رواية محسنين الغرام الفصل الثاني بقلم الكاتبه نعمه حسن حصريه وجديده على مدونة أفكارنا
رواية محسنين الغرام الفصل الثاني بقلم الكاتبه نعمه حسن حصريه وجديده على مدونة أفكارنا
ـ٢ـ ♪ عصا سحرية ♪
في صباح اليوم التالي..
اتخذ فريد طريقه نحو محافظة الشرقية، حيث يمكث والده بالعزبة الخاصة به.
وبالرغم من أن الذهاب إلى هناك لم يكن مخططًا له بالمرة، وهو الذي يمقت أن يكون مجبرًا على فعل شيء لم يستعد له، ولكن عندما يأمر والده لا يكون عليه سوى الطاعة، حتى لو كلفه الأمر أن ينتقل في ذلك الوقت المبكر من محافظة لأخرى تبعد عنه مئة كيلومتر تقريبا.
بعد مرور حوالي ساعة ونصف كان يقف بسيارته أمام مدخل العزبة والذي يحسبه الزائر لأول مرة مكانًا تاريخيًا عريقًا لشدة فخامته، حيث الأسوار العالية التي تتوسطها بوابة ضخمة معلقًا على واجهتها لافتة عريضة جدًا دوّن عليها بخط كبير " عزبة مرسال " .
أسرع الغفير بفتح البوابة فعبر فريد بسيارته للداخل، ثم صفها وأكمل طريقه نحو مجلس والده سيرًا ، وفي طريقه كان يتأمل المكان الذي يستحق التأمل عن كثب.
مساحة خضراء واسعة تمتد إلى ما يقرب من ستين فدانٍ ، يتوسطها قصر الباشا سالم مرسال الذي ورثه عن والده وأجداده، وحول القصر حديقة واسعة، و بالجوار تجد مزرعة خيول تضم حوالي عشرين خيلًا عربيًا أصيلًا، يرعاهم سالم بنفسه، فلقد تربى ونشأ على حب الخيول حيث تعلم تدريبهم منذ أن كان يبلغ من العمر خمسة عشر عاما، وترعرع حب الخيول في دمه فأصبح أشهر مالك لأكبر مزرعة خيول تصدر خيولاً لرجال الأعمال وأمراء الخليج بآلاف الدولارات.
على مدد بصره رأى فريد والده الذي يجلس بالحديقة، يرتدي جلبابا فضفاضا يليق بالمكان المتواجد به، وبجواره النرجيلة ، مما جعل فريد يضحك ضحكة خافتة متهكمة وهو يقول لنفسه:
ـ آخر روقان والله..
تقدم منه وألقى التحية بابتسامة رسمية وجلس على مقربة منه وهو يقول:
ـ صباح الخير يا باشا ..
أشار إليه سالم قائلا:
ـ صباح الخير ، اقعد.
جلس فريد وعيناه لا تحيد عن والده فقال:
ـ خير، إيه الموضوع الضروري اللي جبتني بدري كده عشانه.
لم يُجبه والده، بل أخرح من جيبه الشيك الذي أعطاه فريد لمنصور الحارس وألقاه أمامه وهو يقول بنظرة غاضبة لائمة أرسلت الحرج في نفس فريد، وقال:
ـ ممكن أفهم إيه ده؟
نظر فريد إلى الشيك بحرج وحمحم قائلا بثبات:
ـ أكيد لما حضرتك تتعامل معاها كأنها في سجن بتقضي عقوبة ومحكوم عليها حكم مؤبد هلجأ لأني أتصرف بالطريقة دي.
نظر إليه والده باستنكار وقال بانفعال لم يُنقِص من هدوءه:
ـ تقوم تِرشي الحارس الشخصي بتاعي؟ تقل من نفسك قدامه بالطريقة دي؟ فاكر إنه مش هيبلغني؟ فاكر إنه هيخسر رضايا مقابل عشرين ألف جنيه؟
ـ مكانش قدامي حل غير كده !
صاح سالم بعصبية وهو يشيح بيديه باندفاع:
ـ إنت مالك أصلا ؟؟ دي بنتي وأنا حر أتعامل معاها زي ما أنا عايز، طول مانا عايش إنت ملكش حق تتدخل في أي حاجه تخصها!
نظر إليه فريد مستنكرا ما يقوله وقال:
ـ وتبقا أختي!! والمعاملة اللي بتتعامل بيها دي مش إنسانية أبدا ! كفاية اللي جرالها بسببك !
ألقاها فريد بغضب أعمى لتتقافز حمم الغضب بعيني والده الذي نهض واقفًا وقال بحزم مشهرًا سبابته بوجهه:
ـ إياك تتجاوز حدودك مرة تانية ، مش عشان كبرت في السوق وبقالك إسمك هتكبر على أبوك، إوعى تنسى إني أنا اللي عملتك، أنا اللي عملتكوا كلكوا، و إياك تفكر إنك عشان رئيس مجلس كم شركة هتعمل راسك براسي، فوووق.. أنا بس اللي أقول إيه يصح و إيه مايصحش.. وإياك ثم إياك اللي حصل ده يتكرر ، نسيم مسؤوليتي أنا وبس، متضرهاش بإيديك أنا بحذرك.
وتركه وهم بالانصراف ولكن فريد استوقفه حينما قال:
ـ نسيم هتيجي تعيش معايا.
عاد سالم إليه بنظره وقال بحدة:
ـ نسيم مش هتخرج من البيت.
ـ ده مش بيت، ده سجن!
ـ ميخصكش، إنت اخترت تعيش لوحدك وتبعد عن السجن ده من زمان وتهرب من المسؤولية وأنا وافقتك وعملتلك اللي يريحك، بأي حق جاي دلوقتي تعدّل عليا وعاوز تفرض رأيك في موضوع زي ده؟
وتركه وتحرك للأمام ولكن فريد لم يكن ليتراجع أو يؤثر الصمت فلحق به وهو يسير خلفه ويقول بمجادلة:
ـ أنا سِبت البيت لظروف خاصة، مش عشان أهرب من مسؤولية أختي زي ما بتعتقد، اخترت أكون في المكان اللي أبقى مرتاح فيه، وأظن ده أبسط حقوقي، ومن حق نسيم كمان تكون مرتاحة في المكان اللي عايشة فيه.
نظر إليه سالم بنفاذ صبر وقال:
ـ نسيم هتكون مكان ما أنا عاوزها تكون..
وأردف بانفعال غير مبرر؛
ـ جرا إيه مالـــك!! إنت دايما ناقم على كل شيء ومفيش حاجه عاجباك ليه؟ سبتها في دبي اعترضت، جبتها مصر اعترضت.. دايما شايف إني بأذيها وجاي عليها ليه؟
ليقاطعه فريد محتدًا عليه بغضب أسود قد لفظ معه آخر ما تبقى من طاقته:
ـ أنا فعلا غلطان لأني اعترضت لما سبتها في دبي لوحدها وهي طفلة لا راحت ولا جت، وغلطان لأني اعترضت لما جبتها مصر وقررت توديها دار أيتام مع إنها مش يتيمة ومن عيلة كبيرة تسد عين الشمس، الدار اللي صاحبها المحترم كان بيتحرش بالبنات وببنتك وكلهم شهدوا بكده، وغلطان لأني حاليًا معترض على وجودها في البيت اللي هي عايشه فيه زي اللي محكوم عليها بالسجن المؤبد ، ممنوع تخرج، ممنوع تروح، ممنوع تيجي، ممنوع حد يزورها، دي حتى لو خرجت بتخرج متخفية وكأنها عليها تار.. أنا غلطان لأني خايف عليها وعاوز راحتها، المفروض أبقى أناني ومبفكرش غير في نفسي وبس !
للحظة خيم الحزن على عيني سالم الذي بدا متأثرًا للغاية ولكنه لم يكن ليُظهر ذلك فقال بصوت عميق وبارد:
ـ أنا أبوها وأدرى بمصلحتها، لما أموت ابقى اعمل اللي انت عايزُه.
هم فريد بالإجابة ولكنه أشار إليه بكفه في علامة مقاطعة معلنًا انتهاء الحوار، فصمت فريد مستسلمًا وهو ينظر لأبيه الذي اتخذ طريقه نحو القصر ، ثم زفر وهو يمسح وجهه بكفيه بقلة حيلة ويقول:
ـ مفيش فايدة، هتفضل طول عمرك أناني وظالم.
وعاد أدراجه حيث صف سيارته وانطلق بها عائدًا إلى القاهرة!
•••••••••••••••••••••
لم تنم تلك الليلة ولم يعرف النعاس سبيلًا لجفنيها، تكالبت عليها الهموم وفعلت بها الأفاعيل، وكلما تخيلت أنها من الممكن أن تفقد خالتها في أي وقت دون إنذار انقبض قلبها وغصت روحها، فكيف لها أن تصارع الحياة بمفردها وهي التي تتكيء على خالتها وتستأنس بوجودها في حياتها، برغم مرضها ولكنها الداعم الوحيد والأساسي لها!
لقد كبرت وترعرعت بين أحضانها، لم تعرف لها أمًا ولا أبًا، كل ما تعرفه أن القدر فرق بينها وبين والدتها منذ لحظة لقاؤهما الأولى، حيث ماتت بعد ولادتها مباشرةً ، ليتولى بعدها رعايتها والدها والذي كان يعمل سائق قطار ومات في حادث تصادم قطارين وهي تبلغ من العمر عامين فقط، لتنتقل بعدها إلى كنف خالتها، أمها الفعلية، التي احتضنتها وربتها وعاملتها كما تعامل ابنها وأفضل، ولولا وجودها لكانت آلت أمورها إلى أسوأ وأضل مآل.
حسنًا هي لن تنكر أن السيئة الوحيدة في حياة خالتها أنها أم حسن، كابوس حياتها الذي تطمح لأن تتخلص منه يومًا، والذي وضع بصمته الخاصة على حياتها وأعاد صياغتها فحولها إلى نسخة رديئة جدًا تمقتها وتكرهها وتشعر بالخزي منها، لذلك لم تتردد في الإبلاغ عنه عندما علمت بفعلته وكم شعرت بالحرية عندما علمت أنه قد تم الحكم عليه بثلاث سنوات ، وقتها تمنت لو أنهم كانوا ثلاثين عاما لكي يفنى شبابه بالسجن أو يموت ويطلق سراحها للأبد.. ولم تشعر إلا وقد مرت السنوات الثلاثة وانقضت، وأوشكت فترة حريتها على الإنتهاء.
أطلقت تنهيدة حارة وهي تنظر إلى انعكاس صورتها الحزينة بالمرآة أمامها ثم رفعت كفيها وهي تتضرع إلى الله وتقول:
ـ يارب، أنا عارفة إني ماستاهلش، عارفة إني عملت حاجات كتير غلط، بس ساعدني عشان خاطر خالتي.. أنا ماليش غيرها.
استمعت إلى طرقات بسيطة على باب غرفتها ففتحت الباب وهي ترسم ابتسامة حانية على ثغرها وقالت:
ـ صباح الخير يا عيوش.
ـ صباح الفل يا حبيبتي ، لقيتك رايحه في النوم صعبتي عليا قولت أسيبك تريحي النهاردة من الشغل.
ابتسمت نغم بتوتر، وهي تفكر كيف ستخبرها أنها قد حصلت على البطاقة الصفراء وتم طردها، ولكنها لم تُرد أن تضيف همًا فوق همومها فسكتت وقالت بابتسامة مهزومة:
ـ أنا واخدة أجازة يا خالتي، أسبوع بحاله قاعدة في أرابيزك.
نظرت إليها عائشة بتعجب وقالت:
ـ معقول؟ والست فيفي وافقت؟ دي متستغناش عنك!
نظرت إليها نغم بابتسامة مصطنعة وقالت بسخرية مبطنة:
ـ ليه ده أنا رحت ولا جيت بعمل مانيكير وباديكير، والبنات كتير هناك يعني لو واحدة مشيت مش هتخسر حاجة.
ـ مشيت؟؟ هو إنتِ سيبتي الشغل ولا واخدة أجازة؟..
تساءلت خالتها باستغراب ممزوج بالحيرة فتراجعت نغم فورًا ونظرت إليها بهدوء وابتسامة مزيفة وقالت:
ـ أيوة واخدة أجازة، قلت لازم أخلي بالي منك كده لأن صحتك مش عجباني ليها فترة..
للمتعه والترفيه أدخلوا هنا 👇 ❤️ 👇ابتسمت الأخرى بوهن وهي تمسح على خدها بحنان وقالت:
ـ ربنا ميحرمنيش منك يا نغم يا بنتي وأشوفك عروسة وأفرح بيكي قبل ما أموت.
اهتز قلبها وكتمت دموعها رغمًا عنها وهي تقول بعتاب ممزوج بالخوف:
ـ متقوليش كدا عشان خاطري ، ربنا يطول في عمرك وتشوفي أحفادي كمان.
ضحكت الأخرى بيأس وهي تمسح على خصلاتها المموجة وتقول:
ـ أحفادك !! بس أنا أطمن عليكي وأعرف إنك بقيتي في ضل راجل يحميكي ويحبك، وأنا وقتها مش هكون عاوزة حاجة من الدنيا، هموت وأنا مرتاحة وراضية.
ونزلت دمعاتها وهي تضيف:
ـ خايفه يا نغم، خايفة أموت وأسيبك لوحدك .
احتضنتها نغم وتشبثت بها بكل قوتها، تتمنى لو كان بإمكانها أن تحتفظ بذلك الحضن وتلك الرائحة حتى يفنى العالم بأكمله، ولكن مَن منّا بإمكانه تحريك دفة مصيره كيفما شاء؟!
ـ بعد الشر عليكي يا خالتي، عشان خاطري بلاش كلامك ده.
ابتعدت عنها عائشة وهي تنظر إليها بتركيز، ثم أمسكت بكتفيها في تصميم وهي تقول:
ـ اسمعيني يا نغم، محدش ضامن عمره، كلنا رايحين يا بنتي محدش هيخلد، الكلام اللي هقولهولك ده اعتبريه وصيتي ليكي..
نظرت إليها بدموع يملؤها الرجاء وقالت محاولةً ثنيها عما تقوله:
ـ خالتي عشان خاطري..
ـ اسمعيني وبلاش تقاطعيني، وصيتي ليكي اوعي تجبري نفسك على حاجة إنتِ مش عايزاها، إوعي تخلي الحاجة والعوزة تخليكي تعملي حاجة أو تقبلي بحاجة مش شبهك، متعمليش زيي وتغلطي نفس غلطتي يا نغم..
كانت ستقاطعها بالطبع عندما التهب فضولها ولكن الأخرى قاطعتها قبل أن تسأل حيث استطردت:
ـ لو بتحبيني بلاش تسألي عن حاجة، كفاية عذاب الضمير اللي عايشه بيه، وكفاية العذاب اللي مستنيني في الآخرة، لو مت افتكريني وادعي لي ربنا يسامحني ويغفر لي يا نغم، وافتكري كلامي دايما في كل حاجه هتعمليها، متخليش حد يغصبك على حاجة إنتِ مش عاوزاها، حتى لو الحد كان مين !
تنهدت نغم وقد أثار حديث خالتها ريبتها وجعل الظنون تعصف بها، ثم نظرت إليها وقالت بتوسل:
ـ طيب ريحيني وقوليلي مخبية عني إيه، متسبينيش لدماغي كدا.
مسدت ذراعيها بلمسة حنونة وابتسامة فاترة وهي تقول:
ـ هتعرفي كل حاجه في وقتها، متشيليش الهم من دلوقتي.
ومسحت آثار الدموع الراكدة بمحجريها وهي تقول:
ـ يلا عشان تفطري، وبعدها هسرحلك شعرك وأضفرهولك زي ما كنت بعمل وانتِ صغيرة، عايزة أشبع منك..
نطقت بالأخيرة بدون وعي وشرود، ولكن نغم التقطتها، وحفرت الكلمة جرحًا غائرًا بأعمق أعماق قلبها الصغير الذي لم يذق طعم الفرح بعد .
ـــــــــــــــــــــــــ
بعد وصول فريد إلى القاهرة توجه على الفور نحو فيلا والده، صف سيارته ونزل منها متجهًا إلى منصور الذي كان يقف متأهبًا لأي طارئ ولكنه لم يتأهب جيدا لتلك اللكمة التي أتته بغتةً من قبضة فريد فجعلته يميل للخلف ويستقيم مجددا بمنتهى الثبات الانفعالي.
نظر فريد تجاه شرفة الغرفة الخاصة بنسيم ليجدها واقفة تطالعه بخوف وترقب وهي تشير إليه لكي يصعد إلى غرفتها، في تلك اللحظة ابتلع مرارة عجزه وغادر متجاهلا نداؤها وحتى مكالماتها لأنه لا يجد في الوقت الحالي ما يخبرها به.
ثم عاد بعدها إلى سيارته وهو يشعر بأنه تخلص من الكثير من توتره وعاد لرصانته وهدوءه المعتاد، وبتلقائية أخرج زجاجة الكحول وعقم يديه للمرة التي لا يعرف عددها، وتحرك صوب بيته .
بعد أن وصل إلى بيته أخذ حماما وبدل ملابسه وأعد كوبًا من القهوة يحتسيه وهو يجري الاتصال اليومي بعمر ولكن تلك الرسالة المسجلة هي من أخبرته أنه غير متاح حاليًا، فما كان منه إلا ابتسامة متهكمة وهو يردد بضيق:
ـ ليك حق تهرب وتقفل تليفونك ما انت مش شايل هم حاجة ولا هم حد.
وألقى هاتفه بإهمال على الفراش وراح يتمم على مظهره النهائي قبل أن يغادر إلى الشركة.
ـــــــــــــــــــــــ
في مدريد..
بدأ عمر بالاستيقاظ، ففتح عينيه بتعب وهو يشعر بالألم يدق رأسه ويتخلل جسده من كل إتجاه، اتخذ الأمر لحظات حتى تذكر تلك الليلة الطالحة التي قضاها بالأمس، فنظر بجواره حيث كانت تستلقي ' لاتويا ' شريكة الليلة الماجنة، فهز رأسه ضاحكًا وهو يقول:
ـ نفدت بجلدها.
مال بجذعه ليلتقط الهاتف ينوي معرفة كم الساعة، ولكنه تعجب عندما وجد مكان الهاتف فارغًا، فنهض والتقط ثيابه الملقاة أرضًا وأخذ يفتش بها ولكنه تلقى الضربة القاضية.. جزدانه غير موجود !!!
أخذ يبحث بأرجاء الغرفة كالمجنون، يهرول يمينا ويسارا وينحني أسفل الفراش وبين الأغطية وفي الخزانة ولكن النتيجة صفر!! فبدأ بالسباب واللعن وارتدى ملابسه سريعا وغادر الغرفة متجهًا نحو قسم الاستقبال وسأل عنها فأخبرته الموظفة أنها غادرت ليلا بعد وصولهما الفندق بساعتين تقريبا.
ثار وكان على وشك ضرب الموظفة لأنها ترفض مراجعة الكاميرات ، وبالطبع لو يملك المال لأعطاها وحقق غايته، ولكن لاتويا لم ترأف بغربته حتى وسلبته كل ما يملك.
ولأن المصائب لا تأتي فرادى أخبرته الموظفة أنه بضياع هويته فقد أصبح خارج نظام الفندق، وبالتالي سيتم طرده وسحب السيارة منه، ليستخلص من حديثها الأخرق شيئا واحدا هاما.. لقد أصبح بالشارع!!
حاول عمر أن يستدر عطف الموظفة، وأن يشرح لها ما فعلته حبيبته الخائنة التي سرقت كل ما يملك وهربت، إضافة لأنه ذكر لها أنه ابن عائلة غنية جدا في مصر، وأنه سيحاول التواصل مع أيًا من أفراد أسرته وجعلهم يرسلون إليه أموالا عوضًا عن التي سُرقت منه، وأنه سيرد لها الجميل فور عودته إذا وافقت وساعدته، حتى أنه يئس وحاول مواعدتها ربما حينها يستطيع الحصول على مساعدة، فقط كل ما يحتاجه هو فرصة للبقاء بالفندق ليومين إضافيين حتى يتسنى له إدارة تلك الأزمة وإيجاد حل لها، ولكن جميع المحاولات باءت بالفشل .
………
كانت نغم تجلس أرضًا وخالتها تجلس خلفها على الأريكة ممسكةً بشعرها تجدله كما كانت تفعل دومًا في صغرها وهي تقول بابتسامة وحنين للماضي:
ـ لما أمك الله يرحمها ولدتك وشفتها قد إيه فرحانة إنها خلفت بنت كنت مستغرباها، فضلت أكلم نفسي وأقول هي فرحانة على إيه؟ اللي مخلفتش ولد يبقى مخلفتش، الولد هو اللي هيكبر ويبقا راجل يسندها، انما البنات مشاكلهم كتير ومش بييجي من وراهم غير وجع القلب.
وعقدت جديلتها وراحت تمسح على رأسها بحنان وهي تقول:
ـ بس لما ماتت هي وأبوكي الله يرحمهم وخدتك أنا أربيكي عرفت كانت فرحانة بيكي ليه، عرفت يعني إيه ضحكة منك تنور الدنيا وحضن منك يداوي الروح والقلب، عرفت إن اللي مخلفش بنات يبقا هو اللي فعلا مخلفش.
أمسكت نغم بكفيها الموضوعيْن على كتفيها وهي تقول بابتسامة مشاكسة:
ـ معنى كده إنك مش معترفة بحسن ولا طيقاه!
ضحكت الأخيرة ثم تنهدت، واحدة من تلك التنهيدات التي تشطر القلب شطرين، جعلت نغم تشعر بالضيق من نفسها وهي ترى شعور بالهزيمة يضج بعيني خالتها مع قليل من الأسى:
ـ لأ يا نغم.. حسن حته من روحي، مقاسمني العذاب من يومه، الغُلب والمرار كان كاس وشربناه احنا الاتنين، من يوم ما وعي على الدنيا وهو محروم من إنه يعيش عيشة عادية زي أي حد، اوعي تكوني فاكرة إنه مبسوط بدور البلطجي اللي عايش فيه ده، أبدا.. حسن كبر ملقاش قدامه غير السكة دي، ولو كان مبقاش حسن العقرب اللي بيتهز له أجدعها شنب كان زماننا متداسين من الكل، هي الحياة ماشية كده يا بنتي، غابة واللي ملوش فيها ضهر يتاكل وملوش دية.
وراحت تتمتم بقلب أم لا يقسو ولا يكره أبدًا:
ـ ربنا يفك ضيقتك يا حسن انت وكل اللي زيك، وينتقم من اللي أذوك.
انقبض قلبها وشردت بعيدًا و أحست بما قالته خالتها وقد ترك أثراً لا يُمحى في قلبها، مع قليل من الشعور بالذنب لأنها هي من تسببت في سجنه وتسببت كذلك في حرمان خالتها منه وهي تمر بظروف صحية سيئة، ولكن سرعان ما استعادت وعيها وهي تخبر نفسها وبقايا ضميرها الحي أنه يستحق ما ناله، في النهاية هي لم تظلمه ولم تسجنه عبثًا، كل ما فعلته أنها أبلغت الشرطة بمكانه وساعدتهم في إلقاء القبض عليه.
انتشلتها خالتها من شرودها إذ ربتت على كتفها وهي تقول بنبرة يفوح منها الحنان:
ـ يلا يا ست البنات، قومي وأنا هقوم أدخل اوضتي أرتاح شوية.
ـ أنا هخرج أتمشى شوية.
ـ على فين؟
هزت كتفيها بحيرة وأردفت:
ـ مش عارفه، هتمشى شوية وأرجع.
ـ طيب خلي بالك من نفسك.
خرجت نغم من البيت وهي لا تدري أي وجهةٍ ستقصد، كانت تسير في الطرقات هائمةً، شاردةً تفكر فيما سيحدث بعد أيام، أو ربما بعد ساعات..
ساقتها قدماها إلى أحد مقاعد الاستراحة الموجودة على جانبي الطريق فجلست على إحداهن وشردت، تتذكر حديث خالتها والغموض الذي يلفه، ليصبح هذا الحديث عبئًا إضافيًا إنضم لقائمة أعباءها التي لا تنتهي.
بينما دخلت عائشة إلى غرفتها، أوصدت الباب خلفها بإحكام، وقبعت على فراشها ممسكةً بورقة وقلم وبدأت تكتب رسالة إلى ابنها.
" ابني الحبيب حسن، مش عارفة ربنا هيكتبلي إني أعيش لحد ما تخرج بالسلامة ولا لأ، ومش عارفه هلحق أقوللك الحقيقة اللي مخبياها عنك بقالي خمسة وتلاتين سنه ولا لأ، عشان كده قررت أكتبلك الرسالة دي، هحكيلك فيها كل حاجة لازم تعرفها، عشان لما أموت تعرف تاخد حقك من مين وازاي، وأرجوك يابني متدعيش عليا وسامحني، مقدرتش أواجهك بالحقيقة ولا مرة، عارفة إني جبانة.. بس خلاص أنا مش ضامنة عمري…… "
بعد حوالي ربع ساعة كانت قد انتهت من سرد الحقائق واحدةً تلو الأخرى، وقد أزاحت حجرًا ثقيلا من على قلبها بعد أن كتبت ما لم تجرؤ على قوله كل السنين الماضية ، و ذيّلت رسالتها بكلمات يذوب لها القلب " وقت ما تقرأ الرسالة دي هكون بين إيدين ربنا، ادعيلي "
طوت الورقة التي روتها بدمعاتها، ثم وضعتها أسفل وسادتها وهي تنوي أن تذهب في الصباح قبل استيقاظ نغم لكي تعطي الرسالة لجارتها أم مرزوق وتطلب منها أن تبقى الرسالة بحوزتها أمانة حتى إذا جاء أجلها وتوفاها الله تسلمها إلى ابنها حسن.
—-----------------------
وصل فريد إلى مقر الشركة،. حيث أنها واحدة ضمن مجموعة شركات باسم مرسال جروب للاستثمار العقاري.
دخل ليتلقى الابتسامات المجاملة من البعض والودودة من البعض الآخر، ثم سار خطوات نحو المصعد الخاص به والذي لا يستخدمه أحدا سواه، دخل وقبس زر الطابق الخامس حيث يكمن مكتبه فريد الطراز.
دخل المكتب والذي هو عبارة عن غرفة واسعة جدرانها باللونين الأبيض والأسود ، وكل قطعة أثاث فيها إما باللون الأبيض أو الأسود لا تحيد عنهما، بالإضافة إلى تلك اللوحات المعلقة على جدران الغرفة والتي رسمها بنفسه، إضافة إلى لوحة سريالية تعلو الجدار الخلفي لمكتبه،وتبتلع بشراهة مساحة واسعة منه، لرجل يرتدي معطفا أسودا، وقبعة بولر سوداء، يظهر من خلفه جزء من سور صخري يحول بينه وبين البحر، وتطل عليه من الأعلى سماء ملبدة بالغيوم، الشيء العجيب في اللوحة أن هذا الرجل يمسك بمخ إنسان بين يديه!!
هذه اللوحة كسائر التفاصيل في هذه الغرفة لا تخرج ألوانها عن الأبيض والأسود أيضا، فهو لا يعترف بالألوان أبدا ، حياته عبارة عن لونين فقط، أما الأسود فهو يمثل الماضي الذي يحاول تجاوزه والنجاة منه ومن تبعاته العسيرة قدر الإمكان، وأما الأبيض فهو حاضره الذي لا يسمح لشائبة أن تشوبه، ومستقبله الذي يسعى بكل ما أوتي من قوة أن يجعله مستقبلا مشرفا بإمكانه أن ينزع اللون الأسود من قلبه للأبد .
كان بصدد التقدم من مكتبه ولكنه تراجع خطوتين للخلف وهو يرمق تلك اللوحة التي مالت قليلا عن موضعها الصحيح بضيق، واقترب منها وعدلها بحيث جعلها موازية للسقف والحوائط كما يفضّل، وبنظرة ثاقبة اتجهت عيناه صوب مكتبته الكبيرة والتي تغطي من الغرفة جدارين كاملين، فكان على وشك الإصابة بذبحة صدرية عندما رأى كتابًا يحيد عن الصف الموازي له قليلا، فاتجه نحو المكتبة متجهمًا وعدل الكتاب سريعًا، وعاد وهو يزفر بحنق، ثم جلس على مكتبه وأجرى اتصالا بمدير أعماله ( أيمن عز الدين ) وأخبره باقتضاب:
ـ صباح الخير يا أيمن، ياريت تبلغ العامل المسؤول عن تنضيف المكتب يرجع كل حاجة مكانها بالمللي بعد ما يخلص، وأهم حاجة اللوحات تكون في وضع أفقي والكتب كلها في نفس الصف بدل المنظر المستفز ده،
وأضاف بحدة وانفعال خافت:
ـ هو أنا هشوف شغلي ولا هعدل وراه؟!
ـ تحت أمرك يا فريد بيه، حالا هبلغه.
أنهى فريد الاتصال وفتح درج من أدراج مكتبه والذي خصصه لقنائن العطر والكحول الخاصة به، وأخرج زجاجة كحول رش منها على يديه، وعلى أطراف سطح المكتب من أمامه وساء الأمر أكثر لدرجة أن طفق يرش من الكحول في كل أرجاء المكتب وفي كل مكان يعتقد أن يد العامل لمسته، ثم تنهد بيأس وشرد قليلا..
بالأساس هو غير راض عن وجود هذا العامل، لأن أشد ما يمقته هو أن يلمس أحدهم أي غرض خاص به، ويكون مضطرا بعدها لاستهلاك مخزون ضخم من عبوات الكحول لتعقيم وإزالة آثار هذا الشخص من على أغراضه، وأحيانًا يضطر آسفا لاستبدال هذه الأغراض بأخرى، لذلك فهو يقوم بتنظيف منزله بنفسه ويرفض رفضًا قاطعًا أن يلجأ لإحدى عاملات التنظيف، ولكن بالطبع لن يستطيع فعل نفس الشيء في المكتب، وهذا ما يشعره بالضيق.
منذ فترة وهو يفكر بجدية في زيارة طبيب نفسي وطلب المساعدة منه، بعد أن أرهقه هذا الوسواس وبدأ يعرقل كثيرا من خطواته، لقد كان مجرد أمرا عاديا في البداية، حتى أنه تجاهله ولم يبح به لأهله إلا بعد طول معاناة، وظل يعاني منه سرًا ما يقرب من سبع سنوات.
سبع سنوات كان يتعجب نفسه في كل مرة يفعل فيها طقوسّا متكررة، وغير منطقية، وحمقاء أحيانًا، ومهما جاهد في نفسه لكي لا يمتثل لتلك الرغبة الملحة في القيام بهذه الطقوس تكالبت عليه الوساوس وشعر بالخطر والتهديد بالضياع أو المرض، ليجد نفسه في النهاية خاضعًا لوساوسه، أسيرًا لأفكاره، وغارقًا بها.
نفض تلك الأفكار عن رأسه، ونهض متجهًا للغرفة الملحقة بالمكتب، دخل وقصد ركن القهوة الخاص به وأعد قدحًا بمعاييره الخاصة، ثم أخذه وخرج عائدًا إلى مكتبه وفتح حاسوبه وبدأ بمراجعة رسائل البريد الإلكتروني التي وردته اليوم، وبعد الانتهاء من مراجعتها عاود الاتصال بعمر ولكن يبقى الوضع على ما هو عليه.. الهاتف مغلق!
ثوانٍ وانفرج الباب ودخلت شابة لها إطلالة رائعة، ترتدي بدلة نسائية باللون الأبيض، وتحتها قميص من اللون السماوي، تعكص شعرها للخلف فينسدل على ظهرها مانحًا إياها هيئة كلاسيكية منمقة، تقدمت للداخل تطرق الأرض بحذائها ذو الكعب العالي وهي تحمل بعض الأوراق بين يديها وتقول مقبلةٍ عليه بابتسامة:
ـ جايلنا عرض هايل يا فريد .. مستثمر سعودي عاوز يدخل معانا شريك في مصانع الوادي الجديد..
كان ينظر إليها بسخط يطغى على أي أمر آخر، ثم أشار بقلمه نحو الباب مردفًا بهدوء:
ـ چيلان، اخرجي وخبطي ولما أسمحلك تدخلي ادخلي.
حملقت فيه بعينين تشبه الخرزتين الزرقاوين وقالت بغير تصديق:
ـ نعم؟ إيه اللي بتقوله ده؟!
ولكنه تجاهل نظراتها المذهولة وسحب قلم من كوب الأقلام المنحوت على شكل صبارة أمامه وهو يدون به شيئا في الأوراق المكدسة أمامه، وألقى إليها بدون اهتمام:
ـ مش هعيد اللي قولته.
تنفست الصعداء بهدوء نقيض النيران المتأججة بداخلها، وهي تنظر إليه بنزق ولم تجادل لئلا تهين كبريائها مجددًا، ثم نظرت إليه بتحدٍ واضح وهي تقول:
ـ وأنا مش فاضية لسخافاتك.. any way نتكلم بعدين.
أومأ ببساطة فغادرت بغيظ يغلفه الهدوء وأوصدت الباب بمنتهى الثبات وما إن عادت إلى مكتبها حتى أوصدت الباب بقوة وفتحته، وأوصدته بقوة أكبر ، ثم عادت الكرّة عدة مرات كمحاولة منها للتنفيس عن غضبها وهي تتمتم بانفعال:
ـ إنسان تافه، مستفز وبارد.
••••••••••••••••
خيّم الليل وهي لازالت تجلس في نفس المكان، حتى أنها تفاجئت بالظلام الذي لاحظته للتو فقط، لتدرك أنها قضت الساعات الماضية في شرود تام ، أسقطت رأسها للخلف وحملقت بعينيها نحو السماء بتيه، هناك على مدد بصرها توجد نجوم! تتمنى لو أنها تلمسها، أو ربما يسعها الحظ فتمتلك إحداهن، وراحت تتخيل تلك النجوم وكأنها أمانيها، كل نجمة هي أمنية! تتوق للوصول إليها، أو حتى مجرد أن تنال شرف المحاولة بدلا من جلوسها هكذا مصفدة اليدين تنتظر بلوغ أمانيها بعصا سحرية.
وأثناء رحلة البحث عن النجوم والأمنيات والعصا السحرية اهتز هاتفها بجيبها ليسحبها من خيالها فنظرت به لتجد اسم نيهال فأجابت بهدوء يتخلله الإحباط:
ـ نعم يا نيهال؟
ـ نعم؟؟ هو إيه اللي نعم يا بت مالك؟ صوتك بيقول كتير.
ـ لا أبدا.. أصلي سرحانة مع نفسي حبة، خير في حاجه ؟؟
ـ أصلي قاعدة لوحدي وزهقانة، وحيد مسافر ومش لاقية حاجة أعملها، ما تيجي تقعدي معايا.
ـ لأ أنا إتأخرت وزمان خالتي قلقت عليا أصلا.. خليها مرة تانية.
ـ يا باي عليكي يا نغم، هو إنتِ مفيش فايدة فيكي، لازم أتحايل عليكي يعني عشان توافقي؟ طب يا ستي عشان خاطري تعالي.. أنا مخنوقة يا نغم ومش لاقية حد أفضفض معاه.
تنهدت الأخرى بضيق وقالت:
ـ ماشي يا نيهال، قوليلي عنوانك وأنا هاجيلك.
على الفور أملت عليها نيهال عنوانها فاستوقفت نغم سيارة أجرة وطلبت منه الذهاب للعنوان المنشود.
بعد قليل.. توقف التاكسي أمام مبنى فخم، نزلت منه نغم وأعطت السائق الأجرة بعدما تقاتلت معه وأقنعته أنها لا تملك سوى نصف المبلغ وأنه عليه أن يقبل به أو يضرب رأسه بعرض الحائط، ثم توجهت للمبنى من الداخل وهي تتطلع حولها بانبهار، فهذه هي المرة الأولى التي تدخل فيها مكانًا بهذه الفخامة.
استخدمت المصعد لكي تصل إلى الطابق العاشر حيث شقة نيهال، فركب معها أربعة أشخاص من بينهم رجلا يبدو في السبعين من عمره، يرتدي قميصا مزركشا، وسروال قصير للركبة، رمقها باستحسان وأرسل إليها غمزة متصابية فقررت الانتقام منه على الفور إذ رمقته بوله مزيف، ورفرفت بأهدابها في غنجٍ مثير، ثم اقتربت منه أكثر مانحةً إياه وعدًا وهميًا بنظراتها التي تعلقت بعينيه ولم تُحِد عنه وهي تمد يدها وتنتشل جزدانه المنتفخ من جيبه الخلفي بخفة يد نشال متمكن ومتمرس، ثم سرعان ما غادرت عند الطابق السابع قبل أن يكتشف فقدان جزدانه.
خرجت وهي تدس الجزدان بحقيبة يدها، وأكملت الطريق نحو شقة صديقتها عبر الدَرَج وما إن وقفت أمام شقة ١٣ حتى ضربت جرس الباب ووقفت تنتظر نيهال التي سرعان ما فتحت وهي تقول بابتسامة عريضة:
ـ وحشتيني يا نغم.
عانقتها بحفاوة، ثم جذبتها للداخل وهي تقول:
ـ لازم يعني أتحايل عليكي عشان تيجي تقعدي معايا شوية؟ هي دي الصحوبية؟؟
قالتها وابتسمت بخبث وهي تراقب نظرات نغم التي تتفحص الشقة بكل ركن وتفصيلة فيها، ثم ألقت بتشفي مستتر خلف ابتسامة صفراء:
ـ الشقة عجباكي مش كده؟
انتبهت إليها نغم وقالت بحرج وهي تحمحم:
ـ أيوة ماشاء الله.. ربنا يهنيكي.
مالت عليها نيهال وقالت وبسمتها المزيفة تتسع:
ـ مش عارفه فيها إيه لو تليّني دماغك وتعملي زي ما بقولك، جوازة زي اللي أنا متجوزاها دي لمدة شهرين اتنين وهتلاقي الفلوس بتجري في إيديكي، صدقيني أنا عاوزة مصلحتك .
كانت هذه هي خطتها في الأصل، ولهذا السبب استدعت نغم للذهاب إليها، لكي تريها بأم عينيها ما ينقصها وما تملكه هي، وما كانت هذه إلا محاولة منها لكي تجعلها تلهث لهاثًا لكي تصير مثلها، نسخة طبق الأصل منها لكي تُرضي عقدة النقص بداخلها أولا، ولكي تضمن أنها لن تتزوج من حسن الذي تهيم به عشقا ثانيا.
على الجانب الآخر قابلت نغم كلام صديقتها بهدوء وقالت:
ـ مصلحتي عارفاها كويس، متقلقيش عليا.
ـ يا عبيطة افهميني، شغلك في الصالون ده مش هيجيبلك اللي نفسك فيه، احنا بنات زي بعض وفاهمين يعني إيه نفسك تروح لحاجة ومتقدريش تشتريها، ما أنا كنت مكانك في يوم من الايام وجربت الحوجة والفقر وعارفة طعمهم زي السم إزاي، بس الحمد لله ربنا كرمني واتجوزت راجل عرف يكفيني ويكفلني، انتِ بقا هتفضلي على ده الحال تغسلي رجلين الزباين وتعمليلهم باديكير ومانيكير لحد إمتا؟
اجابت نغم بغير تردد:
ـ لحد ما الحال يتعدل.
ـ وهيتعدل إزاي بقا من غير ما تسعي؟ فوقي لنفسك يا نغم إحنا اللي زينا عمر حالهم ما هيتعدل إلا لو لقيوا عصاية سحرية تحققلهم أمنياتهم، وأنا أخيرا لقيت، إنتي بقا اللي صعبانة عليا.
لا مشكلة في كذبة أخرى تكومها مع الأخريات، لذا رسمت ابتسامة عريضة على ثغرها وهي تقول:
ـ أنا زي الفل متشغليش بالك.
تصنعت الأخرى الابتسام، وتجاهلت شعورها باليأس، فشبكت ذراعها بذراع نغم وقادتها إلى نهاية الرواق حيث تكمن غرفتها، دخلت وفتحت الأنوار فظهرت معالم تلك الغرفة الأنيقة المجهزة بالكامل على أحدث تصميم ، ثم فتحت خزانتها التي تستحوذ على عرض الحائط كاملا وقالت بابتسامة متربصة:
ـ إيه رأيك.؟ وحيد كل ما يسافر لازم يشتريلي فساتين جديدة..
وأشارت إلى الرف العلوي وهي تستعرض مقتنياته وتقول بفخر ساخر:
ـ ده غير الجزم والشنط اللي مش لاقيه مناسبات ألبسها فيها أصلا..
ابتسمت نغم وقد أدركت ما ترمي إليه صديقتها، وقالت برضا مزيف:
ـ حاجات حلوة أوي يا نيهال، ربنا يسعدك دايما.
التقطت نيهال فستانا من الخزانة، ووضعته على جسد نغم وهي تديرها إلى المرآة لكي ترى انعكاس صورتها وهي تقف خلفها وتقول بابتسامة ماكرة :
ـ يخربيت حلاوتك يا نغم، بذمتك مش هياكل منك حته؟!
شردت نغم وهي تطالع الفستان الذي يبدو متناغمًا مع جسدها الرشيق، وبشرتها الصافية، وملامحها الرقيقة، فخرج من فمها نفسًا مضطربًا، ساحبًا معه كل قواها وقالت:
ـ جميل.. بس مش ذوقي.
وهربت من أمام المرآة، وغادرت الغرفة، عادت إلى حيث كانت تجلس ورسمت على محياها ابتسامة رضا تفتقره بشدة، فإذ بها تجد نيهال وهي تتقدم منها وبيدها كيسًا وأعطته لها وهي تقول بابتسامة:
ـ امسكي يا نغم.
ـ إيه ده؟
ـ دول شوية فساتين من بتوعي مبقتش ألبسهم.
تجرعت نغم الإهانة بهدوء وضحكت دون أن تنفرج شفتاها وأضافت بثقة:
ـ وأنا من إمتى بلبس هدوم حد؟ وبعدين حسن قرب يخرج ولو شافني بيهم هيقلب الدنيا، ما انتِ عارفة انه بيغير عليا.
لأول مرة تستخدم حسن كوسيلة ضغط وأداة لاغاظتها، ولكنها فهمت ما تحاول صديقتها فعله، وهذا ما أثار حفيظتها وغضبها الشديد، وجعلها تضرب بكل شيء عرض الحائط ، ولما رأت عيني نيهال وقد أظلمتا بغيرة عمياء أدركت أنها قد أصابت الهدف بدقة، فنهضت وهي تقول بابتسامة لم تتخلَ عنها:
ـ أنا كنت جاية على أساس إنك مخنوقة ومحتاجة حد تتكلمي معاه، لكن من ساعة ما جيت مفيش على لسانك غير سيرة الفلوس ويظهر كده إنك فاضية مش مخنوقة، وللأسف أنا مش فاضية.. خالتي عندها جلسة بكرة ولازم أنام بدري..
ووضعت يدها على كتفها وقالت:
خلي بالك من نفسك ولو احتاجتيني في أي وقت كلميني.
لم تتكبد نيهال عناء الإجابة، فقط شاهدتها وهي تغادر الشقة وعيناها تفيض بالحقد والغل، وفور غلق الباب ألقت بالكيس من يدها أرضاً وهي تغمغم بسخط:
ـ قال حسن بيغير قال.. واحدة غبية وخسارة فيها المعروف.
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
عادت نغم إلى البيت فوجدت خالتها في انتظارها كما كانت تتوقع، والتي بمجرد أن رأتها حتى نادتها بلهفة، وبنبرة صوت لا تقدر عليها سوى الأمهات:
ـ نغم..
على الفور اقتربت منها نغم وارتمت بأحضانها وانفجرت في بكاءٍ لعين، بكاء جعل خالتها تنخرط وسط حالة من الذعر والقلق فقالت:
ـ مالك يا حبيبتي ؟ فيكي إيه يا نغم ؟
لم تُجب نغم ، فمالت خالتها برأسها تتفرسها بينما هي تكافح لكي توقف بكاءها وهي تقول:
ـ مفيش يا خالتي أنا كويسة.
ـ حدجتها باستغراب وشك، ثم قالت بلهجة العارف:
ـ لا والله مانتي كويسة.. قوليلي جرالك إيه؟ حد برا ضايقك؟ وإتأخرتي كده ليه اصلا ، كنتي فين؟
عرفت نغم أنها لن تتراجع ولن تمرر الأمر قبل أن تخبرها الحقيقة ، أو على الأقل تخبرها شيئا مقنعا يفسر حالتها المفاجئة تلك، وبدورها هي كانت ترغب في مشاركتها سبب حزنها علها تهدأ وتجد لديها ما يبرد قلبها؛ فحكت لها ما حدث خلال زيارتها لصديقتها وكيف أنها كانت تستعرض نفسها وممتلكاتها أمامها قاصدةً إثارة غيرتها وحنقها، لتنفعل خالتها وتهدر بصوتٍ غاضب :
ـ نست أصلها الرمة، الله يرحم أبوها كان غطاس مجاري.. مش عارفه فرحانة بجوازتها دي على إيه، تتلهي في خيبتها.. البت دي أساسا مبتنزليش من زور وانتِ عارفة، عارفة ولا مش عارفة؟؟
ـ عارفة يا خالتي.. بس دي صحبتي الوحيدة.
ـ بناااقص.. بناقص منها الصفرا الغلاوية، دي غيرانة منك.. نفسها تبقي زيها وترخصي نفسك لواحد قد جدك عشان يصرف عليكي، هتموت إنك مش شبهها أعوذ بالله من شرها بنت الشياطين دي.
تنهدت وهي تضع يدها على جبهتها، تحاول تدليكها لطرد بوادر الصداع، ثم أضافت بنبرة بائسة:
ـ كلامك للأسف صح، نيهال اتغيرت أوي يا خالتي، مبقتش شبهي ولا أنا شبهها..
هزت خالتها رأسها بكل تأكيد وقالت :
ـ أنا مش عارفه عاجبك فيها إيه، دي اللي في قلبها طافح على وشها ومن كتر السواد اللي جواها مبقتش أطيق أبص في خلقتها، وطالما هي اختارت سكة الفلوس يبقا سكتها غير سكتنا..
وأمسكت بذقن نغم وهي تحايلها بأمومة قائلة:
ـ وانتِ الحياة قدامك يا حبيبتي ، والله ربنا هيراضيكي وهتشوفي.
ابتسمت نغم وعانقتها مجددًا، لتتلاشى ابتسامتها على صدر خالتها وهي تشرد في احتمالية فقدان هذا الملاذ الآمن في أي وقتٍ غادر !!
دقائق ودلفت غرفتها، أخرجت جزدان السبعيني المتصابي الذي نشلته بدون ذرة ندم، ونظرت به بتقييم دون أن تعد النقود وتمتمت وهي تخبأه على رف الخزانة أسفل ملابسها:
ـ ضمنّا جلسة بكرة والأسبوع الجاي.
بدلت ملابسها وألقت جسدها المنهك على السرير وطفقت تحملق بالسقف بشرود نحو اللاشيء.
تتذكر ما فعلته، وما تفعله، وما ستفعله طالما أنها تسلك نفس الطريق في كل مرة، إلى زاوية عينها فرت دمعة ترافقها تنهيدة حارة يملؤها اليأس.. إلى متى؟ هل ستقضي حياتها على نفس الوتيرة؟ بالأساس هي غير راضية عما تفعله ولكنها تقنع نفسها دومًا أن لا حل آخر.. لقد حاولت مرارا أن تجد عملا شريفا ولكنها إما أن تُقابل بالرفض لأنها لا تمتلك مؤهلا دراسيا، أو تجد شروطا تعجيزية تمنعها من القبول بهذا العمل، ما عدا عملها بصالون التجميل الذي حصلت عليه بسهولة، ولأنه لا يكفي احتياجاتهم فلجأت لموهبتها المدفونة، وكلما صرخ ضميرها مؤنبًا إياها أقنعته أن توفير ثمن علاج خالتها سيغفر لها ما تقوم به.
وبعد حوار مع النفس طال قليلا استسلمت ونامت، بعد أن ضبطت منبهها على الساعة السابعة استعدادا للذهاب إلى المستشفى.
--------------------------
في صباح اليوم التالي..
استيقظت نغم من نومها بعد أن رن المنبه، أوقفته ونهضت متجهة إلى غرفة خالتها لتوقظها، ولكنها لم تجدها؛ بحثت بالبيت والتعجب يعتريها وهي تنادي باسمها لتستمع فجأة إلى صوت طرقات على الباب فتنهدت بارتياح وتوجهت نحو الباب وفتحته وهي تقول:
ـ كنتي فين…
ولكنها لم تكمل كلامها حيث أنها شعرت بقلبها قد توقف لجزء من الثانية، وكأن الهواء يلف حول رأسها كسحابة سوداء عندما رأت الواقف أمامها يطالعها بنظرة جحيمية وهو يقول:
ـ وحشتيني يا نغم !!!!!!!!
يتبع
🌹🌺🌹🌺🌹🌺🌹🌺🌹🌺🌹🌺🌹🌺🌹🌺🌹🌺