رواية أسما معاني العشق الفصل الثاني والثالث والرابع بقلم الكاتبه سلمي سمير حصريه وجديده على مدونة أفكارنا
رواية أسما معاني العشق الفصل الثاني والثالث والرابع بقلم الكاتبه سلمي سمير حصريه وجديده على مدونة أفكارنا
في صباح يوم جديد، أشرقت الشمس بهدوء وكأنها تحمل معها وعدًا ببداية جديدة، بينما كان القلب مثقلًا بالتساؤلات التي ظلت بلا إجابة. ليلة طويلة من التفكير انتهت بقرار صعب، قرار يخالف كل ما تربى عليه من عادات. شاب صعيدي لم يعتد التدخل في شؤون الآخرين، يقف الآن أمام باب جاره، تسبقه رغبة جامحة في كشف الحقيقة. كان الفضول أشبه بريح عاتية، تدفعه رغم كل الحواجز.
فتح عاصم الباب لتطل منه ملامح ودودة. كانت دعوة مبسطة للدخول وكسر الحواجز بين الجيران:.
صباح الخير يا عمر! إيه يا عم؟ مختفي فين؟ محدش بيشوفك خالص.
جاء الرد من عمر بصوت متردد بعض الشيء، يحاول تبرير غيابه:
معلش غصب عني ، برجع متأخر من الشغل يدوب الحق اذاكر. مبقاش في وقت للحياة والله يا عاصم
ثم انا بسال اهو وجيت اصبح عليك قبل ما انزل للكلية،
ضحك الآخر وقال بحماس:
طب ما تيجي تفطر معانا؟
أنا كمان نازل الكلية، بالمره ننزل مع بعض."
حاول عمر الاعتذار:
مش عايز أزعجكم."
لكن الرد جاء حاسمًا من عاصم، بلا مساحة للتردد:
يا راجل ادخل ! ماما عايزة تشوفك. كل شوية تشكر فيك وتقول إنك أحسن الف مره من الشباب اللي كانوا ساكنين فوقنا وعاملين دوشة."
وافق عمر متلهفًا ودخل الشقة، كان المكان بسيطًا، لكنه مريح ودافئ. ظهرت الحاجة فتحية، بابتسامتها الطيبة، وهي ترحب به بلهجة مليئة بالحفاوة:
أهلاً وسهلاً يا ابني، نورتنا."
ابتسم عمر بخجل ورد بحذر:
"الشرف ليا يا ماما... تسمحيلي أقولك ماما؟"
ردت الحاجة فتحية بعفوية وصدق:
طبعًا، إنت زي عاصم وسعاد. أنا أمكم كلكم. إنت منين في الصعيد؟"
رد عمر بفخر:
من المنيا. أنا وحيد أهلي. أبويا مزارع بسيط، كل حلمه يشوفني مهندس وأرفع راسه."
ربتت علي كتفه بحنان ام:
ربنا يفرح قلبه بيك يا ابني. أنا أصلي من الفيوم، بس عندنا أراضي هناك. يعني صعايدة زي بعض.
اجاب بعمر بسعادة:
تشرفت جدًا والله.
ابتسمت وهي تشير إلى مائدة الطعام:
طيب تعال افطر مع عاصم، وبعدها تنزلوا مع بعض.
قبل أن تنهي قولها ات صوت ناعم قادم من الداخل قطع الحديث:
ياماما انا خلصت
التفت الجميع نحو الباب، حيث طلبت الحاجة فتحية من ابنتها أن تأتي للسلام على الضيف.
تعالي ياسعاد سلمي على المهندس عمر
في تلك اللحظة، وقف عمر يتأمل الباب بعينين يملؤهما الترقب. أمله أن يرى من خطفت قلبه. لكن حين ظهرت الفتاة، كانت المفاجأة غير ما توقع.
فتاة صغيرة، في الخامسة عشرة من عمرها، عيونها بنية واسعة، وبشرتها قمحية.
وقف في مكانه متحجرًا للحظة. تلك ليست الفتاة التي رأها بالأمس فمازالت ملامحها محفورة في ذاكرته. شعور من خيبة الأمل مر سريعًا، لكنه سرعان ما تمالك نفسه عندما قالت:
السلام عليكم.
رد عمر عليها وهو يحاول أن يبدو طبيعيًا:
وعليكم السلام.
ابتسمت الحاجة فتحية وهي تقدم التعارف:
ده جارنا عمر يا سعاد، من النهارده اعتبريه زي أخوكي عاصم. ادخلي رحبي بيه
ابتسمت الفتاة بخجل وقالت:
أهلاً وسهلاً يا أستاذ عمر.
رد عمر بابتسامة خفيفة:
أهلاً بيكي. الشرف ليا إني أكون زي أخوكي.
نكست راسها بخجل:
وأنا كمان اتشرفت بيك. إنت في هندسة، صح؟ أنا نفسي أدخل هندسة لما أخلص الإعدادية.
ابتسم من خجلها وسألها:
إن شاء الله تبقي مهندسة قد الدنيا. إنتِ في سنة كام؟
ردت بلهفه:
أنا في الشهادة الإعدادية.
تمني لها التوفيق قائلًا:
ربنا يوفقك و وان شاء الله تحققي حلمك.
قاطعت الحاجة فتحية الحديث وهي تذكر الفتاة:
يلا خلصي علشان ما تتأخريش على المدرسة. ندى طبعا هتستناكِ، علشان عندكم امتحان النهارده!"
عند سماع اسم ندى، تغير كل شيء. كان الاسم كالصاعقة، أعاد إليه كل مشاعره التي حاول كبتها. تساءل بصمت:
هل تكون هي؟ الفتاة التي خطفت قلبه؟
ظل في داخله شعور متناقض. أمله أن يلتقي بها من جديد بات أقرب من أي وقت مضى.
كان الاسم كالسهم، اخترق أعماق ذهنه وترك أثرًا لم يستطع تجاوزه. للحظات، خيم الصمت عليه، لكنه سرعان ما ألقى بالسؤال، رغم التردد الذي كان يحاصره :
هو انتي ليكي أخت تانية اسمها ندى؟
لم يأتِ الرد من صاحبة السؤال، بل تدخل صوت آخر، يحمل نبرةً مرحة ممتزجة بالاعجاب والانبهار، ليقطع حبل أفكاره:
ندى؟ أخت سعاد؟
يا راجل، دي حاجة تانية خالص! ندى دي تبقى ظلم نوصفها مجرد أخت.
ثم أضاف ضاحكًا:
دي زي ما تقول كده حورية أو ملاك اتوجد غلط في الدنيا دي. ممكن تقول حسناء، وملكة جمال شبرا!
تنهد بقوة واخذ يختلس الكلام كأنها في حضرة الجمال لا يستطيع ان ياتي بوصف يعطيها حقها:
ندا دي عيون إيه؟ وبياض إيه؟ دي حاجة كده ما حصلتش ولا هتحصل في العمر غير مره!
استمر الحديث كأنه يحاول وصف لوحة فنية في جمالها الخلاب
ضحك فجأة ونظر الي سعاد المصدومه:
تصدق اختي بتخاف تمشي معاها في الشارع من كتر المعاكسات اللي بتاخدها. أي واحدة تمشي جنبها تبقى صفر علي الشمال كانها ولا حاجة.
لحد ما أبوها قرر يمنعها تخرج إلا للامتحانات.
لكن لما كانت هنا امبارح متخيلتش انها بقت اجمل كده، سبحان الله! جمالها بيزيد يوم عن يوم."
كانت تلك الكلمات كافية ليوقن عمر تمامًا أنها هي، الفتاة التي اختطفت قلبه بنظرة واحدة في تلك الليلة المظلمة.
بات كل شيء واضحًا الآن؛ الملامح، النظرات، وحتى الإحساس الذي لم يفارقه منذ تلك اللحظة.
وقبل أن يسترسل في أفكاره، جاء صوت الأم ليعيد الجميع إلى الحاضر:
يلا يا ولاد، خلصوا فطاركم وخدوهم معاكم عشان ما يتأخروش
في تلك اللحظة، رُفع الطرق على الباب. هرعت الصغيرة سعاد لتفتحه،
بعد برهه ات صوتها يحمل بهجة غير خافية:
ندى! تعالي ثواني، أنا خلصت بس هاخد مصروفي
ونازلة معاكي.
**********
لمحها أخيرًا. كانت اللحظة أشبه بحلم تحقق، وكأن الزمن توقف للحظة، ليتيح له فرصة استيعاب المشهد. جمالها لم يكن عاديًا، بل كان يحمل في طياته نقاءً وبراءةً تسرق الأنظار. شعور بالفرح اجتاحه، لم يستطع كتمانه، فتحدث بعفوية ولهفه:
استنوا... ناخدكم في سكتنا.
التفتت اليه الصغيرة سعاد بابتسامة عفوية وقالت:
استني اعرفك ده جارنا الجديد عمر ، في أولى هندسة. هيذاكر لينا لو احتجنا منه مساعدة
مش كده ولا إيه يا هندسه؟
ابتسم عاصم وأضاف بتطفل:
هنساعدكم إحنا الاتنين.
أكمل عمر بثقة وهدوء:
أكيد، طبعًا. تحت امركم،
بدأوا جميعًا السير باتجاه المدرسة. كان الطريق بسيطًا، لكن قلبه كان يعيش معركة من المشاعر. طوال المسير، لم يستطع مقاومة النظر إليها. كانت عفويتها وبراءتها تزيدها جمالًا، وجعلته أكثر يقينًا بأن قلبه لم يخطئ في اختياره،
لكن عاصم ذلك المراقب الصامت لم يكن غافلًا. لاحظ كل شيء، وضحك بخفة قبل أن يعلق قائلاً:
إيه يا عم؟ لحقت تسحرك؟
أنا بقالي سنين بشوفها وكل يوم بتسحر بيها اكثر نصيحه مني، ريح دماغك وخليك في دراستك. دي بنت غلبانة ومؤدبة، ومش هتديك فرصة حتى تكلمها. لما تبقى جاهز للجواز، ابقى جرّب حظك.
معاها واروح اخطبها رسمي
ثم أضاف بنبرة جادة:
يا راجل، دي بيجيلها خطاب من دلوقتي. أنا نفسي مبهور بيها، لكن عمري ما فكرت أتقدم خطوة معاها، علشان أنا غيرك عندي مسؤولية تجاه أختي. لازم أطمئن عليها ألاول
استجمع عمر شجاعته ليرد بنبرة عزم وإصرار:
بصراحة، لأول مرة في حياتي أحس الإحساس ده. مع حد، بس انا هكافح علشانها، وبأذن الله هتكون من نصيبي. الأول لازم أخلص كليتي وأثبت نفسي. وبعدها... اتقدم لها والباقي على الله."
كانت الكلمات أكثر من مجرد وعد. بدا كأنه يكتب ميثاقًا جديدًا لحياته. ومع كل خطوة، كانت الأفكار تتجلى في ذهنه. همس لنفسه بصوت لم يسمعه أحد:
كنت اعيش لأجل حلم واحد، أنجح وأسعد أهلي وأريحهم من شقاء السنين. واليوم... أضيفت غاية أخرى. أصبحتِ حلمي الجديد، الحلم الذي سأعيش لأحققه، جنبًا إلى جنب مع حلمي الأول."
ومن تلك اللحظة، بدأت لرحلته. طريقان، كلاهما اصعب من الاخر ومليء بالتحديات، لكنه عازم على خوضهما حتى النهاية .
***********
الفصل الثالث
#اسما_معاني_العشق
***************
تمرُّ الأيام، وتقوى أواصر الصداقة بين عمر وعاصم، حتى بات كلٌّ منهما السند والأخ الذي طالما حلم به الآخر. كانت صداقتهما بمثابة ملاذٍ مشترك، يتقاسمان فيه الأفراح والهموم دون تردد. وبعد مرور أربع سنوات من هذه العلاقة المميزة، وفي إحدى أمسيات الشتاء الباردة، كان عمر في زيارة لعاصم في شقته المتواضعة.
في الجانب الآخر من المنزل، كانت ندى وسعاد تجلسان في غرفة المذاكرة، تحاولان إنهاء واجباتهما المدرسية. لقد دخلتا عامًا حاسمًا؛ السنة الأخيرة من الثانوية العامة، حيث الأحلام والطموحات تتصادم مع الضغط والتحديات اليومية.
نظرت ندى إلى الأوراق أمامها بامتعاض، ثم زفرت بضيق:
المسائل صعبة جدًا، محتاجين حد يساعدنا.
ردت سعاد بحماس، وابتسامة ملأت وجهها:
ولا يهمك! عمر هنا، وهو في كلية الهندسة. أكيد يقدر يساعدنا. استني أروح أستأذنه.
نهضت بسرعة متجهة نحو غرفة أخيها. طرقت الباب بخفة قبل أن تسمع صوته:
ادخلي يا سعاد.
فتحت الباب بخطوات مترددة، ثم قالت بتوسل:
عاصم، ممكن تساعدني أنت أو عمر في شوية مسائل هندسية؟
أشار عاصم بيده نحو عمر، وابتسامة ماكرة ترتسم على وجهه:
أنا ماليش في الهندسة، شطارتي في الأرقام وبس. عليكي وعلى عمر، هو الباشمهندس بتاع الشغل ده.
نظرت سعاد إلى عمر برجاء، وعيناها تحملان أملاً خافتًا:
ممكن تساعدنا يا عمر؟
أجابها عمر برحابة صدر، وابتسامة دافئة على وجهه:
أنا تحت أمرك. هاتي المسائل وتعالي أشرحلك.
لم تستطع سعاد كتم حماسها، فقالت بمرح:
بس أنا مش لوحدي، معايا ندى. وعايزة تفهم هي كمان. استني أناديها.
لم يكن عمر يتوقع أن يسمع هذا الاسم، لكن بمجرد أن نطقت به، تسارعت دقات قلبه. أحس وكأنه يواجه اختبارًا مختلفًا تمامًا عن الهندسة. حاول أن يخفي ارتباكه، وقال بصوت ثابت:
ماشي، نادى عليها، وأنا مستعد.
اندفعت سعاد إلى غرفة المذاكرة، تاركة عمر غارقًا في أفكاره، متسائلًا: هل ستتحدث معي؟ هل ستبادلني نظرة، أم أنني مجرد صديق لأخيها؟
كان اللقاء على وشك أن يبدأ، ولم يكن يدري أن هذا المساء سيترك أثرًا عميقًا في قلبه.
**************
طالع عاصم صديقه عمر بدهشة مشوبة بحسد واضح، وقال مازحًا:
أشطة يا عم، يا بختك! هتشرح للجمال كله. يا ريتني مكانك. أقولك إيه؟ ما تشرحلي أنا، وأنا أشرح لهم.
ضحك عمر بصوت عالٍ، بينما كان قلبه يتراقص فرحًا، ورد عليه:
أنت هتقطع عليا ولا إيه؟ سيبني أشوف هعمل إيه معاهم.
ثم أخذ نفسًا عميقًا، وعيناه تحملان مزيجًا من القلق والفرح، وهو يهمس لنفسه:
معقول؟ أخيرًا هتكلم مع ندى؟
لم تفُت نظراته الشرود التي غزت ملامحه على عاصم، الذي أطلق ضحكة خفيفة وغمز بعينيه قائلًا بمرح:
أوبس، ده أنت وقعت يا هندسة!
تظاهر عمر بالجدية، لكن صوته كان مليئًا بالشجن، وقال بحزم:
مش واقع بس، أنا عاشق صبابة. بقيت أحلم بيها ليل ونهار، ووعدت نفسي إنها تكون من نصيبي، بإذن الله.
ربت عاصم على كتفه بحركة تحمل التشجيع، وقال بابتسامة ودودة:
ــ طيب، شد حيلك. بس خد بالك، أنا سمعت إن كل يوم بيجيلها عريس، ومش أظن إنها هتكمل دراستها على الوضع ده. بس أنت ابن حلال وتستاهلها، وأنا معاك هساندك لحد ما أفرح بيكوا.
تنهد عمر تنهدًا عميقًا، وكأن ثقلاً كبيرًا يضغط على صدره، ثم قال بامتنان وتودد:
ربنا يخليك ليا يا أجدع صاحب وأحن أخ في الدنيا.
وبينما كان الحديث يدور بينهما، فتحت ندى الباب برفقة سعاد، لتدخلا الغرفة بخطوات هادئة. رفعت ندى رأسها بخجل، وقالت بصوت عذب وهادئ:
آسفة لو كنا هنتعبك معانا يا باشمهندس.
ثبتت نظرات عمر عليها، وقد اتسعت عيناه بانبهار شديد. أحس وكأن الزمن قد توقف فجأة، وحدث نفسه بفرحة عارمة:
أخيرًا يا قلبي! ندى بتكلمني، وكمان قدامي. مافيش بينا غير شبرين. هتسمع مني وهسمع منها. آه يا قلبي، لو كان ينفع كنت قولتلها بحبك وبعشق النظر لعيونك.
دفعه عاصم على كتفه بخفة ليعيده إلى الواقع، وهمس له:
يلا رد عليها بدل ما تفضل كده.
عاد عمر إلى وعيه، وابتسم بحرارة وهو يرد بحماس:
ـ لا، أبدًا. ده أنا أخدمكم بعيوني.
ابتسمت سعاد بدفء وقالت بمرح:
مش قولتلك عمر مش هيتأخر علينا؟
تنفس عمر الصعداء، وكأن كلماتها أعادته إلى رشده، وقال بامتنان وهو يشير إلى الأوراق على الطاولة:
طبعًا، طبعًا. يلا نبدأ.
*************
بدا عمر في شرح المسائل لهما، مستغرقًا في الشرح بين الحين والآخر، لكنه لم يستطع مقاومة اختلاس النظرات نحو ندى، التي كانت تجلس أمامه بهدوء أشبه بسكون الليل. كانت كلماتها قليلة وابتسامتها نادرة، مما جعلها لغزًا يثير فضوله ويأسر قلبه شيئًا فشيئًا.
وفي إحدى المرات، بينما كان يشرح إحدى المعادلات، رفعت ندى نظرها إليه فجأة. منحته ابتسامة خفيفة، خجولة، تفتحت على شفتيها كزهرة تتحدى برودة الشتاء. تملك الارتباك عمر، فتلعثمت كلماته للحظة قبل أن يستعيد توازنه. تلك الابتسامة ظلت تلاحقه لأيام، يسأل نفسه بصمت: هل كانت إشارة خفية أم مجرد تعبير عن الامتنان؟
مع مرور الأيام، بدا وكأن تلك النظرات تحمل لغة خاصة بينهما، لغة لا تُقال بالكلمات بل تُقرأ في العيون. خاصةً عندما كانت سعاد تغيب عن الدرس.
في احد الايام ، قالت ندى بخجل وهي تتجنب النظر المباشر إليه:
بابا لما عرف إنك بتشرح لي الرياضيات والميكانيكا، طلب مني أسألك... تاخد مني كام على كل حصة؟
شعر عمر كأن كلماتها صفعة على قلبه. رد بصوت محمّل بالهدوء الذي يُخفي غضبًا مكتومًا:
ليه كده يا ندى؟ هو أنا طلبت منك حاجة؟
بللت شفتيها بعفوية أذهلت عمر، وقالت وهي تنظر بعيدًا عن عيناه السائلة بحزن:
مش أنا والله... ده بابا اللي قال كده. وكمان علشان مش عايزين نكون عبء عليك. أنت بتشتغل وبتصرف على نفسك، ومذاكرتك لينا حمل كبير عليك.
حاول عمر السيطرة على نبضاته المتسارعة، وقال برفق يعاكس ما في داخله من نار:
ندى، كل اللي يهمني إنك تنجحي. نجاحك هيكون فخري. أنا مش محتاج حاجة غير أشوفك بتحققي اللي بتحلمي بيه.
نظرت إلى الأرض وهي تهمس بخجل:
شكرًا جدًا، يا باشمهندس.
لم يستطع عمر منع نفسه من التعبير عن امتنانه، فوضع يده برفق على يدها وقال بابتسامة صادقة:
لا تشكريني غير يوم نجاحك. لأنه هيكون يوم نجاحي أنا كمان.
توردت وجنتاها كأنها زهره تختبئ من شعاع الشمس، وسحبت يدها بسرعة وهي تقول بعجل:
سعاد! يلا، بابا هيزعّل لو اتأخرنا."
غادرت الغرفة مسرعة، بينما بقي عمر جالسًا في مكانه، يشعر وكأنه طائر يحلق في سماء حلم بعيد. كانت نظراتها، خجلها، وكلماتها، تمنحه أملًا لم يكن يجرؤ على التفوه به.
**************
استفاق عمر في صباح جديد، مشاعر السعادة تملأ قلبه وابتسامة عريضة تزين وجهه. كان يشعر أن حلمه بقرب ندى منه بدأ يزداد واقعية يوما بعد يوم. فتح نافذة غرفته ليستنشق هواءً جديدًا، ولكن فرحته تكبرت عندما لمح ندى في شرفتها المقابلة. تقاطعت أعينهما، وكأنهما على موعد، فتسارعت دقات قلبه، وتداخلت مشاعره بين الدهشة والخوف. أما ندى، فقد شعرت بنفس الخفقان، لكنها سرعان ما تراجعت إلى الداخل مسرعةً، حين رأت أختها تودع سعاد في طريقها إلى المدرسة.
تكرر هذا المشهد يوميًا، ليزداد يقين عمر أن له مكانًا في قلب ندى، وأن مشاعرها بدأت تميل إليه وحده. كانت عيونها تُخفي الكثير، وعينيه كانت تبحث عن كل التفاصيل.
مرّت الأيام سريعًا، وأيقن عمر أن مشاعره تجاه ندى أصبحت أكثر عمقًا. نجحت ندى وسعاد في الثانوية العامة بتفوق، وكان لهذا النجاح طعم آخر بالنسبة له. التحقت سعاد بكلية الآداب، بينما ندى قبلت بكلية الفنون الجميلة. لكن المفاجأة كانت في قرار والدها الذي رفض استكمال ندى لدراستها بسبب ضيق ذات اليد وكثرة العرسان الذين يتقدمون لخطبتها.
كان هذا الرفض صدمة كبيرة لعمر. بدأ يفكر في كيفية مساعدتها على إقناع والدها باستكمال تعليمها، وتوصل في النهاية إلى فكرة قد تكون الحل. قرر أن يستعين بوالدة عاصم، فهي والدة صديقة ندى المقربة وتحبها.
في شقة الجار عاصم
ذهب عمر إلى عاصم في أحد الأيام، وكان يطلب منه خدمة كبيرة. قال له برجاء:
عاصم، أنا عايز منك خدمة كبيرة.
أجاب عاصم ضاحكًا وهو يضرب عنقه برفق:
رقبتي يا شقيق، قول.
تنهد عمر بارتياح، وقال بنبرة مليئة بالتفكير:
عايز والدتك تتدخل وتتوسط عند والد ندى علشان تكمل تعليمها.
سحب عاصم يد عمر وجلسه بهدوء وقال:
اسمعني يا عمر، الوضع مش سهل زي ما أنت متخيل. ندى بتتقدم لها عرسان كتير كل يوم، وأبوها ظروفه صعبة. هو مش قادر يوفر لابنته الصغيرة اللي وفره لندى، ولا قادر يتحمل عبء تعليمها في الكلية. ده غير إن والدتهم متوفية، وندى شايلة مسؤولية كبيرة في البيت.
رد عمر بتفهم، لكن قلبه كان مشغولًا:
أنا فاهم كل ده، بس تعليمها مهم... ومش لازم نضغط على والدها أكتر من كده. لو تقدر تساعدها، يبقى خير.
تنهد عاصم بحزن، وقال:
طيب، لو هتطلب من ماما تدخل، مفيش مشكلة. لكن لو هتقدر تتقدم ليها وتساعدها تكمل تعليمها بنفسك، هيكون أفضل حل.
رد عمر، وهو يشعر بضيق شديد:
أتقدم ليها دلوقتي ازاي؟ أنا لسه بدرس وفاضلي سنة على التخرج. غير كده، أهلي مش هيقدروا يساعدوني في مصاريف الجواز.
أيده عاصم في كلامه وقال:
اسمع يا عمر، أنا عارف إنك بتحب ندى، لكن ظروفك صعبة. لازم تفكر كويس قبل ما تدخل في حاجة ممكن تضرك وتضرها.
نهض عمر فجأة وقال بحسم:
أنا هبعت لأهلي، ولو وافقوا، هتقدم لها فورًا. مش قادر أتصور إنها ممكن تكون لغيري.
أمسك عاصم بذراعه وقال له بحذر:
استنى يا مجنون! اصبر على رزقك. مش لازم تندفع. لازم تعرف رأيها الأول، مين قال إنها هتوافق؟
رد عمر بحزم، ووضع يده على قلبه:
قلبي دليلي. في حاجات بتأكد لي إنها ممكن توافق.
غامت عيون عاصم وقال بتشكك:
طيب زي إيه؟ فهمني. أنا أخوك الكبير، ومصلحتك تهمني. ندى بترفض كل العرسان اللي بيجوا لها، وبتقول إنها عايزة ترعى أختها وأبوها. إيه اللي اتغير علشان توافق عليك؟ ده غير إنني سمعت إن في واحد ثري عربي غني جدًا عايز يتجوزها، وأبوها شايف إن ده عريس مناسب.
زفر عمر بضيق، وملامح وجهه تشتد قسوة. قال بإصرار، محاولًا أن يُطمئن نفسه أكثر من أي وقت آخر:
أنا واثق، خلاص.
ثم تنهد بارتياح، كأن عبئًا ثقيلًا قد وُضع جانبًا، ليُتاح له فرصة لتوضيح ما كان في قلبه.
رد عاصم بصوت هادئ، ولكن حذر، وهو يشعر بمسؤولية الموقف:
طيب بدل ما تحرج نفسك قدام أهلك، تعال أفهمك طريقة تتأكد بيها من قبولها.
أسرع عمر بالرد، وكأن كل ثانية تمضي تزيد من قلقه:
قولي الحل بسرعة.
رد عاصم بحكمة، مُوازنًا بين الأمور بعناية:
أختي سعاد صاحبتها المقربة. اسألها تكلم ندى وتشوف رأيها. لو كانت ندى مستعدة تستناك، يبقى مفيش مشكلة.
نظرة من الريبة تملأ عينَيّ عمر، فهز رأسه متسائلًا:
طيب وأختك ممكن توافق تسألها؟
ربت عاصم على كتفه بحزم، وكأنما يزرع في قلبه بعض الطمأنينة:
مفيش حاجة تمنعها انها تسألها، استنى هندهالك.
على الفور، نادى عاصم على أخته سعاد، التي دخلت الحجرة بهدوء، لكن ملامحها كانت تحمل شغفًا لما هو قادم.
أيوة يا أخويا، في إيه؟
أخذ عاصم يدها بلطف وقال، وهو يوجه إليها الطلب:
عمر عايز منك خدمة، هتقدري تساعديه؟
نظرت سعاد إلى عمر بعينين مليئتين بالتساؤل، ثم أجابت بثقة:
طبعًا، يا عمر. أنا تحت أمرك. لو اقدر ،
تنهد عمر بارتياح، وكأن زفرة صدره كانت بداية لقرار حاسم.
ربنا يخليكي ليا يا سعاد. عايزك تسألي ندى: لو تقدمت ليها دلوقتي، هل تقبلني وتستحمل ظروفي سنة بس لحد ما أخلص دراستي؟ ولا تقدر تستناني شوية على ما أمسك شغل مناسب؟ ولا هي مش موافقة أصلًا؟
هزت سعاد رأسها بحزم، ثم قالت بجدية:
حاضر، هكلمها وأرجعلك بخبر يفرح قلبك،
مرت ساعة واحدة، كأنها دهرًا بالنسبة لعمر. كل دقيقة كانت تمر وكأنها تحمل معه خوفه من النتيجة. أخيرًا، عادت سعاد، ومعها الخبر الذي طالما انتظره عمر بفارغ الصبر، قلبه ينبض بسرعة وهو يستعد لسماع ما قد يُغير مسار حياته.
**********
الفصل الرابع
أسمى معاني العشق
*************
كان عمر ينتظر رجوع سعاد بفارغ الصبر، يتنقل بنظراته بين الساعة والباب كأنه يُحصي اللحظات. قلبه يعتصره القلق وتُثقل أنفاسه التوقعات، فالرد الذي ستحمله سعاد قد يغير مسار حياته إلى الأبد.
وبعد قليل، عادت سعاد وهي تحمل ملامح شاردة وكأنها تحمل ثِقلاً فوق كتفيها. مرّت بجواره دون أن تنطق بكلمة، واتجهت إلى غرفتها مباشرة، مغلقة الباب خلفها بهدوء أثار في نفسه ألف تساؤل.
عمر، بتردد وحيرة، همس لنفسه:
إيه اللي حصل؟ ليه مش جت تقول لنا رد ندى؟وأنا اللي كنت مستنيها على نار علشان أعرف الرد.
التفت إلى عاصم، الذي كان يجلس بجواره بنظرات مترقبة، وسأله بريبة:
هي سعاد ليه جت ودخلت أوضتها كده
ناداها عاصم بصوتٍ عالٍ:
يا سعاد! إيه الأخبار؟
لكنها لم تستجب، مما زاد من توتر عمر. عاد ليسأل عاصم بقلق واضح:
هو في إيه يا عاصم؟
حاول عاصم أن يطمئنه، ولكن كلمات الطمأنينة فقدت تأثيرها أمام قلق عمر المتزايد، فقال له:
طيب، اهدي يا عمر. أنا هدخل أشوف في إيه.
طرق عاصم باب غرفة سعاد بهدوء، وقال:
"سوسو، افتحي. وطمنيني ندى قالت لكِ إيه؟"
فتحت سعاد، وقالت بصوتٍ متحشرج من بين دموعها:
"ندي غبية يا أُبّيه... رفضت عمر!"
قالتها وانفجرت بالبكاء بحرقة، تكمل بين شهقاتها:
قالتلي أعمل بيه إيه؟ هو فاكر علشان ذاكر لي يبقى هوافق عليه؟! أنا مش عايزة حد يشدني للفقر أكتر من كده! أنا جميلة... ولازم أستغل جمالي وأتجوز واحد يعيّشني ملكة,
ثم انكفأت على صدره، تمسح دموعها في كتفه وتقول بصوت متهدج:
أنا صعبان عليّا عمر، والله ما يستاهل كده. هو طيب ونقي، وندا هتعمل غلطة عمرها. قالت إنها هتوافق على واحد ثري عربي متقدّم لها!
عاصم، وهو يهز رأسه بخيبة أمل:
"آخر حاجة كنت أتوقعها إنها تكون مادية كده! عمر هيكسر قلبه، لكن... كل حاجة قسمة ونصيب. خسارة كبيرة، حبها بجد. ندي هتندم عمرها كله إنها ضيّعت إنسان زي عمر.والايام بينا
خرج عاصم من الغرفة بخطوات مثقلة، ليجد عيون عمر تنتظره، ممتلئة بالقلق والتساؤل.
ساله عمر، بصوتٍ ملتاع و مبحوح:
إيه؟ طمّني، قالت لها إيه؟
عاصم، بعد لحظة تردد:
مفيش نصيب يا عمر. هي قررت تتجوز واحد غني، يقدر جمالها ويخرجها من الفقر.
تجمّدت ملامح عمر للحظات وكأن الكلام لم يصل إلى عقله بعد، ثم قال بدهشة واستنكار:
مستحيل... مش ندى! لا، لا، أكيد في حاجة غلط. أنا قلبي مش ممكن يكذب عليّا. ندى بتحبني... أنا واثق إنها بتحبني. مش ممكن كل ده كان وهم!
لم يتمالك نفسه، فتدفقت دموعه الحارقة على وجنتيه، تُترجم انكسار قلبه وخيبة أمله. قام مسرعًا وركض نحو شقته، يبحث عن مساحةٍ له وحده يستوعب فيها جرحه.
أما سعاد، التي ظلت داخل غرفتها، انهارت فوق سريرها باكيا بانتحاب، تغرق في دوامة من ذكريات الحوار الذي دار بينها وبين ندى.
■■■■■■■■■ (فلاش باك)
طرقت سعاد باب شقة ندى بخفة، وكأنها تخشى أن تُثقل بصوت طرقاتها على المكان. دقائق قليلة، وفتحت ندى الباب لتجد أمامها وجه صديقتها الأقرب، حبيبة القلب التي لم تكن مجرد صديقة، بل أخت تسندها في شدائد الحياة.
رحبت بها ندي بحفاوة وسألتها بدهشه:
سعاد! يا أهلاً وسهلاً، تعالي، خير إيه اللي جابك دلوقتي؟ ادخلي، البيت منور.
ردت عليها سعاد بابتسامة مترددة:
شكراً يا ندى... بس انا عايزاكي في موضوع مهم.
سألتها ندي بقلق:
موضوع؟ مالك يا حبيبتي؟ وشك مش مطمّني، حصل حاجة؟
دلفت سعاد إلى الداخل وجلست على الأريكة، تعبث بأناملها في توتر واضح، بينما جلست ندى بجوارها، تحدق في وجهها وكأنها تبحث عن جواب في ملامحها الشاردة.
اخيرا تحدثت سعاد بصوت مرتجف:
ندى، انتِ عارفة إني بحبك قد إيه... انتي أختي وصديقة عمري. بس النهارده حصلت حاجة ملخبطة تفكيري، ومش عارفة أتصرف.
زفرت ندي بعصبيه وسألتها :
يوه بقي ما تنطقي قلقتيني، قولي حصل إيه؟
أخذت سعاد نفساً عميقاً، ثم أطلقت الكلمات دفعة واحدة كأنها تتخلص من حمل يثقل كاهلها،.
عمر طلب إيدي من أخويا! وعايز يجيب أهله ويقروا الفاتحة قريب، والجواز بعد الكلية.
ساد الصمت للحظة، ثم انفجرت سعاد في البكاء والقت نفسها في حضن ندى، التي ظلّت متجمدة مكانها، مزيج من الصدمة والخذلان يشلّ تفكيرها.
صاحت سعاد بنحبب تدعي البراءة واكملت:
انامش ممكن اوافق... إزاي؟ انتي بتحبيه؟ وعلشانه رفضتي الثري العربي؟
أنا لازم. أرفضه عشانك، عشان حبك ليه؟
رفعت ندى وجهها المبلل بالدموع نحو السقف، وكأنها تخاطب القدر الذي ألحق بها هذا الألم. وقالت بوجع:
منك لله يا عمر....علقتني بيك وبعدين تخطب صاحبتي؟ ربنا يسامحك، وأنا اللي صدقت في الحب، كنت هبيع الدنيا علشانك، وأهو قلبي اتوجع... قلبي اللي كسرته.
مسحت ندى دموعها بعنف، ثم نظرت إلى سعاد بعينين مثقلتين بالألم.
اسمعيني يا سعاد، انتي أختي وسعادتك هي سعادتي. لو شايفة إنه عمر يناسبك وافقي، وما تشيليش همي.
ردت سعاد بذهول واحتجاج واهي:
إزاي عايزاني اوافق؟ انتي اختي وحبيبتي، ووجعك وجعي، ازاي أفرح معاه وأنا عارفة انك بتحبيه؟
ابتلعت نظي غصبة قلبها المكلوم واكملت بإصرار: متقلقيش عليا.. أنا وافقت على الشيخ جاسم خلاص. أهو هيساعد بابا في مصاريف أختي، ده غير ان انا هسافر معاه وأبعد عنكم. اتجوزيه يا سعاد، وربنا يهنيكم... وياريت توصّليله مني "مبروك"، وربنا يكتبلكم السعادة مهما كان.
انهارت سعاد في صمت، وعجزت عن الرد. لكن مشاعرها كانت تتأرجح بين الحقد والغيرة. تركت ندى وخرجت، بينما في داخلها شعور خفي بالانتصار، رغم أن قلبها كان يملؤه السواد.
**********
في لحظات الوحدة بغرفتها، لم تجرؤ سعاد على مواجهة عمر. جلست على سريرها، تهرب من الحقيقة التي صنعتها بيديها، بعدما أغلقت الباب خلف اخيها
تركت القناع الذي ارتدته طوال اليوم يسقط، وانفجرت في بكاء مرير. جلست على طرف السرير، تضم نفسها وكأنها تحاول حماية روحها من الألم الذي ينهشها. اخذت تسال نفسها بحيرة:
أنا ليه عملت كده؟ مش ذنبها إن عمر حبها... لأنها جميلة... مش ذنبها إن ربنا إدّاها اللي مش عندي... جمال، شطارة، موهبة.
توجهت بنظراتها إلى المرآة، وكأنها تحاسب نفسها أمام انعكاسها:
سعاد: لكن أنا؟ أنا ذنبي إيه؟ أنا بحبه... هو ليا، كان دايماً معانا، صديق أخويا، وأنا أكتر واحدة فاهماه. مش معقول أسيبه ليها. هي هتسافر وتكمل حياتها... وأنا هفضل أتحرق بناري لو سبته.
لمعت عيناها بحقد مخلوط بالألم، ثم أغمضتهما بقوة، وهي تسترجع لحظات انهيار ندى وعمر. ابتسمت بسخرية، تضحك من القدر الذي لعب لصالحها:
لقد دمرت حباً نقياً لم يكن ملكها يوماً، وجرحت قلبين باسم الصداقة والخداع.
حاولت إقناع نفسها بصواب ما فعلت فقالت:
أكيد اللي عملته صح... كان لازم أفرق بينهم علشان عمر يشوفني، يفهم إن أنا اللي بحبه بجد. لما ندى تسافر وتتجوز الشيخ جاسم، هيكون ليا أنا... وبس.
ضحكت بمرارة، وضحكتها هذه المرة كانت مليئة بالنصر الملوث بالخيانة.
*********
علي الجانب الآخر، كان عمر يدخل شقته بخطوات ثقيلة. ألقى حقيبته على الأرض، واتجه إلى الأريكة، لكنه لم يستطع الجلوس. قلبه كان يعتصره الألم، ودموعه تنهمر دون توقف.
صرخ عمر بالم ولوعه بندب حظه العاثر في خسارته:
قلة حيلتي. وفقرى... حرمني منها. ندى هتكون لغيري؟ مستحيل!
وقف يذرع الغرفة جيئة وذهاباً، كالمجنون الذي يبحث عن تفسير. ويسأل نفسه مرارًا وتكرارً:
طيب ازاي، أنا كنت شايف حبها في عينيها... كنت حاسس بيها... مستحيل تكون بتلعب بمشاعري، مستحيل. قلبي مستحيل يخدعني بالشكل ده،
لكنه سرعان ما فقد السيطرة على نفسه، وبدأ يضرب الحائط برأسه، كأنه يريد أن يعاقب نفسه على هذا الحب الذي أدماه وصاح بخذلان:
الف خسارة انا كنت عايش في وهم... وهم كبير!
جلس أخيراً على الأرض، مستنداً إلى الحائط، محاولاً استجماع قواه. ورغم كل هذا الألم، لم يزل لديه بصيص أمل صغير. حدّث نفسه بصوت خافت:
يمكن بكرة الصبح، لما أشوفها أفهم. عيونها مش ممكن تكذب عليا. انا واثق من ده، واكيد عندها سبب.غير اللي قالته اسعاد خلاها رفضتني،
ترك نفسه للأمل يخفف من وجع قلبه لعله يرتاح من شدة الالم الذي يمزقه اشلاء
************
مع أول خيوط الصباح، وقف عمر في شرفته كعادته، يبحث بعينيه عن تلك النافذة التي تحمل في طياتها روحه. انتظر أن يرى ندى تفتح الشرفة، أن تنظر إليه، أن تشرح له بصمتها ما لم تقله بالكلام.
لكنه وجد الشرفة مغلقة. ستائرها مسدلة بإحكام، وكأنها تُغلق الباب أمام كل أمل. وقف للحظات يحدق في الفراغ، يحاول أن يُقنع نفسه أنها ستظهر. لكنها لم تظهر.
شعر وكأن شيئاً داخله قد تهشم. كأن قلبه الذي كان يتحامل على الصدمة انفجر أخيراً.
عاد وسأله نفسه بذهول وعدم تصديق:
معقول كل ده كان وهم... كنت لوحدي في الحلم؟
عاد إلى الداخل بخطوات بطيئة، وكأن كل خطوة تقطع جزءاً من روحه. جلس على طرف السرير، يحدق في الأرض، والدموع تملأ عينيه. وقال لائمًا
أول حلم مني ضاع... ومعاه ضاعت ندى... وقلبي...
صمت للحظة، ثم أكمل بهمس لنفسه:
قلبي اللي جرحه مش ممكن يندمل أبدا -------------------------
في صباح اليوم التالي، حمل عمر قلبه المكسور إلى قاعات الكلية، وكأنه يحاول أن يُخفي حزنه خلف زحمة الحياة. جلس في محاضراته شارداً، لا يدرك الكلمات التي تُلقى أمامه، ولا يعي الزمن الذي يمضي. كان الألم يثقل على روحه، يطارده في كل زاوية.
بعد انتهاء يومه الدراسي، توجه إلى عمله منهكاً، يلقي بنفسه في روتين الحياة، لعله يجد في العمل عزاءً أو هروباً من ذكرياته. ثم يعود إلى شقته ليغرق بين الكتب والمذكرات، يحاول أن يهرب من صورها التي تطارده في كل لحظة. لكنه كان يعلم في قرارة نفسه أن محاولاته للنسيان كانت عبثاً؛ كل يوم يمر كان يزيده عذاباً، وكأنها حاضرة في غيابه أكثر مما كانت في وجودها.
هكذا مرت الأيام، ثقيلة الخطوات، إلى أن جاء ذلك اليوم الذي غيّر كل شيء.
عاد عمر من عمله متعباً، مرهقاً ليس فقط من جسده، بل من فكره الذي أنهكه التفكير فيها. جلس في شرفته متأملاً ظلام السماء، ثم حسم أمره فجأة. قرر أن يواجهها، أن يضع حداً لهذا الألم الذي ينهش قلبه. عليه أن يعرف الحقيقة، أن يسمعها تقول له بنفسها إن كل ما بينهما كان وهماً، وإنها كانت تلعب بمشاعره.
بخطوات مترددة، توجه إلى بيتها. ولكن، ما إن اقترب حتى رأى زينة معلقة على الأبواب، وأضواءً مضيئة تملأ المكان. أصوات الزغاريد والضحكات كانت تمزق سكون الليل. وقف مكانه، جامداً كتمثال، وعيناه تتابعان المشهد.
كانت هي، حبيبة قلبه، تزف لرجل آخر. رجل غريب، ثري عربي، يمتلك المال الذي لطالما افتقده عمر.
وقف بين الحضور، عيناه تلاحقانها، وقلبه يخفق بقوة كأنه على وشك أن ينفجر. وحين التقت أعينهما، بدا وكأن الزمن توقف. نظراتها كانت حائرة، مليئة بالحزن، بالألم، وبعتاب خفي لم يستطع تفسيره.
نظر إليه بلوم وتساؤول صامت:
ليه بتلوميني وتعاتبيني بعيونك؟ هو أنا اللي اخترت الفراق؟! هو أنا اللي فضلت عليك المال؟ انتي اللي اخترتي! قوليلي... ليه؟
لكنه لم ينطق بكلمة واحدة. بقيت الأسئلة حبيسة صدره، يقتلها صمته. وحين رأى دموعها تسيل على خدها كالشلال، اعتصر قلبه ألمٌ لا يوصف.
عاد إلى شقته متثاقل الخطى، كأن روحه قد تُركت خلفه في ذلك الزفاف. أغلق الباب باحكام، وأسدل الستار على آخر فصل من حبه لها. جلس في عتمة غرفته، يحتضن وحدته، بينما تتردد في ذهنه صورتها، ودموعها التي خنقت كل تفسير.
لم يعد من حقه التفكير في حبه لها. الذي أصبح بالنسبة له حلماً مستحيلاً، ذكرى مؤلمة، وجرحاً عميقاً لن يندمل. كان يعلم أن حياته ستستمر، لكن قلبه الذي كُسر لن يعود كما كان أبداً.
ضرب يده علي قلبه الذي مازال ينبض بعشقها صارخ علي نفسه:
كفاية كفاية الحب ده كسرني وشتتني وضياع اجمل احلامي.صعب صعب. لا، مستحيل، أفكر أحب تاني.
وهكذا، طوى عمر صفحة حبه الأول، صفحة كُتبت بالدموع والألم، وأُغلقت بنهاية لم يكن يتخيلها يوماً.
***********
يتبع......
🌹🌺🌹🌺🌹🌺🌹🌺🌹🌺🌹🌺🌹🌺🌹🌺🌹🌺
اتفضلوا حضراتكم كملوا معنا هنا 👇 ❤️ 👇
وكمان اروع الروايات هنا 👇
انضموا معنا على تليجرام ليصلكم اشعار بالروايات فور نزولها من هنااااااااا
🌹🌹🌹🌹🌹🌹🌹🌹🌹🌹🌹🌹🌹🌹🌹🌺🌺🌺🌺🌺🌺🌺🌺🌺🌺🌺🌺