لغموضه مرة أخرى ولم تستطع أن تستشف إن كان وافق على البيع أم لا ..

رفع كوب القهوة ببطء تجاه شفتيه وقد لامسهما بالفعل لكن قبل أن يرتشف رشفة منه تفاجئ بهجوم "عهد" عليه لتضرب الكوب بكفها ليسقط أرضاً محدثًا صوت تهشم قوى تبعه لون القهوة المنسكب ببقعة كبيرة تزيد فى الإتساع ...

تحفز "معتصم" بغضب وقد قضب حاجباه بقوة يرمق "عهد" بنظراته الجارحة القوية ليهتف بها بحدة وإنزعاج من تصرفها الأهوج ...

- إيه ده ... إنتِ إتجننتِ ...؟!!

إتساع مقلتيها العسليتان بتلك الصورة وقد علاهما نظرة ثابتة جافة للغاية لكن بها قوة و حِدة غريبة الشكل ، هيئتها تجعلك للوهلة الأولى تتيقن بأنها ليست طبيعية وأنها بالتأكيد مريضة نفسية سوف تنقض عليهم وتفتك بهم ...

شراسة مخيفة ظهرت بملامحها الناعمة بتضاد مقلق خاصة لـ"كاتينا" التى تراجعت بضع خطوات للخلف وهى تطالع "عهد" بأعين مذعورة ...

مدت "عهد" يدها بكوب آخر من القهوة مردفة بنبرة غريبة لم يتيقن من مقصدها ، فعل هي تلقائية بسيطة أم أنها نوع من التهديد ...

فقد عادت "عهد" لتلك الشخصية المحيرة التى أربكت عقله بالبداية مسببة له حيرة غير منطقية للتضاد الكبير مما تظهره الآن عما كانت بالأيام السابقة ...

فبعد أن كانت مشاكسة تقابل مناوشتة بقلب متقبل سعيد وربما يرى مَيلُها وإنجذابها نحوه كما قالت من قبل أصبحت الآن قاتمة مخيفة قوية إلى حد بعيد ترفض تمامًا أن تكون تلك الشخصية الضعيفة المحبة والتى تنساق خلف قلبها ...

فلم تبدلت .. ؟! أم أنها هكذا من البداية وهو لم يدرك ذلك إلا الآن ....؟!!

أسرعت "كاتينا" إلى جوار "معتصم" وهي تنهر "عهد" بقوة ...

- إنكِ جننتِ على الأخير ... أكُل هذا لأننى أنا من صنعت القهوة لـ"معتصم" ...؟!!! يا لكِ من غريبة الأطوار ...!!!

كالعادة كان رد فعل "معتصم" ثابت صامت تمامًا كمن ينتظر من "كاتينا" المواجهة للدفاع عنه ، تابع بهدوء و تحفز بذات الوقت جدال "كاتينا" مع "عهد" التى رفعت شفتها بتهكم قائلة بالعربية التى لا تفهمها "كاتينا" ...

- مالكيش فيه يا سكر ...

طأطأ "معتصم" رأسه قليلًا يحدق بتلك المتطاولة التى عادت للسانها السليط مرة أخرى ثم أردف بحدة ...

- أظن أن الأمر زاد عن حَدِه ... لن ننتظر تحسن الطقس أو غيره ... أخرجي حالًا من هنا ... إذهبي إلى شخص آخر يتحمل جنانك هذا ...؟!!

أغمضت عيناها لوهلة تسحب بها نفسًا طويلًا لتبقى على ثباتها النفسي قبل أن تردف ببسمة ساخرة فوق ثغرها المنمق تجيبه بإصرار ...

- ده بُعدَك ... ( ثم أردفت بالإنجليزية لتفهمها "كاتينا" ) ... لن أُبرِح مكاني هنا مطلقًا ... فلترتاحا ... إن هنا مكاني ويناسبني للغاية ...

ضرب "معتصم" كفيه بعضهما ببعض يناظر "كاتينا" التى لملمت شفتيها الباهتتان بغيظ وإشتعل وجهها الأبيض بحُمرةِ إنفعالٍ ، بينما كانت "عهد" باردة الأعصاب تمامًا مستكملة بإصرار على بقائها معهم بطريقتها المريبة المثيرة للقلق ..

أطلقت "كاتينا" غضبها بوجه "عهد" متحدثه بهياج شديد ...

- أخرجي من هنا .... ما هذه المصيبة ...؟؟!

ببرود تام كان لقاء تلك الكتلة من الجليد بنيران إنفعال "كاتينا" المتوهج ...

- أنتِ المصيبة ... 

توهجت عينا "عهد" ببريق وهي تدفع بكوب القهوة التى أحضرته تجاه "معتصم" بنبرة قوية ...

- إشرب ...

دفع "معتصم" بالكوب بعيدًا عنه ثم أردف بقوة تماثلها ...

- لأ ...

زمجرت بقوة تظهر شراستها فها هي تعود لـ"عهد" التى إشتاقت إليها تتحداه بنظراتها القوية والتى لاقت ذات الحدة والقوة وهو يدني وجهه قبالها ليظن البعض أن لقائهما سيشعل وهج قوى بتنافرهما كقضبي المغناطيس ...

إنتهى هذا اللقاء بجلوس "عهد" على أحد المقاعد متشدقة بعنقها للأعلى تناظرهما بنظرة إنتصار فلم يُخلَق بعد من يُجبرها على القيام بأمر ترفضه ...

مال "معتصم" بأذن "كاتينا" قائلًا بهمس خفيض للغاية ...

- إنني لن أتحمل تلك الفتاة لأكثر من ذلك ... إنها مخيفة للغاية ولن تتركنا بهذه السهولة ... أخشى أن تقتلنا حقًا ... إن علينا الرحيل بالفعل ... إن حياتنا هنا بخطر ...

تفكرت "كاتينا" قليلًا قبل أن تجيبه بذات النبرة الهامسة ..

- أعرف مكانًا جيدًا ... قريب من هنا أيضًا ....مكان لن تستطيع هي الوصول إليه ...

- إذن علينا خداعها حتى لا تكتشف الأمر وتتبعنا ...

رفع "معتصم" رأسه بزهو للأعلى ليوجه حديثه بنبرته الشجية المميزة تجاه "عهد" والتى كانت تراقب حديثهم وهمهمتهم الغير مسموعة ..

- حسنا يا "عهد" ... لقد إتفقت مع "كاتينا" أن نعطيكِ فرصة أخيرة ... أليس كذلك يا "كاتي" ...؟!!

أومأت "كاتينا" رأسها عدة مرات ثم رسمت إبتسامة عريضة على وجهها الضئيل مؤكدة حديث "معتصم"...

- بالطبع ... لقد إتفقنا ليبقى ثلاثتنا هنا ...

إستطرد "معتصم" بالعربية ...

- مبسوطة ...

بحركة فكها المنتصره هزت "عهد" رأسها بخفة ثم أردفت بإعجاب ...

- تعجبني سيطرتك ..

وقفت بخفة لتدنو نحو الصينية الموضوعة فوق المنضدة والتى قد أحضرتها "كاتينا" منذ قليل لتحملها بين يديها ...

- دى بقى ملهاش لازمة عشان ننام بدرى ....

خرجت من غرفة المكتب نحو المغسلة لتسكب القهوة كلها ثم إتجهت بنفس هادئة نحو غرفتها لتغفو قليلًا فلم تعد تتحمل البقاء كل هذا الوقت مستيقظة ...

إنتهز "معتصم" تلك الفرصة بغياب "عهد" ليهمس تجاه "كاتينا" قائلًا ...

- ستخلد إلى النوم ... هيا لنُحضِر أهم أغراضنا لنهرب من هنا ... سأحضر بعض الملابس والحاسوب الشخصي الخاص بي فقط ...

- حسنًا "ماوصي" ...

صعدت "كاتينا" لإحضار بعض الأغراض بحقيبة ظهرها كما فعل "معتصم" ليحمل كل منهما حقيبته بعد إرتدائهم لمعاطفهم الثقيلة ...

خرجا من باب الكوخ بتسلل وهدوء شديد لتسحب "كاتينا" الباب من خلفها بدقة متناهية حتى لا تشعر بها "عهد" ...

فها هى الآية تنقلب ويصبح المعتدى هو من يخشاه صاحب البيت ، فقد أصبحت "عهد" هي المسيطرة على الكوخ بمن فيه وليس العكس ....


❈-❈-❈


صباح جديد يهل على من يقترن إسمه بالبدايات لكنه لا يمت للإشراقة بصلة ...

"صباح" إسم للبداية والتفاؤل لكنه يتنافى مع صاحبته ذات القلب الصلب والنهايات التعيسة ...

لم يمر خروج بنات "زكيه" مرور الكرام اليوم أيضًا فلم تلحق "صباح" بهم كالأمس تمامًا ، قصة محفوظة وردود أفعال تكاد توثق من تكرارها ، فخروجهن متسللات وتصيد "صباح" لهن أصبح من الروتين اليومي لحياتهن ، لكن اليوم يقع تربصها سدى لتهيج وتجور على منفسها الوحيد إبنتها "راوية" تارة تؤنب بها ومرة توبخها ومرة تزيد من حنقها على بنات عمها ...

وكعادة كل يوم تلاقيها "راوية" بعدم إكتراث مستكملة نومها ...


زكيه ..

بعد أن إطمئن قلبها المتوجس على خروج إبنتيها لعملهما كالعادة خرجت "زكيه" بآخر ما تملكه لشراء بعض المستلزمات من البقالة ، تسللت كما يتسلل اللصوص كما فعلت إبنتيها من قبلها ، تسلل بمهارة فقد إعتادت على ذلك لسنوات طويلة كما لو أنها ليست من أصحاب هذا البيت ، قلق يثقل قلبها و حيرة تتخبط برأسها فمن أين ستأتي بالمال لبقية أيام الشهر الباقية فما تملكهُ لن يكفي ليوم آخر ...

وقفت مثقلة بالهموم تطلب من هذا الشاب الذى وقف بمحل البقالة ليحضر لها طلباتها القليلة بهدوء شديد وبشاشة وجه رغم همومها ...

- صباح الخير يا "على" .. هات لي جبنة وملح وصلصة ...

قابلها الشاب بحفاوة ليسرها بالتعامل معه على الدوام فهي مختلفة عن بقية عائلة النجار ...

- صباح الخير يا ست "أم شجن" ... من عنيا حاضر ...

وقفت تنتظر حين باغتتها إحداهن من خلفها قائله ...

- "أم شجن" ... والله كنت عاوزة أجي لك النهاردة ...

إنتبهت "زكيه" لمحدثتها لتلتفت نحوها مرحبة بها بمجاملة ...

- "أم يوسف" ... أهلًا يا حبيبتي ... وحشاني والله ...

زمت المرأة فمها ببعض الملامة قائلة ...

- لو كنت وحشاكِ بجد كنتِ جيتي طليتى عليا ...

أجابتها "زكيه" بضيق فهي تخشى الخروج من البيت حتى لا تلاقي "صباح" لتتهرب معللة ...

- الدنيا مشاغل والله ... ده حتى البنات بتشتغل دلوقتِ ومفيش غيري بيساعدني فى شغل البيت ...

إستكملت "أم يوسف" كما لو أنها لم تنصت لحديث "زكيه" وقد لمعت بعينيها بريق حماس لإخبارها بشئ ما لا يمكنها كتمانه لتستطرد بإبتسامة ...

- على سيرة البنات ... فيه واحد قاصدني أكلمك ضروري ... عايز يخطب إسم الله عليها بنتك "شجن" .. ربنا يجعله من حظها ونصيبها ... ( إتسعت حدقتاها بفخر وهى تلفظ بها قائله ...) .. ده دكتور ...

كلمات مبهجة وحديث يبث بها الروح ليدق قلب "زكيه" فرحًا فقد أصبح زواج إبنتيها أمل تتمنى الوصول إليه بعدما أنهوا دراستهن لتردف بسعادة ظهرت بنبرة صوتها الذى عادت له الحياة ...

- بجد ... دكتور ... 

أجابتها "أم يوسف" بزهو لما تخبرها به وتوسطها لتلك الزيجة لتؤكد لها ...

- أيوه ... الدكتور "سليم" إبن "السيد سليمان" ... ما إنتِ عارفاه ...

قالتها "أم يوسف" وهي تتباهى بعرضها المبهر لهذا الطبيب ميسور الحال لطلبه الزواج من إبنتها وتوسطها لمعرفة قبولها به ، لتلتهم"زكيه" سعادتها المفرطة بمعرفتها بهوية العريس لتظهر ثقلها ولا تقلل من قيمة بناتها لتردف ببعض الإتزان رغم موافقتها الشديدة لإتمام الأمر ...

- عمومًا برضه يا "أم يوسف" مهما كان لازم نشور البنت ونشوف رأيها واللي فيه الخير يقدمه ربنا ... دول ونعم الناس يعنى ...

بإيمائة خفيفة عقبت رفيقتها ...

- على خيرة الله ... شوفي رأيها إيه وبلغيني ... عشان أقول للدكتور يروح يتقدم لعمها "فخري" ...

- بإذن الله ... 

إنتظر الشاب إنتهاء حديثهم ليتدخل بهدوء ...

- إتفضلي يا ست "أم شجن" ... أى طلبات تانية ...؟!!

أخرجت "زكية" بضع ورقات من محفظتها لتمد بها إليه ومازالت إشراقة وجهها تعبر عما تشعر به قائله ..

- تشكر يا "على" ... خد حسابك ...

حملت أغراضها عائدة إلى البيت بمقابل البقالة وهي تلملم إبتسامتها السعيدة فأخيرًا ستسعد بزواج إحدى إبنتيها ، حِملها الثمين لسنوات قاسية ...

لم تكن تدرى وهى تتعلق بسعادتها التى زارتها بعد عقود مرهقة مرت بها بأن هناك أعين تتقد حقدًا وكراهية تتابعها سيرها وإبتسامتها دون أن تدرى ...

غمغمت "صباح" وهي تحدق بـ"زكيه" التى رأتها من شرفتها تقف بمحل البقالة بالمقابل ...

- مالها فرحانة كدة ليه دي ....؟؟!

رفعت رأسها تجاه محل البقالة لتلتقط أول الخيط محدثة نفسها ...

- هي أكيد الوليه دى قالت لها حاجة ولازمن أعرفها ...

دلفت "صباح" نحو الداخل تلف حول نفسها كفرخ الدجاج المتحير لا تدرى كيف تكتشف سر سعادة "زكيه" ...

وقت طويل لم تجد به فكرة سوى هذا الشاب الذى يعمل بمحل البقالة ليخبرها بما يعرفه ، سحبت هاتفها لتتصل به لتطلب طلبات عديدة كالمعتاد قبل أن تجلس بتلهف بإنتظار مجيئه بعد قليل ...

عبأ الشاب طلبات السيدة "صباح" فهي تنهره بقوة عندما يتأخر عنها ، بدقائق قليلة كان "على" يدق باب "فخري النجار" لتقابله "صباح" التى أكل الفضول و التلهف صبرها لمعرفة الأمر ...

أسرعت "صباح" تقابل الشاب لتحمل الطلبات من يديه وهي تمد يدها بنقود تفوق ثمن مشترواتها بكثير ...

- خد يا "على" ...

- خلى علينا يا ست "أم فريد" ...

نظر الشاب لهذا المبلغ المالي الكبير ليتهف بتوضيح ...

- ده كدة كتير يا ست "أم فريد" ... إنتِ كدة ليكِ باقي كتير ...

رفعت كفها السميك ليهوى مصدرًا ضجيج لتخبط أساورها الذهبية بعضهم ببعض تمنعه من إعادة النقود وهى تهمس كلأفعى بأعين لامعة ..

- لأ ... خليهم عشانك ... بس قولي ... الوليه اللي إسمها "أم يوسف" دى كانت بتقول لـ"زكيه" إيه ...؟!!

لم يكن الأمر يحتاج لذكاء فائق لإدراكه لم أعطته المال ليجيبها على الفور بما سمعه فالأمر لا يعد سرًا ولا به شئ مخجل وإلا كانوا أخفوه عنه فقد كانت أصواتهن واضحة للغاية ...

- أبدًا يا ست "أم فريد" ... دى كانت جايبه لبنتها عريس ...

شهقت "صباح" بقوة ليعلو صوتها الغليظ والذى إنتبهت له "راوية" التى خرجت من غرفتها للتو ، ضربت "صباح" صدرها بكفها لتزيد الأمر إندهاشًا تخوف له الشاب ...

- عريس ...!!!!!

نكست "راوية" عيناها بتحسر بينما أكمل الشاب بالمزيد من المعلومات ليكسب رضاها ...

- أيوة يا ست "أم فريد" عريس ... دى حتى بتقول إنه دكتور ...

ظن أنه بهذا الأمر سيخبرها بأمر مفرح يستحق عليه المكافأة ، لكن "صباح" مدت كفها لتقبض مرفقه بينه بقوة تحدثه بنبرة حادة إهتز لها الشاب للغاية ...

- دكتور ...دكتور مين ده ... إنطق ... قول أوام مين هو ...؟!

إحساس بالإرتباك جعل نبرته تهتز تخوفًا من "صباح" حين إتسعت عيناها المخططتان بالكحل الأسود ببريق مخيف زاد من وهج بشرتها السمراء لتزداد قتامة ، أجابها بنبرة متلعثمة محاولًا التحرر من قبضتها المتمسكة بمرفقه فيبدو أنه أخطأ بإخبارها بالأمر ...

- الدكتور ااا .... "سليم سليمان" ... إبن الحاج "سيد سليمان" ...

بمجرد نطقه بالإسم وإنتهاء حاجتها له حررت "صباح" ذراعه من بين كفها ليسرع بخطوات متعثرة مبتعدًا حتى لا تسأله عن أى شئ آخر فيما أردف بإضطراب ...

- لا مؤاخذة يا ست "أم فريد" ...أصل ااا ... سايب المحل لوحده ..

إختفى طيفه بلحظات فيم إستدارت "صباح" نحو الداخل لتبدأ تنفيس غضبها بأول وجه تقابله ، "راوية" بالطبع ...

- بقى بت "زكيه" يجي لها عريس دكتور ... وإنتِ زى الكُبة خيبة قاعدة لي كدة ..!!!!

تهدج صدر "راوية" بحنق فما ذنبها هي بزواج بنت عمها من طبيب ، وما ذنبها أن الخُطاب لا يخطون بابهم كبنات عمها ...

- وأنا مالي ..!!!!!!!

بدأت "صباح" سلسلة من التوبيخ المعتاد والسُباب بدون داعي ، أمر يجعلها تزداد حنقًا وكرهًا لبنات عمها ...

- مالك ...!!! مالك يا بايرة يا ***** ... يا ****** ... شوفي بيعملوا إيه عشان يجيبوا رِجلين الرجالة دول ... لكن إنتِ حتفضلي قاعدة لي كدة ...ولا حتتجوزى ولا حتغوري من وشي ... بس على مين ... مبقاش "صباح" لو خليت الجوازة دى تتم .. طول ما إنتِ قاعدة لي كدة ... هم كمان لازمن يفضلوا قاعدين لأمهم ... ولا واحدة فيهم حتخطي عتبة جديدة ...

توعد وترصد تقدر عليه بالفعل كان رد فعلها عن هذا الأمر الذى لن تاركه يمر مرور الكرام ، فلن تتزوج إحداهن قبل أن تتزوج "راوية" والتى لا يقُدم أحدهم على طلبها مطلقًا ليُكتب عليهن نفس مصيرها بالإكراه ...

رواية بقلم قوت القلوب رشا روميه

❈-❈-❈

شقة فريد النجار ...

التذمر الدائم هو ما يوصف به تلك المرأة النحيلة التى تعد نفسها أذكى وأرقى من تلك العائلة حتى مع إمتلاكهم المال الذى لا تمتلكه عائلتها ..

نفخت "حنين" بتذمر وضيق من زوجها محدود الذكاء والذى لا يساعدها مطلقًا للوصول لمبتغاها وما تحلم به ، ثم رمقته بسوداوتيها بتقزز ...

- يعني وأخرتها معاك ... لحد إمتى حفضل أفهم فيك وإنت البعيد مبتفهمش ...!!!

طأطأ "فريد" رأسه بخنوع وقلة حيلة ..

- ما هو يا "نونه" أبويا كل ما آجى أقرب منه يصدني ومعرفش أخد معاه لا حق ولا باطل زى ما يكون مش طايقني .. خصوصًا ومأمون موجود معاه ...

لوت فمها الممتعض طيلة الوقت وهى تقضم شفتها السفلية بحركة عصبية قائله ساخرة من "فريد" ...

- إذا كنت أنا مراتك أهو ومش طايقاك ... المهم ... المشكلة فى أخوك اللي إسمه "مأمون" ده ... بنى آدم مش سهل ... 

بقلق بالغ أوضح "فريد" تخوفه من معرفة "مأمون" بما يقوم به فى الخفاء ...

- ده أنا قلبي وقع فى رجليا لما كان بيتكلم معايا إمبارح ... كنت فاكر إنه عارف بعمل إيه ...

ضربت "حنين" كفيها بعضهم ببعض ، أهو ساذج أم غبي ..؟؟ لأنه لا يمكن أن يكون صادق صافي القلب لتردف بإنفعال من غبائه الذى لا تتحمله لأكثر من ذلك ...

- فاكر ...!! إنت متخيل إن "مأمون" ميعرفش إنت بتعمل إيه ... إنت غبي أوى كدة ...؟؟! 

ثم إعتدلت لتتوهج عيناها الماكرة وهي تبث به سمومها ...

- ده أخوك ده مصيبة من مصايب الزمن ... ده مفيش حاجة ميعرفهاش ... ومش بعيد يكون وقعك فى الكلام بجد عشان يثبتها عليك وتفضل مرمي فى مكانك فى المخازن ...

لم يبالي بطريقتها التى تُدنى منه وتقلل من شأنه ولا من تطاولها عليه بل كان إهتمامه منصب فقط على كيفية التصرف بهذا الأمر ...

- طب والعمل يا "حنين" ..؟!!

طرفت بعيناها لوهلة بغرور وهى تجيبه بدهاء ...

- مش عارفه من غيري كنت حتعمل إيه ... اللي المفروض تعمله دلوقتِ هو إنك تخلي أبوك يشك فى "مأمون" عشان يبعده عن الوكالة ويخاف يملكه على الفلوس ...

إتسعت عينا "فريد" بإنبهار قائلًا بترقب ...

- إزاى ...؟!!

ضحكت "حنين" بتهكم ضحكتها القصيرة قبل أن تستكمل حديثها ...

- المفروض تعرف "مأمون" مسافر إمتى يستلم بضاعة ووقتها تفهم أبوك إنك الكميات اللي وصلت أقل من الحقيقة ... ساعتها أبوك حيشك إن "مأمون" بيلعب فى الكميات وبياخد فلوس لحسابه ... ووقتها بقى واحدة واحدة تدخل لأبوك وتاخد مكانه ...

- فهمت ..

قالها "فريد" بحماس وعليه التنفيذ فى الحال لمعرفة متى سيسافر "مأمون" لبدء خطته ...

غمغمت "حنين" بنبرة خفيضة للغاية بسخط ..

- يا ريت تكون فهمت ... هو إنت بتفهم أصلًا .. ده ناقص آجى أتكلم بدالك ... مش كفاية عليا أمك وأختك .. عيلة ما يعلم بيها إلا ربنا ...


❈-❈-❈


سويسرا ...

لم يعد شعور الإستغراب يهيم بالنفوس ، فقد أصبح كل شيء متوقع ، لمحة عين إختلفت بها الأوضاع ، فصاحب البيت أصبح هاربًا والمعتدي أصبح مالكًا ...

وسط تلك الأجواء التى تبعت هذا الطقس العاصف برودة قارسة وسحب كثيفة تغطي السماء ، أمطار مازالت تتفاوت شدتها رياح تتنقل بين الأشجار التى إبتلت من الأمطار ...

أجواء تبعث بالضيق والكآبة خاصة وهما بوسطها دون ملجأ أو حامي منها ...

كانت "كاتينا" هي المرشدة الآن بعد خروجهم المتسلل من الكوخ للهروب من تلك المتوحشة المجنونة ، سارت "كاتينا" متقدمة "معتصم" لإرشاده نحو بيت قديم يملكه والديها لا يبعد كثيرًا عن طريق الكوخ ...

وسط طريق يخترق الغابة والأشجار الكثيفة التى تحجب الرؤية بشكل واضح إتخذا طريقهم للشمال ، بعد سير لوقت لا بأس به بهذه الطرقات الغير ممهدة بفعل العاصفة وقفت "كاتينا" تشير إلى أحد الإتجاهات لتخبر "معتصم" بإرهاق ...

- ها هو "ماوصي" ... إنه الكوخ خاصتنا ...

وقف "معتصم" يستقيم بهامته حاملًا حقيبته فوق ظهره ليضغط جبهته متطلعًا بتمعن بذات الإتجاه الذى تأشر إليه "كاتينا" ...

من بين فروع الأشجار الكثيفة ترائى له كوخ قديم لا يمكن رؤيته بشكل واضح لتنبسط ملامح وجهه المتجهمة ببسمة ضعيفة للغاية ليردف معقبًا ...

- إنه كوخ بالفعل ...

تطلعت "كاتينا" بوجهه المستريح حينما إستطرد قائلًا ...

- أظن أنه من المستحيل أن تصل "عهد" إلينا ها هنا ... لقد وصلنا نحن بأعجوبة ...

إتسعت بسمتها التى تدل على إنتصارها على تلك المتطفلة ..

- بالطبع "ماوصي" ... لن تستطيع الوصول إلينا مهما حاولت .. مكان الكوخ هنا مختبئ لدرجة كبيرة لا يمكن أن يأتي إليه أحد إلا من يعرف مكانه بالتحديد مسبقًا ...

أومأ "معتصم" بخفة وهو يتقدم بخطواته تجاه الكوخ لتتبعه "كاتينا" ...

كان كوخًا عاديًا للغاية لا يشبه الكوخ الذى كانا يقيمان به فيبدو أنه قديم للغاية ، مدت "كاتينا" ذراعها القصير لتصل بصعوبة لأحد المصابيح تسحب المفتاح من فوقه لتشعر بالزهو لتحصلها عليه ...

إتجهت نحو الباب الموصد لتفتحه بالمفتاح قبل أن يدلفا نحو الداخل ...

إجتاح جسديهما شعور بالبرودة فالكوخ صامت ، هادئ بشكل كبير بعكس كوخهما الدافئ ، حتى المدفأة المطفأة هي من النوع القديم الذى يحتاج للأخشاب لإشعالها للشعور بالدفء ...

لم تكن الأجواء بالخارج أقل برودة لكن يأمل المرء عندما يخطو داخل البيت بالشعور بالدفء والأمان ، فهو مفهوم يغرس بالنفس قبل الشعور به ...

وضع "معتصم" حقيبته أرضًا ليتحرك بأرجاء الكوخ بحثًا عن الأخشاب لإشعالها بالمدفأة التقليدية ليشعرا بالدفء ...

وجد المدفأة بأقصى اليسار وإلى جوارها بعض الأخشاب ليسحب بعضها ويلقى بهم بداخل المدفأة مشعلًا النيران ليستمتعا ببعض الراحة وربما الخلود للنوم بعد قضائهم لليلة طويلة لم ينالا بها راحة ونوم هادئ ...


❈-❈-❈


وسط الملامح الهادئة أشياء محطمة ، تلك مقولة لا يدركها الكثيرون ، كم من طائر يملك جناحين دون أن يعطى لهم قيمتهما ، تلك الأجنحة خلقت لتطير فربما كان بالإستغناء إذن بالحرية لتحلق الأجنحة من جديد ...


بيت عائلة الأسمر ...

ضغطت "وعد" بكفها فوق شفتيها لبعض الوقت تمنع قلبها المتهدج من الصراخ لما يتصارع بداخله ، رفعت أصابعها الطويلة لتسحب هاتفها تدق برقم خالتها "زكيه" بإشتياق لسماع كلمة حانية لينة ولم ولن تلقاها إلا منها فقط ...

- صباح الخير يا خالتى ...

قالتها "وعد" بصوتها الناعم و نبرتها الهادئة لتجيبها "زكيه" بلهفة أم حنون على إبنتها التى لم تراها منذ فترة طويلة ...

- صباح الخير يا حبيبتي ... وحشتيني أوى ...

- وإنتِ كمان يا خالتي ... وحشاني أوى ...

أنهت عبارتها لتتنهد بضيق شعرت به "زكيه" لتتسائل بقلق ...

- مالك يا "وعد" ... فيكِ إيه ...؟!!

لملمت شفتيها بتأثر وقد تقوست شفتيها اللامعتان للأسفل بضيق وإنقباض بقلبها ثم اجابتها بنبرة مستسلمة ...

- متلخبطة ومش عارفه أعمل إيه يا خالتي ... حتى "عهد" زعلانة مني ودايمًا تليفونها مقفول ... وإنتِ بعيد عني ومشغولة طول الوقت ... أنا حاسة إني لوحدى .. مش عارفه إللي بعمله ده صح ولا غلط ...!!!!!

كانت إجابة "زكيه" مختلفة عما يظنونه من يحيطون بها بمفهومهم عن الصواب والخطأ بل كان بكلمات تريح قلب تلك المسكينة المتعب ...

- كفاية يا "وعد" تأنبي نفسك ... شوفي بيتك وحياتك وإبنك ... و "عهد" مسيرها تقتنع في يوم من الأيام بأن اللي عملتيه ده كان لمصلحتك ومصلحة إبنك ... كفاية تلومي نفسك وتتعبي أعصابك أكتر من كدة ... ده إنتِ ممكن يجرى لك حاجة ... 

صمت "وعد" المنصتة لحديث "زكيه" الذى يهدئ من ضغط قلبها المتعب كان ردًا بليغًا على حديثها العقلاني الذى يحثها على تقبل حياتها ...

رواية بقلم قوت القلوب رشا روميه

إستطردت "زكيه" مستكملة ...

- والله يا بنتى أمك "عايدة" لو كانت عايشة مكنتش حترضى أبدًا تشوفك تعبانه كدة ...

أغمضت "وعد" عيناها للحظات فربما تلك الكلمات هي ما تحتاجها لتعطيها الروح والقوة لإكمال حياتها التى أصبحت كالماء لا لون ولا طعم لكنها على قيد الحياة ...

عبارات حانية من خالتها ذات القلب الطيب لكنها كانت بالفعل تحتاج النصيحة من قلب قوى كقلب "عهد" ، تتمنى أن تستمع إليها وتبثها بعضًا من قوتها لكن الأمر الآن غاية بالصعوبة ، فـ"عهد" لا تلين بسهولة ولن ترضى بأنصاف الحلول ، قراراتها تتخذها بما يُقنع عقلها فقط و تقصى حسابات القلوب جانبًا تلقيها ببئر لا نهاية له ...

بعد فترة من الإنصات أردفت "وعد" ...

- ماشي يا خالتي ... معلش شغلتك معايا ..بس إنتِ عارفه إني لوحدى ومش بعرف أتصرف ...

- عيب يا "وعد" تقولي كدة وإنك إنتِ و"عهد" تعتبروني غريبة كدة ... هو إنتوا مش زى "شجن" و"نغم" ولا إيه ..!!

بحبور شديد عقبت "وعد"...

- غريبة إيه بس يا خالتي هو إحنا لينا غيرك فى الدنيا ...

- طب أبقى هاتي "زين" وتعالي ... وحشتوني أوى ..

رغم أنها تخشى الوعود خاصة تلك الوعود التى لا تستطيع الوفاء بها إلا أنها وعدتها بذلك ...

- إن شاء الله يا خالتي ... حاجيلك قريب ...

إنتهت تلك المكالمة بخيال "وعد" الذى قفز لذكرى جديدة ، ذكرى قاسية من "عاطف" مرة أخرى ...


فلاش باك ...

﴿إعتاد "عاطف" حياة القسوة واللا مبالاة معها ، إنصاته لأخته "عتاب" وأمه بأنه لابد أن يُظهر القوة وسيطرته على زوجته ليكون رجلًا كما يظنون ، لكن هؤلاء هم أشباه الرجال ، لا يملكون من الوصف سوى كلمة ذكر ببطاقة هويتهم ...

أيام تمر لا تجد بها "وعد" سوى الضيق و إقتضاب الوجه ، حديث مقتصر وإستهزاء وتحقير منه لها ...

نفسها الحساسة كانت هشة للغاية ، لم يمر ذلك عليها بروية بل كان إحساس عاصف جعلها فريسة لحياة حزينة وإنزواء واضح ..

بالبداية كانت "وعد" تحاول إلتماس بعض الأعذار حتى لو لم تكن مقنعة بذلك ، لكنها كانت تجد بها سببًا يدفعها للتحمل والإستمرار ، أخذت تمنى نفسها أن كل ما يمر بعلاقتهم يمكن تداركه فهو من داخله يُحبها ، ولأجل ذلك ستتحمل أملًا بأن يتغير ذات يوم ...

حتى جاء هذا اليوم ، اليوم الذى أعلن به نهاية إختلاقها لأعذار له لمعاملته السيئة معها ، اليوم الذى توقفت به نفسها عن البحث عن سبب لما يفعله معها ، لتقف بنقطة الصفر حين تجبرها تصرفاته قتل شعور المحبة بداخلها لتصبح كإناء أجوف فقد إنعدم رصيده من إلتماس الأعذار وأصبح ببداية إحساس آخر هو من أجبرها عليه ...

عاد "عاطف" من متجرهم ليلًا بنفس ضائقة لم تدرى "وعد" سبب ذلك ، أهو العمل بحد ذاته أم لخلاف ما بين أبيه أو أخيه "محب" كالعادة ...

كان كالثور الهائج يبحث عن متنفس لإسقاط غضبه عليه لتتجلى أمامه تلك الضعيفة اللينة كمثال مناسب لهذا ، بدأ حديثه الصارخ بالسُباب المهين لها والغير معتاد بينهم ...

- قومي يا *** ***** إعمليلي شاي ...

إتسعت خضراوتيها بصدمة من إلقائه عليها بتلك الألفاظ النابية لتفغر فاها بقوة لكن ملامتها له كانت بمثل نعومتها تمامًا ...

- "عاطف" ...!!! ليه كدة ...؟!!!

عقد حاجبيه بقوة وهو يرفع أنفه بإشمئزاز منها قائلًا بتجبر ...

- كيفي كدة ... حد شريكي ...ومن هنا ورايح مش حتكلم غير كدة يا *** ***** .

تعالى تنفسها بقوة فقد شعرت بأن الهواء إنعدم تمامًا بداخل رئتيها لتحرك رأسها برفض لهذا الإسلوب الجديد المهين بالتعامل معها ، خاصة وأن غضبه وسُبابه بدون سبب من الأساس ...

- لأ يا "عاطف" ... متكلمنيش كدة ... عيب كمان الولد ممكن يسمع ويقلد الكلام ده ...!!!

وقف بقامته الطويلة ليضرب بكفه جانب رأسه بقوة بصورة أخافتها للغاية مع إنفعاله وصراخه المتكرر حتى أنها تراجعت لبضع خطوات للخلف بإرتجاف ...

- هو كدة ... بمزاااااجي ... أقول اللي عايز أقوله ... وإنتِ تتكتمي خالص ... فاهمه ولا مش فاهمه يا روح *** .

تهدج صدرها بقوة لتهتز شفتيها بقوة تبعها تساقط لدموعها صعبة التحكم مردفة بنبرة محتقنة خرجت بقوة لإهاناته المتوالية ...

- لو .. سمحت يا "عاطف"... بلاش الطريقة دى ...!!!

باغتها بقبضه لمرفقها بقوة يسحبها تجاهه وهو يصرخ بها بغضب جعل عيناه تشع بريق مفزع بأعين "وعد" التى بهتت تمامًا من شدة الإرتعاب ...

- إنتِ حتعلميني أقول إيه وما أقولش إيه ... إعرفي حجمك كويس ... ده أنا "عاطف الأسمر" ... أقول زى ما أقول ... ولا حد يحاسبني ...

رغم رجفتها وبرودة أطرافها حاولت بقوة واهية الدفاع عن نفسها فعليها أن تكون قوية كـ "عهد" ...

- لأ ... طبعًا ... فيه حد حيحاسبك ... ولا نسيت ربنا ومبقتش عامل له حساب .... بلاش كدة يا "عاطف" ... أنا مش قليله ... عشان تعاملني بالشكل ده ... طريقتك وإسلوبك ده ربنا حيحاسبك عليه ...

لم يتقبل ردها وإنتقادها له بل عليها الرضوخ والسماع والطاعة ، عليه أن يظهر كالرجل القوى الذى لا تجرؤ زوجته على معارضته ، ترضخ له بإشارة من إصبعه الصغير ...

عليه إستخدام القوة ، تلك الطريقة الهمجية الذكورية التى يظنها البعض سيطرة وقوة وهى أبعد عن الرجولة الحقيقية بالنقيض ...

رفع كفه بقوة ليهوى فوق وجنتها الممتلئة بصفعة شعرت بصداها بداخل قلبها أولًا فعليه إخراسها وإجبارها على قوته الجديدة بالسيطرة عليها ...

صفعة أطلقت سيل من الدموع الموجعة المتلاحقة ، ربما ما شعرت به من ألم لم يوازى تهشم ما حدث بداخلها ، جدار صلب إستطاع هدمه بصفعة واحدة ، ذلك الخيط الرفيع الذى حال بين نقيضين من قلب عطوف محب لقلب جامد صلب ..

كيف إستطاع نزع محبتها له برد فعل عنيف منه ...؟!

كيف إستطاع خلق إحساس مغاير بداخلها بهذه الصورة ؟!!

بل كيف توقف قلبها عن الشعور ؟؟! أصبحت تقف على حافة جسر بين أحاسيس مختلفة لتبقى لا تنتمى لأى منهما ، لقد أعادها للحياد ونقطة الإنطلاق ، لقد أوصلها لدرجة الغرباء الذين لا يعرفون بعضهم البعض ...

رفعت وجهها المحتقن بنظرة عميقة كمن تبصر ما كُشف منه للمرة الأولى وقد أزيلت غشاوة عينيها لترى سوء خُلقه و أنانيته ، شخص بغيض غريب ...

أزاحت خصلات شعرها الأسود التى إلتصقت بوجنتها إثر دموعها التى غطتها ليظهر أثر كف "عاطف" تاركًا رسم لأصابعه فوقها ، رفعت أصابعها تملس فوق وجنتها المتوهجة متسائلة بأعين مستنكرة فعلته ...

- إنت بتضربني يا "عاطف" ...؟!!

كِبر نفسه متجاهلًا عتاب قلبه عما فعله بها ليظهر وجه لا يبالي رافعًا من هامته بثبات مغلفًا صوته بقسوة أنهت هدم جدار المحبة بينهما ..

- وأكسر رقبتك كمان ... ومن هنا ورايح ده ردي عليكِ يا "وعد" لو في يوم وقفتي قصادى كلمة بكلمة معايا زي النهارده ...

هزت رأسها برفض لهذا الوضع المهين وهي تقلب شفتها السفلى بحزن رجف له قلبه المتعالى الذى وضعه تحت قدميه كما لو أنه لا يكترث لها ولا لألآمها لتردف بغصة ...

- ليه يا "عاطف".... ليه ...!!!!!

ثم أردفت بآخر أمل لها تعاتبه وتترجى أن يفيق من غفلته قبل خسارتها بشكل نهائي ...

- إنت كنت بتحبني ... ليه تقسى عليا ... أنا عملت لك إيه ...؟؟

تنهدت بأنفاس متقطعة لتستكمل ببعض الإستجداء ...

- بلاش تسمع كلام "عتاب" ... بلاش تقسيك وتقويك عليا ... بلاش ...

رغم وجودهم بشقتهم إلا أن خيال "عتاب" ترائى لناظرى "عاطف" يراها تسخر من ضعفه وإنسياقه خلف لين "وعد" وطيبة قلبها ليتجلى شيطان نفسه رافضًا حديث "وعد" ضاربًا بحديثها عرض الحائط ليهتف بنبرته الغاضبة ...

- إخرسي ....!!! ( زادها بإتمام شهادة رجولته حين هوى بكفه بصفعة ثانية كانت هي من ألقت كلمة النهاية على حطام قلبها ومحبتها له ) ... إوعى تجيبي سيرة أختي على لسانك بالصورة دى ... دى ستك وتاج راسك ... دى بنت "محفوظ الأسمر" ... إنتِ تطلعي إيه عشان تتكلمي عنها بالصورة دى ...

ألم يكتفي بصفعاته القاسية ليكمل قُبحه بإهانة وتجريح ودونية أيضًا ، لِمَ يحطم كل ما كان جميل بينهم ؟!! لِمَ يحطم قلبها الذى ظن أنه يومًا يحبه ؟؟؟ 

كانت تود بعتابها أن يعيد بناء ما إهتز بينهم لكنه أصر على تحطيمه حتى لم يعد للعتاب سبيل فقد قطع الوصل ...

حتى العتاب فقدت الرغبة به ، حينها فقط تأكدت بأنها شيعت محبته لمثواها الأخير ، لم يقدر قيمة الأحجار النفيسة التى يمتلكها فغدًا سيجد أنه لا يملك سوى الحصى ..

إن العتاب هو الوصل بين الأحبة لكنها الآن لم تعد تقوى على عِتابه ، لم تعد تريد هذا الوصل فقد كسر ما لا يمكن إصلاحه ..﴾


عادت "وعد" لواقعها لتحمل إبنها لداخل غرفته تبدل ثيابه بصمت تحاول الإعتياد على حياة لا حياة فيها ...

رواية بقلم قوت القلوب رشا روميه

❈-❈-❈


بذات المكان والتوقيت بشقة محفوظ الأسمر إنتهزت "عتاب" فرصة غياب والدتها "قسمت" عن البيت ووجودها بمفردها لتدلف لغرفة نوم والديها ...

تركت بناتها لتتسلل نحو غرفة والديها مستغلة هذا الوقت بالخصوص فلن يزعجها أحد ، حتى "وعد" التى أصبحت لا تختلط بهم متيقنة بأنها لن تأتي وتكتشف الأمر ...

فتحت "عتاب" الخزانة الخاصة بوالديها لتخرج حقيبة الأوراق الكبيرة الخاصة بهم ، تلك الحقيبة التى تمتلئ بكل ما يخص العائلة بأكملها من أوراق ومستندات تخص والدها "محفوظ" الذى لا يجرؤ أحدهم على إمتلاك ورقة واحدة منهم بل كان له كل السيطرة للإستحواذ حتى على الأوراق ...

طلت بوجهها الطويل وشفتيها المضمومتان تنظر نحو باب الغرفة بتشدق الإطمئنان بأن الوضع هادئ تمامًا لتضع الحقيبة فوق الفراش لتفتحها وهى تعبث بمحتوياتها بتركيز شديد ...

لم تنتبه لهذا الذى وقف بباب الغرفة يحدق بها وهي منشغلة بالتقليب بين الأوراق لتنتفض بفزع حين نطق مفاجئًا إياها ...

- بتعملي إيه يا "عتاب" ....؟!!

إضطربت للغاية حتى كادت تشق الورقة التى تحملها بين يديها لنصفين من مفاجئتها لتبتلع ريقها الذى تحجر بحنجرتها وهي تطالعه ببعض الإضطراب قبل أن تهدأ نفسها قليلًا مجيبة إياه ...

- محب ...!!! خضتني ... 

عقد ذراعيه أمام صدره ومازالت نظراته مثبتة عليها ليعيد سؤاله مرة أخرى ...

- أيوه مقولتيش برضه ... بتعملي إيه عندك ...؟؟!

وضعت الأوراق عن يدها وهي تزم شفتيها بقوة ثم نهضت من جلستها لتدنو منه قائلة ...

- تعالى حقولك ... عشان إنت لازم تفهم بدل ما يتاكل حقنا ... أنا وإنت أكتر إتنين مهمشين فى البيت ده ... وجه الوقت عشان ناخد حقنا بإيدينا ...

عقد حاجباه بدون فهم محاولًا إستنباط عما تتحدث ...

- قصدك إيه ...؟!!

لمعت عيناها بخبث وهي تستكمل بث سمومها بأفكار "محب" أيضًا فعليه التعاون معها لإسترداد حقهم الذى على وشك الضياع ...

- قصدي إن الفرصة جت لنا نرجع حقنا يا "محب" ... ولازم تحط إيدك في إيدي عشان نرجع اللي راح ...

رغم عدم إدراكه لما تنوي فعله إلا أنها أثارت فضوله ليسألها بتمعن في حديثها المبهم ...

- إنتِ عاوزة تعملي إيه بالضبط ..؟؟

- عاوزة .. ااا ....

قطعت حديثها حينما سمعت صوت والدتها تتحدث مع بناتها بالخارج لتسرع نحو الحقيبة تلملم ما بعثرته بعجالة ...

- مش وقته مش وقته ... حبقى آجى لك أوضتك أفهمك إيه الحكاية وحنعمل إيه ... روح دلوقتِ عطل ماما لحد ما أشيل الأوراق دى مكانها ....

رفع كتفيه و أهدلهما بدون فهم ليخرج لوالدته التى عادت للتو من الخارج بينما أعادت "عتاب" كل شئ كما كان كما لو أنها لم تفعل شيئًا ....


❈-❈-❈

بيت النجار ...

نيران حامية تصارعت بنفس "صباح" منذ علمها بأمر خطبة هذا الطبيب لإبنة "زكيه" ، نيران إلتهمت أعصابها وقلبها المفعم بالسواد ...

إرتدت عبائتها السوداء المزينة بالنقوش الذهبية والتى أظهرت جسدها الممتلئ ، تلك العبائة التى طغت بسوادها على قلبها ، زينت ذراعيها السميكان بالمزيد من الحلي الذهبي فهي لابد وأن تكون بكامل بهائها وتأنقها ...

تعجبت "راوية" من رؤية والدتها تستعد للخروج لتتسائل بإندهاش ...

- رايحه فين يامه ... ؟!! ده إحنا لسه بدرى ...!!!

مصمصت "صباح" شفتيها بإزدراء وهي تطالعها بجانب عينيها قائلة بإستهزاء ...

- يا برودك يا بنت "فخري" ... يعني مش عارفه أنا رايحه فين ...!!!! طبعًا وإنتِ بيهمك إيه ... قاعدة زي البقرة تاكلي وتنامي ولا حاطه فى دماغك حاجة وسايباني أنا أولع فى نفسي ... قال على رأى المثل ...( إيش على بال القرد من سواد وشه ...) ...

زفرت "راوية" بضيق من إستهزاء والدتها بها ثم أردفت ...

- ما كفاية بقى تحرقي فى دمي ليل ونهار ... أنا ذنبي إيه ...!!!!

- ذنبك ...!!! ذنبك إنك بايرة ... مش عارفة تجيبي لك عريس زى بنات الخدامة ...

أزاحت "راوية" وجهها بإمتعاض عن والدتها فقد إعتادت طريقتها القاسية معها ، لم تعد تهتم أو تتأثر بما تقوله لها ، متبلدة المشاعر حتى الحزن ودموعه فارقا حياتها لتُفضل اللامبالاة عن التأثر بحديثها المتهكم منها طوال الوقت ...

إستدارت عائدة نحو الشرفة عوضًا عن بقائها مع والدتها التى تضغط عليها طيلة الوقت ...

رفعت "صباح" طرف عبائتها بغيظ لتخرج مغمغة ...

- عَيله باردة ... أبرد من ماية طوبة ... 

خرجت من شقتها عاقدة العزم لإفساد أمر خطبة "شجن" مهما كلفها الأمر لتتخذ طريقها لتنفيذ ذلك ...

(الفصل الثاني عشر)

يمكنك إطفاء حريق إبتلع بألسنته ما تراه نفيس ، لكن هناك نيران لا يمكن إطفائها تلك التى تشتعل داخل القلوب ...

لا يتخلى أحد عن شئ يتعلق به إلا بعد أن تحترق يداه من شدة تمسكه به ، تلك النيران التى لا يمكن إخمادها ، ليت النسيان سهلًا لكنت سعيت إليه بكل قوتي ..

لكن إن توجب على الإحتراق فسأكون نيزكًا متوهجًا ، لقد إحترقت بما يكفي وحان الوقت لأضيء ببريق السعادة والسرور ...


❈-❈-❈


سويسرا ( الكوخ الجديد ..) 

مر وقت لا بأس به وقد حاول "معتصم" إشعال المدفأة لتنكسر برودة الطقس قليلًا كما ساعدته "كاتينا" بصنع أحد المشروبات الدافئة لشعورهم بالبرد الشديد ...

حاول "معتصم" النوم لكنه لم يستطع لشعوره بإرتجاف أطرافه لينتظر أن تدفئ نيران المدفأة الأجواء من حولهم حتى يستطع النوم ...

هذا الشعور بالراحة والدفء الذى ينتظره ليغط بنوم هادئ كذلك "كاتينا" التى إنتظرت بالغرفة المجاورة لتلتمس بعض الراحة بعد ليلتهم المقلقة بسبب "عهد" لكنها ظلت تنتظر أن تدفئ المدفأة المحيط من حولهم ...

رواية بقلم قوت القلوب رشا روميه

❈-❈-❈


صباح الجزار ...

خرجت من بيتها تحت أنظار إبنتها "راوية" وهي تتابع تحركها نحو مقدمة الحي بخطواتها الثقيلة تتهادى بتحفز تجاه بيت عائلة "سليمان" ...

عائلة ميسورة الحال هادئة الطباع بخلاف عائلة النجار التى تتناثر مشاكلها داخل الحي ، تلك العائلة ليست معتادة على الصراخ والسباب الذى تقوم به "صباح" ليتجنبوا تلك السيدة المثيرة للمتاعب منذ زمن طويل ...

لكن رؤيتها ببابهم بهذا الصباح دب التوجس بقلوبهم لقدومها المقلق ...

فتحت والدة "سليم" الباب لمقابلة "صباح" بقلق خِشية سبب وجودها ببيتهم بدون سابق دعوة فهي سيدة سليطة اللسان ، لكنها على الرغم من ذلك حاولت رسم وجه بشوش مُرحب بها فهي ضيفة بنهاية الأمر ...

- يا أهلًا وسهلًا يا ست "أم فريد" إتفضلي ...

إبتسمت "صباح" على غير العادة لتندهش المرأة لما تعرفه عنها من غطرسة ولسان سليط لتتحدث "صباح" بلطافة شديدة تثير الريبة ..

- يزيد من فضلك يا حبيبتي ...

دلفت نحو الداخل تناظر أرجاء البيت من حولها بمقلتيها السوداوتين تطالع كل تفاصيله بأعين كاشفة لعورات البيت دون الغضض من بصرها ، نظرات متبجحة لإنسانة بعيدة عن الأخلاق والقيم ومراعاة حسن الأدب وغض البصر ...

إمتعض فمها بدونية من معيشتهم وأثاثهم الذى تراه لا يمت للثراء والذوق بلمحة حتى ، فهو لا يحتوي على ما هو ذهبي براق وألوان زاهية بل إعتمد على الألوان الباهتة الهادئة ، شئ مقزز لنفسها المشبعة بالهرج والذوق المفجع للأعين ...

جلست"صباح" تبدأ حديثها مباشرة لتنتهى مما جائت لأجله ثم تعود لبيتها الرائع كما تظن ...

- شوفي يا حبيبتي ... أنا جاية لك فى خير ... جاية أفطمك على إللي بيحصل بدل ما تتورطوا  ... أنا جاية أنصحك وإنتوا أحرار بقى ...

- خير يا ست "أم فريد" .....

لفلفت "صباح" عيناها أولًا ثم أجابت والدة "سليم" بنبرة ودوده ...

- أنا سمعت كلام كدة مش عارفه هو صح ولا غلط ... ويا ريت يكون غلط ... أصل إنتوا ناس طيبين ومالكومش فى السكك البطالة ...

حركت السيدة رأسها بدون فهم لمقصد "صباح" لكنها شعرت بأن هناك أمر هام للغاية بحديثها ...

- قصدك إيه  ... أنا مش فاهمة حاجة ...!!!

مصمصت "صباح" شفتيها بتأزم وهي توضح لها ...

- أنا سمعت إن إبنك الداكتور .. عاوز يتجوز بنت أخو جوزى .. صح الكلام ...؟!!!

قضبت السيدة جبهتها بتعجب فمن أين لها معرفة ذلك فلم يتقدم لها بعد بشكل رسمي لتجيبها بترقب ..

- مظبوط ... بس مين قالك ...؟!!

بعنجهية شديدة أعادت جذعها للخلف مستكملة بثقة كما لو أن لا شئ يخفى عليها ..

- مش مهم مين قالي ... المهم أنا جايه أقولك إيه ...

أنصتت والدة "سليم" لها لتستطرد "صباح"..

- البت دى وأختها وأمهم كمان .. أستغفر الله العظيم مشيهم بطال ... وكل يوم والتاني عامله معاهم مشكلة  ... من كتر عمايلهم السودا ... إحنا ناس محترمين منقبلش كدة ... وأكيد يا أختى إنتِ سمعتي اللي بيحصل ...

فاهت السيدة بإيمائة كادت أن تصدق بها حديث "صباح" فربما هي محقة ...

- أيوة فعلًا إنتوا بينكم مشاكل على طول ... بس إزاى يا ست "أم فريد" .. دول أدب وأخلاق وجمال ما شاء الله ...؟؟؟

تسائلت بعدم إقناع بعد من حُجة "صباح" لتجيبها رفيقتها على الفور مؤكدة حديثها ...

- ما هو جمالهم ده إللي مخليهم يعملوا كدة ... ده جوزي وولادي كل يوم والتاني ظابطين البنات مع رجاله وحاجة أستغفر الله العظيم مقولكيش خليني ساكته ... ربنا يستر علي ولايانا ... دول يا حبيبتي مش بتوع نسب وفتح بيت ... ده إنتِ تبقى غلطانه ... وعمومًا براحتكم أنا جيت أخلص ذمتي من ربنا وأنصحكم لوجه الله ... وإنتوا أحرار ...


تفكرت السيدة لبعض الوقت فلابد أن زوجة عمهم تعلم ما لا يعلمه الأغراب عنهم لتردف برفض حتي لو أن الأمر بنفسها مازال به بعض الشك ...

- لا وعلى إيه ... هي البنات إتعدمت يعنى ما أهم فى كل حته ... خلينا نبعد عن الشر ونغني له  ... كتر خيرك يا ست "أم فريد" ...

ها قد حققت مبتغاها لتنهض ببطء لحركتها الثقيلة قائله ..

- طيب .. أقوم أنا بقى .. أنا قلت ثواب كدة لله أعرفكم أحسن رجلكم تيجي فى الخية وتحاسبوا على مشاريب إنتوا مشربتوهاش ... بالإذن ...

قالتها وهى تتجه صوب باب الشقة فكما دخلت خرجت وقد رُسم فوق ثغرها بسمة خبيثة تعني إنتهاء الأمر فلن يجرؤ أحد على طلب مثل هذا مرة أخرى فبالتأكيد سيتداول الجميع الأمر وتصبح بنات "زكيه" غير صالحات للزواج لسمعتهم السيئة ...


❈-❈-❈


عطارة النجار ...

إقتربت الظهيرة ليتوجه "فخري" كعادته للصلاة بالمسجد كما هو معتاد بكل صلاة ، رجل تقي لكنه مازال يدفع ثمن غلطة إرتكبها لطمعه ، توبة متأخرة أفضل من العيش بذنوب بقية العمر ...

فعل كل ما يمكنه للتقرب إلي الله والتصدق لكنه مازال لا يشعر بالسعادة هل كانت خطيئته جسيمة إلى هذا الحد ، لكنه تقبل ورضخ لحياته وإعتاد السلبية والإنزواء ومتابعة أعماله فى صمت ...

جلس "مأمون" بمكتب والده لحين عودته من أداء الصلاة بالمسجد وهو يتابع بعيناه السوداوتين حركة العمال بداخل المتجر ، بينما كانت عيناه تخترق وتتفحص سير العمل كان يتحدث أيضًا بذات التركيز بمكالمته الهاتفية فهو ذكي للغاية يستطيع أداء أكثر من مهمة بوقت واحد ...

لكنه حين لاحظ أخيه "فريد" قد حضر للتو حاول إنهاء المكالمة ليتفرغ لهذا المتجه صوبه بشكل تام ...

- أيوة ... تمام ... خلاص إتفقنا ... حكلمك تاني أكيد ... النهارده حكلمك ... مع السلامة ...

بآخر كلماته كان "فريد" قد دنا من مكتب والده والذى يتخذه "مأمون" مجلسًا له بغياب والده ...

- صباح الخير يا "مأمون" ... 

- صباح الخير يا "فريد" ...

بحُجة مكشوفة لـ"مأمون" الذى إستطاع فهم ما يرمي إليه "فريد" من الوهلة الأولى ...

- هو مش إنت كنت مسافر النهارده ؟؟؟ ... ده أنا قلت آجى أشوف الحاج محتاج حاجة لواحدة فى الوكالة ...

مال "مأمون" برأسه يعبث بإصبعه السبابة بمقدمة لحيته الخفيفة النابتة وقد إخترقت عيناه نفس "فريد" الضعيفة وهو يجيبه بغموض ..

- السفر إتأجل ... متقلقش ... لو عايز ترجع المخزن إرجع براحتك ...

إبتسم "فريد" بسخافة وهو يحاول تقليد ثقة "مأمون" برفعه لإحدى ساقيه واضعًا إياها فوق الأخرى ..

- لما ييجى الحاج وأصبح عليه الأول .. أنا مرتب كل حاجة هناك ... ما إنت عارفني ..

حرك "مأمون" رأسة بإيمائة ضعيفة وصمت مُربك جعل "فريد" يتلعثم بحروفه لإستكمال حديثهم ...

- هو ...ااا ... إنت مسافر فين بالضبط يا "مأمون" ...؟؟؟

بعد نظرة مطولة مال "مأمون" للأمام واضعًا مرفقيه فوق سطح المكتب لتتشابك أصابعه بعضها ببعض قبل أن يجيبه ببعض الإستهزاء فقد غرس به والده قلقه وعدم محبته لـ"فريد" أيضًا ...

- وهي البلد حتفرق معاك يا "فريد" فى حاجة ...؟!!

اجابة ببعض التوتر ..

- لا يا أخويا ... عادى ... بنتكلم بس ...

نهض "مأمون" بوجه مقتضب يغلق عليه طرقه الملتوية جميعها ..

- اااه ... أنا مش فاضي للكلام ... عندى شغل ... بعد إذنك ...

حاول "فريد" التمسك بـ"مأمون" قليلًا بعد فربما يستشف منه بعض المعلومات ...

- ما تقعد يا أخى ... هو إنت على طول مشغول كدة ... أدينا بنتسلى مع بعض ...

مال "مأمون" بجذعه كاملًا أمام "فريد" مباشرة ليضع وجهه مقابلًا لوجهه ليهتز داخل "فريد" بشدة من قوة "مأمون" ونظراته المخيفة حين أردف ..

- مش إنت جاى تصبح على الحاج ... أهو الحاج جه أهو ...

دار "فريد" بعيناه بنفس مضطربة وهو يبتلع ريقه المتحجر تجاه اليسار ليجد والده وقد عاد من المسجد ، حاول رسم بسمة خرجت من بين إضطرابه بشكل مشوه متخوف للغاية ، بينما إستقام "مأمون" مبتعدًا عن "فريد" الذى يعلم مكره جيدًا وأن هناك سبب خفى لوجوده وأسئلته اليوم ...

بعد مكوثه مع والده لوقت قليل عاد "فريد" مرة أخرى للمخازن متمللًا يجر أذيال الخيبة للمرة الثانية دون التوصل إلى معلومة تفيده بما يخطط له لـ"مأمون" ...

ليت الضربات تأتى من الغرباء لكن الصدمة هى الضربة التى تأتى من القريب ، يا للزمان الذى يحفر فيه الأخ لأخيه بئر ليسقط به ...

نفوس ليست صريحة تحمل بقلوبها البغض والنفور لكن الوجوه تظهر الود والمحبة ، نفاق عجيب فمتصنع الود أقبح من صريح العداء ...


❈-❈-❈

عيادة الدكتورة منار الهواري ...

تلفتت "منار" وهي تلقي نظرة أخيرة بباب عيادتها المفتوح قبل أن تستطرد مرحبة بهذا الواقف أمامها ...

- أهلًا بيك يا دكتور ... إتفضل شوف العيادة براحتك ...

جال الطبيب بعيناه بأرجائها بعجالة وهو يجيبها ...

- واضح جدًا يا دكتورة إن حضرتك مهتميه بيها .. وإن شاء الله نتفق ...

خطى بضعة خطوات تجاه الغرف يتفحص حجراتها المجهزة بعناية قبل أن يعود مرة أخرى تجاه "منار" التى بدى عليها القلق لتأخر "خالد" عن موعده فكان من المفترض أن يقابل معها هذا الطبيب المستأجر لعيادتها ، لقد إعتادت وجوده بكل الأحداث الهامة بحياتها ولم يخيب ظنها يومًا بغيابه عن أحدهم ...

لم يخيب ظنها اليوم أيضًا حين دلف "خالد" بهيبته المعتادة لداخل العيادة بخطواته الرصينة لتدل على شموخ وقوة هذا الرجل ...

- السلام عليكم ...

وقف على الفور يتوسط "منار" والطبيب معرفًا بنفسه بذات القوة رغم كبر سنه ...

- "خالد دويدار" ... زوج الدكتورة "منار" ...

رحب به الطبيب بحفاوة وهو يصافحه ...

- أه طبعًا أهلًا وسهلًا يا سيادة المستشار ... "أمين عبد الناصر"  ...

أومأ "خالد" بخفة لتحية هذا الرجل ليبدأ بأسألته مستكملًا حديثه معه ليزداد إطمئنانًا لهذا الرجل الذى سوف يستأجر عيادة زوجته ...

- وحضرتك تخصص إيه يا دكتور "أمين" ...؟!!

- أنا دكتور أمراض نسا وحقن مجهري وعقم ...

بتفهم لعرضه لتخصصه أراد "خالد" أن يوضح سبب عرض العيادة للإيجار ...

- بالنسبة للماديات مش حنختلف عليها ... لأن الدكتورة "منار" مش محتاجة الإيجار طبعًا لكنها دلوقتِ مش متفرغه لها زى الأول ...  وبالنسبة للي حيستأجر العيادة هو طبعًا الكسبان لأن الدكتورة "منار" لها إسمها وسمعتها فكان أهم حاجة هو إنسان يكون محل ثقة ...

- طبعًا يا سيادة المستشار ... ده أكيد ... ده كفاية سمعة الدكتورة ... 

لم يكتفي "خالد" ببعض الأسئلة السطحية بل حاول الإلمام بكل المعلومات عن هذا الطبيب بالعديد والعديد من الأسئلة ، وبعد أن إطمئن تمامًا تم للإتفاق بينهم وتحرير عقد إيجار يحفظ حق الطرفين قبل مغادرة "أمين" للعيادة ...

بنظرة معاتبة توجهت "منار" بالحديث لزوجها بعد مغادرة الطبيب ...

- كدة برضه يا "خالد" تتأخر عليا  ..!!! ده أنا إفتكرت إنك مش جاى ...

مال بوجهه قليلًا وقد توسط ثغره بسمة تدركها "منار" جيدًا فبها محبة وإهتمام يعاتبها بها بأن تطلق الظنون برأسها تجاهه ...

- وده معقول برضه ... !!! وأنا من إمتى بسيبك يا "منار" ... دى عمرها ما حصلت ...

ثم إستطرد موضحًا ..

- كنت فى إجتماع مع صاحب الشركة وهو اللي أخرني شوية ... ما إنتِ عارفه أول يوم شغل ... لكن إنتِ من جواكِ متأكدة إني عمري ما أتأخر عنك أبدًا ...

مواقف متكررة ومساندة لعمر طويل كانت هي طريقته المختلفة بالمغازلة ، فمغازلته وحبه ينبع من مواقفه ومساندته ووجوده وليس بمجرد كلمات وحديث معسول ...

عشقت طريقته العملية بإظهار مشاعره ليكونا على هذا التفاهم والوفاق لعمر طويل جمعهما معًا ...

بدلالها الرقيق أردفت "منار" ...

- ماشى يا "خالد" ...

أنهى "خالد" حالتهم المعاتبة اللطيفة قائلًا ..

- طب إيه رأيك بمناسبة الشغل الجديد وإيجار العيادة نروح نتغدا بره ...؟!!

رغم عدم تقبلها لطعام المطاعم إلا أنها لن ترفض دعوة رقيقة كتلك للتغيير بدلًا من حياتهم الروتينية ...

- وأنا موافقه ...

ترافق الزوجان السعيدان لأحد المطاعم لتناول الطعام بهدوء ومحبة قبل عودتهم للبيت مرة أخرى ...


❈-❈-❈


حي النعماني (المكتبة)  ...

رفعت جسدها لتقف بأطراف أصابعها تحاول الوصول لرف الكتب العلوى لتضع آخر كتاب بالتسلسل الذى أوضحه لها "بحر" ..

بالكاد وضعت "نغم" الكتاب لتهبط تريح قدميها أرضًا تشعر بمدى إنجازها لإتمام عملها الذى كلفت به ..

برغم إنشغال "بحر" بترتيب الكتب العلمية إلا أن مشاهدتها وهي تحاول التشدق للأعلى للوصول لمكان الكتب كان مثيرًا وممتعًا للغاية ، حتى أنه قد رسمت بسمة فوق ثغرة بخفة لو إستدارت "نغم" بتلك اللحظة للاحظت هيام هذا الشاب بها والذى فاه بنعومتها وحُسنها كلؤلؤة نادرة ...

سرقت قلبه بيومان حتى أصبحت رؤيتها ووجودها أمر لا يمكن تخيل يومه بدونهما ، كما لو أن الدنيا من قبلها كانت مظلمة للغاية لتقتحم حياته ببريقها وتوهجها لتتبدل تمامًا كحياة أخرى وليست ما إعتاد عليها ...

حتى عمله بالمكتبة أصبح ممتعًا للغاية ، سعادة متأخرة دقت بابه تراقص لها قلبه الصغير ..

هبطت "نغم" أرضًا تستقر بوقفتها وقد لاحت إبتسامة عذبة فوق شفتيها المضمومتان لإنجازها الذى قامت به ، إستدارت نحو "بحر" لتخبره بأنها إنتهت مما طلبه منها ليسرع بإسقاط عيناه بعيدًا عنها بإضطراب شديد ...

رواية بقلم قوت القلوب رشا روميه

حول عيناه تجاه الكتب الموضوعة أمامه حتى لا تكشف أمره وولهه بها ..

- أنا خلصت يا أستاذ "بحر" ...

إبتلع ريقه بصدر متهدج وهو يصطنع أنه يرفع رأسه نحوها للتو كما لو لم يكن يسترق للنظر إليها منذ قليل ، حاول إخفاء إضطرابه و دقات قلبه المتسارعة وهو يثني على عملها الذى لا يهتم كيف يكون ..

- برافو عليكِ ... مكنتش أعرف إنك بتتعلمي بسرعة كدة ..

إثنائه عليها جعلها فخورة بعملها وبنفسها ليشرق وجهها بإبتسامة سعيدة صافية للغاية لتظهر برائتها وزهوها بنفسها قائله ...

- شكرًا على المجاملة  ... حنعمل إيه بعد كدة .. ؟!!!

- إحنا نقعد نرتاح بقى ... من الصبح شغل شغل ..

ثم دعاها بتمني أن تقبل دعوته ولا ترفضها ...

- أنا عازمك على الغدا .. يعني حاجة بسيطة نطلبها سوا ... إيه رأيك ...؟؟؟

فقيرة محتاجة لم تعتاد الدلال أو الرفاهية لتناول الطعام من الخارج والذى لا يمكنها دفع تكاليفه الباهظة ، هكذا إعتادت وتربت ، وبرغم ذلك تملك ما هو أغلى من المال ، تمتلك عزة نفس وشموخ لا يتحلى به الكثيرون ..

- أسفه يا أستاذ "بحر"   ... أنا مش متعودة على الأكل بره ... ولا أعزم حد ... ولا أقبل عزومة من حد  ...

تلاشت بسمته ليتجهم وجهه قليلًا لرفضها لكنه تفهم أسبابها لتسمو بعيناه لإعتزازها بنفسها وقيمتها ، لكنه بذات الوقت كان يود لو يقترب بخطوة نحوها فهى تضع حدودًا بينهم كحاجز لا يمكنه تخطيه بسهولة ...

- ليه بس ... عادى جدًا ... حاجة بسيطة و أهو يبقى عيش وملح بينا  ...

برفض تام وجدية شديدة أعادت "نغم" رفضها لدعوته فهى لن تسمح لأى شاب بالتودد والتقرب إليها أو السماح له بشراء أى شئ لها حتى لو كان الأمر برمته بسلامة نيه ...

- معلش ده طبعي .. وأنا مبقبلش حاجة من حد أو أقبل حاجة مقدرش أردها ... ده غير إن معايا غدايا اللي ماما مجهزاه ليا ... وعمومًا شكرًا على ذوقك ...

أومئ ببعض الضيق لكنه لم يشاء الضغط عليها متفهمًا رفضها ليدعوها بلطافة مرة أخرى ...

- طب ممكن نقعد وكل واحد فينا ياكل أكله  ... أهو نتونس سوا ...

أومأت "نغم" بخفة و دبلوماسية شديدة ليتحرك كلاهما نحو طاولة خشبية مستطيلة ليجلس كل منهما بمقعد مقابل للآخر ليتناول كل منهما طعامه دون مشاركة بعضهما البعض سوى بالحديث ...

- إشتغلتي قبل كدة يا "نغم" ...؟!!

تفكرت "نغم" لبعض الوقت لتجيبه بصراحة ..

- إشتغلت شوية فى المدرسة الإبتدائي بس مكملتش ... ظروف كدة خلتني أسيب الشغل ...

تعلقت عسليتاه بها بشرود فلها طريقة عذبة للغاية بالحديث و مخارج الكلمات فلكل حرف تنطقه إيمائة لطيفة تخطف قلبه معها ، حتى بإبتسامتها ووصفها ، حركات حاجبيها المنحنية ، حالة لا يمكن وصفها سوى بالسحر ، كأنغام تسحر عيناه وأذناه لتشعره بالتلذذ والإنسجام ببحورها ، كلمات ليست بإيضاح وإستفاضة إلا أنه كان يود ألا تنتهى من حديثها وتظل تتحدث وتتحدث لا تكف عنه مطلقًا ...

أراد أن يظل محلقًا بسماء كلماتها كالأنشودة التى تسرق القلوب والآذان حتى سألته بدورها تنتظر إجابته ...

- وإنت يا أستاذ "بحر" ... فاتح المكتبة دى هنا من زمان ...؟!! أصل أنا أول مرة آخد بالي من المكتبة مع إني ساكنة قريب  ..

فاه للحظات فقد بعثرت تلك الصغيرة كيانه ليملمها بتشتت وهو يستجمع كلماته للرد عليها ...

- المكتبة دى كانت قهوة ... بتاعة والدى زمان الله يرحمه .. فكرت إني أعملها مكتبة لأني بحب الكتب جدًا  ... وبدأت أشترى الكتب وأرتبها ... عشان كدة تقدري تقولي إنها لسه مشروع جديد ...

- اه فهمت ... ربنا يوفقك ... شكلك إنسان طيب ...

رغم تلقائيتها كانت تتحدث بتحفظ شديد حتى هام مرة أخرى بشفتيها حين تحركتا ليجيبها بهيام غير متداركًا نفسه ...

- وإنتِ أوى ... ( إنتبه لنفسه بإرتباك ليصحح كلماته ببعض الإتزان ) ... شكلك طيبة وبنت ناس طيبين ..

- شكرًا ... مش يلا بينا نكمل الشغل ...

حرك رأسه بالإيجاب مردفًا ...

- اه ... يلا ندخل على قسم الأطفال ... لأنه حياخد مننا شغل كتير أوى النهاردة ...

ليعودا لإستئناف عملهم بعد وقت الراحة المستقطع وحديثهم الشيق ...


❈-❈-❈


بيت المستشار خالد دويدار ...

عادا الزوجان إلى شقتهما بروح نشطة بعد قضائهما هذا الوقت المميز بتناول طعام الغذاء وتجاذب أطراف الحديث ، تلك الحياة التى لا يصابا بها بالصمت الزوجي ورتابة أيامها ، بتقدمهما فى العمر معًا يتعاملا كصديقان يستمع كل منهما للآخر ويساعد كل منهما الآخر ، ليسا مجرد زوجين صدع الملل حياتهما وكره كل منهما وجود الآخر ...

دقات مرحة دقت بابهم لدى عودتهم ، تلك الدقات التى دبت بقلوبهم أولًا لتضع "منار" حقيبة يدها جانبًا قائله بنبرة سعيدة ..

- دى أكيد "غدير" ... دى خبطتها ...

ترقب "خالد" بسعادة أيضًا لقدومها ليتطلع نحو الباب الذى تقدمت "منار" لفتحه لمقابلة زوجة إبنهم  ...

فقزت "غدير" بشقاوتها المحببة تدير عيناها الواسعتان بأرجاء الشقة من حولهم لتردف بمرح ...

- قفشتكوا .... إتأخرتوا ليه ...؟؟؟ ( ثم إعتدلت تشير بسبابتها وقد إتسعت بسمتها المميزة لتظهر أسنانها العريضة مردفة بمزاح ) ... شكلكوا عملتوها وإتغديتوا بره ... صح ؟!! 

تعلقت "منار" بمرفقها وهي تسحبها نحو الدخل ..

- أيوة ... تعالي .. تعالي .. 

قوست "غدير" حاجبيها بغرابة لتصطنع التأثر وهي تقلب شفتيها مدعية البكاء بتمثيل لطيف للغاية ...

- ااااه يا قلبي ... إتغديتوا وسبتوني في أحزاني ... مكانش العشم تطنشوني كدة ... إيه ... رايحين تعملوا شهر عسل من ورايا ولا إيه ...؟!!

نكست رأسها وهى تحركه يمينا ويسارا بإستكانة تدعى التسول لشفقتهم ثم إستكملت ...

- براحتكم ... كلوا إنتوا  ... إنما الغلبانه إللي قاعدة هنا ... مش مهم ... أعملي سندوتش وخلاص ...

إتسعت بسمة "خالد" و تعالت ضحكات "منار" لتجاريها بمزاحها ...

- وإحنا نقدر .. حالًا ناكل تاني مع بعض ... يا "أم حمدى" حضري الغدا ...

أكملت "غدير" بإستكانة مطأطأة الرأس ...

- كتر خيرك يا حماتي ... أنا مبشحتش ... لينا رب إسمه الكريم ...

مسحت دمعة غير موجودة من وجنتها لتعقب "منار" التى لا تستطيع سوى الضحك فقط وهي تضربها بخفة  ...

- ماشى يا "دورا" ...( ثم أعلت من صوتها) ... كنسلي الغدا يا "أم مجدي" ...

رفعت "غدير" هامتها بإندهاش وقد إتسعت عيناها الواسعتان بقوة ليعلو صوتها بصدمة ...

- جرى إيه يا "منوره" ... مش تمسكي فيا و تعزمي عليا بقلب جامد كدة .. على طول (كنسلي يا أم مجدى) .. ده كلام برضه ...

رغم متابعة "خالد" حضور "غدير" المميز بإبتسامته الواسعة إلا أنه أردف برزانة ...

- خليكوا إنتوا فى مشكلتكم دى بقى ... أنا داخل أغير هدومي ...

فاهت "غدير" بإصطناعها تأثر مرة أخرى وهى تشير تجاه "خالد" ...

- شايفه ... شايفه سعادة المستشار بيطنشني إزاى ... هو أنا نجفه ...!!!!

لم تتمالك "منار" ضحكاتها المتواصلة فتلك الفتاة الحيوية المقبلة على الحياة تستطيع إخراج ضحكاتهم من داخل قلوبهم بسلاسة ومحبة لتردف بعد محاولات منها للسيطرة على ضحكاتها  ...

- بس يا لمضة ... تعالي معايا ...

رفعت "غدير" كفيها بالهواء تشترط أولًا ...

- على شرط ... تحكيلي عملتوا إيه بالتفصيل الممل ... أنا زهقت طول النهار قاعدة لوحدي ...

- موافقة .. تعالي جوه نرغي سوا .. عقبال ما "أم مجدي" تخلص الأكل  ...

ضحكت "غدير" وهى تهمس بأذن "منار" ..

- نسيت أقولك ... "أم مجدي" عندى فوق بتنضف الشقة ... ومعملتش الغدا أصلًا ...

رمقتها "منار" بنظرة غيظ مازحة ثم أردفت ...

- بقى كدة ... طيب يا "دورا" ... وسايباني أنادي عليها ...

- قلبك أبيض يا "منوره" ... هي خلاص قربت تخلص ..

بتفهم لوضع "غدير" الصحى ومساعدتها بأن تجعل "أم مجدي" تنظف شقتها حتى لا تصاب بتلك الأزمة مرة أخرى عقبت "منار" بمحبة ...

- براحتها يا "دورا" المهم متتعبيش إنتِ نفسك فى التنضيف عشان متتعبيش تاني ... ولما تبقى تخلص فوق تنزل تعمل لنا العشا وناكل سوا ...

بعيون عاشقة وهيام بإسمه فقط اجابتها "غدير" ..

- لأ ... أنا حستنى "عيسى" .. أنا بس بغلس عليكوا ...

لها بالقلب محبة تفوق المحبين حبًا لكنها تزداد محبة لها عندما ترى كم هي تعشق ولدها ولا تهتم إلا به فهي لن تجد له زوجة محبة كما تحبه "غدير" التى تتنفس هواء يسمى "عيسى" ...

قضيتا وقتًا ممتعًا معا ليشاركهم "خالد" جلستهم الودودة حتى يحل المساء ويحين موعد عودة "عيسى" ...


❈-❈-❈


سويسرا (الكوخ) ...

سكون مميت يحيط بالكوخ لا يخلو إلا من صوت الرياح القوية التى أخذت تهب من حين لآخر ، صوت صمت غريب وغير معتاد لم يقطعه سوى صمت سَحَّاب سِترة يرتفع بقوة ...

رفعت "عهد" من هامتها بشموخ وهي تنفض يديها بعضهم ببعض حين إنتهت من إرتداء ملابسها السوداء وسترتها الثقيلة ..

ظهر الغموض والقوة الممزوجة بالشراسة على مقلتيها العسليتان تناظر هيئتها القاتمة التى عادت إليها من جديد بالمرآة كما لو كانت تنظر بتحدى لمجهول أمامها نظرات تبدو مخيفة للوهلة الأولى ..

إستدارت تحمل هاتفها للمرة الأخيرة حين لاح فوق ثغرها شبح إبتسامة ساخرة تتطلع لتلك البقعة الزرقاء الثابتة بهذه الخريطة بشكل واضح على شاشة هاتفها لتهمس ببعض التهكم ...

- فاكرين إني مش حلاقيكم ...!!!

تذكرت "عهد" حين إنشغل "معتصم" و "كاتينا" بهمسهم ليلة الأمس بغرفة المكتب لتنتهز هي الفرصة بوضع قرص صلب بالحاسوب المحمول الخاص بـ"معتصم" ليعمل كجهاز تتبُع زرعته به ليمكنها من تحديد مكانهم بسهولة إن غادروا بدون علمها ...

وقد إستطاعت بسهولة شديدة معرفة مخبأهم الجديد لتتجهز لملاحقتهم إلى هناك فى الحال ...

وضعت هاتفها بجيب سترتها ثم رفعت شعرها الأسود بقوة للأعلى إستعدادًا لبدء رحلتها ، رفعت غطاء سترتها تغطى به رأسها ليظهر إستدارة وجهها فقط كما جائت تمامًا ...

مظهر مثير للتخوف لنظرتها الحادة التى تعلو عيناها وملامحها الجامدة تبث قوة غير معتادة بفتاة ، لكنها قوية وستظل قوية ...

خرجت "عهد" من الكوخ لبدء تلك المغامرة التى ستربح بها بالتأكيد ، حين خطت أول خطوة خارج الكوخ سمعت الصوت الوحيد المربك لنفسها ، صوت الرعد لحقه صاعقة جديدة ضربت برج الإتصالات لينقطع إشارات التواصل والإنترنت لتغمغم "عهد" بسخط تحدث هاتفها ...

- وده وقته ... عمومًا أنا حفظت المكان ... حعرف أوصل له بنفسي من غير ( Gps) ...

بدأت "عهد" طريقها الذى عليها خوضه دون تراجع ...


❈-❈-❈


مكتب طه قدرى ...

عاد "طه" للتو من مكتب رئيسه السيد "نظمي" ليسارع بخطواته تجاه الهاتف الذى أخذ يدق برنين متواصل منذ أن دلف إليه ، جلس أولًا بمقعده ثم رفع الهاتف إلى أذنه مجيبًا ببعض الهدوء ..

- ألو .. أيوة يا "ممدوح" ...

أنصت لرفيقه قليلًا قبل أن ينهض منفعلًا وقد تحولت ملامحه الهادئة لأخرى متجهمة بقوة ثم أجاب بحنق ...

- الكلام ده مينفعش معايا ... يعني إيه بعد ما وصلتوا لها الشبكة تفصل ... أنا لازم أعرف هي فين بالضبط وبتعمل إيه دلوقتِ ... لازم يا "ممدوح" ...

لكن يبدو أن محدثه لم يبث الطمأنينة بقلبه ليجيب بحدة آمرة ...

- إتصرف ... إن شا الله تبعت لى حد من السويسريين اللي بنشتغل معاهم هناك يجيب لي أخبارها بالتفصيل ... أنا مينفعش أفضل نايم كدة على وداني ..

أغلق الهاتف ومازال الإنفعال يتوسم محياه ليشرد بإقتضاب لما عليه فعله لحل تلك المسألة فلابد من وسيلة أخرى للتبع "عهد" التى يترصد بها منذ سفرها ...

رواية بقلم قوت القلوب رشا روميه

❈-❈-❈


متجر مستحضرات التجميل ( بيوتي إستور) ...

وضعت "نيرة" زجاجة عطر من بين يديها محدثة صديقتها التى تقف إلى جوارها بصوت منخفض ...

- ده بس اللي حصل يا "إسراء" ... و لما خلصنا اللف على معارض الموبيليا إتعشينا وروحنا ...

مطت تلك الفتاة العشرينية شفتيها بتملل ليظهر وجهها النحيل مثلث الشكل وعيناها الجاحظتان قليلًا و أنفها المدبب ثم أزاحت خصلة من شعرها الأصفر الفاقع المصبوغ حديثًا خلف أذنها قبل أن تردف معقبة على حديث صديقتها ...

- كويس إنه رضي ياكل المرة دى ... عارفة يا "نيرو" ... إنتِ لازم تعوديه على إللي إنتِ عايزاه ... طالما إنتِ قادرة تسيطري عليه بالشكل ده ...

أغمضت "نيره" عيناها لوهلة ثم أجابت "إسراء" التى كانت تنصت بشغف وإهتمام ...

- مع كل اللف ده من مكان لمكان معرفتش أجيب حاجة برضه ... 

تفكرت "إسراء" للحظات ثم أردفت بتوهج ...

- لقيتها .... فيه معرض كبير أوى كان منزل إعلان عن موبليات تحفة ... فرش قصور ... هو ده ... روحى له وأطلبي منه يصمم لك اللي إنتِ بتقولي عليه ...

لفلفت "نيره" بعيناها إستحسانًا لتلك الفكرة ثم أردفت بإعجاب ...

- والله فكرة حلوة ... إديني العنوان بتاعه ... 

أخرجت "إسراء" هاتفها من حقيبة يدها الموضوعة بأحد الجوانب لتبحث عن عنوان هذا المتجر باهظ الثمن لتدونه لـ "نيره" ...

مدت يدها بالورقة تجاه "نيره" قائله ..

- خدي أهو يا "نيرو" ....

ثم رفعت حاجباها بتذكر لشئ هام لتستطرد ..

- بصي ... أدى كمان ورقة فيها دواء ... زى المرة اللي فاتت ... خليه يجيبهولي ... حتى عشان تتأكدي إنه مش بخيل وإنه بينفذ كل طلباتك ...

أومأت "نيره" بإيجاب وقد إتسعت ابتسامتها فهي بالتأكيد تسير على المسار الصحيح بوضع "رؤوف" بتلك الزاوية الخانقة لينفذ لها جميع طلباتها دون نقاش ...

أخرجت "إسراء" علبة مخصصة للطعام من حقيبة جانبية أيضًا ..

- يلا يا "نيرو" الأكل اللي جبناه حيبرد .. يلا ناكل ...

تطلعت "نيره" حولها أولًا ثم أجابتها ...

-  أيوة الإستور (المحل) فاضي ... يلا قبل ما حد ييجي ...

أزاحت "إسراء" رأسها بعدم إكتراث قائله ...

- ولا ييجوا ... أصلًا الوقت ده محدش بييجي فيه كتير ...

جلسا بالمقعدين تجاه الزاوية يتناولان الطعام لإستكمال يومهما بهذا المتجر المخصص لبيع مستحضرات التجميل والإكسسوارات باهظة الثمن تناسب تلك الطبقة المخملية الثرية فقط ...


❈-❈-❈


سويسرا ...

الحياة قرار فإن إتخذته يومًا فكن قويًا ، فعقد العزم يتطلب قوة تفوق صلابة الكلمات ، فالحديث شئ والحقيقة شيء آخر ...

إتخذت "عهد" طريقها بين الأشجار والطرق المغلقة وسط برك من مياه الأمطار اللزجة تخشى إنزلاق أقدامها تبحث بواسطة الخريطة فقط عن مكان تواجدهم لكن يبدو أن الأمر سيأخذ وقتًا أكثر مما كان بمخيلتها ، لكنها عليها إكمال ما بدأته فهي ليست من تترك الأمور معلقة دون ختام ، وهي تعلم بقرارة نفسها أنها تستطع ..


❈-❈-❈


بعد ليلة طويلة مرهقة للغاية جفا بها النوم عيناه وسلوكهم طريق مرهق للغاية حتى وصولهم لهذا الكوخ القديم وإنتظار أن يعم الدفء المكان من حوله ، غفى "معتصم" أخيرًا بسكينة وراحة ..

إتخذ الغرفة بالإتجاه الشرقي لأنها أكثر هدوئًا وبعدًا عن مصدر الإزعاج من أصوات المطر المتساقط على جانب الكوخ ، بينما إستقرت "كاتينا" بالغرفة الثانية والأخيرة بهذا الكوخ الصغير فهو لا يتعدى هاتان الغرفتان وصالة إستقبال فقط بطابق واحد أرضي ...

سرعان ما تبدلت تلك الغفوة لنوم عميق للغاية فإحساسه بالإنهاك جعله يسقط ببحور النوم والأحلام بصورة مستغرقة للغاية ...

إنفصل "معتصم" عن واقعه بعد شعوره بالدفء الذى بدأ يتسلل لجسده بقوة مستمتعًا بحُلم ممتع وهو يرى الشمس الساطعة بالقرب من شاطئ البحر الصافي تتحرك أمواجه بصفاء آخاذ ...

إلتف ببهجة يطالع هذا المنظر البديع ظنًا منه أنه واقع حقيقى وليس بسرداب من الأحلام التى لا تنفصل عن الواقع ...

تحرك بقدميه العاريتين فوق الرمال الناعمة يستمع بملمسها الدافئ أسفلهما ...

قضب جبهته بقوة حين شعر بأن الشمس أخذ توهجها يشتد من حوله بلونها الذهبي الناري حتى كاد يشعر بلسعات أشعتها تضرب جسده ليرفع كفه يحجب تلك الأشعة القاسية وحرارتها التى أخذت تزداد بحدتها ...

لكن الأمر لم يفلح مطلقًا فقد زادت الشمس من توهجها وعلت الحرارة من حوله ليندى جبينه بتعرق خفيف إزداد تدريجيًا كلما توهجت الشمس ..

شعر بسخونة شديدة أسفل قدميه العاريتين لم يستطع تحملها فأخذ يقفز بحثًا عن بقعة باردة تحميه من تلك الحرارة التى أخذت تحيط به حتى كادت أن تبتلعه من شدتها ..

حلم جميل تحول لمزعج للغاية وهو يحاول الهرب من شدة الحرارة التى كادت أن تحرق قدميه ، إحساس كما لو أنه يحرق حقيقة وليس حُلمًا بخياله ..

إنتفض جسده بقوة وهو يراوغ الحرارة الشديدة لتُفتح عيناه لينهي هذا الإحساس المزعج ، بصدر متهدج أدرك أن هذا الأمر ما كان إلا حُلمًا مزعجًا ، أعاد رأسه لوسادته مغمضًا عيناه الناعستان لكنه شعر بغرابة فمازال يشعر بالحرارة واللهيب يحيطان به ، فهل مازال يحُلم بعد ...؟؟؟

رفع رأسه لتنقلب نظرته الناعسة لأخرى فزعة للغاية حين أوسع عيناه عن آخرهما ، فما كان الحُلم سوى إنذار له ليستفيق من أحلامه ...

إنتفض جالسًا وهو يرى ألهبة النيران تحيط بفراشه من كل الإتجاهات تكاد أن تصل إليه ، إتسعت عيناه بقوة حتى كادت تؤلمانه من شدة إتساعها ..

ألسنة حارقة جعلته يتصبب عرقًا من حرارتها العالية لتتوهج بشرته القمحية للون البرونزي على الفور .

خلع كنزته الصوفية محاولًا البقاء على إنتظام تنفسه الذى بدأ يضيق صدره به لإمتلاء الغرفة بالدخان الكثيف إثر هذا الحريق الذى إندلع بالكوخ ..

بدأت النيران تزداد كثافة ملتهمة الأثاث من حوله ليتوجب عليه النجاة بنفسه وإلا سقط قتيلًا بفعلها ..

نظر نحو النافذة الصغيرة على يساره فربما يجد بها مهربًا من النيران لكنه وجد ألسنة النيران تشتعل بالخارج ، بخلاف تلك القضبان الحديدية التى ستحول دون خروجه من النافذة أيضًا ، إذن عليه الخروج من باب الغرفة التى تلتهمه النار كقطعة السكر ..

مد ذراعه لأسفل الفراش ليلتقط حذائه لتلسعه حرارة الأرضية تمامًا كما كان بالحُلم ، إرتدى حذائه بعجالة وهو مازال جالسًا فوق الفراش ثم تدثر ببطانية ثقيلة لتحميه من النيران التى أصبحت تحيط بفراشه كاملاً فقد بدأ التخت بالإشتعال بالفعل .

بجسارة ومرونة شديدة قفز "معتصم" من وسط اللهيب تجاه غرفة المعيشة ليعبر بين النيران دون تخوف ..

لم تكن غرفة المعيشة أسوأ حالًا من غرفته فقد تمسكت النيران بالأثاث والستائر لتحيط بالغرفة كاملة لتبدأ بعض القطع المشتعلة بالتساقط من حوله ..

لكن ما أثار صدمته هو رؤيته لـ"كاتينا" تتشاجر بكل قوتها بثورة عارمة مع "عهد" تتضارب كل منهما بالأخرى بشراسة وغضب كما لو أن حياة كل منهما متعلقة بالقضاء على الأخرى ..

بأعين مقتضبه ونفس مشحونة ظهرت تلك النظرة الصارمة والبريق النافذ بعينا "معتصم" وهو يرى هلاك ثلاثتهم داخل الكوخ الذى لا يدرى بعد سبب إندلاع تلك النيران به وعلى ما يبدو أن أحدهم قد تعمد فعل ذلك ، صرخ بصوته القوى لتنتبها له ...

- هذا يكفي ...!!!!!!!!!

تطلعتا نحوه بأعين متفاجئة بوجوده لتحاول "كاتينا" بالركض نحوه لكن "عهد" لم تُمكنها من ذلك لتسحبها من مؤخرة شعرها الأشقر نحوها بقوة لتظهر كم تتمتع بالقوة والمهابة ..

- تعالي هنا ...

صرخت "كاتينا" تستنجد بـ"معتصم" ليلحق بها وينقذها من أيدى تلك المتوحشة قبل أن تلتهمهم النار جميعًا ...

- النجدة يا "ماوصي" .. سأموت .. ستقتلنا ... أسرع ...

تحفز "معتصم" بقوة ليرفع بذراعيه القويتان البطانية للأعلى وهو يركض بسرعة تجاههما ليسحب إحداهما بكفه نحو البطانية عابرًا بها من داخل النيران التى تحيط بباب الكوخ لينقذ روحه وروحها معه قبل أن يشتعل الكوخ بالكامل والأخرى بداخله فكان عليه إتخاذ القرار وإنقاذ حياته وحياتها  ...


(الفصل الثالث عشر)

الحيرة إختيار فأنا من أضع نفسي على الحافة أنتظر لأقع بين حيرتي فإما أن أختار ما "يجب" وإما أن أختار "ما أريد" ، أنا من شتت نفسي بتلك الحيرة والوقوف بمفترق الطرق ، لكن مازالت أمامي الفرصة لأصلح ما بدأت وإن توجبت على الحيرة فالإختيار قرار ...


❈-❈-❈


بيت عائلة الأسمر ...

تغيرت .. نعم رغم صمتي وإنعزال نفسي ، رغم أني فضلت السكون إلا إنى قد تغيرت ، لم يعد قلبي هو قلبي فقد تبدل لعضو ينبض ليعيش ، فرغ إحساسه وصمتت لهفته ، وإن سألوني يومًا لما تغيرت سأجيبهم لأنني تأذيت أكثر مما أستحق ...

منذ ذلك اليوم الذى تعمد به "عاطف" إهانة "وعد" وكسر أنفها بما يدعيه من قوة ورجولة و "وعد" تعيش بسكون و إنهزام بهذا البيت فقط لأجل إبنها "زين" ، ربما فقدت أى مشاعر تجاه هذا الكائن متبلد المشاعر بذئ اللسان إلا أنها أضعف من تحمل مسؤولية طفلها وحدها ففضلت البقاء لأجله ..

رواية بقلم قوت القلوب رشا روميه

تجنبت بكل الأشكال أى صدام أو حتى حديث مع "عاطف" ، وكيف لها بالحديث وقد ماتت بحلقها الكلمات ، لم يعد هناك بقلبها شغف لأى قرب منه لقد وضعته كما كان "غريبًا" ...

أخرجت بعض الصور التى تضمها مع أختها "عهد" تتطلع لبساطتهم وتلقائيتهم بها ، كم كانتا طفلتان بريئتان لم تدنس الحياة قلوبهم النقية بعد ..

حتى "عهد" لم تكن بتلك القسوة والخشونة بل كانت مثلها تمامًا تتمتع بذات الرقة والعذوبة والإحساس المرهف ، إتسعت إبتسامتهما لتملأ الكون بأكمله خاصة إلى جوار والدتهم "عايدة" ..

إبتسامة تحسر علت ثغرها فيا ليت تلك الأيام قد بقيت ، رجفة إنتابت قلبها المرهف حين تذكرت والدتها الحنونة فقد إشتاقت لها كثيرًا ، كم هو موجع الإشتياق لمن غاب ولن يعود ..

- الله يرحمك يا ماما ... كان نفسي تبقي معايا وتقوليلى أعمل إيه ...!! تعبت لوحدى وتهت فى طريقي ... حتى "عهد" هي كمان تاهت فى طريقها .. يا ريتك كنتِ معانا وأخدتينا تحت جناحك ...

ضمت الصورة لصدرها بقوة تسمح لدموعها التى غامت بخضراوتيها بالإنهمار ، عيبها الذى يغلبها ، كانت تظن أن إحساسها المرهف ولين قلبها هو ميزة كبرى لكنه يبدو أنه عيب يؤذيها ويحطم قلبها ...

رفعت وجهها نحو الفراغ تتذكر يوم آخر له بصمة بحياتها مع "عاطف" ....


فلاش باك ..

﴿ كان "عاطف بهذا اليوم متجمعًا مع والده "محفوظ" وأخيه الأصغر "محب" بالمعرض الخاص بهم ، تمسك "عاطف" بأحد الأوراق بإنفعال لينهض من جلسته قاضبًا حاجباه بقتامة ليردف بحدة ...

- إيه ده ...؟؟! إزاى يعملوا كدة ... ده كدة يبقى خراب بيوت يا بابا ... التقرير ده مش مظبوط ...!!!

إستدار "عاطف" نحو "محب" الهادئ تمامًا بأعصاب باردة كما لو أن الأمر لا يشغله إطلاقًا لينهره بقوة ...

- جرى إيه يا "محب" ...ما بلاش البرود اللي إنت فيه ده ... فكر معانا فى حل ... إحنا كدة حنروح فى داهيه إحنا الثلاثة ...

رغم قلقه إلا أن "محفوظ" كان دومًا يسيطر على نفسه فهو من يملك القرارات ليردف ببعض العقلانية ...

- إحنا لازم نشوف محامى ... التقرير الضريبي ده لو أقروه ونفذوه بالشكل ده وتقديرهم الجزافى بالمبلغ ده كله مش بعيد يحجزوا على أملاكنا كلها ...

إنتبه "محب" لتلك الكارثة التى ستحل بهم إن وصل الأمر لهذا الحد ، فهو لم يشأ التدخل حينما ظن أن الأمر لا يتعدى إحدى الإقرارات الضريبية المعتادة ، ليتطلع بإهتمام فالضرر سيصيبه معهم فحينما تتضرر مصالحه يبدأ بالإهتمام ليسائل بتحفز ...

- قصدك إيه يا بابا ...؟؟! إن مصلحة الضرايب ممكن تحجز علينا ...؟! 

زفر "محفوظ" بقوة ليردف بوجه مقتضب ...

- أيوة ... تقدير زى ده يخسرنا الجلد والسقط زى ما بيقولوا ... والسيولة إللي معانا متكفيش ندفع ... ساعتها حيحجزوا على كل حاجة ... وممكن يعلنوا إفلاسنا كمان ... متنسوش إن البضاعة اللي إستوردناها من فرنسا لسه واقفه فى الميناء مش عارفين نخرجها ...

ألقى "عاطف" بجسده فوق المقعد مكفهر الوجه ليزداد سُمرة عابثًا بشعره الأشعث بحيرة ...

- مينفعش نخسر ... إحنا طول عمرنا كبار فى السوق ... إحنا لازم نتصرف ... إن شا الله ندفع لأى موظف في الضرايب يظبط لنا التقارير دى ..

هب "محب" ثائرًا بإعتراض على إقتراح "عاطف" الأهوج رافضًا إياه بصورة قاطعة ...

- ندفع إيه وهباب إيه ...!!! إنت عاوز تزود البلاوى علينا .. وييجي موظف ميسواش حاجة يلبسنا قضية رشوة ...( ثم إستدار محب نحو والده الذى كان منصتًا لحديثهم بترقب يحثه على الرد ) ... ما تقول حاجة يا بابا ...!!!

تفكر "محفوظ" لبعض الوقت بحديث "محب" فربما يكون محقًا فلا داعى للمجازفة بالأمر ليوجه حديثه بضيق من تفكير "عاطف" المتسرع بإستهجان ...

- بس يا "عاطف" ... اللي بتقوله ده مش حل ... إحنا كدة بدل ما ندفع للضرايب حندفع رشوة للموظف ... يعني مكسبناش حاجة ...

إظهار "محب" لـ"عاطف" بأن فكرته قد تُسبب تورطهم وأنه بالتأكيد مخطئ بأفكاره جعل "عاطف" يثور غاضبًا من إظهاره بتلك الصورة ، فمدلل والدته لا يقبل أن ترفض أفكاره أو أن يظهر أحدهم خطأه حتى وإن كان والده ..

ضرب "عاطف" كفه بالطاولة بقوة وهو ينهض بإنفعال من تقليلهم من رأيه لحل تلك المعضلة ...

- هو كل فكرة أقولها مش عجباكم ...!!! خلاص .. بقيت أنا إللي مبفهمش ...!!! 

(ثم حدج أخيه بنظرات ساخطة حادة للغاية فهو السبب الذى جعل والده يلومه على فكرته ثم عاد محدثًا والده بغضب )..

- إبقى خلي النحنوح ينفعك ... أنا ماشي ...

وكما ينتهي كل حوار بينهم بإظهار "محب" له بأنه مخطئ سطحي الفكر وأنه هو من يفكر بعقلانية وهدوء ، مقارنة بينهم يقوم بها والده بكل عمل يقومان به ليضع "عاطف" بصورة المتهور سطحي التفكير ..

تلك الصورة التى رفض "عاطف" تمامًا الظهور بها ليسقط أسبابها على شخص واحد هو المتسبب بذلك ، حقد دفين توغل بنفسه تجاه أخيه الذى دومًا يُظهر نفسه ببراعة أفكاره وذكائه المتقد ...

خرج "عاطف" من المعرض ثائرًا وسط نداء والده الذى حاول اللحاق به ...

- إستنى بس يا "عاطف" ... خد هنا ... ده مش إسلوب كلام ده ...!!!!

إستدار "عاطف" والغضب يلفح ملامحه السمراء مستكملًا بإنفعال ، تلك الطريقة التى يخفى بها ضئآلة فِكره و سوء توليه للأمور ، كان لابد عليه إستكمال صورة الغاضب المقتضب حتى لا يظهر إنتصار "محب" عليه برجاحة عقله ...

- أنا مروح البيت .. مش قاعد لكم فيها .. خلي "محب" ينفعك ... مش هو ده أبو دماغ جامدة وأفكار مُعتبره وحيجيب لك التايهه ...!!! إشرب بقى ... وإبقى إدفع يا بابا ... أنا الحق عليا إني بدور على المصلحة .... ( ثم أكمل مستهزئًا ...) .. لكن إزاااى ... "عاطف" لازم يطلع وحش .. وحيودينا كلنا فى داهية ...

أنهى جملته ساقطًا بنظرة متأففة وهو يشيح بوجهه بعيدًا عن والده ليغادر المعرض بعجالة حتى لا يضطر للعودة برفقة والده والإقرار بأن "محب" أفضل منه ...

(من هذا الذى يظن نفسه أفضل من "عاطف الأسمر") .... هكذا حدث نفسه بينما شعر ببعض النشوة من داخلة وهو يسمع صوت والده المترجى من خلفه ...

- إرجع يا "عاطف" ... بلاش العصبية دى ... 

لم يكترث بندائه بل شعر بالزهو لترجي والده العودة وهو يرفض ذلك ليتخذ سيارته عائدًا للبيت ليتراجع "محفوظ" لمقعده يبحث الأمر مع "محب" لحل تلك الأزمة قبل أن يخسروا أموالهم ...

بنفس ضائقة وغضب تجلى بملامح هذا الثائر الذى عاد بغير موعده تطلعت "قسمت" بوجه ولدها المكفهر الذى تبحث عيناه عما يسقط عليه غضبه مشبعًا غاية بنفسه بأنه لابد وأن يكون محط الإهتمام والإرضاء وأن الكون كله لابد أن يدور فى فلكه وهو نجمها الساطع ..

إنتفضت "قسمت" نحو ولدها الأكبر الذى لا تضاهي محبته بقلبها أى من إخوته ...

- مالك يا حبيبي ... إيه إللي مضايقك كدة ...؟؟!

بمزيد من الإستمتاع وهو يرى والدته تحدثه بنبرتها القلقة ليرضى غروره بمحايلتها لمعرفة سبب ضيقه أجابها "عاطف" بأقتضاب ...

- مفيش حاجة ...

تفحصت بعيناها الصغيرتان وجه ولدها المتجهم و ملامحه المقتضبة لتردف بتأكيد ..

- لأ فيه ... وحاجة كبيرة كمان ...

ألقى "عاطف" بجسده فوق الأريكة مخرجًا سبب ضيقه تحت أعين "وعد" و "عتاب" بآخر الصالة اللاتي ينصتان بإهتمام ...

- يعنى أنا غلطان ... جالنا تقرير ضريبي زى الزفت حياخد اللي ورانا واللي قدامنا ولما ألاقى حل يطلع لي الأستاذ "محب" يطلعنى أنا اللي غلطان ..!!

أنهى عبارته مستهزئًا بأخيه لتتسائل "قسمت" عن ماهية هذا الحل ...

- حل إيه ...؟!! وكام يعني جه فى البتاع اللي إنت بتقول عليه ده ؟!.

إستدار بأعين محتدة تضئ ببريق كاذب يود به إظهار نفسه بسديد الرأى الذى لا يخطئ ، وأنه ضحية لأنانية أخيه الذى يود إظهاره بصورة سيئة قبيحة بأعينهم ..

- كنت حشوف حد يظبط لنا التقارير دى ويقلل المبلغ ... لكن إزاااى ...( قالها بإنفعال ساخط ) ... "محب" لازم يطلع صح وإن أنا اللي غلطان ومينفعش أتدخل فى الحكاية دى ...( حاول إلقاء الشك بقلوبهم تجاه أخيه ليستطرد قائلًا ..) ... شوفوا بقى هو فى نيته إيه ...؟!!

ولأنها تعلم طبيعة أولادها وأن "محب" ما هو إلا أناني لا يحب سوى نفسه ومصلحته زمت فمها بإستياء وهى تحاول إسترضاء "عاطف" ...

- ولا يهمك يا حبيبي ... هو أخوك كدة ... ميهموش إلا مصلحته .. لكن الباقي لأ ...

- اه ... "عاطف" هو إللي لازم يطلع وحش ...

رغم تجنب "وعد" لـ"عاطف" بالآونة الأخيرة خشية أى صدام بينهم إلا أنها تدرك تمامًا طريقته بإظهار نفسه المعصوم من الخطأ وأنه لابد كان سيحل الأمر بأساليبه الملتوية لتردف بدفاع عن "محب" ..

- هو أكيد مش قصده كدة يا "عاطف" ... يمكن الحل بتاعك ممكن يعمل مثلًا مشكلة تانية ولا حاجة ... 

هكذا دق ناقوس الخطر حينما توهجت عيناه الغاضبتان التى حاولت بكل قوتها أن تتلاشى الصدام بهما لأيام عدة ، غضب تدرك نهايته التى أصبحت تتكرر كثيرًا ، بقفزة واحدة كان "عاطف" يمسك بخصلات شعرها بين كفه القوى ليجذبها نحو الخلف معنفًا إياها وإزداد قسوة بمشاهدة "قسمت" و "عتاب" له ..

تراجع رأس "وعد" المتألمة للخلف تتأوه بصوتها الناعم..

- ااه ... شعري يا "عاطف" ...!!!

لم يبالي بها وبألمها ليردف مستنكرًا تدخلها وهو يحقر منها أمامهم ...

- إنتِ مين طلب منك تتحشري بينا ... إنتِ فاكره نفسك إيه ؟!! إوعى تكوني نسيتي نفسك .. محدش طلب منك تفتحي بوقك ...!!!

- إوعى طيب ... رأسي .... إوعى إيدك ...

زاد من جذبه لشعرها الذى قبض عليه بقوة يجرجرها نحو الصالة الكبيرة مرضيًا نفسه وشعوره بالسطوة والقوة ..

- حد طلب منك تتدخلي !!!!! وإلا إنتِ فاكره نفسك بتفهمي اللي محدش بيفهمه ؟!

كان يقصد أن يقلل من شأنها ومن إكمال تعليمها الجامعي بخلافهم جميعًا فلم ينهي أحدهم تعليمه سوى "محب" الذى يحمل له "عاطف" ضغينة أخرى ...

وبرغم إستمتاع كلا من "قسمت" و "عتاب" لفرض "عاطف" سيطرته على "وعد" إلا أن "قسمت" حاولت التدخل لتخليصها من غضبه ..

- خلاص يا "عاطف" ... سيبها مش كدة ..

نظر بحدة نحو والدته قائلًا ...

- بتتحشر فى الكلام لييه ...؟؟؟..

مدت "قسمت" يدها بهدوء نحو يد "عاطف" التى إشتبكت بشعر "وعد" كالوطواط دون ملاذ ..

- خلاص سيبها وهى مش حتتكلم تاني ...

حاولت "وعد" تبرير ما قالته فربما يحررها من بين غلظة كفه القاسية ..

- والله ما أقصد حاجة .. أنا بس بقولك يمكن "محب" يقصد إن الحل ده مش مناسب ... بس كدة ..

زاغت عينا "عاطف" لوهلة وهو يتابع عينا والدته وأخته بأنهم ربما يرون ما تراه "وعد" ووقتها سيكون "محب" مصيبًا برأيه و سوف يعلق الخطأ برقبته هو ويظهر مرة أخرى بمظهر السطحي المتهور ووقتها سيلومونه على إندفاعه وغضبه الغير مبرر ...

رواية بقلم قوت القلوب رشا روميه

بلحظة عبث بها شيطان أفكاره ليحول إتجاه الخطأ نحو "وعد" ليشوش عن الحقيقة ليظهر دائمًا بأنه على الصواب ولا يخطئ مطلقًا ...

لاحت تلك الفكرة الشيطانية لإقحام "وعد" بالأمر والتملص من اللوم الذى سيلحق به ليحاول بث الشك والظن السئ بزوجته ...

- وإنتِ بتدافعي عنه ليه ...؟!! هاااا ... بينك وبينه إيه ... إنطقي ؟!!!

لو كانت للعيون حديث لنطقت عيناها المصدومتان بصاعقة كلماته وإتهاماته المجحفة ، نظرت إليه بخضراوتيها المتشدقتان كمن تصرخ بكلمة ( لقد إكتفيت ) ، لحظات مشدوهة من الصمت فلم يعد للحديث حاجة لرد هذا الظلم ، لقد خاب ظنها به فقد ظنته رجلًا ، سندًا حاميًا لها من قسوة الأيام ، لكنه لا يرتقى لذلك على الإطلاق ..

أيقنت بتلك اللحظة بأنها لم تساوي شئ من الأساس ، إنه لم يحبها قط فأفعاله الآن تؤكد ذلك ، إنه لم يحب سوى نفسه التى لأجلها يدهس رقاب الآخرين ...

عليها طلب السماح الآن لكن السماح من نفسها التى أذلتها لأجله ، لقد تحملته وتحملت أنانيته وعشرته المهلكة لأجل ظن بعقلها بأنه أحبها يومًا ، لطالما إنتظرت تلك العودة والإفاقة من غفلته ليردها لقلبه لكنه لا يستحق ، فهو لم يحبها يومًا ، لا لم يحدث وإلا لما أساء إليها كل تلك الإساءة ...

تهدج صدرها المنفعل لتتغاضى عن الألم الذى تشعر به إثر قبضته القوية فإتهامه البشع لها أنساها الإحساس بما حولها ، إجتاح جسدها برودة قوية كادت تفقد الوعى إثرها لكنها بصعوبة بالغة تحشرجت كلماتها لتردف بغصة ...

- إنت إتجننت ... إنت بتقول إيه ...؟!!

كلماتها أطلقت هذا الوحش بداخله ظنًا منه أنها لن تتغير وستتحمل مثل كل مرة ، فعليه الضغط ولا يبالي ، لكنه لم يدرك أن لظنه حد وقد آتى يومًا يخلف به الظن وتتغير به القلوب ...

- بقى أنا إتجننت ... طيب ... أنا حوريكي الجنان إللي على أصوله يا *******

ربما رفع كفيه لينهال بالضرب عليها بالتبادل بينهما لتتكور هى على نفسها لكنه لم يدرك أنها فقدت الإحساس منذ كلمته الأولى فقد خطت خطوة جديدة لكنها بالإتجاه المعاكس ، لقد خطت خطوة نحو كراهيتها له ، لم تعد تطيق صوته ولا رؤيته ، لم تعد تتقبل إسمه أو صورته ، لقد أصبح بغيضًا مكروهًا ، تعالت شهقاتها ليس لضربات كفوفه لكن لتوديعها لحياة ظنت أنها ضحت لأجل بقائها ، ياليت الظن يبنى جدار الود لكنها لم تدرك أن بعض الظن إثم ..

لم تتدخل "قسمت" أو "عتاب" لإنقاذ "وعد" من بين يديه رغم تيقنهم بأنه يتهمها باطلًا وأن "وعد" بعيدة كل البعد عن شكه المزيف بها وبـ"محب" أيضًا ، لم تدرى "وعد" كم مر عليها بين ضرباته المتتالية لتسقط مغشيًا عليها فلم تتحمل بقلبها المرهف هذا الظلم فقد توقف كل شئ حتى الزمن والإحساس ....﴾


عادت لواقعها متذكرة هذا اليوم القاسي الذي كان بداية النهاية ، نعم بقيت لكن لأجل ولدها فقط ، فهي تدرك تمامًا أنهم لن يتركوها ترحل بولدهم لتبتلع ما حدث ولم تخبر به أحد حتى لا تجبرها "عهد" على الرحيل ، فقلبها متعلق بولدها ولن تتحمل فراقه ولو ليوم واحد وعليها البقاء لأجله حتى لو أصبح ما يربطها بوالده مجرد كراهيه ...

رواية بقلم قوت القلوب رشا روميه

❈-❈-❈


التردد هو مقبرة الفرص ، فمن الغباء حين تتاح لك الفرصة ألا تغتنمها ، فما كان نيل المطالب بالتمني لكن تأخذ الدنيا غلابا ، وقد تجلت الفرصة أمام مرآي فإن سُأل من لها فأنا لها ...

بقلب جسور دون مخافة أو رهبة كمن إعتاد على إجتياز تلك المخاطر والمعارك الخفية كان "معتصم" يقتحم النيران ليجتازها ببراعة لكن ليس وحده ، فقد كان كالصقر القابض على فريسته دون تردد ، وبلحظات كان خارج دوائر النيران وهي معه ..

لم يمهلها حتى فرصة للتفكر فكان واجب عليه إنقاذ نفسه وهي أيضًا ، أبى أن يتركها خلفه وكان متوجبًا عليه حمايتها ...

خرجا من الكوخ المشتعل برغم تساقط الأمطار الخفيفة وقد إبتعدا لبعض الخطوات عن ألسنة اللهب ورائحة الدخان ...

وقفا لإلتقاط الأنفاس ليسقط "معتصم" تلك البطانية عن كتفيهما ليكشف عمن إختارها لإنقاذها ..

وقفت "عهد" للحظات تحاول إستيعاب الأمر ، فبرغم قوتها وقدرتها على مواجهة المخاطر إلا أن شعورها بحمايته لها ووجودها بقربه لأمر مختلف ، كان غريبًا لكنه محببًا لنفسها حتى أنها تركت العنان لنفسها بمرافقته للنجاة بها ..

لحظات من الخوف والقلق مزجت بنشوة فَرحة ، تحركت معه دون تفكير لكن قلبها تراقص بسعادة بالغة لم يجتاحها هذا الشعور الرائع من قبل ..

وقفت "عهد" تلتقط أنفاسها المتقطعة وتسكن قلبها المضطرب لقربه لترفع هامتها بنهج تملس على خصلات شعرها المتأرجحة فى الهواء وهى تطالعه بعسليتيها بإنجذاب وإمتنان بذات الوقت سرعان ما إنتبهت لنفسها قبل أن يلاحظ تلك النظرات الموجهة إليه ...

لكنها إنتبهت لأمر آخر جعلها تندهش ولأول مرة بصدق حقيقي لتتيبس بموضعها لتحدثه متسائلة بعدم فهم ...

- إنت واخد بالك إنك أنقذتني أنا مش هي ...؟؟!!

إلتف "معتصم" تجاهها يطالع وجهها بتفرس أولًا وقد إضطرب تنفسه الناهج لا يدرى هل هذا الإضطراب سببه ركضه بين النيران أم أنه بفعل قلبه المضطرب لقربه منها فقد أعلن قلبه تمرده وقد تعالت دقاته وعصيانه لفرض تحكمه به ...

أرغم نفسه على التنفس ببطء لكن عيناه لم تنحى عن خاصتيها ليتعمق بقاتمتيه بهاتان الناعستان اللاتى أسقطتا حصون قلبه وهو يجيبها ...

- طبعًا واخد بالي ... وعارف جدًا إني إخترتك إنتِ مش هي ...

ذهول مبهج لنفس "عهد" فبرغم كل ما حدث إختارها هي وترك "كاتينا" ، إبتلعت ريقها المضطرب هاربة من نظراته المباشرة نحوها وهى تلتف حول نفسها ببعض التشتت ...

بالفعل تراجعت عن كل ما قامت به بالآونة الأخيرة لتظهر "عهد" التى تعرفها ، لا ليست "عهد" التى تعهدها فحسب بل "عهد" جديدة عرفتها بقربه فقط ، "عهد" لها قلب ينبض ويدق لكنه أيضًا متمرد ، تمرد على أفكارها وخشونتها ، تمرد على إجبارها له بألا ينساق خلف أوهام العشق ...

لم هي سعيدة الآن بإختياره لها وليست "كاتينا" ... إنه لم يختارها بالخطأ بل بإرادته ودون تردد ...

مشاعر تختبرها لأول مرة لكن عقلها مشتت للغاية كطفلة تتحمس للمرة الأولى ، عادت بعيناها الزائغتان لتجده مازال متفرسًا بها ، كحلم جميل يسحبها فوق السحاب تحلق بجناحين لم تدرك أنها تمتلكهم من الأساس ...

كم لوجودها معه يجعلها تترك الواقع وتحلق ببحور الخيال لولا قدرتها على إمتلاك نفسها القوية لكانت صرخت بكلمة (أحبك) دون الإكتراث لشئ آخر لكنها تمالكت نفسها قبل أن تنساق لتلك اللحظات ونظرات التحديق التى لا يكف عنها ..

إجتاحها إحساسها بالرهبة والخوف ، تذكرت أن لا أمان لهاوية المشاعر ، لا يمكنها الإنزلاق بهذا المنحدر فهي القوية وعليها أن تظل القوية ، تصنعت الجمود وعدم التأثر لتهتف به ببعض السخرية ...

- ستة فى تسعة يا أخويا ....!!!

ضيق عيناه وهو يضم شفتيه الممتلئتان يمطهما بعدم فهم ليردف بإمتعاض ...

- هاه ... يعنى إيه ..؟!!

عقدت ذراعيها أمام صدرها لتجيبه بتهكم رافعة حاجبها الأيسر بإستهزاء ..

- الصورة يا خِفة ... مش إنت بتصورني برضه ...؟؟؟

رفع رأسه بتعالي لفهمه لمقصدها والأدهى أنه قد فهم طريقتها الجافة التى تخفى خلفها مشاعرها بسردابها العميق لتتحول لتلك الخشنة الجافة حينما تميل لإظهار نقطة ضعفها حتى تظهر على الدوام بمظهر القوية التى لا تقهر ...

- ده بدل ما تقوليلى متشكرين ... كتر خيرك إنك أنقذتني ...

قلبت شفتيها ببعض السخرية فهي ليست من تعترف بإنقاذه لحياتها ، رغم سعادتها بإنقاذه لها إلا أن أمر إختياره لها محيرًا للغاية تود لو تسأله لم قام بهذا الإختيار لكن عزة نفسها منعتها من هذا السؤال لتردف بإستهزاء ...

- لا يا شيخ ... !! طب ما كنت تاخد القطة بتاعتك ولا إنت مبسوط إنك سايبها تتشوى ... طب حتى كنت طلعها نص سوا ...

مال برأسه متعجبًا من إستمرار لسانها السليط ..

- ده إنتِ كلامك دبش ... هو ده برضه رد الجميل ...!!

تتوقت نفسها لمناوشتهم تلك مرة أخرى فقد إشتاقت إليها لتجيبه دون إظهار سعادتها ...

- لااااا ... لو لك جميل خده ... أنا محبش يبقى ليا عند أى كلب حاجة ...

ضرب كفيه بعضهما ببعض متعجبًا من تلك الشخصية الغريبة التى تتمتع بها ، لكن بداخله شعور بالنشوة لمجرى الحديث بينهم ، فكم قربها مختلف يجذب روحه رغمًا عنه لها ...

- نفسي أقطع لك لسانك ده ...

زمت فمها جانبيًا لتردف بسخط ...

- قطعوا حسك من الدنيا يا بعيد ...

قالتها بتلقائية لتصمت بعدم إرتياح لتنهر نفسها بقوة فهي لا تريد أن تدعي عليه ولو بمزاح فربما تستجاب دعوتها ، شعور بالتخوف حين ترائت لها تلك الأفكار وأن دعوة مازحة أو غاضبة لا تعنيها يمكن أن تقبل بساعة إستجابة و وقتها لن ينفع الندم ...

نعم تلك طريقة حديثها دون وعى منها فهي تطلق لسانها السليط دون تفكير فعليها أن تراعي ما تتفوه به وتبتلع لسانها والتفكير أولًا قبل أن تطلق لسانها السام ...

بسمة إعتلت عيناه وليس شفتيه تلك المرة فكم يراها أنثى مختلفة كليًا ، مختلفة بشكل لا يصدق ، لا تنفعل ولا تهتم له لكنها إستطاعت جذبه نحوها ..

منذ ساعات كان يهرب منها والآن هو معها آثر بقائه معها عن الجميع ، سألها بما يشغل فكره مباشرة ...

- إنتِ فيكِ حاجة غريبة ...؟؟؟

رمقته بطرف عيناها الناعستان وهي تشرأب بشموخ ولا مبالاتها التى هي جزء لا يتجزأ من شخصيتها ...

- بقولك إيه ... مش وقت حواديت ... ده لا وقته ولا مكانه يا خِفه ...

أخرجت هاتفها تحاول الوصول لشبكة الإنترنت الذى قطع بفعل الصاعقة لكن يبدو أن الأمر سيتأخر لبعض الوقت ، زفرت بضيق وهي تعيد هاتفها لجيب سترتها مرة أخرى وسط متابعة "معتصم" لها ليتطلع حوله متغاضيًا عن تهربها من حديثها معه قائلًا ...

- إحنا مش حينفع نفضل فى وسط الغابة كدة ... لازم نحاول نرجع للكوخ على الأقل .. الجو برد ومش مضمون خالص ...

أومأت "عهد" بتفهم لتردف موضحة ...

- أيوة ... كمان الإنترنت لسه مقطوع ومضطرين ندور على طريق الكوخ بنفسنا...

كان عليهما البحث عن طريق العودة وسط تلك الطرق وبقايا الأمطار والأشجار الكثيفة فوجودهم بهذا الطقس دون حماية لأمر شاق ، إتخذا أحد الطرق بهدوء وحذر لكن يبقى تساؤل يشغل فكر "عهد" بقوة ، لم إختارها دون "كاتينا" وهو الذى كان يخشى البقاء معها بنفس المكان وإضطر للهرب منها ...


❈-❈-❈


مكتب عيسى للمحاماة ....

أعاد "عيسى" رأسه للخلف يريح زخم أفكاره التى تضاربت برأسه فتلك القضية محيرة وغامضة بشكل كبير ، إستغرق وقت طويل للغاية حتى شعر بأنه فقد إحساسه الزمني لما يحيط به ..

دقات متتالية بهاتفه هى التى أيقظته من شروده لترسم تلك الإبتسامة التى تخص صاحبة الرنين وحدها ...

- "دورا" ... وحشتيني ... 

قلبت شفتيها كطفلة مستاءة حتى كاد "عيسى" يتخيل ملامحها بهذا الشكل دون رؤيتها ...

- لو كنت وحشتك كنت جيت ... إتأخرت أوى يا "إيسووو" ...

نظر لتلك الأوراق التى تملأ سطح مكتبه بتملل فكم إشتاق لرؤيتها ...

- غصب عني ... الوقت سرقني فى الشغل ولسه مخلصتش ...

هبت بإنفعال متفاجئة بطريقتها العفوية ...

- يا خبر يا خبر .... شغل وتأخير وحاجات جد و وجع دماغ ... وسايب "دورا" وحدها فى البيت ... ؟؟! لأ ... أنا زعلانه ...

حتى بعتابها تدفع بالروح بداخله ، يعشق حديثها وكلماتها حتى عتابها اللذيذ ليردف ببسمة خفيفة ...

- حقك عليا ... أوعدك أول ما أرجع حعوضك عن التأخير ده ...

ضحكت "غدير" بشقاوة وهي تحاول إستغلال الأمر ...

- أكيد أكيد ... ؟!! يعني أطلب وأتدلع ...؟؟؟ 

- عيوني يا شيكولاته ...

دقات قلبها المرتفعة بسماعها كلمته جعلتها تردف بنبرتها العاشقة مبتعدة عن طفولتها وشقاوتها بكلمات لمست قلب "عيسى" المشتاق ...

- حبيب عيون الشيكولاته ... حستناك ... متتأخرش عليا ... إن شا الله تجيب المكتب كله فى البيت بس متبعدش عنى كل ده ...

لم يكن منه سوى نفس الشعور ليجيبها بمحبة ..

- جايلك حبيبتي ... حخلص أوام وأجيلك ...

- مستنياك ...

أنهى "عيسى" مكالمته مع "غدير" والتى أعطته الطاقة لإستكمال يومه كما لو أن له بطارية أوشكت على نفاذ طاقتها وبكلمات محبة من شريان قلبه أعادت له ملئ طاقتها ...

تنفس بهدوء ليخرج أحد البطاقات من محفظته ليقوم بإجراء مكالمة أخرى بحماس جديد ..

- ألو ... أستاذ "عطية" .. معاك الأستاذ "عيسى دويدار" المحامى ...

- أهلًا يا متر ... 

- كنت عاوزك فى المكتب بكره إن شاء الله نتناقش شوية فى القضية قبل ما أشوف حقبلها ولا لأ ...

- تحت أمرك يا أستاذ ... بكره بأمر الله حكون عندك فى المكتب ...

بنهاية تلك المكالمة كان على "عيسى" الإنتهاء من آخر أعماله بالمكتب قبل عودته للبيت الذى إشتاق لصاحبته منذ خروجه منه ...

مطت "سندس" شفتيها بغيظ وهى تسترق السمع لمكالمة "عيسى" مع "غدير" أولًا لتتمتم بإستياء ..

- هو انا مليش مرة شوية حنية من دول ... مش حيحن عليا أبدًا .... !!!

لتتابع مكالمته الثانية والتى إنتهت بندائه لها ...

- لو سمحتِ يا أستاذة "سندس" ...

وقفت بحماس تعدل من ملابسها بعجالة لتتحرك بدلال نحو مكتبه لتردف ببسمتها العريضة ...

- أفندم يا أستاذ "عيسى" ...

كمن تبدل تمامًا ليعود لشخصيته الجدية التى تثير جنونها أردف بعملية ...

- المفروض بكرة فيه جلسة فى المحكمة لقضية التبديد وإحنا حنطالب بالتأجيل ... إتفضلي المذكرة دى عشان تقدميها بكرة فى المحكمة ..

مدت "سندس" يدها تلتقط الورقة التى يشير بها "عيسى" إليها قبل أن تجيبه ..

- تمام يا أستاذ "عيسى" ... متقلقش خالص ... 

كانت ستستطرد حديثها حينما قابلها "عيسى" بإنهاء الحديث ...

- تقدرى تتفضلي إنتِ تروحي ... أنا لسه قاعد شوية ... و وإنتِ خارجة خلي عم "شاكر" يعمل لي كوباية شاى تقيلة ...

- أنا ممكن أقعد .. أنا ...

قاطعها "عيسى" بصرامة ..

- مفيش داعي ... إتفضلي إنتِ ...

زمت فمها الممتعض وهو تقضم شفتها السفلية بحركة لا إرادية بإضطراب لتضطر لمغادرة المكتب رغم أن مازال الوقت مبكرًا إلا أنه حازم تمامًا بطلباته وهي لن تخالفة مهما تطلب الأمر ، فهي لا تريد سوى إرضاءه فقط ...


❈-❈-❈


حي النعماني ...

كيوم روتيني أنهت "شجن" يوم عملها كالمعتاد بهدوء تام وبعض الحالات السطحية التى تعد على أصابع اليد الواحدة بهذا المستوصف قليل الإمكانيات ..

خلعت معطفها الأبيض ردئ الخامة وهي تلوح لرفيقتها "رؤى" مودعة ...

- سلام بقى يا "رؤى" .. أشوفك بكره ...

- سلام ... سلمى لي على أختك اللي بتحكي عليها طول النهار دي ...

إبتسمت "شجن" بالإيجاب لتنتبه أنها تتحدث عن "نغم" طيلة اليوم فهي تشعر بأنها مسؤولة منها رغم الفارق البسيط بين عمريهما إلا أن بساطة "نغم" وبرائتها يجعلانها تشعر بالقلق والمسؤولية تجاهها ...

خرجت من المستوصف متجهة مباشرة نحو المكتبة لإصطحاب "نغم" للعودة إلى البيت ...

ولقرب المسافة بين عمل كلاهما كانت "شجن" بدقائق قليلة تقف بمقدمة المكتبة لتدق رقم أختها تحثها على الخروج كما إتفقتا من قبل ...

كـ يمامة وديعة خرجت "نغم" من المكتبة لمقابلة "شجن" وهي تلملم شفتيها الرقيقتان عن إبتسامتها المتحمسة للقاء أختها ...

- جيتي بدري يا "شجن" ..!!

سحبت "شجن" ذراع أختها تعلقة بذراعها وهي تسألها كأم حنون وليست أخت كبرى ..

- ها ... عملتي إيه النهاردة ...؟؟؟

ما كانت إلا بعفوية تلقائية وهى تجيبها بحماس هادئ ...

- الشغل هنا حلو أوى ... أنا حبيته ...

بنظرة شقية إنقلبت بها "شجن" من إهتمام أم لأخت وصديقة ...

- هو مين إللي حبيتيه بالظبط ...؟!!

قوست "نغم" حاجبيها بعدم فهم لمقصدها لتتسائل عن ذلك ..

- مش فاهمة ... ؟!!

ضحكت "شجن" بإبتسامتها المتسعة وهي تعيد خصلة شعرها القصير الذى تناثر بفعل الرياح لتلك الليلة الشتوية ...

- لا ولا حاجة ... خليكِ كدة زى ما إنتِ حتبقى الدنيا تمام .. طالما مش فاهمة يبقى هو ده المطلوب ...

ليست غبية أو محدودة الذكاء لكن بالفعل لم تدرك مقصد أختها فهي تحب الوضوح ولا يجذبها الغموض بالمرة فمن أراد قُربه منها عليه التحرك مباشرة تجاهها فهي لا تحبذ أى من تلك التلميحات التى تجهد عقلها ...

وبرغم بساطتها ووضوحها التلقائي إلا أن "شجن" على النقيض منها تمامًا تفهم الغموض وتعشق الفضول والأفكار الضمنية ، هي فتاة ليست معتادة ولا سهلة التوقع كأختها البريئة وذلك ما يجعلها تخشى أن تنصدم "نغم" بواقع ليست معتادة عليه لكن حتى الآن فالأمور تسير بشكل طبيعي فى نصابها ...


❈-❈-❈


سويسرا (الغابة) ... 

"الغريب أعمى ولو كان بصيرا" جملة لا خلاف عليها فمن يدرك مكانًا لا يعرفه وسط جبال و طرق متداخلة وأشجار كثيفة ، و من يستطيع أن يعلم وجهته وسط تلك الأجواء والطقس السئ بدون توجيه ..؟!! 

زاد الأمر سوءًا إنقطاع خدمة الإنترنت ليبقى "معتصم" و "عهد" يتخبطان بطريقهم بحثًا عن طريق العودة للكوخ الذى ضلوا وجهتهم له ..

فبعد بحث لوقت لا بأس به وتداخل الطرق بعضهم ببعض بمخيلاتهم إضطرا للوقوف محلهم فقد سقط غشاء الليل فوق رؤوسهم ولم يعد بإستطاعتهم إكمال بحثهم فهم لا يحملون أى حقائب بها وسائل مساعدة ..

إتجها نحو مجموعة من الأشجار الضخمة بجانب الطريق ليلجئا إليها تحميهم ولو بصورة قليلة من البرد الذى يحيط بهم ...

جلس "معتصم" مستندًا بجذع أحد الأشجار لتنزوى "عهد" بعيدًا عنه لتتخذ جذع آخر ليقضيا تلك الليلة فى العراء دون الوصول للكوخ ...

أغلقت سحاب سترتها السميكة ثم رفعت غطاء رأسها تحكمة بقوة لتغمض عيناها المنهكة بصمت محاولة إلتماس غفوة قليلة ، سرعان ما إستغرقت بالنوم فهذا موعد نومها المعتاد ..

لكن تلك الياقوتتان البراقتان بلونهما الأسود كانا يطالعانها من بعيد لم يسقطهما عنها وهى تستكين بوداعة تمحى شراستها التى تغلف حياتها ...

دنا منها ببطء شديد يطالع ملامحها الناعمة وسط ضوء القمر المتسلل من بين فروع الأشجار ليترك العنان لقلبه الذى سرقته ، لقد دق .. نعم دق قلبه لتلك المتوحشة فكيف له بإستعادة قلبه الذى إستولت عليه ...

بعد وقت طويل من إستراقه النظر لنعومتها الغير معتادة داعب النعاس جفنيه ليعود لجذع الشجرة خاصته مستغرقًا بالنوم وسط الطبيعة والأجواء الباردة ...


❈-❈-❈


بيت النجار ...

تتوقت "زكيه" لعودة بناتها بحماس شديد لتنتظرهم بالشرفة كعادتها خشية وقوعهم بلقاء غير محسوب من "صباح" أو إبنتها ...

ردت روحها برؤيتهما تتقدمان بأول الحي كنجمتان تشعان بريق وتوهج ، كم هي محظوظة بهما لتتمتم بقراءة المعوذات بصوت خفيض لحمايتهن من شرور نفوس من تقع عيناه عليهما ...

دلفت بعد صعودهما بسلام لتقابلهم بوجهها البشوش وضحكتها الطيبة تستقبلهم بباب الشقة ...

- حمد الله على سلامتكم .. ربنا يحرسكم من العين .. 

ألقت "نغم" بنفسها أولًا بأحضان والدتها فقد إشتاقت لها ...

- وحشتيني يا ماما ...

تلتها "شجن" بدورها بإختلاف طبع كل منهما لتقبلها بإشتياق ...

- أخبارك يا "زوزو" .. وحشتيني ...

أغلقت "زكيه" الباب من خلفهم وقد أشرقت ملامحها بحماس وسعادة ممزوجتان ببعضهما البعض وهي تخبر إبنتيها بهذا الخبر السعيد ...

- مبروك يا "شجن" ... أخيرًا حنفرح يا بنات ...

تهلل وجه "شجن" بسعادة وإتسعت إبتسامة "نغم" فرؤية والدتهم سعيدة إلى هذا الحد أطلق بمخيلة كل منهما ما تتمناه لتهتف "شجن" على الفور ...

- حنسيب البيت ...؟!؟

بينما هتفت "نغم" بحالمية ..

- لقيتي العقد ...؟!!

تطلعت "زكيه" بوجه كلاهما فما دار بمخيلتهما بعيد تمامًا عما كانت ستخبرهم به لتقل حدة حماسها بعض الشيء ثم أجابتهم ...

- لأ .. ولا حنسيب البيت ... ولا لقيت العقد ... دى "شجن" جالها عريس ...

لم تكن أحلامهم متعلقة بزواج وهروب من مجهول لمجهول آخر فـ"شجن" تتلخص أحلامها بأمل وحيد .. الخروج من هذا البيت وترك كل مشاكلهم مع عمهم وزوجته وابنائه خلف ظهورهم لتردف بإحباط ..

- جواز إيه وعريس إيه يا ماما ... كان نفسي تقوليلنا خلاص نسيب البيت ده ونمشي ... 

بينما عقبت "نغم" بهدوء مستكين ...

- أو نلاقي العقد ونبيع الشقة ونخلص ونبعد عن مرات عمي وقرفها ...

زاغت عينا "زكيه" بين بناتها اليائسات لتجيبهم بإستسلام ...

- كان على عيني يا بنات ... بس من ناحية دى وصية أبوكم إني أحافظ على حقه ... ومن ناحية تانية معندناش القدرة إننا نسيب البيت ونسكن بره ... مسيرها حتتعدل ...

نظرت الفتاتان لبعضهما البعض بتحسر وتملل من البقاء على نفس الوضع ، لتدفع "زكيه" بحماسها المفتور بسبب إحباطهن لتغيير مجرى حديثهم والبحث عن أى مصدر للسعادة ..

- بقولكم "شجن" جالها عريس .. دكتور ...

حركت الفتيات رأسهن بهدوء لتستطرد "زكيه" قصها لما حدث اليوم بالتفصيل وكيف علمت بهذا العريس المنتظر وسط إنصات الفتيات لها دون حماس يذكر ، لتظل تعيد بكلماتها وترسم خطوطًا بالخيال عما سيحدث وزواج إبنتها القريب الذى سيهل بالسعادة أخيرًا ببيتهم ...

رواية بقلم قوت القلوب رشا روميه

❈-❈-❈


مستبدة أنا والأمر يروقني ، عنيدة لا أخضع لأسياد ، أشبه غزال لكني في الأصل أسد ...

لاح الصباح ليزعج ضوئه أعين "عهد" المغمضتان بسكون لتضغط عيناها بقوة وهي تحاول فتحهما لتستيقظ من تلك النومة المتعبة ..

لحظات لم تدرك بها أين هي وماذا تفعل وسط الغابة لتتذكر ليلة الأمس ولجوئهم لتلك البقعة ليناما بها ..

جلست بنشاط مجبرة عليه لتمد جذعها للأمام تحاول التطلع تجاه "معتصم" المستغرق بالنوم ...

مستكين هادئ يصل لحد الوداعة مختلف تمامًا عن صحوته ، فهو مثلها شرس مهاجم خصم عنيد بالفعل لا يستسلم بسهولة ..

وقفت بهدوء حتى لا تصدر صوتًا يوقظه لتقترب منه بخطوات رشيقة متسللة لتنظر نحوه بتمعن فتحديقه بها على الدوام لم يعطها الفرصة للتحقق من ملامحه كتلك اللحظة ..

وسيم بالطبع لكن به جاذبية نزعت قلبها من بين ضلوعها ليستقر بين راحتيه بإستسلام فلم هو من إستطاع إمتلاك قلبها دون حتى جهد منه ..

وجدت نفسها بدون شعور تبتسم بخفة ، إنها سعيدة بدقات قلبها المتصارعة تجاه هذا الرجل ، حركة فجائية منه جعلتها تنتفض بقوة إزداد لها دقات قلبها المرتجف لتقفز مبتعدة عنه حتى لا يلاحظ إستراقها للنظر له ...

إستيقظ "معتصم" بوجه ممتعض من إثر نومته فوق تلك البقعة القاسية وشعوره بالبرد الذى لا يطيقه على الإطلاق ...

إعتدل باحثًا على الفور عن تلك الشرسة خاصته ليجدها جالسة بعيدًا عنه غير منتبهه له بالمرة ...

إستقام متقدمًا نحوها ليرى فيم إنشغلت متوحشته قائلًا بصوته الشجي الذى يغلبه النعاس بعد ..

- صباح الخير ... 

إصطنعت عدم الإهتمام لتجيبه بثبات غير ما تشعر به من إضطراب ..

- صباح الخير ... ناموسيتك كحلي ... إيه مكنتش ناوي تصحي ...؟!!

قالتها مستنكرة لتحفز رده المماثل ..

- مستعجلة على إيه يعني ... وراكِ الديوان ...!!!

زمت فمها بإمتعاض وهي تنهض واقفه لتتقدم الطريق دون دعوته وهي تتمتم بصوت مسموع ...

- صحيح هو أنا بكلم مين ... ما إنت لا تعرف ليل من نهار .. الصبح عندك بعد العصر ... يلا نشوف الكوخ المنيل ده راح فين ... 

كلماتها اللاذعة وتقدمها الواثق جعلاه يتبعها بإبتسامة فقد أحب طريقتها المتصادمة معه ليهتف بها بحدة رغم إستمتاعه بذلك ...

- طالما حنكمل مع بعض يا ريت الإسلوب يكون أحسن من كدة ... بلاش تستفزي لساني لإنك مش قده ...

تشدقت برقبتها رغم موافقتها لطلبه إلا أنها لم تظهر ذلك ولن تنطق بالموافقة بتلك السهولة ...

- والله إللي تقدر عليه ... إعمله ...

نطقتها بتحدي لكن بقرارة نفسها ستحافظ على لباقة حديثها معه فلا داعي لهذا السخط والحدة طوال الوقت ، أكمل "معتصم" سيره إلى جوارها وأوقات عدة يتخطاها فهو لم يعتاد أن تعطيه فتاة أمرًا أو يتبع أحدهم أيًا كان ...

بعد سير لفترة من الوقت توقفا بمكان متسع بين الأشجار التى تحيط بئر ، جال "معتصم" بعيناه خلال هذا المتسع الدائري يحاول الوصول لوجهة هذا الكوخ الذى لا يستطيعان الوصول إليه ..

- الظاهر إننا بنلف فى نفس المكان ... أنا رأيي نستريح هنا شوية ونحاول نشوف الإتجاه اللي حنمشي فيه ...

إيمائة خفيفة بعيناها كانت إجابتها فهي تود البحث بالفعل عبر شبكة الإنترنت ربما تستطيع تحديد مكان الكوخ عوضًا عن تخبطهم بطرق مسدودة ...

جلس "معتصم" فوق إحدى الصخور مستندًا بظهره إلى حافة البئر بينما أخذت "عهد" تبحث عن صخرة مماثلة لتجلس عليها ...

توقفت لبرهة تنظر عبر كثافة فروع الأشجار لتحدق بينها بقوة فقد خُيل لها أنها ترى أحدهم تحرك من خلف الأشجار ...

حركة لم تدرك ماهيتها لكن على ما يبدو أن هناك شخص ما أو شئ ما يتبعهم ...


(الفصل الرابع عشر)

حينما يرفع الستار وتسرق أبصارنا بعذوبة المشهد لكننا لا ندرك بعد ما يدبر خلف الكواليس ، تلك قصة لا يدركها إلا من يُسدِل الستار نفسه ...

خداع يجذبنا بلطفه وإدعاء المحبة يخفى خلفها شروره الخبيثة ، حتى الأذى نظن أنه صدفةً لكن عن تعمد يظهر للعلن ...


❈-❈-❈


أقوى الصراعات تلك التي تتصارع داخل نفس واحدة ، تخبط بين جانبين متناقضين تمامًا ، فها هي "عهد" تعود لطبيعتها الشرسة الغير مكترثة بما يدور حولها ، تجبر نفسها ألا تبالي ، جانب طالما إعتادت عليه وأتقنته ببراعة حتى ظهر هذا الجانب الدخيل عليها ، جانب مضئ بدأ يتسلل لداخل قلبها الذى تناست وجودة حتى أعلن أنه مازال حي بداخلها يتضارب بدقات مسموعة لا تستطيع السيطرة عليه لكنها إستطاعت وببراعة عدم إظهار الأمر ...

فرض قوتها على إظهار مشاعرها كان له الغلبة لكن هذا الصغير الذى ينبض بداخلها مازال يصارع ويراوغ عقلها للوصول وإثبات أحقيته بالحياة ...

رواية بقلم قوت القلوب رشا روميه

جلس "معتصم" يعبث بهاتفه باحثًا عن إشارة جيدة للوصول لشبكة الإنترنت فيما أخذت "عهد" تبحث عن صخرة مناسبة للجلوس عليها حين لاحظت حركة غريبة خلف أغصان الأشجار الكثيفة ، أخذت تتمعن بعسليتيها الحادتين لإكتشاف من هو بالقرب لكنها لم تجد شيئًا فيبدو أنها لم تنتبه جيدًا وتوجست بلا سبب لذلك ..

وجدت جذع شجرة مقطوع تستطيع الجلوس عليه لتحمله تجاه البئر لتجلس بروية فوقه ممسكة بهاتفها للبحث عن طريق شبكة القمر الصناعي عن الكوخ ..

إستطاعت بمهارة شديدة التوصل إليها وتحديد موقع الكوخ بشكل متقن عن طريق الولوج إلى الخرائط المحفوظة به ...

كان "معتصم" منهمك أيضًا بالبحث عبر هاتفه بتركيز شديد حتى أنه لم ينتبه لـ"عهد" التى رفعت رأسها تطالعه منذ بعض الوقت ..

وللمرة الثانية شعرت بأن هناك من يحوم حولهم من خلف الأشجار ، تمعنت مرة أخرى حتى تتأكد من ذلك وأن الأمر ليس من وحي خيالها تلك المرة أيضًا لتدقق نظرها بصوب معين لتلاحظ حركة غريبة ...

فاجئتها رؤيتها لـ"كاتينا" ، تلك الشقراء التى يبدو أنها لن تتخلص منها ، ثبتت مقلتيها بتلك الباهتة التى بالتأكيد عادت لتسترد ما تظنه حقها بـ"معتصم" ...

مكان ساحر وسط الطبيعة يبعث على الرومانسية وتلك العاطفة التى لابد وتتجلى بأعين الشقراء فهي بالتأكيد على وشك رؤية مشهد عاطفي جياش الآن ...

ضغطت بأسنانها بقوة فوق شفتها السفلى وهى تزداد حنقًا لتلك المشاعر التى عصفت بها ، إنها مشاعر الغيرة التى دبت بقلبها ، لكن عقلها أخذ يحفزها بالثبات وأن تتعامل مع الأمر بقوة وعقلانية فما عليها سوى الصمت والترقب ..

تقدمت "كاتينا" بخطوات خفيفة متعجلة صوبهم لكن "عهد" لاحظت نظرة مغايرة بأعينها الزرقاء ، لم تكن نظرات تلهف وعاطفة كما كانت تظن ، بل هي نظرات يملؤها الكراهية والشر ..

من خِفة خطواتها ظنت أنها تحلق فوق الأرض دون لمسها لتتسع عينا "عهد" بفزع حين أشهرت "كاتينا" سلاحها الناري تجاه "معتصم" الغافل عما يحدث ...


❈-❈-❈


بيت النجار (شقة فريد النجار )...

دلفت "حنين" على عجالة تاركة باب شقتها مفتوحًا من خلفها فهي لا تغلقه في العادة لتراقب القادم والمغادر من البيت تحت أبصارها حتى لا يغيب عنها أمرًا تجهله من خلف ظهرها ، حين سألها "فريد" متثائبًا بنعاس وهو يقف بمقدمة الصالة بشعر أشعث ومنامة غير مهندمة ...

- إيه ده ...؟؟! إنتِ كنتِ بره يا "نونه" ...؟!!

زمت فمها بإستياء من مظهره المنفر لتزفر بقوة قبل أن تجيبه ...

- أه ... كنت عند أمك ...

- ليه على الصبح ...؟؟؟

سألها بنوع من التقليدية لا أكثر وهو يجلس غير عابئ بمظهره المغثى للنفس ، لتحرك "حنين" رأسها بنفور قائله ...

- يا أخي قوم غير هدومك دى وروح الوكالة زى الناس ... قاعد تسأل رايحة فين وبتعملي إيه ... يا ستااار ... أنا طهقت ... شوف حتى منظرك فى المراية ... أعوذ بالله ...

إعتدل بجلسته وهو يفتح عيناه الناعستان بذهول قائلًا بنبرة مهتزة ..

- حاضر يا "نونه" ... أنا كنت قايم أهو ... متزعليش إنتِ بس ...

دلف "فريد" للداخل لتتشدق "حنين" برأسها تتطلع بذات الإتجاه الذى دلف إليه وهي تخرج حقيبة بلاستيكية من حقيبة السوق خاصتها قائلة بإستمتاع ...

- وأدى كمان شوية هدوم ومكياج من بتاع حماتي ... حاجة كدة أتروق بيهم ...

(مصمصت شفاهها وهي تحلل لنفسها سرقة أغراض والدة زوجها دون علمها كما تفعل بالعادة من وقت لآخر) .. 

- هي يعني حتعمل إيه بده كله ... دى عندها هم ما يتلم ... دى عمرها حتى ما أخدت بالها إن فيه حاجة ضاعت منها ... من كتر إللي عندها ...

( نظرت لإنعكاس صورتها بالمرآة بتحسر وغرور بذات الوقت ) ..

- حسرة عليا ... بقى قمر زيي تندفن كدة مع واحد زي "فريد" ... أه يا ميلة بختي ...

تنهدت بتحسر وهى تخبئ الحقيبة البلاستيكية بأحد الأدراج قبل أن تدلف للداخل لتعطي أوامرها لـ"فريد" قبل توجهه للوكالة ...


❈-❈-❈


خرجت "زكيه" لشراء بعض من مستلزمات البيت التى تحتاجها اليوم خاصة بغياب إبنتيها للعمل ..

تتوقت عيناها بسعادة وهي تلتقي بمحض الصدفة بجارتها "أم يوسف" لتتجه صوبها بوجه بشوش ..

- صباح الخير يا "أم يوسف" ..

زاغت عينا السيدة وهي تجيب ببعض الحرج ...

- صباح الخير يا "أم شجن" ...

- دايما كدة نتقابل صدفة ...

قالتها "زكيه" تبدأ به حديثها لتدفع رفيقتها بمجاراتها للحديث عن موضوع الطبيب المتقدم لزواج إبنتها دون أن تظهر أنها تود التحدث عنه حتى لا تقلل من قيمة إبنتها ..

لكن خاب ظنها حينما وجدت "أم يوسف" تتحدث بأحاديث مشتتة دون التطرق للأمر لهذا إضطرت "زكيه" بأن تلجأ لسبيل واحد ، سؤالها مباشرة ...

- صحيح ...بقولك يا "أم يوسف" ... كنت حنسى ... إبقي قولي للدكتور يروح يكلم عم شجن بقى ...

بهتت السيدة وهى توارى عيناها عن "زكيه" بحرج شديد لكنها بالنهاية وبعد تلعثم وتردد أجابتها بما تستطيعه من لباقة لإخبارها برفضه الزوج من إبنتها ...

- والله ما عارفه أقولك إيه والله ...ده أنا وشي منك فى الأرض ... بس أقول إيه ... هو الخسران ... أكيد هو الخسران ...

دقات قلبها المتوجسة و غصة علقت بحلقها وهى تردف متسائلة بشك ..

- خير يا حبيبتي ؟!! ... قولي على طول ...

بللت "أم يوسف" شفاها بإضطراب لتصمت لوهلة تستجمع كلماتها المتحشرجة قبل أن تبتلع ريقها قائله ..

- أصل اااا ... متزعليش مني إنتِ عارفة غلاوتك وغلاوة بناتك عندي ... بس ... الأمر لله بقى .... حقولك وخلاص ... أهل الدكتور صرفوا نظر عن جواز إبنهم من "شجن" ...

برودة إجتاحت جسد "زكيه" لتعلو الدماء الثائرة برأسها لتشعر ببعض الدوار وألم برأسها من أثر إرتفاع ضغط الدم به ، بهت وجهها بصدمة لتجاهد بسؤالها المنكسر ...

- ليه يا أختي ... إيه السبب ... ده هو اللي كان مستعجل ...؟؟!!!!

ضغط ينافي حدود اللياقة بأن تجيبها بما سمعته منهم لتحاول التملص من إجابتها رغم إصرار "زكيه" ...

- خلاص بقى يا "أم شجن" ... مفيش نصيب ... هو يلاقى زى إسم النبي حارسها ...

- قولي بس ... عايزة أعرف إيه إللي حصل بين يوم وليلة ...

إكفهرت ملامح "أم يوسف" بإمتعاض لتجيبها مضطرة ...

- أستغفر الله العظيم ... والله ما أنا إللي بقول ... ده كلامهم هم ... لكن أنا عارفه إنتوا أحسن ناس يا أختى وأنا قلت لهم الكلام ده ... بيقولوا ... يعنى ..أااا ... من غير ما تزعلي مني ... بيقولوا إن "شجن" ماشيه أستغفر الله العظيم فى البطال ...

شهقت "زكيه" بقوة وهى تضرب صدرها من هول ما تسمع ...

- إخص عليهم ... بنتي أنا ....!!!!!!! ده أنا بناتي الشرف كله ... هو فيه زيهم فى الحته ...!!!

مصمصت "أم يوسف" شفاهها وهى تربت بكتف "زكيه" المنفعلة لتكشف عن الأمر كافة لتهون عليها مصابها بسمعة سيئة تنال بناتها ...

- والله وما ليكِ عليا حلفان قولت لهم كدة ... هو فيه فى كمالهم ولا أخلاق بناتك ... بس تقولي إيه ... هي مرات عمهم العقربة .. هي إللي راحت للست أم الدكتور وفهمتهم كدة ... 

( ثم إستكملت بتصحيح وإخلاء ضميرها من شهادة حق ) .. لكن أنا والله مسكتش وقلت لهم اللي يخلص ضميري من ربنا ... بس هم قالوا وعلى إيه ... نبعد عن الشر ونغنى له ...

نكست "زكيه" عيناها بإنهزام فهي كانت متيقنة أن ذلك سيحدث فتلك ليست أول مرة يطالهم إفتراء "صباح" عنهم ونشر أكاذيب عنها وعن بناتها ..

حاولت "أم يوسف" ترميم خاطرها المنكسر قائله ..

- والله بكره يجيلهم عدلهم ويجازيكم على صبركم ده كله ... إنتوا طيبين وتستاهلوا كل الخير ... سامحيني يا أختي أنا مكنتش عاوزة أقولك ...

منعت دمعة إنهزام من السقوط من عيناها وهى تردف قبل مغادرتها على الفور ...

- وإنتِ ذنبك إيه ... كتر خيرك يا "أم يوسف" ... بعد إذنك يا أختى ...

تركتها "زكيه" عائدة للبيت بحيرة وغصة فهل تنجو ببناتها وتترك بيتها وصية زوجها أم تبقى وتتحمل ما فاض الكيل به ، لترضخ بإستسلام لما حدث فليس لها القدرة على مجابهة "صباح" وجبروتها وظلمها لتتؤثر البقاء وإخفاء الأمر عن بناتها فلا داعي لتزيد همومهم وكرههم لهذا البيت بمن فيه ...


❈-❈-❈


سويسرا ..

هل ترى أعيننا ما نراه حقيقة أم أننا نرى ما نود رؤيته ، بأى عين كنا نراهم فالآن فقط رد إلينا بصرنا ...

ركضت "كاتينا" صوب "عهد" و"معتصم" المنشغل بتركيز تام بمحاولة الوصول بهاتفه لشبكة الإنترنت ليغفل عمن تتقدم صوبه بسرعة جنونية كما لو كانت الأرض بساطًا ينطوى تحت أقدامها الخفيفة المتسارعة ..

رفعت سلاحها الناري بوجه "معتصم" توجهه نحوه بأعين يملؤها الشر والدقة بذات الوقت ، لم تكن تلك الفتاة الناعمة البريئة الآن بل كانت تتحرك بخطوات مدروسة تعلم تمامًا ما هي مُقدمة عليه كما لو كانت تدربت على ذلك من قبل فثقتها بحمل السلاح واضحة بدون شك ..

حينما وقعت عينا "عهد" على "كاتينا" أدركت بفراستها أنها ستغدر بـ"معتصم" لتسرع بدون تهاون تطلق ساقيها الطويلتان بركضها السريع وجسارة لا حدود لها ، كانت قوية مهيبة لم تخشى هذا السلاح المصوب تجاههم وربما كانت لتتلقى الرصاصة دون خوف أو خشية من الإصابة أو الموت ...

أطلقت صيحة صارخة وهي تركض لتعود لتلك الشخصية الشرسة المتوحشة التى كادت تضمحل منذ مجيئها لتلك البلدة ، صيحة أفزعت "معتصم" المنهمك بجهازه دون الإنتباه لما يجري حوله ..

رفع "معتصم" رأسه بإندهاش تجاه "عهد" المندفعه ليظن أنها تندفع تجاهه لكنه سرعان ما أدرك أنها لا تقصده حينما عبرت من جواره ليتبع الإتجاه الذى ركضت نحوه ليحاول إدراك ما يحدث دون أن ينتبه ..

كانت "كاتينا" تركض بإتجاههم بينما قابلتها "عهد" بالإتجاه المضاد ، كلًا منهما تركض بقوة وشراسة نحو الأخرى حتى أصبحت المسافة الفاصلة بينهم أمتار قليلة ، أثنت "عهد" جذعها بقوة مستكملة إندفاعها نحو "كاتينا" لتزيد من سرعتها بقوة كفهد أسود وجد ضاريته ، إقتحمت حيز "كاتينا" بكتفها لتدفعها من بطنها تجاه الأرض وهي تتشبث بكلتا زراعيها حول خصرها بأعصاب قاسية من فولاذ ..

رواية بقلم قوت القلوب رشا روميه

تلك الصدمة أسقطت السلاح من كف "كاتينا" قبل أن ترتطم أرضًا بالأرض الموحلة و "عهد" معها حيث طبقت بجسدها الطويل فوقها وبالطبع كانت لها الغَلبة في الجسم والقوة ..

حاولت "كاتينا" الدفع بجسد "عهد" المستقر فوقها تحاول التخلص من ثقل جسدها القوى فهي لم تكن تظن أنها تتحلى بهذه القوة مطلقًا ..

إحتدت زرقاوتيها بلؤم وحقد تجاه "عهد" وهى تنهرها بقوة ظهر بها عدوانية وغضب كما لو أنها تبدلت بإنسانة أخرى تمامًا ..

صرخت بها "كاتينا" بحدة ...

- إبتعدي عني أيتها البلهاء ...!!

كيلت لها "عهد" لكمة قوية وقد عقصت بوجهها بملامحها الغاضبة مستنكرة من أين تأتي بهذه القوة وهي ملقاة أسفلها بهذا الشكل ، من أين لها تلك الجرأة والمناكفة ، ألكمتها "عهد" بكامل قوتها قائله ..

- إخرسي يا متخلفة ... بقى أنا هبله ...!!!!

لكن يبدو أن الطبيعة هذه المرة ساعدت "كاتينا" وتحالفت ضد "عهد" لتنزلق ركبتها التي كانت تستند عليها فوق الوحل لتهبط أرضًا لتسنح الفرصة لـ"كاتينا" بالتملص من أسفلها و الإعتدال وقد إعتلت عيناها نظراتها الشرسة تتطلع نحو "عهد" و قد تهدجت أنفاسها بقوة فـ"عهد" بالفعل خصم قوي أقوى منها وأكثر حدة وشراسة .

نهضت "كاتينا" بسرعة وقد تلاحقت أنفاسها لمصارعتها مع "عهد" التي تفوقها قوة وجسمًا لم تكن تظن أن تلك البلهاء ستتصدى لها مطلقًا فقد أساءت بتقدير قوتها ولم تتوقع أن تواجهها خاصة وهي من تحمل السلاح .

دفعت "كاتينا" بـ"عهد" وهي تحاول نهرها بقوه لتبعدها عنها مردفة بغيظ ...

- إنك لمجنونة بالفعل ...!!!

- أنا مجنونة ... طب أنا حوريكِ الجنان على أصوله ...

لم تعطي "كاتينا" نفسها فرصة لإلتقاط أنفاسها حتى ، فسارعت تستدير نحو "معتصم" الذي يبدو أنه هو هدفها الذي تسعى إليه ، وقبل أن تتوجه نحوه جذبتها "عهد" بقوة من ساقيها نحو الخلف لتقع على وجهها مرة أخرى لتزجر "كاتينا" بنفور ...

- يا إلهي ...ألن أتخلص منكِ أبدًا ...!!!

عقصت "عهد" ملامحها بضراوة و هي تجيبها بإستهزاء ...

- تتخلصي من مين يا روح ماما ... ده أنا "عهد مسعود"....!!! 

رفعت "كاتينا" وجهها تبعده عن الوحل وهي تلتفت جانبًا لتتفاجئ بلكمة أخرى من قبضة "عهد" أفقدتها توازنها وتشوشت رؤيتها في الحال لتسقط غائبة عن الوعي .

إستقامت "عهد" تنفض يديها وهي تتأكد من تلك الساكنة بأنها قد غابت تمامًا عن وعيها ولا تدري بما يحيط حولها ...

- مش ناقصة غير الصُفر كمان ...

قالتها "عهد" ساخرة من "كاتينا" وهي تحاول الإتزان حتى لا تنزلق بالأرض الموحلة بفعل بقايا مياه الأمطار ...

إشرأبت بعنقها وهي ترفع رأسها بشموخ لإنتصارها عليها ، لكن لكنه إنتصار ملطخ بالوحل ...

هذا الصراع ما كان إلا بضع دقائق أمام أعين "معتصم" وهو يتابع إنقاذ "عهد" له من بين أيدي "كاتينا" وشجاعة ساحقة لم يرها مثلها بأي فتاة على الإطلاق ، لكن ذلك لم يمنعه من التهكم على رؤيتها ملطخة بالوحل ..

رغم إثارتها له بشكل ملفت فحتى تلطيخها بالوحي كانت جذابة فريدة من نوعها كفرسة برية لا يملك حجام لجامها أحد ، إنها إستثناء عن العالم بأسره ..

هتف متهكمًا وقد إرتسمت فوق ثغره بسمة ساخرة ...

- ده بقى إللي بيقولوا عليه نهارك طين ...صح ..؟!!

توسطت خصرها بكفيها وهي ترفع حاجبها الأيمن ناظرة نحو بتهكم وهي تميل برأسها للأمام قليلًا ، هل هذه هي طريقته لشكرها على إنقاذها لحياته لتردف مستهزئة ...

- وحياة .. اااا ....

توقفت عن التوبيخ وهي تراجع نفسها ولسانها السليط ، فعليها ألا تترك العنان للسانها مره أخرى ...

تملكت غيظها بصعوبة حين علت ضحكته الجذابة والتى أظهرت بياض أسنانه مشرقة عن إبتسامة مريحة سلبت به قلبها المختلج فيكفيها أنه بخير ..

لكنه إستطرد يثير مشاكستها ...

- عارفة لسانك ده لو يتلم شوية ...!!

منعت إبتسامتها من الظهور لتجيبه بجمود مصطنع ...

- يعني إنت إللي بتنقط عسل .... ما هو الحال من بعضه ...

إبتسم إبتسامة جانبية فبهذه اللحظة أدرك تمامًا أنهما وجهان لعملة واحدة ، فكلاهما يشبه الآخر و لا يختلف عنه مطلقًا ...

- تصدقي صح ...

وبتلك اللحظة الغريبة على نفسها وجدت ملامحها ترتخي دون تفكير لتنفرج عن شفتيها إبتسامة ساحرة ، إبتسامة حقيقية سعيدة من قلبها لتشق طريقها دون أن تمنعها من الظهور ، بل تركت العنان لنفسها لتبتسم نحوه تلك الإبتسامة التي أشعرتهُ بأنه قد أنجز عملًا بمهمة شاقة لم يشعر مثلها من قبل ، كما لو أن إبتسامة "عهد" هي غايته التي يسعى إليها ...

ما أجمل أن يصبح الحلم واقعًا فربما حان وقت تحقيق الأحلام ، تبادلهم تلك الإبتسامات التى دق لها قلبيهما تناسا بها ما يحيط بهما بهمزة وصال عجيبة بين نظرات عيونهم ، لكن دوي إطلاق نار صدح بالأفق كان له رأي آخر ...


❈-❈-❈


للصمت شفاه وكلمات فحتى الصمت له من الكلمات حكايات تنسج دون النطق بها ، لكن لا شيء أجمل من الصمت عندما تخيب الظنون ، الصمت هو نوعًا آخر من الهروب حتى لو كان وسط الضجيج ...

إتسم هذا المطعم الشعبي بجودة مأكولاته وأصنافه المميزة ليعج بالزحام طيلة الوقت ، لكن هذا الزحام لم يلفت إنتباه هذا الشاب الحنطي الوسيم ذو الوجه المدبب والأعين الغائره المميزة بلونها الأزرق المتوهج يكسو رأسه شعر أسود كثيف بخصلات متهدله بعشوائية فوق جبهته تكسبة وسامة وحُسن ، إنه "رشيد درويش" ...

وقفت إحدى الفتيات الملفتات للنظر داخل المطعم لتسترق نظر جميع متواجدين به إلا "رشيد" الذي لم يلتفت ولم يكترث بوجودها على الإطلاق ، حتى أثار عدم إنتباهه تعجب صديقه "محمد حميده" ليردف بتعجب ...

- غريبة أوي ...!!! إيه يا عم إللي واخد عقلك ... مش عوايدك يعني تسيب الصاروخ من غير كلام ...!!!! 

رفع "رشيد" رأسه تجاه "محمد" الذي يميل بوقفته نحوه وهو يجلس خلف الطاولة الخاصة بتلقي الطلبات ليتساءل بعدم فهم ...

- صاروخ إيه ...؟!! 

أجابه "محمد" وهو يأشر إليه برأسه ...

- إيه يا عم مش واخد بالك ... مش شايف إللي قدامك دي ...؟؟؟

زم "رشيد" فمه جانبيًا مجيبًا بملامح حزينة للغاية ...

- خلاص يا "محمد".... إللي في القلب في القلب ...

عقد "محمد" جبهته مستنكرًا رد فعل صديقه الغير معتاد ...

- جرى إيه يا "رشيد"...؟!؟ من إمتى يعني ...؟!! إيه إللي غيرك كده ...؟؟؟

تنهد "رشيد" بقوة ثم زفر ببطء لما يحمله قلبه من ثقل ..

- مش عارف حاسس إن الدنيا كلها قفلت في وشي ...

دفعه "محمد" بأصابعه ليفيقه من حالته العجيبة التى تملكته ...

- يا عم فكك بقى ... عيش حياتك إنت هتفضل واقف زي ما إنت ... ؟؟! خلاص إللي باعك بيعه ...

تطلع إليه "رشيد" بزرقاوتيه يلومه بإستنكار ...

- حاسس بندم ....حاسس إن أنا إتسرعت ... قلب الشاب شفته السفليه بتهكم وهو يحدث نفسهم مبتعدًا عنه ..

- ده حيعمل لنا فيها مستقيم ... !!!!

تابع "رشيد" عمله دون الإلتفات لتمتمة صديقه أثناء مغادرته ، فهو بالفعل لم يكن بهذه الإستقامة وبهذا الشعور بالندم من قبل ، لكنه لم يدرك خسارته إلا الآن فقط ، فلم يكن يظن أنه سيندم إلى هذا الحد ...


❈-❈-❈


حي النعماني (المستوصف) ..

كما جرت العادة جلست "شجن" تتجاذب أطراف الحديث مع صديقتها "رؤى" فالعمل غالبًا اليوم كبقية الأيام الماضية لا يوجد بها ما يذكر مما يسمى بضغط العمل فأغلب سكان المنطقة يلجأون للمستوصف في بعض الحالات الخفيفة بينما يتجهون لأقرب مستشفى لأي أسباب أخرى ..

تفاجأت الفتيات بصوت هتاف عالٍ جذب إنتباههم لوجود بعض الضجيج الآتى من خارج المستوصف ، تقدم نحوهم المسعف الخاص بالوحدة الصحية وقد إمتلأت نبرته بالإضطراب والقلق حين قال ...

- بسرعة ... قوموا بسرعة ... في حادثة عربية والناس متبهدله بره ...

أسرعتا تجاه المصابين لمساعدتهم ليقع عين شجن على رجل و إثنين من الشباب قد أصيبوا بحادث تصادم خارج المستوصف وتم نقلهم إلى الداخل ..

حاول المسعف مساعدة أحد الشباب المصابين بينما إتجهت رؤى لمساعدة الشاب الآخر ، لم تجد "شجن" سوى إضطرارها للإتجاه فورًا نحو الرجل المسن ، رجل تخطى الستون عامًا ذو وجه مستطيل وشعر خفيف باللون الأبيض الناصع أصيب إصابة بالغة بساقيه وزاده النزيف المنهمر من جرحه الغائر ..

حاولت "شجن" وقف النزيف قدر الإمكان وهي تطمئنه بهدوءها الذي يطفي على شخصيتها القوية ...

- ما تخافش حضرتك .. إن شاء الله حتكون كويس ... ما تقلقش خالص ..

نظر إليها الرجل ثم تطلع نحو ساقيه الممددتان الملطختان بالدماء ثم أجابها بنبرة مهتزة ..

- رجلي ... رجلي يا بنتي ...

ضغطت بقوة على الجرح وهي تبتسم نحوه بذات الهدوء ..

- ما تخافش خالص اهدى بس ..

نظرت "شجن" لرفيقتها والمسعف بنظرة قليلة الحيلة فليس لديهم الأدوات المناسبة ولا المواد الطبية التي تساعدهم لمساعدة المصابين تود النطق (ماذا سنفعل ...؟!!) أعادت بصرها نحو الرجل المسن لتتسع إبتسامتها المطمئنة تجاه الرجل ..

- متقلقش حضرتك أنا معاك ...

هذا أقصى ما تستطيع فعله بهذا المكان فقير الإمكانيات (المساندة) ...

- الموضوع بسيط خالص ... ما تقلقش ..

تشبس بها الرجل بقوة وهو يسحبها من معصمها بترجي ...

- أنا تعبان يا بنتي ... أنا عندي السكر والضغط ... أنا ما ليش حد خليكِ معايا ..

إحساس مختلف و هي تطالع وجه هذا الرجل المسن الذي يشبه إلى حد بعيد والدها الذي فارقهم منذ سنوات بعيده لتشعر بالحنين لفقيدها الغالي ، سندها الذي كانت تعتمد عليه والذي من يوم رحيله أصبحت كورقة هشة بمهب الرياح ، تتلقى العواصف التى تتخبط بها من كل الجهات ..

نظراته المترجيه وصوته الحنون أرجفا قلبها المشتاق لوالدها وسندها لتردف بتأثر نابع من قلبها حقيقة ...

- ما تخافش خالص ... أنا مع حضرتك مش حسيبك خالص ..

إزداد تشبثًا بذراعها وهو يعيد توصيته إليها كمن يؤكد عليها ، ليظهر طبعه المتخوف ...

- بالله عليك يا بنتي ما تسيبيني ...

إبتسمت "شجن" برفق وهي تربت فوق كتفه ...

- حاضر ..

لم يكن بيدها حيلة سوى إنتظار سيارة الإسعاف لنقل المصابين لأقرب مستشفى مجهزة للتعامل معهم ، إلتفتت "شجن" نحو هؤلاء المتطفلين الذين إلتفوا حولهم ينهرونهم لتراخيهم بإسعافهم ...

- ما تشوفوا الناس دى ... إنتوا إيه مفيش فى قلوبكم رحمة ...!!!!

أخذت تدافع عن نفسها وعن زملائها فليس لهم حيلة بهذا المكان محدود الإمكانيات ، و لن تقبل أي ضغط آخر فيكفيها الضغوطات التي تمر بها ...

- لو سمحت بلاش تتكلم في الحته دي ... إحنا هنا مستوصف صغير مش مجهز لحادثة كبيرة زي دي ... وبعدين إحنا عملنا إللي نقدر عليه لحد ما تيجي عربية الإسعاف ....

وبرغم ضآله إمكانياتهم ومساعدتهم للمصابين قدر المستطاع إلا أنهم تلقوا توبيخًا شديدًا من قبل هؤلاء المتطفلين ...

ومع الشد والجذب بينهم كان الرجل مازال متشبثًا بـ"شجن" بصورة غريبة للغاية حين أردف وسط تألمه الشديد ...

- إنتِ وعدتيني مش هتسيبيني ..؟! 

أجابته بوعد ...

- ما تخافش حضرتك أنا معاك .. ولو عاوزني أروح معاك المستشفى كمان أنا ممكن آجي معاك كمان بجد والله ...

تهللت أسارير هذا الرجل وهو يطالعها ببعض الشك ...

- إوعي تسيبيني يا بنتي .. ده أنا ما ليش حد ... خليكِ معايا ...

بشعورها المتعاظم للمسؤولية شعرت بأن هذا الرجل يحتاج إلى أحد يطمئنه ويقف إلى جواره فيبدو أنه وحيد للغاية ، يتمنى أن يرافقه أحدهم ويهتم به ، لتجيبه بصدق ...

- أنا معاك ما تقلقش ..

رد بإمتنان شديد ...

- يا ريت يا بنتي يا ريت ...

وعدها له لم يكن وعد عابر تنهي بها تعلقه بها إلى هذا الحد بل كانت على إستعداد تام لمرافقته حتى يأتي بقية أهله أو يطمئن على حاله ...

رواية بقلم قوت القلوب رشا روميه

بعد مرور بعض الوقت حضرت سيارات الإسعاف للنقل الثلاث مصابين إلى المستشفى لتصر "شجن" على مرافقتها هذا الرجل إلى المستشفى كما وعدته بعدما أرسلت رسالة إلى أختها "نغم" أن عليها العوده اليوم للبيت بمفردها وأن تطمئن والدتها عليها ...

رواية بقلم قوت القلوب رشا روميه

❈-❈-❈


شركة بيكو للأدوية ...

يتشابه "رؤوف" مع إخوانه بأنه محب أيضًا للعمل ومجتهد به بالفعل ، خاصةً بهذا المجال الذي يُظهر تفوقه وتميزه ، وحينما يبدأ بالعمل يتناسى كل ما حوله مثله مثل والده وأخويه ...

بيوم عمل جديد تناسى "رؤوف" نفسه أثناء إستلام إحدى الطلبيات الخاصة بالأدوية لينهمك للغاية بكل تفاصيلها ، دنا بقُربه صديقه "حمدي" يسأله ....

- ما قلتش يا "رؤوف".... إنتوا خلصتوا موضوع العفش ...؟!!

إتسعت عينا "رؤوف" بتفاجئ كما لو أن الأمر مُحي تمامًا من رأسه ، ليضرب جبهته بكفه قائلًا ....

- يا خبر !!!! ... ده أنا نسيت موضوع العفش ده خالص ... من آخر مرة نزلت أنا و"نيره" ما إتفقناش حتى إن إحنا نكمل لف على المعارض إمتى ....

ضحك"حمدي" ساخرًا منه ليردف بإستهجان للامبالاة "رؤوف" ....

- دي زمان "نيره" هتولع منك هي هتعديها لك بالساهل ..

بهتت ملامح "رؤوف" حينما إنتبه للأمر ليقوس شفتيه للأسفل قائلًا ...

- طب كمل إنت بقى ... ورايا مكالمة تليفون من الآخر ... ألحق أشتري نفسي ... 

ضحك "حمدي" لتخوف "رؤوف" من غضب "نيره" الذى لا ينتهي ...

- ماشي يا حَبُوب ...

أسرع "رؤوف" لخارج مقر الشركة لمهاتفة "نيره" التي لابد وأنها غاضبة للغاية لتناسيه الأمر إلى الآن ، بدأ حديثه معها بمزاح ليتخطى طبعها القاسي وغضبها الغير محدود حينما يخطئ ...

- "نيرو" حبيبة قلبي ... إنتِ فين يا عمري ..؟!! وحشتيني ...

حتى وإن كان يصطنع التودد واللطافة إلا أنها قابلته بإشمئزازها المستمر وتهكمها اللاذع ...

- إنت لسه فاكر ...!!! ده أنا قلت إنك خلاص ... صرفت نظر عن الجوازة أصلًا .. !!!!!

قالتها بسخرية من تأخره حتى الآن ، لكنه أجابها بلطافة و حديثه المعسول ...

- وهو أنا أقدر أعيش من غير "نيرو" ... أنا بس كنت بشوف أنا غالي عندك قد إيه يا روح قلبي ...

- لا والله ...!!!!!!!

خرجت منها بتعجب ساخر ثم أردفت مستكملة ...

- بقول لك إيه يا "رؤوف" ... إتعدل معايا بدل ما أعدلك ... علشان طريقتك دي ما بقتش تجيب معايا ...

- تجيب إيه بس حبيبتي .... ده أنا بتصل أطمن عليكِ ... وأقول لك يلا بينا ننزل و نكملوا مشوارنا علشان نختار العفش بتاعنا ....

تنهدت "نيره" بتملل ثم نطقت ببطء شديد ...

- ماشي يا "رؤوف" ...

شعر "رؤوف" بأنه في معضلة كبرى لتناسيه الأمر ليحاول تداركه باسلوبه اللطيف ....

- خلاص بقى يا "نيرو" أشوفك بالليل تمام ...؟!!

- مستنياك ...

قالتها بعجالة لتنهي المكالمة سريعًا ، بينما وضع "رؤوف" هاتفه بجيب سترته وهو يتساءل بغرابة ، لما قد تناسى هذا الامر الذي لابد وأنه هام بحياة أي شاب ؟!! لم ليس مهتمًا من داخله بهذا الأمر ...؟!! لم يصطنع الإهتمام بخلاف ما يشعر به من داخله ...؟!! فكل ما يتعلق بحياته مع "نيره" يتسم بالفتور ، لا يشعر بالحماس بالمرة للبحث عن أثاث مناسب لبيتهم السعيد ... لماذا ليس متشوقًا .. سعيدًا لوجوده مع "نيره" بذاتها .. ؟!!! ، لم يشعر بأنه متخوف من رد فعلها عن كونه يحبها ويسعى لإرضائها ...؟!!

هكذا تساءل بداخل نفسه ليطلق زفيرًا قويًا قبل أن يعاود عمله لكن من دون إجابة مقنعة بداخله ....


❈-❈-❈


بيت محفوظ الأسمر ....

تنهدت "وعد" بتملل فقد إختارت تلك الحياه بإرادتها ، ربما هي فقط من أجبرت نفسها على هذا الإختيار وليس سواها لكنها بالفعل تشعر بالإنهزام ورفض لتلك الحياة من داخلها ...

يتعاظم هذا الشعور عندما تذكرت تلك الواقعة التي تبدل معها كل شئ ببيت عائلة زوجها ...

فمنذ هذا اليوم مكثت بشقتها ولم تتعامل بشكل مباشر مره أخرى مع "قسمت" و"عتاب" بشكل خاص ... 


فلاش باك ...

﴿بتلك الليلة وبعد أن إنتهوا جميعًا من إعداد الطعام جلست تطعم "زين" بنفسها قبل موعد تناول العشاء مع بقية العائلة كما هم معتادون بإطعام الأطفال أولًا ، ربما تناسوا جميعًا ما حدث من "عاطف" من قبل و إتهامها بعلاقة خَفية مع "محب" لكنها لم تنسى ذلك ، لكنها أظهرت تناسيه كالجميع تمامًا ، فجميعهم لم يصدقوا هذا الأمر ولم يعطوا لإتهام "عاطف" بالًا لمعرفتهم بـ "محب" و "وعد" ، وإدراكهم بأن هذا هو أسلوب "عاطف" بالتهرب ...

بتلك الشقة الكبيرة الخاصة بوالدى زوجها جلست "وعد" تطعم إبنها ، بينما جلست "قسمت" تطعم بنات "عتاب" الصغار ...

إنزوى "محفوظ" بولده "عاطف" يستكملان حديثهما بغرفة الصالون المغلقة بعد عودتهم من المعرض مع حرص "محفوظ" بألا يقتحم أحدهم حديثهم الهام ، لكن عندما طال الوقت إتجهت "عتاب" نحو الغرفة تطلب منهم الحضور لتناول الطعام ....

كانت أذناها تعمل أولًا قبل يديها التى رفعتها لتطرق الباب لتتحجر حركتها وهي تسترق السمع عما يتحدثون ، هكذا إعتادت فهي تسترق السمع بجميع الأحوال وكان حظها السعيد أن غرفة الصالون بمنأى عن هؤلاء الأطفال كثيري الضجة بالجانب الآخر من الشقة ...

كلمات قليلة سمعتها قبل أن تقطع خلوتهم السرية دون إستئذان مقتحمة الغرفة وقد فتحت عيناها السوداوتين بإندهاش وربما بصدمة وهي تشير بإبهامها تجاههم كمن تلقي بالإتهام عليهم وقد بدا على ملامحها المنزعجة الغضب ...

- إيه إللي إنتوا بتقولوه ده ....؟؟!! 

تفاجئ "عاطف" و"محفوظ" بإقتحام "عتاب" حديثهم بتلك الصورة الفظة جعلتهم بحالة ذهول لوجودها بينهم ، إلتفت "عاطف" أولًا تجاه أخته يرمقها بنظراته الحادة ...

- في إيه يا "عتاب" مالك على المسا داخله علينا بزعابيبك ليه ....؟!!

أخذت ملامح "عتاب" تتجهم بقوة نحو أخيها لتتقد عيناها بوهج منفعل قبل أن تشيح بوجهها عنه دون الإكتراث لحديثه ...

إتجهت نحو والدها وهي تدفع بـ"عاطف" بكفيها تبعده عن طريقها ... 

- ملكش دعوة إنت ... أنا بسأل أبويا ... إيه إللي سمعته ده يا بابا .....؟!!!

قالتها بنبرة حادة عنيفة موجهة حديثها الغاضب لوالدها ، تلك الطريقة التي لا يقبلها "محفوظ" كرب هذه العائلة ، لا يتقبل هذا الهجوم الغير مبرر ليصدمه طريقتها المحتدة ...

حتى وإن كان قد تصرف بشكل غير مقبول لدى أحدهم فهو لا يتقبل ذلك مطلقًا ، تطلع "محفوظ" أولًا بـ"عاطف" الذي إستشاط غضبا من طريقة "عتاب" المستفزة والمتجاهلة له فهو لا يعتاد هذا التهميش ليصرخ بها "عاطف" ...

- مش بكلمك يا "عتاب" يبقى تردي عليا ...؟؟!؟

إكفهرت ملامح "محفوظ" وهو ينظر نحو إبنته التي تهاجمه بغضب فليس لها الحق بأن تُعدّل على قرار إتخذه ، تحفزت "عتاب" للرد على "عاطف" لكن تلك المرة زادت بإنفعالها وإحتد صوتها تشاجر أخيها دون مراعاة لوجود والدها بينهم ....

- لا يا شيخ ....!!!!! إعملهم عليا وخدني بالصوت .... فاكرني حخاف ... لا يا أخويا مش أنا إللي أتاكل ....!!!

توسطت خصرها بكفيها وهي تميل برقبتها للأمام بنوع من الإستهزاء تحرك رأسها مستنكرة أفعالهم قبل أن تطلق صوتها الغاضب كصافرة الإنذار متهمة "عاطف" بالطمع ....

- عملتها يا "عاطف" ...!!!! ضحكت على أبوك وعايز تاكل حقنا وتضيع فلوسنا ....

صك "عاطف" أسنانه بغضب ليتعالى صراخه الهادر بها لإتهامها المغلوط له ...

- بس يا غبية .... إنتِ ولا فاهمه حاجه ... فوقي يا "عتاب" و إعرفي بتقولي إيه ... مش أي هري في الكلام وخلاص .... إستنى إفهمي الأول ...

عقدت ذراعيها أمام صدرها مستكملة صراخها بعدوانية وإنفعال شديد ... 

- تفهمني إيه ... ؟؟! ما تفهمني يا أخويا ... ولا إنت ماعندكش حاجه تقولها ....

كانت عيناها تتحدث أكثر من فمها فنظراتها المسلطة نحوه تتهمه بالجشع و الطمع بمال والدهم وحقهم به ، زفر "عاطف" بإنفعال وهو يردف بحدة ...

- ما ترد يا بابا .... ما تقول لها إيه إللي حصل ...!!!

لسنوات عدة كان "محفوظ" هو القوي المهيمن على تلك العائله وكبيرها الذي يدير كل كبيرة وصغيرة بها ، شعوره بوضعه بخانة الإتهام وعليه الدفاع عن نفسه ومن قبل من ..؟؟! إبنته التى تربت فى كنفه وفوق ذراعه ، كان ذلك صدمة بداخل نفسه وهو يطالع "عتاب" المنفعلة الغاضبة ، لكنه ظن أن مهما حدث من خلاف فهي إبنته بالنهاية وسوف تهدأ وتنصاع له كالسابق ، ظن أنه حينما يبدأ بالحديث وإيضاح ما حدث سوف تنصت له "عتاب" وتتفهم الأمر تمامًا عندما يطالبها بالهدوء .. 

- إسكتي ... أنا حفهمك ... بلاش زعيق على الفاضي وأنا موجود ....

قالها "محفوظ" ببعض الحدة لتصمت "عتاب" مرغمة لكن مازالت عيناها الغاضبتان تطالعانه بنظراتها المتقده ، توقفت عن الحديث مستمعة بإنصات لما سيقوله ...

بدأ "محفوظ" بإستيضاح الأمر لها رغم هذا الثقل الذى جثى فوق قلبه ...

- كان جاي لنا تقرير ضريبي ممكن يحجز على أملاكنا كلها ... خصوصًا وإن شحنة الكاوتش بتاعة فرنسا وقفت في المينا ... ودي كنت حاطط فيها مبلغ كبير جدًا ... وما لقيناش حل غير كده .... المحامي هو إللي قال ....مش أخوكِ ...!!

شهقت "عتاب" بقوة لعدم تصديق ما تفوه به والدها ، مُكذبة كل ما قاله ، متيقنة أن ما فعله هو عن عمد وليس مضطرًا لذلك ...

تطلعت نحوه لوهله بنظرات مخيفة يغلبها البغض والتحدي ، تجلى بعينيها نظرات الغضب تجاه والدها ....

صرخت به "عتاب" بقوة بصورة أفجعته للغاية ، فلم يتوقع أن أحد أبنائه يهاجمونه بهذه الطريقة الفظة ...

- عبيطة أنا .... !!! مختومة على قفايا .... ولاااا ... إنت ظبطتها معاه ؟!! ... أه ما هو إبنك الكبير ... حبيبك ... إللي مفيش على الحِجر غيره ... أنا عارفه إن إنت وأمي بتحبوا "عاطف" أكتر مننا كلنا .... بس إزاي "محب" وافق على التهريج ده ...؟؟!!!

ضم "عاطف" حاجبيه بقوة مستنكرًا ما تتفوه به ليحاول إيقاف سير هجومها الشرس على والدهم ...

- إتلمي يا "عتاب" .... إنتِ إزاي تكلمي بابا بالأسلوب ده ...؟!!

أشارت نحوهم "عتاب" بإبهامها يتأرجح بين كلاهما ....

- أكيد طبختوها سوا ... وعملتوها من ورايا .... بس لأ ... مش أنا إللي يتاكل حقي وأفضل ساكته .... 

ثم وقفت بمجابهة والدها تضع عيناها بعينيه ثم دفعته بقبضتها بقوة شعر من صدمته أنها إخترقت قفصه الصدري لتنغرس بقلبه ، هتفت بتهديد وقح بما ستقوم به لأجل إسترجاع حقها ...

- أنا حرفع عليك قضية حَجر وأقول لهم إنك خلاص كبرت وخرفت ... إنت الظاهر إتجننت مش واعي للي إنت عملته ... إللي إنت عملته ده ما يعملوش حد عاقل أبدًا...

تهدج صدر "محفوظ" بإنفعال لما تتفوه به تلك المسماة بإبنته ليهتف بها منفعلًا وهو يشعر بألم يطبق على قلبه من هول صدمته بها ...

- إنتِ إتجننتي يا "عتاب" ... !!!! أنا مهما كنت أبوكِ برضه ...!!!!!!!! 

شهقت بحدة وهي تتراجع لخطوة نحو الخلف مستكملة بنبرتها المحتدة وصراخها العالِ بوجهه بصورة لم يستوعبها "محفوظ" بروية لتهتف بإستهجان لأفعاله وخلل عقله ...

- أبويا ...!!!!! أبويا ياكل حقي عشان إبنه .... لااااااااا ... أبويا دي في البطاقة بس ... لكن إللي عملته ده لا فيه لا أب ولا أخ ... فلوسي حاخدها يعني حاخدها ...

إستدارت نحو "عاطف" الذي كاد إشتعال وجهه بحمرة الغضب أن يتوهج بلونه البرونزي المحتقن من تصرف أخته الغير مسؤول لتلقى "عتاب" كلماتها اللاذعة بوجهه ...

- ده إنت طلعت مش ساهل .... !!! يا داهية ..... بقت خليت أبوك يكتب كل حاجة بإسم إبنك المفعوص ... ليه إتعدمنا عن الدنيا ....!!!!!

تناست "عتاب" تماما ان هذا والدها وله قيمته وإحترامه لتصرخ به بإنفعال كما تصرخ بطفل صغير ، لم تكترث لأنه أبيها وأن هذا ماله في الأساس حتى لو أراد ذلك بإرادته ، لتوجه حديثها الحاد الغاضب نحوه .... 

- أنا حوريك ... حقي ده حرجعه ... و إنت لا أبويا ولا عايزة أعرفك ... يا ظالم .... يا جاحد ... فلوسي حاخدها ... وحدخلك المصحة ... ده إنت أكيد مخك ضرب ... إنت أكيد مجنون ... هو في حد عاقل يعمل كده .. إنت مش طبيعي ... إنت لازم تخش المصحة تتعالج .. وأنا بقى إللي حدخلك ... وحعرف آخد حقي منكم كلكم ....

قالتها بصراخ بوجهيهما ، لم تُظهر للحظة إمتنانها لما فعله معها وبقائها ببيته بعد إنفصالها وتحمله إنفاقها على بناتها الثلاث ، فهي إبنته ولها الحق ، صدمة هدمت كل ما قام به لسنوات و سنوات ، ظن أنه ينشئ أسرة قوية و إمبراطورية يستطيع قيادتها ، هو الأمر الناهي بها ، ظن أنه لن يخالف أحد أمره ، وأن الجميع تحت طوعه ...

لكنها تمردت وهاجمت بضراوه لم يهمها والدها بل كل ما إهتمت له هو المال وكيف سيضيع من بين أيديها ، إهتمامها بالمال أظهر طمعها وجشعها ، حتى أنها لم تهتم لوالدها الذي إمتقع وجهه باللون الأزرق بعد إنفعال إبنته الصادم الذي جعله يشعر بأنه فشل بتربيتها و فشل بسيطرته عليها ، شعر بألم عظيم يجتاح جانبه الأيسر حتى أن ذراعه تشنجت بألم لم يستطيع تحمله ، حاول "محفوظ" التغاضي عن هذا الألم وسط صراخ إبنته عليه و إتهامها له بالجنون وتوعدها لها بأن تدخله مصحة الأمراض العقلية ...

وبلحظة سقط "محفوظ" أرضًا وهو يمد يده نحوهم دون الإستطاعه بالتفوه بكلمة يطلب منهم اللحاق به رافعًا ذراعه الأيمن مستنجدًا بأبنائه فقد تحجرت الكلمات بحلقه ولم يستطيع طلبها ...

لكن حتى بلحظ سقوطه لم تكترث "عتاب" ظنًا منها أنها مجرد تمثيلية يدعي بها الإعياء والمرض حتى تغفل عما فعله وتتراجع عن عما ستفعله ، وربما فعل ذلك لتسامحه على تسجيل كل أملاكهم بإسم "زين" إبن "عاطف" تهربًا من الضرائب ... أسرع "عاطف" بإسناد والده بقلق حين جثى فوق إحدى ركبتيه يسند رأس والده "محفوظ" فقد زاغت عيناه بقلق ...

- مالك يا حاج حاسس بإيه ...؟؟؟

رغم تحشرج الكلمات بحلقة إلا أنه أخرج كلماته المتقطعة بنبرة متألمة للغاية ....

- بموت .... بموت .... إلحقني يا "عاطف".... إلحقني ....

لوحت "عتاب" بكفها في الهواء بسخط وعدم إكتراث من تصرف والدها الصبياني لتترك الغرفة وهي تغمغم بصوت عالٍ ...

- بلاش بقى تعمل الحبتين دول عليا ... أنا فاهمه كويس إنت وهو ... بلاش التمثيل ده .. قوم قوم و بطل تمثيل ... أنا فهماك ... ما تفكرش إني ممكن أتنازل عن حقي أبدًا .. أنا حوديكوا في داهيه إنتوا الإتنين ...

خرجت من الغرفة وهي ما زالت تغمغم بصوتها العالِ بسخط شديد تريد أن تسقط إنتقامها من "عاطف" ووالدها لتجد "وعد" أمامها مازالت جالسه تطعم صغيرها ، حدجتها "عتاب" بنظرات لم تفهمها ثم أردفت بتقزز ... 

- كله بسببك ... كله بسببك إنتِ يا بنت "مسعود" ... كله منك ... بس أنا وإنتِ والزمن طويل ...

قضبت "وعد" ملامحها بدون فهم وهي تحرك رأسها بإستفسار ... 

- قصدك إيه ... بتقولي إيه ....؟!؟؟

مالت "عتاب" بجزعها تجاه "وعد" متوعدة إياها بأعين قاسيه ونبرة مخيفه أثارت الفزع بنفس "وعد" المرهفة ... 

- عارفه لو طلعتي إنتِ السبب هعمل فيكِ إيه ....؟!! أنا حاكلك بإسناني .... إنتوا الظاهر ما تعرفوش مين هي "عتاب" ....

رفعت "وعد" كتفيها وأهدلتهما بدون فهم قائله ...

- أنا مش فاهمة حاجة ...!!!!

رفعت "عتاب" جذعها للأعلى متشدقة برأسها متجهه نحو غرفة "محب" تخبره بما فعله والدهما ، فلابد أن ما حدث لن يرضيه بالمرة ، وبالتأكيد ليس لديه علم به فهو لا يهمه إلا مصلحته فقط وعليه مساعدتها في إرجاع حقهم الضائع ...

أسرع "عاطف" نحو الخارج يطلب من والدته اللحاق بوالده الذي سقط أرضًا ...

- إلحقي يا ماما أبويا واقع في الأرض ومش عارف يتنفس ...

تركت "قسمت" إبنة "عتاب" التي كانت تطعمها لتلحق بـ"عاطف" الذي ركض عائدًا بإتجاه غرفة الصالون للاطمئنان على زوجها فهي لم تنتبه لما يحدث ...

إستوقف "عاطف" "وعد" التى لحقتهم بدورها قائلًا ...

- رايحة فين ...؟!!

أشارت "وعد" نحو غرفة الصالون بتعجب ...

- رايحة أطمن على عمى ...!!!

أشر "عاطف" برأسه بإتجاه إبنه "زين" الذى شعر بالقلق عليه مما حدث ليتخذ الأسلوب الأمثل الذي لابد وأن "وعد" ستنصاع إليه لتنفيذ أوامره دون إيضاح ما حدث من "عتاب" ليصرخ بوجهها بإقتضاب وغضب شديد ... 

- حتاخدي إبنك وتطلعي على شقتك فوق ... ولا تنزلي هنا ولا تتحركي من مكانك ... حتى الأكل والشرب حيبقى عندك فوق ... لو سمعت حتى إنك عملتي غير كدة حتبقي طالق مني بالتلاته ... 

رغم غضبه و سخطه وإهانته وضربه لها إلا انه لم يلقي عليها ولو لمرة بيمين الطلاق ...

خشيت من أن يقع هذا الفعل الشنيع عليها وتحمل اللقب الذي طالما تخوفت منه أومأت "وعد" رأسها عدة مرات بتخوف تخوفًا من أن ينفذ تهديده لها بالطلاق ، لتحمل ولدها و قد إرتجفت من داخلها لتسرع نحو شقتها دون فهم ما يحدث ، بينما عاد "عاطف" لوالده الذي إحتقن وجهه بشده لتخبره والدتها والدته بأن عليه الإتصال بالإسعاف فوالده ليس بخير إطلاقًا ...

وكانت تلك المرة الأخيرة التي خطت بها "وعد" شقة والدى زوجها لتبقى منذ ذلك الحين منفصلة تماما بشقتها لا تتعامل مباشرة مع "قسمت" أو "عتاب" ....

رواية بقلم قوت القلوب رشا روميه

❈-❈-❈


رجفة وإهتزاز قوي تلاه سكون تام ، ترى من المصاب ؟؟! ومن مازال على قيد الحياة ؟؟ هل كان ذلك دوي إطلاق نار ؟!؟

لحظه صمت لم تدم طويلًا حين إستدارت "عهد" للخلف تجاه "كاتينا" بأعين مندهشة متسعة عن آخرها ، بينما حدق "معتصم" بقوة تجاه تلك الشقراء التي إستعادت وعيها لتحمل سلاحها الناري تضربه بالهواء لينتبها لها بعدما تناسيا وجودها تمامًا ..

تلك الطلقة النارية هي التي جعلتهم ينتبهون لتلك الضئيلة ، وما الذي ستخسره فهي الوحيدة التي تملك القوة الآن بحملها للسلاح ، فلما لا تستعرض قوتها به وتحكمها بالأمر و سيطرتها عليهم ، فلهذا شعور رائع بالنشوة يعتريها ، فهي لم تكن تدرك أن شعور السيطره مبهج للنفس بتلك الدرجة ..

استمتاعها وهي ترى وميض أعينهم المضيئة كقطع الألماس أثناء تطلعهم نحوها بنظراتهم الغامضة العجيبة ، لكنها بالنهاية المسيطرة على الوضع فهي التي تحمل القوة بيدها ...

نظرت نحو "معتصم" ساخرة منه ...

- لا أصدق أنك أبله لهذه الدرجة ...!!!

قالتها وهي تطالع "معتصم" الذي لم يتأثر بالمرة من حديثها ، لم يتفاجئ اوغ يعطي رد فعل ، فقط يطالعها بنفس نظرته الجامدة الغامضة التي كانت تراها بعيناه بالكوخ ، تلك النظرة والثبات الذي يتحلى به ...

لتستكمل تستطرد بتفاخر ...

- أعرفك بنفسي أنا "جيسيكا تشواريسكوف" ... عميلة إستخباراتية روسيه أيها الأبله المغفل ... لقد علمنا بتصميمك الفريد لهذا البرنامج الذي يمكنه تشغيل المفاعلات النووية الموقوفة .... وبسهولة للغاية ... وبسذاجة غير معقولة منك ... فأنت من يظهر كشخص غامض صعب المراس ... إستطعت أنا .. ها .. وبسهولة أيضًا الحصول عليه ... وأيضًا حصلت على مبلغ مالي باهظ للغاية من الطرف الذي رفضت أنت الإتفاق معه ... أي أنا رابحة بكلا الإتجاهات يا عزيزي ...

قالتها بغرور وقد علت ضحكتها التي محت تمامًا وجهها البريء ، ذلك القناع الذي كانت تستند خلفه ، أكملت برغم صمتهم التام تظهر تباهيها بما فعلته أيضًا ....

- و الأكثر من ذلك هي تلك المغفلة التي شاركتنا الكوخ لأيام ... لتسمح لي التحرك والتخطيط دون أن تشك بأي تصرف من تصرفاتي نحوك .... حتى حين حاولت قتلك تلك الليلة حين فصلت الأضواء جميعها ... تصدت لي "أهد" حين دفعت السكين من يدي ليسقط أرضًا قبل أن تضيئ المصابيح ... لهذا وجب علي إلصاق التهمة بها ... وأنها هي من كانت تحاول قتلك حتى تغفل عني و أُبعد الشك عني ...

نظر "معتصم" بإتجاه "عهد" بجانب عيناه فقط ليدرك الآن أنها كانت تحميه من غدر "كاتينا" وليس العكس ، فمنذ مجيئها وقد قامت بدور الحامية له دون أن يدري ...

لم يظهر تأثره بل عاد يقاتمتيه تجاه "كاتينا" ومازال متحليًا بالصمت دون حياد عنها ليتركها تستكمل حديثها حين إستطردت قائله ...

- كان لدي أمر بالتخلص منك بعد حصولنا على البرنامج ... فوضعت لك الحبوب المنومة بالقهوة ... لكن سكبتها تلك السخيفة بتصرفتها الهوجاء ... حينها أنت أخبرتني بقلقك منها ... وتخوفت من أن تقوم بقتلنا ... لهذا كان علي أن أصطحبك لأكثر الأماكن أمانًا ... إنه البيت الأمن للإستخبارات الروسية ... والذي لا يعلم أحد موقعه مطلقًا .... أنا من أشعلت النيران به ... و كدت أن أفوز ... لكن كالعادة كُتب لها عمر جديد ... وإستطعت الهرب من بين النيران المشتعلة .... حتى أنه لم يصبك خدش واحد ... إنني بالفعل متعجبة من ذلك ...

تطلعت "كاتينا" بسخرية تجاه "عهد" ثم عقدت وجهها بإشمئزاز ...

- يا لك من متطفلة .... !!! أفسدتي عملي .... لكن هذه المرة لن أخطئ أبدًا ... والآن ستنتهي حياتكما على يدي أنا ....

وجهت "كاتينا" المسدس تجاه "معتصم" أولًا لتتخلص منه ، و بثبات شديد رفعت إصبعها السبابة لتضغط على الزناد ...

لحظه دوي بها صوت مهول لإطلاق الرصاص مرة أخرى ، لكن المفاجئ لم يكن سقوط "معتصم" ، بل كانت "كاتينا" التي تلقت رصاصة بين حاجبيها بدقه تصويب قناص بارع ...

بعينين متفاجئتين وإنبهار لدقة هذا التصويب تطلعت "عهد" بإتجاه "معتصم" الذي كان يقف شامخًا تعلو عيناه نظرات حادة للغاية وهو يبسط ذراعه الأيمن بثبات منتهيًا بقبضة على مسدس بمهارة شديدة ...

ملامحة الجامدة الجادة ودقته بالتصويب البارع كان باهرًا لأعين "عهد" بصورة لم ترى مثلها من قبل ، حتى هي القوية التى لا تتأثر أعجبت لبراعته وثباته أيضًا ...

تنفست بقوة لعدة مرات قبل أن تدنو بخطواتها بإتجاه "معتصم" ، لكن لاح تساؤل أهم برأسها فقد تفاجئت بحيازته لهذا السلاح الناري ، وظنها أيضًا أن "كاتينا" كانت متفاجئة بالفعل قبل مقتلها من وجود مسدس معه ...

لتنطق "عهد" أخيرًا بتساؤلها الأهم من معرفة حقيقة "كاتينا" وسعيها لقتلهما والذى يزخم رأسها ...

- إنت إزاي ضربتها بالدقة دي ...؟!!!  إنت أصلًا جبت المسدس ده منين و إزاااااى ....؟!!!!!


( الفصل الخامس عشر )

لا شيء أوضح مما يحاول الإنسان إخفائه ، هناك صورة تخدع الأعين أحيانًا لكن الحقيقة تغلب بظهورها ، فحتى وإن حاولت الظهور بمظهر عادي فلا تنسى أنك ياقوت أسود ، حجر مميز لا يمكنه أن يتواري بسهولة ....

فالذهب يظل ذهب والياقوت يظل ياقوت ، والتراب يظل تراب ..

فمهما حاولت إخفاء حقيقتك إلا أن الأصل غالب ...

رواية بقلم قوت القلوب رشا روميه

ثبات قوي ، حدة وبراعة وقوة ، ذلك الشموخ الذي لابد أنه متأصلًا به ، لا يدعيه بالمرة ، وقف "معتصم" بوجهٍ صارم يتطلع نحو "كاتينا" التي أُرديت قتيلة بلمح البصر ، كما لو كان قناص بارع ، لم يهتز ذِراعه ولم يُخطئ هدفه ، زاغت عين "عهد" نحو "كاتينا" أولًا حينما سقطت بدون حراك ثم عادت بعينين مدهوشتين تجاه "معتصم" وقد إتسعت مقلتيها بإندهاش ...


تفاجئ وصدمة غير متوقعة سببت لها حالة من التشويش لكنها عادت لتركيزها لتسأله بشك ...

- إنت إزاي ضربتها بالدقة دي ...؟!! و إنت أصلًا جبت المسدس ده منين ... ؟!! 

هي تدرك جيدًا أنه لم يكن يحمل أي سلاح فمن أين أتى به ...؟! 

تحركت مقلتيه أخيرًا لينظر تجاهها بنظراته العميقة ، تلك النظرات التي أثارت تساؤلها منذ رؤيتها له ، ليزداد غموضه كلغز صعب الحل أجهد عقلها المتقد ...

أردف "معتصم" براحة وهو يزفر بهدوء كما لو أنه لم يسمع تساؤلها المندهش ...

- شكرًا على إنقاذِك ليا منها ..

بجمود حاولت "عهد" إظهار ثباتها رغم تشتتها بمشاعر مضطربة تجاه هذا الغامض ، أجابته بعملية ...

- لا ما تشكرنيش ... ده واجبي ...

إجابة غامضة للغاية لكن ملامحها كانت هادئة بشكل يسير القلق وهو يجيبها بهدوء أعصاب وبرود تام ليس كمن قَتل منذ لحظات ...

- لا مش واجب ... تعرفي إنك عامله زي البحر بعيدة أوي ... وعميقة قوي ... ممكن لو حد على الشط ما يعرفش أبدًا إيه إللي جواه ...

هزت "عهد" رأسها بعدم إدراك لمقصده لتجيبه متسائله ...

- قصدك إيه ...؟!!

إستدار بكامل جسده نحوها مجيبًا إياها بوضوح ...

- قصدي إن ورا قناع الدبش ده ... والسواد إللي إنتِ معيشة نفسِك فيه مخبيه حد ثاني جواكِ ... حد ضعيف أوي ... حد مش عايز تظهريه ... إنتِ مختلفة بشكل عجيب ..

رغم إصابته للحقيقة وهشاشتها التي تخفيها بداخلها إلا أنها تعاملت مع الأمر كمجاملة لا أكثر ...

- شكرًا برضه ... عارفة إنك بتجامل ... أنا عارفه نفسي كويس .. بس ده مش حيشتتني ولا أنسى اللي عايزاه ... وهو إني أعرف إنت ده جبت المسدس ده منين ...؟؟! وإزاي إنت بتضرب بالدقة دي ... زي ما تكون واخد على التعامل مع السلاح ...؟؟!

بطريقته الغير واضحة ، لم يحبذ إيضاح الأمر لها ليجيبها مشتتًا إياها ...

- سيبك من المسدس ... أنا عاوز أقول لِك أن أنا فعلًا منبهر بيكِ ... أنا طول عمري مفيش بنت لفتت إنتباهي بالشكل ده ... على فكرة إنتِ جميلة .. و بشكل يخوف كمان ...

إستطاع بسهولة تشتيتها وزلزلة كيانها لتقف كالطفله التي وقعت بحيرة ، خاصة وهو ينتظر منها إجابة ، كيف ؟؟ وهي لا تستطيع أن تجيبه ، إنها تختبر هذا الشعور لأول مرة ، لا تدرك بما عليها التفوه به الآن ...

ذلك الإضطراب الذي جعلها تتشتت بسهوله وتنكس عينها نحو "كاتينا" متهربة من عيناه المحدقتين بها تتمنى لو أن تنشق الأرض وتبتلعها من هذا اللقاء الذي لم تَحسبُ له حساب ...

لم تجد بُدا من إظهار روحها المشاكسة متهربة من كلماته المتغزلة ونظرات عيناه المسلطة نحوها لتشير نحو "كاتينا" ساخرة ...

- ولا بنت لفتت إنتباهك ....!!!! أمال دي إيه ... هدية ماما في عيد الأم ....؟!! 

بتهكم إضطر "معتصم" إجابة مشاكستها له ....

- لا دي حكاية تانية خالص ...

تطلع بهيام بعينيها الناعستين حين عادت بهما نحو خاصيته ، ليجد "معتصم" أن الطريق أصبح سهلًا ممهدًا ولن يتراجع عنه الآن ...

لن يترك فتاة مثلها بعد أن ظن أنه لن يجد من تَغلُب قلبه وعقله معًا ....

- أنا واحد شغلي أهم حاجة في حياتي ... إنت لخبطتيني أوي من ساعة ما جيتي ... شغلتي تفكيري بإني إزاي أشاكس فيكِ ... إزاي خليتي طول الوقت إهتمامي الأول يكون بيكِ إنتِ ... مش بالشغل إللي واخد حياتي كلها طول وعرض ..

زاغت عيناه نحوها وهو يخرجها صريحة ... 

- فيكِ حاجة خدت قلبي ...

تنفسها المضطرب وعيناها المتشدقتان نحوه بغير إدراك هل ما تفوه به حقيقة بعالمها الواقعي وأنه ليس محض خيال عابر برأسها ...

نعم بالتأكيد هو كذلك هي لا تعيش لحظات كتلك بالحقيقة حياتها المليئة بالقسوة والعراقيل لا يمكن أن تحظى بهذه اللحظة مطلقًا وبتلك السهولة ...

إحساس جديد ومشاعر مضطربة تتطلب اسلوب رقيق حالمي لا تعتاد عليه ، لا تستطيع أن تكون تلك المرهفة اللينة ....

لكنها تفكرت .. ألا يمكنها أن تُحب وأن تعبر عن حبها ؟!! ولم لا يطاوعها لسانها و شفتيها بالتفوه بما تستطيع به إجابة تصريحه ...

إنه لأمر قاس للغاية ، ليس بتلك السهولة تصبح "عهد" أخرى حالمة رومانسية ...

إنها خشنة الطباع متحجرة القلب كيف تقول أحبك بهذه السلاسة !!! خاصة وهي التي ترفض تمامًا الإنسياق خلف المشاعر والقلوب ، فمن ينساق خلف قلبه هو الضعيف فقط وهي ليست بهذا الضعف لتنساق خلف قلبها وتخسر نفسها ...

لحظات من الصمت بينهم تصارعت بداخلها تلك الأفكار ، لكن إستطاع "معتصم" بفطنته وذكائه المتقد فهمها فهي ليست كبقية الفتيات يمكنها أن تجيبه بيسر عن مشاعرها نحوه بل بالتأكيد لها طرق أخرى للتعبير ...

لكنه كان سعيد بما صرحه لها ، ووجد أن تلك فرصة لن تعوض ، لكن عليه أن يخبرها عن نفسه التي لا تعرفها أولًا ...

- الكوخ من هنا يا "عهد" يلا بينا ... أنا كمان كنت عايز أقولك حاجه مهمة أوي بس لما نوصل ....

أومأت عده مرات دون رد لترافقه "عهد" بطريق قريب للغاية حتى وصلا للكوخ ...

جلس "معتصم" بالسلم الخشبي خارجه لترافقه "عهد" كذلك ، حتى أن السماء أخذت تصفو بشكل رائع فيبدو أنها أيضًا تتحضر كنفوسهم لحديثهم القادم ...


❈-❈-❈


المستشفى ...

(الخير للخير) ... هكذا قالت "شجن" لنفسها وهي تنتظر الإطمئنان على حال هذا الرجل الذى علمت بإسمه أخيرًا "أيوب"، هذا الوحيد الخائف بعدما تم نقله للمستشفى ...

هي تدرك كم أن الوحدة صعبة للغاية خاصة للمرضى ، فالمرء يحتاج للشعور بالإطمئنان لمن حوله بوقت ضعفه وحاجته ، لهذا بقيت فقط لتُشعره ببعض الإهتمام ، إنتظرت كثيرًا فربما يظهر أحد أبنائه أو أقاربه ...

لكن ذلك لم يحدث ولم يحضر أحد لتتيقن أنه لهذا السبب تمسك رجل بوجودها ومرافقتها له ..


في وقت لاحق ...

دلفت "شجن" لغرفة "أيوب" بعدما خرج من غرفة العمليات وتجبير ساقيه المكسورتان لم يهمه سوى أن هناك من يسانده لكن ما أصابه فلا إعتراض عليه فهذا قدره وهو مؤمن بالقضاء والقدر ...

تقدمت "شجن" بوجهها البشوش تزيح إحدى خصلات شعرها القصير خلف أذنيها تسأله عن حاله بود حقيقي ...

- حضرتك عامل إيه دلوقتِ ....؟؟!.

رفع "أيوب" عيناه تجاه تلك التي دلفت من الباب للتو لتعلوها بسمة سعيدة فهو لم يتوقع أن تفي بوعدها ، فهو لم يعتاد الوفاء بالوعود ... 

وها هي بقيت لتطمئن عليه ، هتف بسعادة ممزوجة بحزن لوحدته التي أجبرته على تسول العطف والمساندة من الغرباء ...

- إنتِ لسه هنا ...؟؟!!! أنا كنت فاكر إنك مشيتي ...!!!

جلست "شجن" بالقرب منه بمودة إبنة بارة ...

- إزاي بس ....؟!! هو مش أنا وعدت حضرتك إني حبقى هنا ....

أردف "أيوب" بإمتنان ...

- كتر خيرك يا بنتي ... والله ما عارف أقولك إيه ... أنا لو بنتي مش حتعمل معايا زي ما إنتِ عملتي معايا ...

هزت شجن رأسها بتساؤل ...

- صحيح ليه ما فيش حد جه لحضرتك ...؟؟!

إبتسم الرجل ببساطة حتى حلت ملامح الطيبة والإستكانة على عيناه ثم أردف بهدوء رخيم ...

- ما بلاش كلمه حضرتك دي أنا عمك "أيوب" ...

إبتسمت "شجن" بصفاء وهي تعيد سؤالها بعد وضع إسمه ليشعر بالقرب والمحبة أكثر بحديثها ...

- هو ليه ما حدش جالك لحد دلوقتِ يا عم "أيوب"...؟!!

- تنهد "أيوب" بحنق ثم أردف بتحسر على حاله ووحدته ...

- أنا وحداني يا بنتي ما ليش حد .... عايش لوحدي .... يلا قسمتي بقى ...

أعادت "شجن" رأسها للخلف وزادت إبتسامتها إتساعًا لتظهر وجنتيها الممتلئتان مضفية على ملامحها عذوبة ولين قلب تخصها بالفعل ...

- لأ خلاص بقى .... عايش لوحدك إيه ... من النهاردة إنت مش وحيد خالص ... بنتك "شجن" حتسأل عليك وتاخد بالها منك ....

لاحت بسمة إمتنان على وجه هذا الرجل الهزيل فكم مازال خير الدنيا يطفو فوق بحور الشر الذي يموج بها ليجيبها بتقبل سعيد رغم ألم ساقه التى إشتدت عليه ...

- ااه ... ده أنا يشرفني أن يبقى لي بنت زيك ... كفايه قلبك الأبيض ده ...

ثم إبتهل بالدعاء لها بمحبة غُرست بقلبه تجاه تلك الفتاة ...

- ربنا يراضيكِ ويسعد قلبك الأبيض ده ... ويفرحك زي ما فرحتيني بوجودك يا بنتي ...

- أمين ... إنت حاسس بإيه دلوقتِ يا عم "أيوب"...؟!!

أجابها الرجل ببعض التوعك متحملًا إحساسه بالألم ...

- والله تعبان يا بنتي بس التعب كله بيروح لو بصيت في وشك الحلو ده ...

كم كان مشتاق لمشاعر الأبوه كما كانت هي أيضًا بحاجة لتلك المشاعر التي حُرمت منها منذ سنوات قاسية ...

تلك المشاعر الحانية التي تُربت على قلبها المفعم بأثقال ضيقه ...

- شكرًا يا عم "أيوب" ...

رغم إعيائه إلا أنها أجابها بتساؤل هي تدرك إجابته ....

- مين فينا إللي يشكر التاني يا بنتي ...؟؟! أردفت بشقاوة تلوح بعينيها البنيتان بقوة ...

- خد بالك بقى يا عم "أيوب" ... أنا إتأخرت أوي ... أنا حروح دلوقتِ وحاجي لك بكره ... إستناني إوعى تمشي ....

أومأ "أيوب" برأسه بصورة مستسلمة للغاية بينما حلت فوق ثغره بسمة راضية قائلًا ...

- حستناكِ ...

أرادت أن تبث له الطمأنينة والثقة بعودتها ، وأنها حينما تَعِد تفي بوعودها ، أخرجت ورقة من حقيبتها القماشية الرخيصة وقلم لتدون رقم هاتفها قائله ....

خد رقمي أهو يا عم "أيوب" لو إحتجت أي حاجة كلمني على طول ... ماشي ...

أغمض عيناه لوهله ممتنًا لصنيعها معه ثم تناول الورقة من يدها مطبقًا عليها بقوة كغريق تعلق بقشة لتنقذه من الغرق وتعيد لها الحياة ...

غادرت "شجن" بعد ذلك على الفور فلقد تأخرت كثيرًا عن موعد عودتها حتى لا تثير قلق والدتها وأختها عليها فهم لا يعرفون بعد سبب بقائها بالمستشفى مع هذا الغريب ...

رواية بقلم قوت القلوب رشا روميه

❈-❈-❈


بيت محفوظ الأسمر ...

نعم يغريك الشيطان فهذا مقصده ، لكنه لا يقوى أن يجبرك على التصرف ...

فما من سوء نفعله إلا بأنفسنا الضعيفة لم نجبر على القيام بها فما للشيطان علينا بسلطان إنما نميل مع الهوى ...

عادت "وعد" بذكراها لتلك الليلة حينما أقلت سيارة الإسعاف "محفوظ" والد زوجها إلى المستشفى ، وأصر "عاطف" ألا تغادر شقتها بينما رافقت أمه "قسمت" وأخته "عتاب" وأخيه "محب" ... 

فور أن دلف الجميع إلى داخل المستشفى أخذ "عاطف" يهتف بإضطراب ...

- بسرعة ... بسرعة بالله عليكم ... أبويا حيروح مني ...

لحقه "محب" بأعين قلقة على غير العادة مرافقًا لوالدته التي إنهالت الدموع من عينيها تأثرًا بما أصاب زوجها لتبقى "عتاب" الوحيدة ذات الجمود وقلة التأثر ...

أخذ "محب" يهدئ من روع والدته قائلًا بنبرته الهادئة ...

- إهدي يا ماما ... بإذن الله حيقوم بالسلامة ويبقى كويس أوي ... بابا قوي مش حيقع بسهولة ...

رفعت "قسمت" وجهها تجاه ولدها تتمنى لو أن ما ينطق به حقيقة لتردف بنشيج وسط دموعها الغزيرة ...

- يا رب يا "محب" .... أنا عمري ما شفت أبوك تعبان كده ...!!!!

كما لو أنها مجرد مسرحية هزلية ، وقفت "عتاب" كمتفرجة لها من بعيد وقد تملك الغيظ منها ، حتى أنها لم تشفق للحظة على والدها الذي يرقد بين الحياة والموت ... 

تم نقل محفوظ لغرفة العناية المركزة على الفور بعد أن قام الطبيب المناوب بالفحص المبدئي ...

خارج غرفة العناية كان الإنتظار مقلق للغاية خاصة عندما خرج الطبيب ليوضح لهم تشخيص حالة "محفوظ" .... 

- إنتم أهل المريض ...؟!!

أجابه "عاطف" بتلهف على الفور ...

- أيوه يا دكتور ... أنا إبنه ....

ذم الطبيب بشفتيه ببعض التأثر ولو أن تلك حالة معتادة يراها بصورة متكررة قبل أن ينطق متحدثًا ووجب عليه إيضاح حالته بصورة عملية للغاية ...

- والدكم للأسف إتعرض لذبحة صدرية شديدة ولازم يقعد في العناية لأن حالته خطيرة جدًا .... مش أقل من 48 ساعة لحد ما تستقر الحالة ...

لحظات من الذهول إعترت وجوههم جميعًا فلم يتوقعوا أن تصل حالته لهذا السوء ، رفع "عاطف" عينيه بنظرات إتهام نحو "عتاب" يلومها بشده على ما أصابه فهي بالتأكيد السبب بما حل به ....

لكن مع نظراته الملُومة إستطرد متسائلًا بتخوف ...

- يعني في أمل إنه يتحسن يا دكتور ...؟!!

أجابه الطبيب بعملية للغاية ...

- كل شيء بإيد ربنا ... إدعوا له وباذن الله ربنا يشفيه على خير .... لكن دلوقتِ الحالة حرجة جدًا ولازم يقعد في العناية بدون أي زعل أو إنفعال ...

تركهم الطبيب ليدنو "عاطف" من "عتاب" التي تعاملت مع الأمر أنه لا يتعدى كونه القضاء والقدر وأن هذا قدره وليس لها دخل بالأمر ....

كز "عاطف" أسنانه بسخط وهو يهمس معنفًا "عتاب" دون أن ينتبه لهما والدته أو أخيه "محب" .... 

- شايفه عمايلك عملت إيه في بابا ... إنتِ السبب ...

رفعت "عتاب" حاجبيها بإستنكار وهي تردف تردف بلا إكتراث أو إهتمام "عاطف" لها ...

- ده عمره وده نصيبه ... أنا ما ليش دخل ... وبعدين ما تلبسنيش مصيبة إنت السبب فيها ... وبطل طريقتك دي عشان أنا فاهماك كويس ... أول ما بتتزنق ترمي بأي تهمة على أي حد ... أنا مش "وعد" علشان تعمل فيا إللي بتعمله فيها ... أنا ما بسكتش زيها ...!! 

حدجها "عاطف" بنظرات متقده تكاد أن تشتعل توهجًا من شدة غضبه ... 

- إنتِ إيه ...!!!! ما عندكيش إحساس .... مش ندمانه حتى على إللي عملتيه مع أبوكِ .. عمومًا مش وقته بس يقوم بالسلامة ولينا حساب مع بعض يا "عتاب" ... 

بالزاوية المقابلة وقفت "قسمت" مع "محب" تشعر بالقلق لحالة زوجها الغير مستقرة ، بينما أخذ "محب" يطمئنها قدر الإمكان رغم عدم إلمامه بتلك الحالة الصحية الطارئة التي يمر بها والده ....

- ما تقلقيش يا ماما أكيد أزمه وحتعدي ... بابا عُمره ولا إشتكى من قلب ... ولا إشتكى من أي تعب ... أكيد حاجة بسيطة يعني ...

- أمال بس مقعدينه في العناية ليه ...؟!! ما هو لو كويس كانوا حتى قعدوه في أوضه عادية ... لكن قلبي بيقول لي إن هو مش كويس أبدًا يا "محب" ... 

راقب "محب" بعيناه حالة الجدال بين "عتاب" و"عاطف" يود لو يستشف بما يتحدثون فأصواتهم كانت هامسة للغاية لا يستطيع تمييزها بسهولة ، إنتبهت "قسمت" لوجوه كلا من "عاطف" و"عتاب" المتجهمه لتردف متسائله ...

- أخوك و أختك مالهم يا "محب" ....؟!!!

تصنع "محب" عدم معرفته بالأمر ليجيبها محاولًا تشتيتها ...

- ولا حاجة يا ماما ... شكلهم متضايقين بس عشان بابا ...


إنتهى اليوم بعودتهم جميعًا إلى بيت العائلة بينما ظل "محفوظ" نزيل المستشفى لا يعي بما حوله محاط بالأجهزة التي تساعده على تخطي تلك الأزمة ...


لا شئ أسوء من الفُجر في الخصومة ، فهناك تصرفات تزيدك قناعة بأن البُعد أجمل ، فالنزاهة بالخصومة شرف ..

لم تنتهى الليلة لتلك العائلة بعد فما تتذكره وعد جيدًا هو تلك المشادة بين "عاطف" و"عتاب" بتلك الليلة بعد عودتهم من المستشفى ، هي لم تستطع سماع تفاصيل مهاوشتهم وصراخهم من شقتها بالأعلى لكن الوضع كان محتدًا للغاية ...

حينها إتهم "عاطف" "عتاب" بأنها السبب بما حدث لأبيه ....

- إنتِ السبب إللي عمل فيه كده ... إنتِ إللي عايزه تموتيه ....!!!

شهقت "عتاب" بتهكم لتعيد الإتهام له فهو المستفيد الوحيد من موت أبيهم ...

- لا والله وليه ما تكونش إنت إللي عايزه يموت ... إنت إللي أخدت كل حاجة ... يا طماع يا خبيث ... أنا سبتكم ومشيت ... مش يمكن إنت سممته ... ولا إديتله حاجة راح واقع فيها ....؟!!!!!

إتسعت عينا "عاطف" بذهول من حديث أخته التي لا تلقي عليه التهم فحسب بل تدينه بجريمة بشعة بسعيه لقتل والده ليهتف بها بلا تصديق ....

- إنتِ بتقولي إيه ....؟!!! إنتِ مجنونة .... إنتِ واعية للكلام ... أنا ... أنا أقتل أبويا ..... أنا مش جاحد للدرجة دي .... !!!!!!!!

ضحكت "عتاب" بسخرية لتبث الشك بقلب "محب" ووالدتها تجاه "عاطف" .....

- لا إنت جاحد وتعمل أكتر من كده ... إنت إللي ضحكت على أبوك وخليته يكتب كل حاجة بإسم إبنك المفعوص .... يا خبيث يا طماع ....

صدمت "قسمت" بما سمعته للتو لتهتف بتساؤل وحيرة ....

- إيه .....!!!!!! مين إللي كتب إيه ....؟؟! إزاي ده حصل ...؟!! يعني إيه يكتب كل حاجه بإسم "زين" ...!!! الكلام ده حصل يا "عاطف" ...؟!!!

قالتها "قسمت" بنبرة تحمل الإتهام لولدها ، تلك الطريقة التي جعلت "عاطف" يشعر بمزيد من الإنفعال والغضب ، فهو المتفرد المدلل والذي لا يُتهم مطلقًا ، لكن "عتاب" جعلته بموضع يجب عليه الدفاع عن نفسه ليصيبه ذلك بهياج شديد وهو يشير نحو "عتاب" بإنتفاضه كما لو أنه يقف على جمر ملتهب ....

- إنتِ هتصدقيها ....؟!!! دي كذابه ... دي هي إللي قالت له أنا ححجر عليك ... طب وقع فيها ....

رفعت "عتاب" كتفيها بخبث وهي تنكر ذلك تمامًا لتردف بدهاء كاد "عاطف" نفسه أن يصدقها لإصطناعها البراءة والصدق ....

- أنا عمري ما أعمل كده .... مش أنا إللي بلعب من تحت لتحت .... أنا طول عمري واضحه حتى لما بتعصب بتعصب وبقول إللي في قلبي و إللي جوايا على طول .... عشان أنا قلبي أبيض .... عمري ما شلت من حد وده إللي مخلي بختي وحش في الدنيا .... مش ناقص كمان غير أهلي وأخواتي يجوا عليا ويلبسوني تهمه ....!!!!!

أنهت حديثها بشهقات ودموع ذُهل لها "عاطف" فكم أدرك أنها ماكرة كاذبة خبيثة ، حرك رأسه بعدم تصديق وهو يرفع كفيه بصدمة قائلًا ....

- يا نهار أسود ... ده أنا صدقتِك ... !!! إنتِ إيه يا شيخه ... صحيح يقتل القتيل ويمشي في جنازته ...!!!

ألقت "عتاب" نفسها بأحضان والدتها تشتكي من أخيها قاس القلب حتى تُبعد الشك عنها و لا احد يصدق "عاطف" ....

- سامعه يا ماما .... سامعه إبنك بيقول إيه ...؟!!!

ربتت "قسمت" فوق كتف "عتاب" بحيرة فأيهما تصدق ....!! هي تعلم أن "عتاب" ليست بالسوء الذي يخبرها به "عاطف" ، فلن تؤذي والدها مهما حدث لتنهي هذا الجدال والشجار بنبرة منفعلة مهتزة .... 

- إسكتوا بقى مش وقته ... أبوكم في المستشفى ... ما ينفعش كده ... إطلع شقتك يا "عاطف" .... إطلع دلوقتِ ....

قلبت "عتاب" شفتيها لتزيد من الطين بِلة قائله ...

- أيوه ... إطلع للهانم إللي ورا كل المصايب دي ... إطلع للي كانت السبب في تعب أبوك ... أكيد ... أكيد هي إللي ميلت دماغك عشان تاكل حقنا ... ما إنت عمرك ما تعمل كده من دماغك ... ده يمكن هي اللغي إدتك السم عشان تموت أبويا ... أنتوا عايزين تخلصوا منه ....

زادت "قسمت" انفعالًا بعد حديث "عتاب" لتهتف بحدة ...

-روح يا "عاطف" .... ويكون في علمك مراتك دي ولا عايزة أشوف وشها .... ولا عايزة أسمع حسها خالص .... فاهم ... لحد ما أبوك يرجع بالسلامة ....

رغم أن كل تلك الأحداث والأقاويل كانت أمام مرآى "محب" إلا أنه تعامل مع الأمر كمشاهد فقط لم يتدخل ولم ينفعل بل ظل متابع للأمر دون إبداء أي تعليق بالسلب أو بالإيجاب ....ليتراجع نحو غرفته ببرود تام فهذا ليس وقت العتاب والشجار ولكل مقام مقال ....

رواية بقلم قوت القلوب رشا روميه

❈-❈-❈


شركه عسرانكو للإستيراد والتصدير ...

بمكتب فخم يليق بمكانة المستشار "خالد دويدار" جلس يدون بعض النقاط بأحد الملزمات الخاصة بالملاحظات فقد بدأ عمله الجديد كمستشار قانوني لتلك الشركة للتو وعليه متابعة العقود المبرمة بين الشركة ومثيلاتها للتأكد من صحة البنود من الناحية الفنية والقانونية ...

عملًا جديدًا دخل حيز إهتمامه ليخرجه من حالة الملل التي كان يشعر بها بعد تقاعده ، لكن يومه لم يكن بالحافل ليتغاضى عن تلك المكالمة الهامة والإطمئنان على أحوال رفيقة عمره "منار" ....

- إيه زهقانه لوحدك ...؟؟!!

أجابته "منار" بتقبل تام لقرارها الذي إتخذته ...

- لا أبدًا .... ده أنا حتى من بعد ما جيت من المستشفى قعدت مع "غدير" شوية قبل ما تنزل ... ما تقلقش يا "خالد" أصلًا الراحة مطلوبة ...

بتفهم لهذا القرار الذي لم يكن ديكتاتوريًا بالمرة ، بل كان بالتفاهم والتواصل بينهم ليجيبها بنفس هادئة ...

- أنا كنت قلقان أحسن تزعلي إننا أجرنا العيادة ... 

- لا خالص ... (أجابته "منار" بدون أدنى تردد لتستكمل موضحة )...

- أنا كده مرتاحة جدًا .... كفاية عليا شغل المستشفى ... وهو برضه الدكتور "أمين" مشغل العيادة بشكل كويس ....

أومأ "خالد" بتفهم كما لو كانت تراه بأعينها مؤكدًا حديثها ...

- فعلًا ... أنا شايف إن كده كان أحسن حل ليكي وللعيادة ...

- عندك حق ...

تساءل "خالد" بفضوله المعتاد للإلمام بأحوال عائلته ومعرفة ظروفهم المحيطة ...

- مشغولة في إيه دلوقتِ ...؟!!

جلست "منار" وهي تتابع "أم مجدي" التي تساعدها بالمطبخ مستكملة حديثها معه ...

- أبدًا بنجهز العشا لحد ما ترجعوا .... تعرف يا "خالد" البيت كئيب أوي من غير "غدير" ....

تساءل "خالد" عن غياب "غدير" اليوم على غير العادة ...

-هي فين أمال مش عوايدها تسيبنا كده ....؟؟!؟

بمزيج من الإشفاق والمحبه أجابته "منار" ...

- تقريبا راحت عند "موده" .... بقى لها كم يوم ما راحتش هناك علشان كانت تعبانه 

.. البنت دي بتصعب عليا أوي يا "خالد" ...

ضم "خالد" شفتيه وهو يحرك رأسه بخفة إيجابًا ...

- فعلًا يا "منار" البنت دي دايمًا وحيدة ... بس مش بإيدينا نعمل حاجة ... 

نظر "خالد" لساعة يده متابع عقاربها حين أردف بإنهاء المكالمة ....

- عمومًا أنا حتصل بـ"عيسى" أشوف أخباره إيه علشان نرجع سوا ....

- كويس خالص حتى نكون أنا و"أم مجدي" خلصنا العشا ونتجمع كلنا زي كل يوم ...

أنهى "خالد" مكالمته مع "منار" ليدون بعض النقاط بملزمته قبل أن يتصل بـ"عيسى" للا؟تفاق معهم على المرور به و إصطحابه بطريق عودته ...

❈-❈-❈


مكتب عيسى للمحاماة ....

إنشغال شديد مع أحد الموكلين الجدد الذي حضر لمكتبه للتو كان "عيسى" بمنتهى الجدية والمهنية يطرح أسئلته لفهم محتوى القضيه التي بصدد أن يوكلونه بها ....

- الأستاذ "رمزي" كانت متورط معاهم فعلًا .. ؟!! 

سألهم "عيسى" وهو يحاول أن يستشف مدى صدقهم بالأمر ليجيبه العميل بنفي قاطع ...

- لا يا متر ..... أخويا ولا ليه في الطور ولا في الطحين .... أخويا غلبان و إتاخد في الرجلين والله ... ده كان كبش فداء ....

لم يكن "عيسى" من الشخصيات سريعي تكوين رأي عن الشخص الذى يقابله من مجرد كلمات ، فهو بطبعه متوجس يرتاب بالأمور قبل أن يتيقن منها تمام اليقين فهو لا يأمن بسهولة ...

- عمومًا حنشوف يا أستاذ "عطيه" لأن أنا مش بترافع عن حد إلا لو واقع عليه ظلم وبس ... أنا مش بدافع عن الخارجين القانون ... ولا عن المجرمين ... أنا راجل صاحب مبدأ ...

أجابه "عطيه" بما يطمئن قلبه مؤكدًا صدق حديثه عن أخيه ...

- والله يا متر أخويا مظلوم وما تقلقش إحنا ناس نضاف ما لناش في السكك دي ... وحتتأكد بنفسك ...

بعد عدة أسئله متتالية أخذ "عيسى" يحاور "عطيه" عن هذا الإتهام الذي وقع على أخيه "رمزي" وملابسات القضيه لتكوين رأي قاطع بها ...

أخذ "عيسى" يتطلع إلى ملف القضية متفحصًا جميع بنودها حتى يمتلئ قلبه باليقين أولًا ثم أردف ببعض الراحة ...

- عمومًا يا أستاذ "عطيه" أنا مبدئيًا قبلت القضيه دي .. لكن لو ظهر أي دليل على عكس كده .... أنا آسف جدًا مش حقدر أكمل .. وبرده أنا لسه حدرسها أكثر من كده عشان أشوف نقط القوة والضعف فيها ...

ردد الرجل بيقين تام ...

- احنا واثقين فيك يا متر ... وباذن الله حتكون براءة أخويا على إيديك ...

نهض "عيسى" مودعًا إياهم معلنه نهاية جلسة المناقشه بينهم ...

- بإذن الله خير ... مع السلامة يا أستاذ "عطيه" ...

غادر "عطيه" المكتب بعد أن إنتهى من مناقشة قضية أخيه مع هذا المحامي ذائع الصيط متأملًا أن يكون وتدًا قويًا بترسيخ حُجتهم ببراءة أخيه من تلك التهمة ...


بطبعها الماكر جلست "سندس" تستمع للحوار القائم بين "عيسى" وهذا الموكل الجديد بكل إهتمام والتي إنتظرت حتى مغادرة "عطيه" المكتب ثم دلفت مباشرة لمكتب "عيسى" قائله بحماس ... 

- برافو عليك يا أستاذ "عيسى" ... القضية دي لو إنت كسبتها ممكن ترفع من المكتب بصورة فظيعة ... إنت عارف كمان دي ممكن تكون قضيه رأي عام ...

رمقها "عيسى" بنظرات غاضبة ، فرغم مهارتها وذكائها الحاد إلا أن عيوبها أصبحت تضيق الخناق حول رقبته بوجودها لينهرها بصرامة ...

- أنا مش مِنبه عليكِ ... آخر مرة تتصنتي عليا وأنا في المكتب ...!!! أنا لو كنت عاوز أبلغك بتفاصيل القضية دي ... كنت جبتك عندي هنا ... وخليتك تحضري النقاش ... لكن أظن أنا ما طلبتكيش ...!!!!!

بهتت "سندس" وهي توبخ من "عيسى" على إستراقها السمع بتلجلج قائله بحرج شديد ..

- أسفه يا أستاذ "عيسى" بس أصل صوتكم كان عالي جدًا ... مش أنا اللي سمعته ... هو صوتكم كان واصل لبره ... 

إستطرد "عيسى" بإشمئزاز ....

- إتفضلي إطلعي بره ... وبعد كده صوتي مش هيبقى عالي عشان يطلع لك .... أظن الفكرة واضحة ... خليكِ في شغلك بس لو سمحتي ما تدخليش في اللي ما لكيش فيه ... 

خرجت "سندس" وهي تقضم شفتيها بقوة فهي تتمنى ولو لمرة أن تُظهر وجودها ومساندتها له فربما يشعر بعشقها المتيم الذي فاض به الكيل بداخل قلبها ...

صدح رنين هاتف "عيسى" برقم والده لينهض من خلف مكتبه أولًا مغلقًا الباب بقوة حتى يمنع "سندس" تمامًا من إستراق السمع إليه ....

- سيادة المستشار ... ده إيه النور ده كله ...

بإمتنان لتوقير ولده له إبتسم "خالد" بخفة بينما أردف ...

- إيه يا متر مطول لسه في المكتب ولا إيه...؟!!!

نظر "عيسى" إلى ساعته ثم أجاب والده ...

- لا مش كتير نص ساعة وأكون خلصت إللي ورايا ...

- طيب كويس ... خلاص خلص مكتبك وعدي عليا في الشركه نروح سوا ...

هام "عيسى" بأفكاره بشرود فقد تغيبت عن يومه تلك مسببة الحياة والتي تمده بطاقتها وأنفاسها التي تعطيه القوة على الإستكمال ، فمنذ متى وهي تغيب عن فكره فهي أمام عيناه سواء بوجودها أو بغيابها ليقحم سيرتها على الفور بحديثهم مع والده ...

- طيب يا بابا أنا حكلم "غدير" علشان ممكن أخدها من عند "موده" هي كمان ونروح كلنا سوا ...

بإيمائة خفيفة أجابه "خالد" بترحاب شديد ...

- أكيد طبعًا ... ده هي إللي بتدي الروح للبيت ... ما ينفعش نروح البيت وما نلاقيهاش ...

إبتسم "عيسى" بخفة فقد أصاب والده عين الحقيقة ...

- فعلًا يا بابا ... إنت بتقول فيها ... عمومًا أنا حكلم "غدير" على طول علشان نروح سوا ونقضي السهره كلنا عندكم ...

- تمام خلص شغلك وكلمني أنا مستنيك ...

رؤيتها هي الحافز الذي ينهي به يوم يتلقى مكافأته بوجودها بحياته أسرع منهيًا تلك النقاط التي يريد تحضيرها قبل الإستعداد لمغادرة المكتب لكن عليه الإتصال بـ"غدير" أولًا ...

رواية بقلم قوت القلوب رشا روميه

❈-❈-❈


شقه موده ... 

جلست "غدير" على غير عادتها تمط شفتيها بإستياء وهي تطالع أختها الصامته التي ضاقت ملامحها اللطيفة بإقتضاب وضيق بصورة مبالغ فيها حتى هي لم تكن بعادتها كأختها تمامًا ...

بعد فترة من التحديق هتفت "غدير" بأختها بإستياء ...

- بس لو تقولي لي من ساعة ما جيت وإنتِ ضاربه لي البوز كده ليه ... ؟؟! مش إنتِ إللي أصريتي تسيبي الشغل ...؟؟!!

مطت "موده" شفتيها الرقيقتان بضيق لتتنهد قليلًا قبل أن تجيبها إجابه غير مقنعة لكي تخفي الحقيقه خلفها ..

- عندي إمتحانات ومش عارفه أوفق بين الشغل والإمتحانات والمذاكرة ...

مالت "غدير" برأسها للأمام محدقة بعينيها الواسعتين وهي لا تصدقها بالمرة ...

- كداااااابه .... قري وإعترفي أحسن أدعي عليكِ في ليلة القدر ...

رغم أنها تهددها إلا أن "موده" تبسمت بخفة لطرافة أختها خفيفة الظل ، لكن الأمر مازال ثقيلًا على قلبها الضعيف فماذا ستخبرها ، أتخبرها بأنها تركت العمل حتى لا ينظر لها "رؤوف" نظرة دونية كما قالت "نيره" التي قللت من شأنها أمامه ؟؟ ، أتخبرها أنها تعشق أخو زوجها المرتبط ..؟؟! 

كيف ستجرؤ على قول ذلك لتكتفي بسببها الواهي بالوقت الحالي ...

- لا عشان الإمتحانات ... وكمان الشغل ما بقاش مساعدني وفلوسه قليلة ...

ما يظهر من "غدير" انها غير عابئة ، غير مسؤولة ،كما أن ظروف حياتها قبل زواجها من "عيسى" لم تهيئ لها سوى تعليم بسيط ، لكنها مع ذلك كانت تتمتع بسرعة بديهة وذكاء فطري ، و بذكائها تفهمت "غدير" أن هذا الأمر لم يخرج عن تقليل "نيره" من عملها يوم العزيمة ، لتمط شفتيها وهي تومئ برأسها إعجابًا بذكائها لربط الأمرين بعضهما ببعض ...

- ااااه ... فهمت ... ماشي يا "دوده" هعديها بمزاجي قومي بقى شوفي الكيك إللي في الفرن عشان أخذ حته قبل ما أروح أنا مش ماشيه إلا لما أكل حته ... 

نهضت "موده" من جلستها لتتجه نحو المطبخ بينما دق هاتف "غدير" برقم مدون بتوأم روحي ، إن السعادة هي صوتك ثم حديثك ثم أنت ، يا ليتني نجم وفي فلكك أدور ، إتسعت بسمة "غدير" المميزة وهي تجيبه بشوق ...

- هلا وغلا بالحبايب ... كنت متأكده إنك حتكلمني ...

- يا سلام و إتاكدتي منين بقى ...؟؟!!

تلاعبت عيناها بشقاوة وهي تهز رأسها حتى تحرك خصلات شعرها العشوائي بإبتهاج أضفى بريق على ملامحها اللطيفة ...

- هم مش بيقولوا قلب المؤمن دليله ... وأنا مؤمنة ... مش محتاجة فصاحة يعني يا حلو الحلوين كلهم ...

ضحك "عيسى" فهو لا يدري هل هذا مدح أم ذم ...

- والله ما فاهملك ... ده غزل ولا شتيمه ولا إيه .. ؟!!

شهقت بشقاوة وهي تجيبه ببلاهه ...

- كده برده يا روح الروح ..

زادت ضحكاته التي أطلقت الغيرة بنفس "سندس" التي ما زالت تسترق السمع خارج باب المكتب لتطقطق أصابعها وهي تكظم غيظها من ضحكاته التي لا تستمع إليها إلا حين يأتي طيف "غدير" فقط ...

- يا ست (زينات صدقي) أنا قدامي نص ساعة حعدي عليكِ بالمرة نروّح سوا ...

تعلقت عين "غدير" بـ"موده" التي دلفت للتو إلى داخل المطبخ وما زالت رائحة كعك البرتقال الشهية تدغدغ أنفها فهي لا تحسن صُنعه ، بينما تعلمت أختها طريقته من زوجة خالها مؤخرًا ... 

هتفت "غدير" برفض قاطع وهي تلوح بكفيها بالرفض تام ...

- لا لا ... أنا عندي حاجة كده حخلصها واحصلك ... روّح إنتَ وأنا حاجي وراك ...

تعجب "عيسى" من إنشغالها لهذا الحد ثم أردف بإمتعاض وتحولت نبرته للجديه والضيق ...

- حاجة إيه إللي مهمة أوي دي إللي عشانها مش حتيجي تروحي معايا ... ؟!!

لم تشأ "غدير" أن تخبره بإنتظارها لنضج الكعك ، لتزيغ عينيها بإضطراب ثم تجيبه بدون توضيح ...

-لما آجي حقولك عشان ما تضحكش عليا يا روح الروح ...

رغم ضيقه إلا أنه ظن أن هناك أمر ما متعلق بـ"موده" ليزفر ببطء ثم يجيبها بتقبل للأمر رغم رفضه ...

-طيب يا "دورا" أشوفك في البيت ما تتأخريش ...

- عيوني يا عيوني ...

أنهى مكالمته مع "غدير" ليستكمل تدوين بعض الملاحظات السريعة قبل مغادرته المكتب مع محاولة "سندس" كظم غيظها من ضحكاته التي لا تظهر إلا مع "غدير" فقط ، تتمنى لو ينالها بعض من رضاه ولو بمجرد بإبتسامه فهذا يكفيها ...

رواية بقلم قوت القلوب رشا روميه

إنتظرت "غدير" إنتهاء "موده" من صنع الكعكة لتناولها بشهية قبل مغادرتها وعودتها لبيتها ومملكتها الخاصه بها وبحبيبها "عيسى" ...


❈-❈-❈


دفعت "نيره" شعرها للخلف ووقفت تنتظر مرور "رؤوف" بتذمر كما إتفق معها بالصباح لإستكمال جولتهم للبحث عن أثاث مناسب لبيتهم بعد زواجهم ، توقف رؤوف بسيارته الرياضية الصغيرة أمام متجر "نيره" لتقابله بنفس الوجه الممتعض الذي تقابله به كالعادة ...

تطلع نحوها ومازالت الاسئله تدور برأسه لا يدري عن إجابتها بداخله لكنه عليه الآن إنهاء أمر ضيقتها منه بأي شكل ، فهو لا يفضل هذا الجو المشحون بينهم فكل ما يريده هو حياة هادئة ...

تمتم "رؤوف" بصوت هامس أثناء توقفه بالسيارة ...

- أستر يا رب ... أنا عارف الوش ده كويس ربنا يستر ...

فتحت "نيره" باب السيارة قبل أن تجلس دون النطق بحرف واحد لما يبدو على ملامحها من ضيق فقط تجاهلت "رؤوف" تمامًا كما لو كان غير متواجد بالسيارة ، أجابها "رؤوف" بروحه المرحة ممازحًا ...

- وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته ...

لم تعط له بالًا ليبدأ هو بمراضاتها عن أمر يجهله فقد أنهى أمر غضبها منه حين هاتفها بمكالمته لها و لم يظن أن للأمر بقية ...

- نور عيني إللي مبوز .. بس برضه قمر في كل حالاته مش خلاص بقى ولا إيه ...؟!!

مالت "نيره" فمها جانبيًا ثم أجابته بنفس ضائقة...

- خلاص يا "رؤوف" يلا إطلع على البيت عشان مش عايزه أتأخر النهاردة ...

- تمام يا حبيبة "رؤوف" ... زي ما تحبي ... يلا نروح ...

إستدارت "نيره" نحوه بحده كما لو كانت تنتظر إجابته لتبدأ بها مهاوشتها معه من جديد ..

-ده إنت ما صدقت بقى ...!!!!

إتسعت عين "رؤوف" بذهول من تصيدها لإجابته لبدء شجار جديد ليردف مدافعًا عن نفسه ...

-والله ما أقصد مش إنتِ إللي قلتِ يا "نيرو" ... أنا ما أعرفش إن إنتِ هتضايقي أوي كده ... عادي يعني عايزانا نكمل نكمل ... عايزانا نروح نروح ...

إعتدلت وهي تنظر للأمام بتجاهل تام لـ"رؤوف" ثم عقدت ذراعيها بتذمر شديد 

- خلاص يا "رؤوف" روحني البيت أنا ماليش مزاج النهاردة إن أنا أعمل حاجة ... إنت عصبتني ... وأنا مش حعرف أدور على حاجة بالشكل ده ...

تنهد "رؤوف" بقلة حيلة فلم يعد يدري كيف يرضيها ، هذا ما يتوجب عليه طيلة الوقت فقد أصبح إرضائها هو كل ما يجمعهما سويًا ... 

- ماشي يا حبيبتي زي ما تحبي خلاص ... نروّح دلوقتِ وبكره نكمل ... ونشوف إللي إنتِ حباه ...

- أه ... يلا ...

خيم الصمت عليهما طوال الطريق حتى قام "رؤوف" بإيصال "نيره" لبيتها ليعود بعد ذلك إلى البيت مباشرة ...


❈-❈-❈


ليس إنتهاء العمل هو نهاية اليوم بل هناك حياة أخرى تبدأ بعد الدوام ، حياة يملؤها الصخب والمتعة وحياة رتيبة تمر ساعاتها كقرون لا تنتهي ...

لم يحبذ "رشيد" بقائه بمنزله ليقضي سهرته اليوم برفقة أقرانه بالمقهى يقضون الوقت ويتسامرون كعادة كل يوم ...

ضرب أحدهم بقطعة أحجية الدومينو بسعادة بلهاء مصدرة صوت إرتطامها المحبب المطعم بإنتصار مبهج ...

- قفلت يا حلو ... كدة أنا كسبت ... عد ورقك ...

غمغم رفيقه بذات المناوشة رافضًا خسارته ...

- على فكرة إنت بتخم ...

ضحك "محمد" وهو يتراجع بجذعه نحو الخلف بغرور ...

- أهو حيعملها زى كل مرة ...

ضحك البقية على صديقهم المعتاد الخسارة وعدم قبولها أيضًا ، لكن "رشيد" لم يكن متجاوبًا معهم بل شرد بذهنه بعيدًا لينتبه له "محمد" ...

- مالك يا "رشيد" ... إنت بجد غريب جدًا النهارده ...؟؟؟

سحب "رشيد" نفسًا مطولًا قبل أن يجيبه ...

- عارف ... بقالي فترة بقاوح إحساس جوايا ... كنت فاكر إن الحكاية دى حتعدى زى غيرها ... بس باين إني غلطان ...

إعتدل "محمد" بمواجهة "رشيد" وقد إحتدت ملامحه بإنفعال لكن نبرته تحلت بشك وعدم تصديق لحديث "رشيد" ..

- "رشيد" إنت حتجنني ...!!! مش انت اللي قلت كل البنات واحد ... ورحت ورا البت "رانيا" ... وقعدت تقول فيها أشعار ... إنت ناسي ولا بتضحك على نفسك وعليا ... ؟!!

مال "رشيد" برقبته للأمام بحركة إنفعالية من ضيقه الشديد خاصة و"محمد" أخذ يكشف له كل الأمور غير مصدق لما ينهش بقلبه المفطور ..

- أيوة ... أيوة ... بس وقتها بس عرفت إن كان فى إيدي جوهرة وسبتها ... من بعدها حسيت إني كنت بحبها بجد ... أنا فعلًا يا "محمد" مش شايف غيرها قدامي ...

هدأ "محمد" قليلًا وهو يستشعر الصدق بحديث "رشيد" ليردف بتفهم ...

- طب خلاص خلاص ... متزعلش مني ...ما هو التغيير المفاجئ اللي حصلك ده وفجأه كدة "رشيد" اللي كل يومين مع بنت شكل بقى يحب ... ونسي كل البنات ... عقلي مش مستوعب كدة ...

تنهد "رشيد" بضيق ظهر بطول زفيره القوى ليجيبه موضحًا ...

- أنا مش بضحك عليك ... أنا فعلًا إتغيرت ... كأن حالي كله إتقلب ومبقتش أفكر غير فيها وبس ... الدنيا كلها وقفت عندها ومش راضيه تمشي ...

أومأ "محمد" بتفهم ليحاول إخراج "رشيد" من تلك الحالة التى أصابته ببعده عمن يميل إليها قلبه ، ليساعده "رشيد" على ذلك بمحاولة الإندماج بلعبتهم لتشتيت تركيزه وتفكيره بها ...


❈-❈-❈

سويسرا ...

رغم برودة الأجواء إلا أن الجو أصبح صحوا وتلاشت الغيوم أخيرًا ، وصل "معتصم" و"عهد" للكوخ بعد وقت قليل من تركهم "كاتينا" التي كادت أن توقع بهما ...

جمود غريب ساد بعد هذه الواقعة لكن ملابستها لم تنجلي عن تفكير "عهد" خاصة وهي تلحقه متفكره بغموض هذا الرجل الذي أربك عقلها وشتت أفكارها ...

تساؤلات عدة أخذت تجتاح رأسها بصمت تام أثناء عودتهم ، كان أولهم سؤال هام للغاية ... لم إختارها لإنقاذها من الحريق ، هل كان يعلم أن "كاتينا" ستغدر به وتحاول قتله .؟؟!!..

والسؤال الأهم .. من أين أتى بالسلاح وكيف صوبه نحوها بهذه الدقة والمهارة دون أن يرمش له جفن ..؟!!!

وفي النهاية .. سؤال عن ماهية هذا الرجل فكيف بعد قُربه من "كاتينا" إلا أنه لم يبالي بها وهي صريعة أرضًا بعدما أطلق عليه الرصاص ..؟!!!

أخذت تلك الأفكار تتخبط برأسها دون النطق بها حتى وصلا بالنهاية إلى الكوخ ، كان "معتصم" بدوره صامتًا للغاية ...

كم كانت تود تفسيرًا منطقيًا لما يحدث حولها تريد معرفة هذا الرجل الذي يخفي أكثر مما يظهر ، لتنتظر فرصة مواتيه لتبدأ سلسلة أسئلتها لتهدئة فِكرها المُجهَد ....

فور وصولهم إلى الكوخ جلس "معتصم" بمقدمته فوق الدرجات الخشبية بينما وقفت "عهد" بمواجهته لتبدأ سؤالها بنبرتها الحادة ، فلن تترك الأمر إلا بتفسير منطقي لما يحدث فهي لم تعتاد على هذا الغموض الذي لا يشعرها بالراحة ...

- إنت إزاي قلبك جامد كده ... ؟!! هي مش كانت صاحبتك ... إزاي ضربتها بالنار وسبتها ومشيت ... حتى لو كانت خاينة ... بس إنت ما كنتش تعرف ... ثانيًا بقى وده المهم إنت جبت المسدس منين ....؟!!!

نظر "معتصم" نحوها نظرة طويلة متعمقة قبل أن تميل شفتيه ببسمة خفيفة ، لقد شعر بالنشوة لما سببه لعقلها من إجهاد ، أجابها ببرود أعصاب أثار ريبتها ...

- حقول لك يا "عهد" ... ولا أحسن أقولك يا .... حضره الظابط "عهد" ...!!!

إتسعت عسليتاها بصدمة ، وشعرت برودة إجتاحت جسدها ، فمن أين عَلِم بحقيقة شخصيتها التي لم تظهرها بالمرة ، ولا يعلم أحد عن حقيقتها تلك مطلقًا لتنفي الأمر بشكل قاطع ...

- ظابط ... !!! ظابط إيه ...؟!! إنت بتقول إيه ...؟! شكل دماغك تعباك شوية ...

وضع "معتصم" ساقه فوق الأخرى بثقة وبعض الغرور وهو يطالع توترها بعد كشف حقيقتها التي ظنت أنها تخفيها عنه ليجيبها بيقين تام من معرفته بهويتها ...

- أنا عارف كل حاجة عنك .... وعارف إنك ظابط مخابرات من يوم ما جيتي ودخلت الكوخ هنا ...

فغرت فاها بصدمة وهي تستفهم منه كيف علم بذلك ....

- إزاي ده ... إزاي أصلًا أنا محدش يعرف عني حاجة ... وهويتي كانت سرية جدًا ...!!!! إنت عرفت منين ...؟!!!

لم يتخلى "معتصم" عن ثقته الزائدة التي وصلت لحد الغرور ليستطرد قائلًا يزيد من دهشتها الحديثة ...

- لأن أنا زميلك يا "عهد" ... أنا كمان ظابط مخابرات ... وكنت في مهمة قبلك هنا ...


كانت عيناها كجهاز كمبيوتر يعيد على ذاكرتها بعض المشاهد الهامة لتلك المهمة التي قامت بها ...

كان بدايتهم بمشهد لقائها مع السيد "نظمي" بمكتبه حين أوكل إليها تلك المهمة قائلا .. (أنا عارف إنك قدها يا "عهد" ... المهمة دي ما أقدرش أبعت غيرك فيها ...)


تذكرت لحظة إطلاعها على الملف ومعرفة أبعاد تلك المهمة الغامضة .. وهي الحفاظ على حياه المهندس تقنيي الكمبيوتر المقيم بالكوخ أعلى جبال الجنوب السويسري والذي تُهدد حياته بالخطر ممن تدعي صداقته ، فهي تهدد حياته بشكل لا يدركه وعليها حمايته مهما تطلب الأمر ..


تذكرت بالبداية حين أقامت بالكوخ وبدأت تجمع معلوماتها عن طبيعة علاقة "معتصم" و "كاتينا" وبدأت سلسلة حمايتها له بأن وصلتها رسالة من مُتابعها بالقيادة بالقاهره بأن عليها التدخل وكسب إنتباه "معتصم" ودب الغيرة بقلب "كاتينا" ....


تذكرت كيف تصنعت الإعجاب به لتثير غيرة تلك الشقراء والتي نجحت ببراعه بذلك وكان عليها إفساد توافقها مع "معتصم" لتفسد خطتها بصنع الكعك له ...


وميض آخر لاح بذاكرتها حين علمت بأن "كاتينا" تسعى للتخلص من "معتصم" وعليها حمايته بكل السبل ، أخذت تراقبها جيدًا حين فصلت "كاتينا" أضواء الكوخ وتربصت بـ"معتصم" لتقتله حين عودته في الظلام ، لتنقذه "عهد" من بين أيدي تلك الخبيثه ، لكن كان عليها ألا تُظهر هويتها له تنفيذًا لتلك التعليمات التي وصلت إليها ...


لم تكن ذكرياتها تتوقف عند هذا الحد لتتذكر حاولة "كاتينا" الثانية لقتل "معتصم" والتي كادت أن تنجح بها عن طريق الحبوب المنومة التي رأتها تضعها له بالقهوة أثناء تصنعها للنوم على الأريكة ، وعندما تأكدت أن العبوة هي لتلك المادة التي سترديه قتيلًا اذا تناول تلك القهوة فإضطرت لسكبها لإنقاذ حياته مره أخرى دون الإفصاح عن هويتها ...


تذكرت وضعها لتلك الأسطوانة لتحديد الموقع بجهاز الحاسوب الخاص بـ"معتصم" قبل رحيله مع "كاتينا" للوصول إليه قبل أن تحاول "كاتينا" التخلص منه مره أخرى ، وأن بحفاظها على حياة "معتصم" قد أدت مهمتها على أكمل وجه ...


لكن المحير الآن انها لم تكن تعلم إنه ضابط مثلها بالمخابرات ، بل كل ما تعرفه عنه إنه تقني للكمبيوتر و عليها حمايته حتى لو فقدت هي حياتها ...!!!


وقفت بالذهول وهي تنظر بأعين مصدومة للغاية ، فلماذا لم يخبرها السيد "نظمي" أنها هنا لحماية زميل لها ..؟؟! لماذا كانت تلك المهمة غامضة إلى هذا الحد ...؟؟؟ ولم يتعامل "معتصم" معها كما لو لم يكن يعلم بالأمر ..!!!! فما يخبرها به الآن أنه يعلم هويتها منذ أن دلفت لداخل الكوخ وعلى دراية مسبقة بكل شئ ...


هل تخوض معركة تحارب بها بمفردها أم أنها جزء من تلك المجموعة ، فحتى وإن كانت ستخوض تلك المعركة فعليها توفير بريق سيفها لمعركة تستحق ، صراع من نوع آخر بداخلها جعلها تنتظر إيضاح يريح نفسها المشحونة ...

أسئلة محيرة مُجهدة لعقلها ، زادها توضيح "معتصم" الذي لم يريحها بالمرة بل زاد من شحن نفسها وضيقتها ، خاصة حين علمت بأنها لم تحظى بكل المعلومات عن هذه المهمة ، فقد تغاضى فريق عملها عن توضيح الأمر لها وإبقائها على جهالة بالأمر ...


بعد دقائق من الإندهاش والصمت أثناء تذكرها لتلك الأحداث الماضيه ، نظرت تجاه "معتصم" نظرة مقتضبة يشوبها المزيد من الغضب قائله بحدة ...

- لا معلش فهمني بقى واحدة واحدة ... إيه الحكايه ... ظابط إيه ... وعارف إيه ...؟!!!

لم يتحرك "معتصم" عن موضعه الواثق مطلقًا بل إستكمل بخيلاء عن إدراكه لكل الأمور دون أن يظهر ذلك لها ...

- أنا الرائد "معتصم دويدار" شغال معاكِ في جهاز المخابرات ... كانت مهمتي هنا إني أوصل لمقر البيت الآمن للإستخبارات الروسية ... لأن في جهاز مزروع في البيت ده وكان لازم أوصل له ... ومكنتش عارف اوصل للمكان لأنه في مكان صعب الوصول إليه ... فكانت مهمتي إني أكون بشخصية تقني كمبيوتر إخترع برنامج يقدر يشغل المفاعلات النووية ... وكنت متوقع انهم حيبعتوا لي حد علشان ياخذوه مني ... وكانت "كاتينا" هي الشخص ده .... طبعًا أنا أسأت تقدير مهارة "كاتينا" .... وظنيت إنها مجرد فتاة عادية ... يعني حتسرق مني البرنامج وبس ... عشان كده كان لازم إنى أقنعها إننا نيجي نقضى أجازة هنا في الكوخ ... وده طبعًا لأن مكانه قريب من مكان المقر الآمن ... لكن برضه معرفتش اوصل للمكان بدقة ... والظروف سمحت لنا تقدير وقت العاصفة وإنها حتسهل لنا إننا نقعد وقت أطول ... ونقدر ساعتها نوصل للمقر الآمن ...

أجابته "عهد" بتشتت ودون فهم لطبيعة مهمتها إذا كانت مهمته بتلك السهولة ...

- طب معلش ... أنا كان لازمتي إيه ...؟!! إنت تمام إتقابلت مع "كاتينا" .... وطلعتوا برحلتكم وقعدتوا في الكوخ ... وبقى سهل جدًا إنك توصل للمقر الآمن ... كل ده تمام ... أنا إيه طبيعة مهمتي ...؟!! عشان أنا مش فاهمه ليه طلبتوا مني إن أنا آجي وأحميك وإنت قادر وفاهم وعارف كل حاجة ...؟!!!

زاد "معتصم" من بسمته الجانبية وغلبه غروره الزائد ليوضح بإستفاضة ...

- كان في شك عند السيد "نظمي" إن الإستخبارات الروسية بدأت تشك في موضوع البرنامج .... وكان لازم نعمل لهم إلهاء أو تشتت بحد معين يهتموا بيه أكثر ويغفلوا عني ... انا كمان ما كنتش قادر أوصل للمقر الآمن وكان لازم أحسس "كاتينا" إن أنا وهي في خطر ... وده أنا إللي طلبته من السيد "نظمي" ... إنه يبعت لي حد يكون تشتت ... عشان كده أول ما جيتي ولقيتك بتتكلمي مصري فهمت على طول إن إنتِ المرسال إللي حيشتت "كاتينا" .....


تبقى بذهنها سؤالاً وحيدًا لتنخفض نبرتها قليلًا وهي تسأله بدون إظهار أي رد فعل على ما يخبرها به ...

- موضوع الإلهاء او التشتت ده ... كان ممكن يكون فيه أي خطورة ...؟!!

ضمه "معتصم" شفتيه الممتلئتان قبل أن يقوسهما للأسفل موضحًا بإسهاب مرة أخرى ...

- طبعًا ... طبعًا ... الروس دول ما بيهزروش ... لو كانوا حسوا بأي خطر من ناحيتك حيهدد وصولهم للبرنامج ... أكيد كان حيتصرفوا بأي صورة ... المهم يوصلوا له مفهومة يعني ...

كان وقع الكلمة قاسي للغاية لكنه كان مصيب تمامًا ، فلو كان كُشف غطائها أو إعترضت وصول "كاتينا" للبرنامج لكانت في عداد الموتى ، تهدج صدرها للحظات لتثبت عيناها جانبًا فقد أدركت الأمر جيدًا ، لتعيد بصرها نحوه قائله بأنفاس طويلة ونفس محطمة ، فكم كانت قليلة الشأن يمكنهم التضحية بها من أجل تنفيذ تلك المهمة وإنقاذ "معتصم" وإتمام مهمته ، حتى انهم بخلوا بإعطائها تلك المعلومة ، و أوكلوا إليها مهمة مزيفة لمجرد تثبيت مكانته وأمانِه لإتمام ما جاء إليه ، لتردف بقوة برغم نفسها المهتزة ...

- يعني أنا كنت مصدر إلهاء وبس ..... مهمتي أشتت الإنتباه عنك ... حتى لو إتكشفت مش مهم .... !!! حتى لو إتقتلت مش مهم ....!!! المهم إن مهمتك إنت تكمل ... يعني أنا مكنتش .... غير كبش فداء ..!!!!!!!!!!!!


يتبع 


انت الان في اول مقال

تعليقات