رواية كيف أقول لا الفصل الاول والثاني بقلم الكاتبه مريم غريب حصريه وجديده على مدونة أفكارنا
رواية كيف أقول لا الفصل الاول والثاني بقلم الكاتبه مريم غريب حصريه وجديده على مدونة أفكارنا
الشخصيات
البطلين : ( "هاشم البارودي" / "فرح البارودي" )
"چشم البارودي" / والدة "هاشم"
"آسيا البارودي" / عمة "هاشم"
( "ريان" / "چمان" / "چنى" ) أبناء "آسيا"
"هدى البارودي" / عمة "هاشم"
( "لينا" / "فريدة" ) بنتيها
"فاتن البارودي" / عمة "هاشم"
"چاد البارودي" / إبن عم "هاشم"
و البقية لاحقًا ......
__________
( 1 )
_ الكاسر ! _
كانت الحركة مستمرة و كل شيء يتم بنظام و ترتيب شديدين، منذ بدء إستقبال المعزيين قبل ساعة واحدة بعد صلاة العشاء
خارج أسوار القصر المنيف، تراصت سلسلة من السيارات الفارهة تعود ملكيتها لأكبر عائلات الطبقة الرفيعة على مستوى الدولة، أما داخله إقتسمت الجموع الغفيرة أماكنهم، فالرجال يقدمون التعازي بصوان فخم قد نُصب بالحديقة الشاسعة ذات الهواء الطلق، بينما النساء يجلسن بالداخل بالمضافة الضخمة المُعدة أصلًا لإحياء المناسبات
و لكن يا لها من مناسبة منكوبة تلك التي تقيمها عائلة "البارودي" الليلة... رغم حزنهم العظيم، إلا أنهم حتمًا يخرجون بأحسن صورة دائمًا بشتى المواقف التي تنزل بهم، يسيرة كانت أو عسيرة
لم يكن هناك خطأ واحد، الجميع يتقيد بتعليمات سيد المنزل الجديد و الصارم جدًا حتى قبل أن يعتلي مكانته الحالية بعد وفاة الأب الكبير للعائلة.. "سليمان البارودي"
الآن هو الكبير، وحده لا غيره.. يستأثر بذلك المقام، لم يؤهله سنه فقط، بل فطنته و شخصيته الفولاذية و أشياء أخرى شكلت حوله هالة من المهابة و الإجلال سرعان ما أفضت به إلى عوالم السلطة و النفوذ
إنه "هاشم البارودي" بالطبع، الفرد الأكبر المتبقي من عائلته العريقة بعد أن توفي والده و أعمامه الواحد تلو الآخر بصورة متتابعة مثيرة للفزع، كانت وفاة كل منهم طبيعية.. لكنها بالتأكيد لم تكن منطقية.. أن يموت رجال العائلة جميعًا، بالتحديد أبناء الأب الكبير على بعد مسافات متساوية خلال العشرة أعوام المنصرمة
و حاليًا لم يكن "هاشم" الذكر الوحيد بعائلته، هناك أبناء عمومته لكنه الآن سيدهم طبقًا للقانون المتوارث عبر الأجيال.. و لكن أليست الأجيال القادمة مهددة الآن ؟ .. ربما لم تثير تلك الأفكار ذعر ذكور العائلة حين مات العم الأصغر قبل عشر سنوات، لكن حين توالت وقائع الموت من عم لآخر حتي إختتمت بالجد العجوز صبيحة اليوم
أبدى الجميع خوفهم الشديد لئلا يأتي الدور عليهم أيضًا.. لكنه لم يكن خائفًا مثلهم على الإطلاق، بل على العكس، كان يتمنى لو أن الدور من نصيبه هذه المرة، إذ لم يعد يستسيغ حياته برمتها، بعد أن كُتب عليه أن يسير بجنازات أقرب الناس و أحبهم إليه.. منذ ست سنوات أهال الثرى على جثمان أبيه بيديه، و قبل عامين كرر الأمر مع زوجته و أم طفلته التي فُطمت حديثًا عن الرضاعة.. أما اليوم، ها هو يأخذ عزاء جده متمسكًا بصلابته و بروده المشهور، حاجبًا حزنه و ضيق صدره خلف ألف باب موصدٍ بداخله
هكذا كان دائمًا، قاسيًا، بارعًا في التحكم بمشاعره.. فهو لم يكن يومًا بذلك الرجل رقيق الطبع، بحكم تربيته و نشأته هنا وسط أُناس وصل بهم الجشع و حب المال و تقديسه إلى الزواج من بعضهم بعض، فهنا بعائلة "البارودي" جميعهم أبناء عمومة و أقارب من الدرجة الأولى، و ليس هناك حرية إختيار في هذا الصدد، شئت أم أبيت لن يختلط نسب العائلة بأعراق أخرى مهما حدث !
و لكن ليس بعد الآن، ذلك القانون الأخرق لابد أن يتغير.. تلك اللعنة التي بدأت بوفاة العم الأصغر حين تمرد على هذا الوضع يجب أن تنتهي، قبل أن تقضي على أثر العائلة نهائيًا، و بداية الخلاص يعرفها "هاشم" جيدًا، و سوف يتعامل من فوره بموجب وصية جده ...
{ وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً } ... هكذا ختم القارئ القعيد وصلة الذكر الحكيم
و كأنه يشدد على نية "هاشم" فيما عزم عليه ...
إنفض العزاء أخيرًا، رحل الجميع، و أُغلقت أبواب القصر على أهله
هنا في قاعة إجتماعاتهم جلسوا جنبًا إلى جنب حول مائدة تكفي إثنى عشر شخصًا، لكنهم لم يكونوا سوى أحد عشر فقط
فرد واحد منهم غائب مؤقتًا ..
الكل يتشحون بالسواد حدادًا على الفقيد، الوجوه واجمة تحمل نفس التعبير الجامد تقريبًا.. سكون تام يعم الأجواء
حتى بدأ التآفف يظهر على البعض، ليقفز صوت ثاني رجال العائلة إرتفاعًا للمقام.. "ريان البارودي"، و الذي يعتبر نفسه ندًا لـ"هاشم" شخصيًا ...
-كان النهار ضاغط على أنفاسنا بما فيه الكفاية. و أظن أن لا طاقة لأحدٍ هنا على أيّ حديث. فما الذي يريده السيد هاشم منا الآن بعد كل هذه المشقة التي تكبدناها ؟!!!
إلتفتت "آسيا" نحو إبنها لترمقه بنظرة زاجرة و تقول دون التخلي عن نبرة الوقار في صوتها :
-ريان ! تحلى ببعض الصبر يا إبني. لا شك عندي أن الأمر طارئ و إلا ما أصر هاشم على عقد هذا الإجتماع الليلة من غير إنتظار
ريان بغضب مكتوم :
-و لكن هذا غير لائق. لا يحق له الغياب عن المجلس بينما ننتظره و نحن نكاد نسقط إعياءً. إذا كان الأمر هام إلى هذه الدرجة فأين هو إذن ؟
تدخلت السيدة "چشم" في هذه اللحظة قائلة بصوتها الخافت الرقيق :
-سيآتي حالًا ريان. لا تجزع هكذا حبيبي. إنه يتفقد سيرين ليس إلا. تعرف كم هو متعلق بها منذ وفاة چنى و اليوم تقريبًا لم تسنح له أيّ فرصة لرؤيتها.. أعذره من أجلي
-لا ترهقي نفسك في محاولة إرضاء ريان عمتي چشم !
كان هذا صوت "چاد" الجالس في مواجهة "ريان" مباشرةً
إستقطب نظرات الجميع و هو يكمل مبتسمًا بخبث :
-أنا متأكد أنه لن يرضى أبدًا. فلا أظن أن التعب هو علتهُ الحقيقية !
-و ماذا تقصد الآن أنت ؟ .. قالها "ريان" عبر أسنانه و قد إتسمت نظراته بشراسة مستوحشة
هز "چاد" كتفيه ..
-أنا لا أقصد شيئًا في الحقيقة. و لكن إذا أحسست بأنني أصبت منك وترًا ما.. فأعتبر الأمر كما فهمته تمامًا يا إبن عمتي !
لم يكن "ريان" بالشخص الذي يقبل التلميحات بالإهانة أو التقليل من شأنه بأيّ طريقة، لذا لم يحتمل إسلوب "چاد" الإستفزازي و هب واقفًا و هو ينفجر بكل ما فيه من غضب مختزن منذ أيام :
-تجرأ على التجاوز بحقي مجددًا چاد و أقسم بأنني سأذيقك بطشي. و أنت لم تختبر بعد بطش ريان البارودي !
چاد ضاحكًا بإستفزاز أكبر :
-حقًا أنا في شوق لإختبار ما قلته.. أرجوك أرني ما لديك !
و قبل أن يرفع "ريان" قبضته المضمونة بشدة و يقفز معتليًا المائدة ليهجم على الأخير، إستوقفتهم "هدى" بصوت أكثر حدة :
-توقفا ! أنتما الإثنان. ما الذي أصابكما ؟ هل تريان الوضع ملائم لهذه التصرفات الصبيانية ؟ .. و صاحت في "ريان" آمرة :
-إجلس ريان. إجلس و كف عن إفتعال المشاكل لسنا في وارد أىّ منها !
تآففتا الأختان "لينا" و " فريدة" في هذه اللحظة و قالت إحداهما :
-أرجوكم لقد تعبنا. حقًا تعبنا إما أن يآتي هاشم أو يتركنا نخلد إلى أسِرَّتنا في الحال
قامت "چمان" من مكانها و هي تقول بصوتها المغناج :
-لا عليكم. إهدأوا جميعًا سأصعد لأحضره بنفسي !
-لا حاجة. لقد آتيت من تلقائي ! .. إخترق صوت "هاشم" المكان فجأة
فجمد الجميع للحظة، بينما يجتاز مدخل القاعة و هو يحمل صغيرته "سيرين" على ذراعه.. كانت في ملابس النوم و بدت عليها آثار النعاس، و كان لا يزال هو في حلته السوداء، فقط إستغنى عن ربطة عنقه و فك الأزرار العلوية من قميصه الداكن ...
مر عليهم بخطواته الثابتة و هو يقول بجفاف :
-أنا آسف لإنتظاركم كل هذا الوقت. أعرف أن الجميع مرهقون هنا.. و لكن لولا أهمية الأمر. و لولا أنني لا أريد أن يكون هناك أي مجال للجدل بالفترة القادمة. خاصةً عندما يحضر محامي العائلة لما أصررت على سرعة عقد الإجتماع
و شد مقعده على رأس الطاولة و جلس أولًا واضعًا طفلته الصغيرة في حِجره
كانوا البقية لا يزالوا واقفين إحترمًا له، فأشار لهم بصمت ليجلسوا ...
-آمل أن الأمر هام بالفعل هاشم باشا ! .. قالها "ريان" متهكمًا و هو يستقر من جديد بمقعده
لم يعيره "هاشم" أدنى إهتمام و بدأ حديثه فورًا :
-تعرفون جميعكم أن الجد سليمان رحمة الله عليه قد كتب وصيته منذ عشر سنوات خلت بعد وفاة الخال مراد مباشرةً
برز صوت "ريان" مجددًا :
-و نعرف أيضًا أن الجد قد حرم الخال مراد من الميراث بعد أن ذهب و تزوج إمرآة وضيعة من العامة !
كانت لهجته تشي بالتعنت و التحذير، كأنه فهم الموضوع من بدايته تقريبًا ...
مرة أخرى لم يكترث "هاشم" به و تابع بجديته المعهودة :
-في ذلك الوقت لم يُطلع الجد أحدًا على تلك الوصية سوى أبي. و من بعده أنا .. و أشار لنفسه بسبابته
بقى الجميع ينظرون إليه بإهتمام أكبر الآن في إنتظار تتمة كلامه.. ليستطرد و قد إكتسبت لهجته نبرة حزم واضحة :
-فحوى الوصية بإيجاز شديد هو تقسيم المال بالتساوي على كل أفراد العائلة دون المساس بحصص الشركات أو نصيب أيّ منكم في هذا البيت.. هذا أول جزء. الجزء الثاني و الأهم. هو أن نصيب الخال مراد سيؤول كله إلى أرملته و إبنته و سيتم دعوتهما لتقيما معنا هنا ببيت العائلة. و هذا شرط حصولهما على الميراث... إذن هل يريد أحدكم قول شيء ؟ لقد فرغت على أيّ حال !
-مهلًا مهلًا مهلًا ! .. هتف "ريان" غاضبًا
و كأنه قد بوغت بهذا الكلام، تمالك نفسه بصعوبة و هو يخاطب "هاشم" بعدائية واضحة :
-هذه الوصية لن تُطبق بالتأكيد. تحديدًا ذلك الجزء الأخير الذي ذكرته. لا أصدق أن جدي أراد هذا فعلًا. لقد كان دأب كل رجل في هذه العائلة هو الإقتران بإمرآة تحمل نفس الدماء التي تجري بعروقه. و كان هذا سبب غضبه على خالي مراد قبل عشر سنوات. لم يكن راضيًا عن زواجه و نبذه حتى الممات. فكيف تأتي أنت اليوم و تقول أنه أوصى بتسليم إرثه إلى تلك المرآة و إبنتها ؟ سوف أطعن بهذه الوصية بلا شك و لن أكون وحدي !
و نظر إلى البقية الذين إلتزموا الصمت تمامًا في هذه اللحظات منتظرًا أن يؤازروه، لكنهم ظلوا يراقبوا و يستمعوا إلى كلام كبيرهم فقط، مما آثار حنقه و غيظه في آن ...
-أطعن كما تشاء ريان ! .. قالها "هاشم" ببرود شديد
نظر "ريان" له، فأردف بنفس الطريقة :
-إذا أحببت أن تقضي عمرك كله و أنت تدور في حلقة مفرغة. فأنا حتمًا لن أمنعك.. و لكن أود أن تعلم. أود أن تعلموا جميعًا أن الوصية نافذة. و لا مجال للشك فيها. لقد كُتبت و وُثقت قبل سنوات و كان سليمان باشا في كامل قواه العقلية. لقد توقعت ردة فعل كتلك لذا أصررت على الإنتهاء من كل هذا دفعة واحدة قبل الشروع في تنفيذ الوصية !
-أنا شخصيًا أقبل بها ! .. صاح "چاد" ملوّحًا بكفه، و أكمل بجدية :
-لقد أراد جدي أن يتبرأ من ذنب عائلة عمي و الظلم الشديد الذي أنزله بهم على مدى سنوات. و لو أنه قد تأخر كثيرًا لكن يكفي أنه لم يقبل بالإستمرار في هذا. و بما أنه لم يطيق أن يحمل هذا الوزر بعد موته فأنا كذلك مثله لا أطيق أن أحمله سواء كنت حيًا أو ميتًا.. أنا أقبل بالوصية !
هدى و هي ترفع يدها هي الأخرى :
-و أنا أيضًا !
فاتن بتآييد متضامن :
-و أنا أقبل !
جشم بنشيج مكتوم :
-و أنا أقبل. لابد أن نكف عن ظلمنا لهذه المرآة و إبنتها. لا ريب عندي أن لعنة الموت أصابتنا بسبب ما فعله بهما أبي. أبقاه الله حيًا لكي يشهد بعينيه موت أبنائه الواحد تلو الآخر جزاء ما إقترفه بحق أخي مراد.. لن أكرر هذا الخطأ أبدًا لذلك أنا أقبل بالوصية !
-ما هذا الهراء ؟!!! .. صاح "ريان" منفعلًا
-أيّ لعنة تلك التي تخافونها ؟ هل أصبحنا نؤمن بالخزعبلات إلى ذلك الحد الذي يدفعنا لإهدار ثروتنا بهذا الشكل الباعث على الشفقة ؟؟!!!
بقت عبارة "ريان" معلقة في الهواء، لم يجرؤ أحد على مجاراته بعد الآن حيث صار واضحًا إنضمام الجميع إلى صف "هاشم".. في الواقع ليس تمامًا، فتحيز كلًا من "آسيا" و "چمان" لرفض "ريان" المقنع كان يتجلى في العبوس الذى إعتلى وجهيهما
لكن مع هذا لم تجسر إحداهما على النطق بكلمة ...
-بموجب السلطة المخوّلة لي أتصرف ريان ! .. قالها "هاشم" بهدوء، ثم حسم الجدل بصرامة :
-أنا كبير هذه العائلة. و متى قلت شيئًا عليكم السمع و الطاعة. هذا ما تربينا عليه أم نسيت ؟ و نصيحة من أخيك. ليس من مصلحتك أن تعصي لي أمرًا خاصةً و نحن في البداية هكذا. لا تجعلني أمارس عليك سطوتي الجديدة. لا تكون أول من يخوض التجربة !
إرتعش فك "ريان" من شدة غضبه الحبيس و غمغم بخشونة :
-أتحسبني خائفًا منك هاشم ؟
هاشم مبتسمًا بتسامح :
-لا يهمني إن كنت خائف أم لا.. أردت أن أقدم لك نصيحة صادقة يا أخي. أظنك تعرفني أصلًا و لديك فكرة عن حدة طباعي قبل أن أتولى أيّ مقام هنا. فما بالك بوضعي الآن و أنا لست مقيّد بمطلق شيء !
-أؤيد ملاحظة هاشم يا ريان ! .. هتف "چاد" بلهجة ماكرة
نظر "ريان" إليه، فتابع مسترسلًا في إستفزازه :
-مازن رشيد. صديقك المقرب. أذكر أنه كان آخر ضحاياه. لا أخالك نسيت ما فعله به !
و كيف ينسى تلك الواقعة ؟!!!
عندما تجشم صديقه المقرب عناء السجن المشدد لثلاثة أعوام كاملة فقط لأنه أصدر تصريحًا مسيئًا لعائلة "البارودي"... و غيره و غيره ممن يعرفهم "ريان" شخصيًا !
يضحك "ريان" فجأة و هو يقول ساخطًا عليهم :
-إنتم جميعًا تلهثون ورائه كالجراء !
-ريــان !!!
لأول مرة منذ فترة صمت طويلة، خرج صوت "آسيا" يهدر بالغضب
-كفاك وقاحة يا ولد. من تظن نفسك ؟ لن أسمح لك بتقليل إحترام أيّ فرد هنا صغيرًا أو كبيرًا أتسمعني ؟؟؟
لم يرد "ريان" عليها و قام من مكانه قائلًا بهدوء متكلف :
-إجتماعاتكم صارت مدعاةً للسخرية.. لا يدعوني أحد إليها منذ الآن. و لتفعلوا ما تريدون. حبذا لو وهبتم الثروة كلها للمؤسسات الخيرية.. سيكون أفضل بلا شك !
و إنصرف من فوره دون أن يضيف كلمة أخرى ...
ساد الصمت لبرهة، بينما تعبث الصغيرة "سيرين" بأصابعها الضئيلة في لحية أبيها الخشنة و أزاز القميصه المحلولة.. ليشعر بها تتثاءب فجأة عند صدره كهِرة ناعسة
فيضحك و هو يحملها ليجلسها أمامه فوق المائدة قائلًا :
-قطتي الصغيرة قضت النهار كله نائمة و الآن ينتابها النعاس !
لا عليك يا عمري. أنا أيضًا أكاد أرى أمامي. سوف نخلد فورًا إلى النوم
و تطلع في هذه اللحظة إلى عائلته مستطردًا بصوته الآجش و كأن اللحظة اللطيفة التي مرت للتو بينه و بين إبنته لم تكن :
-غدًا سأبعث بدعوة حضور لزوجة خالي و إبنتها لتنضما لنا بصورة دائمة في منزل العائلة.. و بعد غد. سيكون بإمكاننا فتح الوصية !!!!!! .............. !!!!!!!!!!!!!!!!!!!
( 2 )
_ عائلة ! _
ما هذا اليأس الذي تحيا فيه ؟!!!!
هل يُعقل أن يكون هناك في هذا العالم من يفكر مثلها ؟
ما هي نظرتها عن الحياة ؟ كيف ترى حاضرها و مستقبلها بناءًا على ماضيها ؟
لربما لو لم يكن لديها ذلك الماضي القاسٍ لكانت عاشت الآن حياة طبيعية كسائر البشر... لكنها لم تكن طبيعية، هي نفسها.. لم تكن طبيعية أبدًا
لطالما كانت شخصية غامضة، منطوية على نفسها، لا تجيد التواصل مع الآخرين، و مع الوقت أصبحت لا تريد، فما الذي جنته من مخالطة الناس سوى الآذى النفسي !
طمع الرجال فيها و محاولاتهم المستمرة لإستغلالها أمرًا بديهي، و لعلها تدرك السبب في هذا.. فهي الفتاة اليتيمة البالغة من العمر عشرون سنة، و الفائقة الجمال التي تعيش مع أمها العليلة في شقة مترفة بحي راقي وحدهما
لا عائلة و لا أقارب يظهرون في الصورة منذ دهور، فقط بعض الجارات اللاتي يلوكنها بألسنتهن غيرةً و حقد على اللاشيء الذي تمتلكه _ سوى جمالها بالطبع _ مما شجع بعض المتطفلين السفلة و عديمي الأخلاق بالتطاول عليها كلما خرجت من منزلها سواء باللفظ أو الإحتكاك المباشر
و مع ذلك لم تتوقف عن محاولات التصدي لهم و إيقافهم عند حدودهم بإرادة من حديد، كانت تعرف أنها تقاوم عبثًا، لكنها كانت ترى في مقاومتها لمصائبها سببًا للحياة، فإذا لم تقاوم لتنشغل عن التفكير في مآساتها فسوف تتجه حتمًا للإنتحار، إذ ليس من السهل أبدًا أن تعيش نفس الصراع المحتدم كل يوم ليلًا و نهارًا
ذلك الصراع الذي يخبرها بأنها وحيدة، منبوذة حتى من أقرب الناس إليها.. و ستظل هكذا للأبد، لن يقترب أحد منها و كأنها تحمل وباءًا مميتًا، و لكن أليست كذلك فعلًا ؟ ... إنها تكاد تشعر به... تكاد تشعر بالعار الذي وصمت به منذ سبعة أعوام تقريبًا، رغم عدم تأكدها التام من الأمر
لكن تكفيها نظرة الإقرار الخرساء في عينيّ أمها، متى رأتها.. يتبدد بداخلها كل أمل بالإنكار !!!!
-و لماذا لم تذهبي إلى عملك اليوم ؟ هل لي بأن أعرف سبب هذا التقاعس يا آنسة !
إلتقطت أذنيّ "فرح" هذا السؤال من خلفها أثناء وقوفها داخل المطبخ ذي الطراز الأمريكي و هي تعد بعضًا من القهوة ...
أمسكت بالدلة التي فرغت من الغليان حالًا و أخذت تصب السائل الغامق بكوبان من الزجاج الشفاف، حملتهما فوق صينية من النحاس المصقول و إلتفتت نحو ضيفتها و صديقتها اللدودة "غادة شكري" قائلة بإبتسامتها الرقيقة :
-تعرفين أن التقاعس ليس من شيّمي يا صديقتي الحلوة. لكن لا أخفي عليك سرًا. اليوم غلبني النعاس بحيث لم يحسن جرس التنبيه المزعج الذي أهديتني إياه أن يوقظني !
و ضحكت و هي تمشي صوبها على مهل
لم تكن "غادة" صديقتها فحسب، إنما أيضًا تكون معلمة لغة الإشارة التي تشرف على حالة أمها منذ عامين تقريبًا، و رغم قصر المدة التي عاشرت كلًا منهما الأخرى خلالها، إلا أنهما سرعان ما إندمجتا و تولدت بينهما مشاعر تكاد تضاهي صفة الأخوة ...
-عزيزتي أنا لا آرى إلا أن دلالي لك مؤخرًا قد أفسدك بالفعل لم أكن واهمة ! .. قالت " غادة" ذلك و هي تكز على أسنانها مغتاظة
ردت "فرح" عليها بنعومة و هي تضع الصينية فوق طاولة صغيرة أمامهما :
-و إن لم أحصل على الدلال منك أنت فمن عساه يقدمه لي ؟ أدامك الله لي يا غادة. يا أختي
و جلست بآريحية إلى جوارها فوق تلك الآريكة الواسعة المريحة و التي تختلف كليًا عن باقي أثاث الشقة الثمين، و كأنها أُختيرت بذوق شخصًا آخر يهوى البساطة و الرقة لا البهرجة و المظاهر الشاذة الكاذبة ...
-أتظنينني طفلة و مديحك هذا سوف يسكتني ! .. غمغمت "غادة" بحنق
قهقهت "فرح" قائلة :
-لا والله. لم أعني هذا أبدًا
غادة بحزم : إذن فلتكفي عن الضحك أولًا !
أومأت "فرح" موافقة و هي تتمالك نفسها من أجل صديقتها كي لا تضحك... مرت ثوان و الأخيرة تراقبها بملامحها المكفهرة هذه، حتى تأكدت من سكونها التام
نظرت في عينيها بقوة و هي تقول بجدية :
-ما الأمر فرح ؟ ما الذي يحدث لك هذه الأيام ؟ بل ما الذي يحدث لك منذ عرفتك ؟ ألم يحن الوقت لكي تبوحي لي ؟!!
فاجأتها "غادة" بهذه الأسئلة إلى حد أعجزها عن الرد في البادئ، لكنها ما لبثت أن رسمت إبتسامة صغيرة على وجهها و هي تقول بهدوء :
-أبوح لك بماذا غادة ؟ أنا جيدة. لا أواجه أي مشكلة إطمئني .. و أكملت بمزاح :
-إنه لم يكن سوى يوم قررت أن أتخذه عطلة. أم أنك حننت لتقمص دور الطبيبة النفسية التي تمنيت أن تكونيها كما أخبرتني ؟ لو كان الأمر كذلك فأنا أوافق أن أصير فأر التجربة من أجلك فقط !
غادة بحدة : توقفي يا فرح. أنت لا تتحدثين مع فتاة مراهقة كفاك تهرب مني
تلاشى مرح "فرح" الزائف في هذه اللحظة و هي ترد عليها بضيق :
-و ماذا تريدينني أن أقول غادة ؟ لا أفهمك. أنا حقًا بخير. ما الذي دفعك إلى ظن أشياء كهذه ؟!!
كانت تشيح بوجهها كالعادة حين يحمى بينهما وطيس الكلام، لتفاجئها "غادة" للمرة الثانية و هي تمد يدها لتمسك بذقنها و تدير وجهها نحوها مجددًا ...
-تريدين معرفة دوافعي ؟ .. تمتمت بهدوء شديد
و لما لم تحصل على رد منها تابعت :
-لن أقول لك إنكارك الدائم لوجود خطب ما بحياتك. و لكن تكفيني تلك النظرة المكسورة.. الملبدة بدموع تآبى الظهور للملأ. لا آراها في عينيك فقط. بل في عينيّ أمك.. عدم إستقرار كلتاكما لا يخفى علىّ فرح !
لا شك أنها لو واصلت الضغط عليها أكثر من هذا فستنفجر أمامها مجهشة بالبكاء، و لو حدث ذلك لن تتركها الأخيرة قبل أن تنتزع منها الحقيقة كلها ..
أنقذت "فرح" نفسها من الوقوع في شِراك صديقتها و هي تقول مسرعة دون التخلي عن إبتسامتها :
-غادة. لا أنكر إمتناني لإهتمامك الصادق بي. لكن صدقيني.. أنا لا أخفي عليك شيء. بل أنت صديقتي الوحيدة و لا أعرف سواك و لا أثق إلا بك. تأكدي أنك على دراية تامة بأسرار حياتي
غادة بسخرية : و لكني حتى اليوم لم أسمعك تحكي لي سرًا واحدًا !
فرح و هي تضحك :
-إذن فأنا أعدك منذ الآن أن الآتي من حياتي كله بأسراره و غير أسراره سيكون كتابًا مفتوحًا لك وحدك.. ما رأيك ؟
رمقتها "غادة'' بنظرة مستاءة، لكنها فضلت تغيير الموضوع قبل أن تشتبك معها مجددًا ...
-ما سبب تخلفك عن الذهاب إلى العمل اليوم ؟ و جدي لي عذرًا أقوى من الكسل و النوم فأنا أعرفك جيدًا لست كسولة على الآطلاق
فرح بجدية : لا هذه المرة يجب أن تصدقيني. أقسم لك أن النعاس قد غلبني. كنت أعاني الآرق منذ يومين و البارحة أخيرًا سقطت بالنوم. لم أستيقظ إلا عندما أتيت أنت قبل قليل !
-فرح.. يجب أن تنتبهي لنفسك أكثر يا عزيزتي. فأنت قد فشلت في دراستك. على الأقل لا تفشلي في عملك !
فرح بإمتعاض : أنت تضخمين الأمور كثيرًا ! .. و أكملت بإبتسامة مشرقة :
-ما رأيك بوجبة برجر سريعة ؟ لم أتناول فطوري بعد و يمكنني طلب المطعم لن يتآخر في التوصيل !
زفرت "غادة" قائلة :
-سأفقد عقلي يومًا ما بسببك. تعرفي ؟ أعتقد أن جلستي مع أمك ستكون أفيد لي أكثر من رفقتك الآن. بالإذن يا حلوة !
و قامت من مكانها و هي تضربها بوسادة صغيرة في وجهها الضاحك ...
راقبتها "فرح" مبتسمة و هي تمر من أمامها قاصدة غرفة السيدة "ناهد".. تنفست بعمق مفكرة... ترى ماذا تفعل الآن ؟ بعد أن قررت أن تأخذ هذا النهار عطلة
و غدًا الجمعة عطلة أيضًا، يا لها من فرصة عظيمة للإستجمام و تجديد النشاطات.. و لكنها لا زالت تجهل ماذا عليها أن تفعل ؟!!!
ربما تنتظر " غادة" بعد أن تفرغ مع أمها و تخرجا معًا، تتناولا الغداء في مطعم البيتزا الجديد بنهاية الشارع، و من ثم تذهبا إلى صالة السينما لمشاهدة فيلم الرسوم المتحركة الذي يعرض حصريًا بالآونة الأخيرة
عجبًا !
فهي لا زالت تحب أفلام الرسوم المتحركة.. أتراه نوعًا من أنواع جلد الذات الذي تلجأ إليه كلما ضاق صدرها !!!!
إرتعدت "فرح" في هذه اللحظة عندما رن جرس الباب فجأة ...
نهضت على الفور و ذهبت لتفتح ..
كان شابًا في أواسط العشرينيات، يرتدي حلة رسمية و يبتسم بتهذيب و هو يمثل أمامها ...
-صباح الخير ! أهذا منزل السيدة ناهد عبد الحي ؟!
عبست "فرح" قائلة :
-نعم.. من تكون أنت ؟
الشاب محافظًا على إبتسامته اللطيفة :
-أنا أُدعى حسن. أعمل كسائق لدى السيد هاشم الباردوي. السيد أرسلني لأسلم تلك الدعوة للسيدة ناهد شخصيًا ! .. و مد يده بمظروف صغير أنيق الشكل
إزداد عبوس "فرح" عندما طرق سمعها كُنية ذاك الـ"هاشم"... إنه من عائلة "البارودي" إذن، من عائلتها !!!
ما الذي ذكرهم بها الآن ؟ هل كانوا يذكرونها أو يعرفوا بوجودها أصلًا ؟!!!!
-السيدة ناهد مريضة وطريحة الفراش منذ مدة ! .. هتفت "فرح" بصلابة
-أنا إبنتها. و إذا كنت لا تمانع يمكنك تسليم الدعوة لي أنا. لأنها أحوج ما تكون قادرة على مالاقاتك بنفسها
أجفل الشاب من طريقة "فرح" و اللهجة العدائية التي تخاطبه بها.. لكنه سلّمها الدعوة في الأخير، إذ لا يتعارض هذا مع تعليمات "هاشم"، فقد أخبره أن السيدة "ناهد" تعيش برفقة إبنتها، و ها هي إبنتها تقف أمامه خلف باب الشقة و كأنه درع يحميها منه و من غيره !!!
-شكرًا ! .. قالتها "فرح" بإبتسامة سخيفة ثم أغلقت الباب بوجه الشاب المسكين
عادت "فرح" إلى الداخل و هي تحمل ذلك المظروف في يدها، جلست في الصالون القريب و أخذت تقتطع جزءًا من المظروف لفتحه.. أخرجت منه ورقة صغيرة مطوية، و فتحتها بلا تردد !
______________________________
كان قد شمر عن ساعديه.. و طفق يغير لإبنته الحفاضة، و ينظفها بيديه و يعطرها و يقمطها فوق سطح مكتبه الضخم، كل هذا تحت أنظار والدته المشدوهة ...
و مرة أخرى تطلعت السيدة "چشم" حولها ثم نظرت له قائلة بذهول :
-أنت حقًا لا تُصدق يا إبني !!
رجل مثلك و في مركزك و مستواك الإجتماعي. عندما يكون بإمكانك توفير أفضل جليسة أطفال لإبنتك لا تآبى إلا أن تصطحبها معك في كل مكان تذهب إليه حتى هنا.. في شركتك و داخل مكتبك !!!
إبتسم "هاشم" و هو يمسح يديه في منديل ورقي رطب، ثم يحمل إبنته على ذراعه و يمضي صوب الصالون الصغير وسط غرفة المكتب حيث تجلس أمه ...
-تعرفين أنني لا آتمن أحد على إبنتي يا أمي ! .. قالها "هاشم" و هو يجلس مقابل أمه
وضع الصغيرة على حضنه مضيفًا بصوته الهادئ :
-أفضل أن أقوم أنا بجميع الواجبات التي تحتاج إليها. و صدقيني لا أجد مشقة في هذا بل أنا ممتن لكل لحظة أقضيها برفقتها
چشم بعتاب : تقول أنك لا تآتمن أحد عليها !
حتى أنا هاشم ؟ جدتها و أمك ؟!!
هاشم بلطف : لا تسيئي فهمي چشم هانم. أنا لا أقصد ما وصل إليك.. كل ما في الأمر أنني أعشق سيرين بجنون و لا أطيق أن تغيب عن ناظريّ طرفة عين
و رفع الصغيرة قليلًا ليقبّلها على خدها المكتنز بقوة
كركرت "سيرين" ضاحكة عندما دغدغها أبيها بلحيته، بينما تقول "چشم" عابسة :
-يسعدني أنك تهتم بها و تحبها إلى ذلك الحد. لكن يتحتم علىّ إخبارك أن هذه التصرفات المبتذلة لا تليق برجل مثلك
هاشم ضاحكًا ملء فمه :
-أنا أبتذل ! و فيما يتعلق بإبنتي ؟! كما تشائين .. ثم قال بجديته المعهودة :
-و الآن هل لي بأن أعرف سبب زيارتك الكريمة لي يا أمي !
زفرت "چشم" يائسة من أفعال إبنها و تصرفاته كافة، لكنها تحدثت في الأخير ...
-لقد مر إسبوعًا حتى الآن. و قد قلت يوم وفاة جدك أن هناك وصية سيتم فتحها في وجود جميع أفراد العائلة و العائلة تنتظر كما ترى. هل تجعلهم ينتظرون أكثر أم ماذا !
تنهد "هاشم" قائلًا بفتور :
-لا أكره في حياتي سوى شيئان. الكذب و الثرثرة المستمرة .. و أردف بنفاذ صبر :
-قولي لهم أن يتحلوا ببعض الصبر. فأنا لا أمرح و لا يعجبني الأمر عالقًا كما هو. قلت أن جميع أفراد العائلة يجب أن يكونوا مجتمعين و ما زال بنقصنا إثنان
چشم بشيء من الإنفعال :
-و كم ترانا سنصبر على تفضل زوجة خالك و إبنتها بالمجيئ إلينا ؟ رأيت بنفسك أننا لم نمانع بإستقبالهما و أنني سعيت بكل جهدي لأقنع البقية بهذا القرار. و أنت بعثت لهما بتلك الدعوة فهل جاءك منهما حتى الرد ؟ لا أعتبر هذا إلا تجاهل و إستخفاف بنا !
هاشم بخشونة : لا ندري موانع الناس و ظروفهم. لعل هناك ما أعجزههما عن الرد
-و إلى متى علينا أن ننتظر ؟!!
مسد "هاشم" على رأس إبنته و هو يقول بصرامة :
-لن يطول إنتظاركم. لا تقلقي.. فهذه المرة سأذهب لهما بنفسي !
______________________________
ما أن أعادت "فرح" كأس الماء إلى صينية الطعام مجددًا، حتى أشارت لها أمها بيدها لكي تكف عن إطعامها المزيد
أومأت "فرح" لها متفهمة ...
إلتقطت منديلًا قماشيًا من جوارها و طفقت تمسح لها فمها، كانت "ناهد" ترمقها بنظرة مفعمة بالحب و الحنان، بينما ملامح "فرح" دائمًا أمامها إما عابسة أو جامدة
إنما الآن كانت ساكنة، هادئة كبركة راكدة... حملت الصينية لتضعها جانبًا فوق طاولة محاذية، ثم أخذت تعدل الوسائد خلف ظهر أمها
و إستوت جالسة على طرف السرير من جديد ...
-ألا تريدين الإطلاع على أخر الأخبار ماما ! .. تمتمت "فرح" بصوت خفيض
قطبت "ناهد" حاجبيها و أشارت لها بالموافقة، لتقول الأخيرة.. بعد برهة صمت :
-لقد وصلت لنا دعوة.. الإسبوع الماضي. لقد ترددت كثيرًا قبل أن أخبرك بشأنها. بل أنني وددت لو أمزقها و ألقي بها في مكب النفايات.. لكن. أظن أن من حقك أن تعرفي على الأقل !
قرأت "فرح" التساؤل في عينيّ أمها قبل أن تفعله مستخدمة لغة الإشارة التي تعلمتها جيدًا من "غادة" ...
إبتسمت "فرح" و هي تقول لها ببرود :
-تريدين معرفة من أرسلها. صحيح ؟ إحزري ! .. و أعلنت فجأة :
-إنهم آل البارودي.. عائلة أبي. أتصدقين ؟!
إتسعت أعين "ناهد" بصدمة، لتؤكد "فرح" لها :
-لقد أرسل لنا فردًا منهم يُدعى هاشم.. تعرفين ماذا قال في رسالته بالضبط ؟ على كل لقد كانت رسالة قصيرة و مقتضبة جدًا. إلا إن فحواها بدا هام جدًا جدًا !
و أخرجت الرسالة من جيب سروالها المنزلي، ثم ألقت بها في حجر أمها قائلة بقسوة مفاجئة :
-لقد عزمت العائلة الكريمة على إعطائنا إرث أبي يا ماما. بعد عشرة أعوام من موته.. أخيرًا سيلقوا لنا بعض من الفُتات تصدقًا على روحه. بالطبع.. ألم نكن الجزء الحقير منه و الذي فرض عليهم ؟ و كيف السبيل إلى تطهير سيرته بالكامل ؟ بالصدقة طبعًا !!
كانت "ناهد" قد أمسكت بورقة الدعوة و بدأت تقرأها بالفعل، حتى سكتت ثورة إبنتها مؤقتًا، تطلعت إليها و هي تخاطبها بلغة الإشارة ...
ليحمّر وجه "فرح" و هي تقاطع حديثها الصامت هذا بغضب جم :
-أتمزحين معي الآن ؟ خيرًا لك أن يكون ذلك مجرد مزاح. و لتعرفي أنه حتى لو كان كذلك فهو مزاح ثقيل لن يعجبني. أنا لن أذهب إلى هناك. و لن أقابل أيًّ منهم. هؤلاء الأثرياء الأوغاد لا أتشرف بهم كما لم أتشرف يومًا بحمل لقب عائلتهم.. لا أنا و لا أنت ستتطئ قدمانا هذا المنزل. و إن أحببت أنت الذهاب إليهم فأنا أعدك بأنك لن تجديني بجوارك عندها. سأختفي من حياتك للأبد سيدة ناهد.. تصبحين على خير !
و هبت من مكانها قبل أن تسنح للأخيرة أيّ فرصة للرد، أخذت صينية الطعام و خرجت من الغرفة صافقة الباب خلفها
لتبقى "ناهد" ساهمة في إثرها بعينان دامعتان، و قبضتها قد إعتصرت ورقة الدعوة إلى حد كاد يتلفها !!!!!! ............... !!!!!!!!!!!!
يتبع ...
 

تعليقات
إرسال تعليق