القائمة الرئيسية

الصفحات

الأخبار[LastPost]

رواية (رُحماءٌ بينهم)(كمثلِ الأُترُجَّةِ) الفصل الثاني والثالث بقلم علياء شعبان حصريه وجديده علي مدونة عالم الروايات والمعلومات

رواية (رُحماءٌ بينهم)(كمثلِ الأُترُجَّةِ) الفصل الثاني والثالث بقلم علياء شعبان حصريه وجديده علي مدونة عالم الروايات والمعلومات


[[الفصل الثاني]]

••••••••••••••••••

"من الطبيعي جدًا أن يراودك حلمُ حالمُ في نومك أو غيره مُخيف أما أن تحلم في يقظتك فإنه درب من الخيال نسجه عقلك الباطن بدقة متناهية؛ فماذا وإن كُنت متأكدًا من كونك قد رأيت أحدهم وأنت في خضم معركتك مع الموت؟؟ هل لحظة مُحاربة الموت حلم أو يقظة؟!.

•••••••••••

تجول في الممر روحة وجيئة في تردد لا يعرف بصفة واضحة لماذا يقف أمام باب غرفتها سوى أنها رغبة صديق عُمره الذي حلفه بالله أن يبقى بجوارها حتى تستعيد وعيها ويأتي أهلها إلى المستشفى لرؤيتها، تحرك ببطء حتى وقف أمام غرفتها ثم تذكر حديث صديقه له في الهاتف يوصيه أن يعرض مساعدته عليها ربما هي في حاجة ماسة لمساعدة أحدهم، تنهد "نوح" قائلًا بصوت متوتر وأقدام تتردد حول الدخول أو البقاء في مكانها:

-مش فاهم أنا هدخل أقول لها أيه؟!.. يا ترى يا تليد بتفكر في أيه ومين البنت دي؟؟؟.


تنحنح بقوة قبل أن يحسم أمره بطرق باب غرفتها، لحظات وسمعها تقول بصوت فَزِع:

-مين؟!

نوح بصوت سريع:

-أنا!!!

أدار مقبض الباب ثم فتحه بهدوء، كانت جالسةً في الفراش بمشاعر يجتاحها الخمول والإنهاك، أطرقت برأسها في وَهن لم يردعها عن التفكير فيما رأتهُ تحت الماء؟!.. هل كانت تتخيل يا تُرى؟.. ثمة شخصٌ كان يسبح بمهارة سباح عالمي يود الفوز بالمرتبة الأولى؛ ولكن الاختلاف بينهما أن السباح تتجلى السعادة في صفحة وجهه بانتصاره المُستحق أما ذاك الشخص كان ينظر إليها مذعورًا خائفًا!!!.

امتد عنقه بحرص من خلف الباب مما جعلها تلتقط أنفاسها بطمأنينة، فتكلمت بصوت مريض هزيل:

-اتفضل.

دخل "نوح" إلى الغرفة بخطوات وئيدة فوجدها تنظُر إليه في حيرة ليقطع عليها تساؤلاتها قائلًا:

-أنا نوح اللي طلبت لك عربية الإسعاف.

ارتخت ملامحها قليلًا، أومأت بهدوء ولكنها سألته بصوت ذي مغزى:

-يعني إنتَ اللي أنقذتني؟؟

نوح يرد بإيجاز شديدٍ:

-بالظبط.

تفرست معالم وجهه لقليل من الوقت قبل أن تتكلم مرة أخرى بحذر وهي تلتقط السترة المركونة بجوارها:

-ويا ترى بقى إنت متعود تلبس چاكتين فوق بعض يا أستاذ نوح!!

تنحنح بخشونة يتغاضى عن سؤالها بعد أن أقحم نفسه في دائرة شكوكها ولكنه حاول أن يُنهي الحوار معها فقال:

-أنا طلبت عربية الإسعاف لمَّا لقيتك مرمية على الشط بالصُدفة ومعرفش مين اللي أنقذك ومعنديش خلفية بمُنتهى الصراحة.

سكت لبُرهة ثم أضاف حاسمًا:

-محتاجة مُساعدتي في أي حاجة تاني يا آنسة .....؟.

ابتسمت بهدوء ثم أجابته:

-وميض... اسمي وميض.

قطب ما بين حاجبيه بشك، تدبر ابتسامة باهتة تقضيةً لواجبه الموكل إليه نحوها ثم تابع وهو يعطيها ظهره في شرود:

-حمد لله على سلامتك يا آنسة وميض.


قال كلماته بنبرة سادرة وأثناء ترجله خارج الغرفة وضع أنامله أسفل ذقنه في حيرة ثم تمتم بخفوت لا يتضح من معالمه شيءٌ:

-وميض إزاي يعني؟! أمال أيه أُترش دي؟؟؟.

خرج فورًا ثم أغلق الباب خلفه بهدوء وما أن توارى عن مرأى عينيها حتى أومأ برأسه في تيه وراح يضرب كفًا بالآخر في تشتت!!!


مرَّت بضع لحظات ومن بعدها سمعت "وَميض" صوت صاخب يأتي من خلف بابها، ابتلعت ريقها على مهل وهي تترقب لهجوم هؤلاء عليها في كُل لحظة بعد أن خمنت جيدًا من هم؟؟ لم يسعفها الوقت كي تُفكر طويلًا إذ فُتح الباب بقوة عنيفة ورأت سيدة تدخل إلى الغرفة بغضب جامح بينما تصيح بها المُمرضة بتذمرٍ واضحٍ:

-ماينفعش كدا يا مدام، دا مش أسلوب تتعاملي بيه في مُستشفى!!!.


حاولت المُمرضة أن تفرد ذراعها أمام الأخيرة كي تمنع استمرارية سيرها داخل الغرفة واعتبرته تهجم واضح إلا أن الأخيرة أزاحت ذراعها ثم تابع بصوت مُتعجرف عنيد:

-وسعي كدا، إنتِ مش عارفة بتكلمي مين؟!.


زمت المُمرضة شفتيها بازدراء وضيق ثم صاحت بصوت منفعل وهي تتحرك صوب الباب مرة أخرى:

-أنا هطلب لك الأمن حالًا.

غادرت المُمرضة ساخطة على السيدة وما فعلته من تصرف أهوج، فيما لم تبالٍ بها وراح تتقدم جهة "وَميض" بخطوات مُختالة ثم قالت بصوت هاديء رغم ضمور الغيظ بين طياته والذي جلى في قسمات وجهها المغلولة:

-تاخدي كام يا وَميض وتبعدي عننا؟!.


كانت ترمقها بأعين حائرة ما لبثت أن تحولت إلى أعين جحماء يتطاير الشرر منها وبصوت حاد هتفت:

-حلو إنك تكوني واضحة معايا من الأول، أفهم من كلامك إنك مبعوتة من شركة الديب للعقاقير الطبية ومنتجات العناية بالبشرة علشان تساوميني!!.

ابتسمت السيدة بسخرية ثم تابعت:

-مش بالظبط، أنا خايفة على بنت جميلة وصغيرة زيك بدل ما تكون المفروض بتبدأ حياتها تكتشف إنها بتنهيها!!!.

وَميض بصوت عنيد ثابت:

-ومين بقى اللي هينهي حياتي؟ إنتِ ولا اللي باعتك!!.


تقدمت السيدة خطوتين ثابتتين قبل أن تتشدق بنبرة متعالية:

-سمعت إنك تخصي عيلة السروجي ومستغربة أيه العداوة دي معانا مع إنهم حبايبنا؟؟.

سكتت للحظات ثم تعمدت النظر بقوة داخل أعين "وَميض" لرصد وقع الكلمات القادمة على صفحة وجهها العنيدة:

-ولا نسيت إنك بنت الخدامة عندهم في القصر يعني مش من أصلهم ومفيش داعي أعاتبك، لأن هي دي خِصال الخدم؛ المكر والخداع والجوع.

صرخت "وَميض" بثورة جامحة:

-اخرسي واخرجي برا ويكون في علمك إني مش هسكت على أفعالكم العِرة، بكرا الناس كلها تعرف إنكم شغالين بسياسة دس السم في العسل!!!.

ضغطت السيدة على أسنانها بقوة ثم تابعت بصوت ينبعث حريق ملتهب من بين أحرفه:

-هتعملي أيه يا حلوة، إنتِ مُجرد صحفية في جريدة تحت السلم، صوتك مش هيوصل ولو وصل كبيرك قضية تكسر ضلوعك وكبريائك يا بنت الخدامين.


وَميض وهي تبتسم بغموض قبل أن تطيح بغطائها بعيدًا ثم تنهض من فراشها على مهل، شعرت السيدة بالتوتر قليلًا فبدأت تتراجع عدة خطوات للخلف إلا أن "وَميض" هجمت عليها ثم قبضت بعنف على خصلات شعرها وبصوت ملتهبٍ أضافت:

-هوريكِ بنت الخدامين هتعمل فيكِ أيه يا عِرة!.

أسرعت بعرقلتها فسقطت بالأرض ثم كبلت ذراعيها وسط صراخها الهادر طالبةً النجدة إلا أن "وَميض" الفتت إلى كتفها بعيون تلمع بانتصار ثم شرعت بغرس أسنانها بين لحم كتف الأخيرة اللي صرخت صرخات مدوية مُتألمة.

-دي علشان تغلطي في أهلي.

استدارت إلى الكتف الآخر ووضعت بصمتها عليه أيضًا ثم رفعت فمها تقول بغيظ:

-ودي علشان تدخلوا المخدرات في علب أدوية وتنشروا الوباء بين الشباب!.

في غضون ذلك، وجدت الممرضة تعود ومعها مجموعة من رجال الأمن الذين هرولوا نحو الفتاتين ثم أبعدوا "وَميض" على الفور قبل أن يطلبوا من السيدة أن تأتي معهم في الحال تجتبًا للمشكلة التي سوف تسفر عن رفضها السير برضوخ.

••••••••••••••


استقرت سيارة كبيرة سوداء من الطراز الحديث أمام باب الشركة، ثواني وترجل السائق الخاص منها ثم هرول إلى الباب الخلفي الأيسر وقام بفتحه واستدار إلى الباب الخلفي الأيمن وفتحه كذلك، لحظات وترجل منها رجل كبير ومعه شابة جميلة تُعاصر أعوامًا يانعةً في عُمر العشرين، وقف الرجل شامخًا يرتب رابطة عنقه قبل أن تتجه الفتاة ثم تقف بجواره ثم توجها معًا صوب باب الشركة وما أن دخلا حتى حياهما كُل من بالمكان فابتسم برضاءٍ كاملٍ عن موظفيه الذين يعملون بكد دون توان أو تقاعس فدائمًا ما يصف شركته بخلية النحل؛ فكُل شيء يحدث داخلها بميعاد وسبب والنظام هو سيد الموقف تمامًا، سار بين الموظفين بخطوات ثابتة وكانت تسير الفتاة بمُحاذاته فتكلمت بوجه مُكفهر وصوت هاديء لا يتطابق مع ملامحها الراسخة الناعمة:

-أيه رأيك في اللي عملته وَميض يا بابا؟!.

أسبل جفونه بكظم شديدٍ ثم أجابها بصوت خشن:

-مش عاجبني طبعًا، دي بتعادي أكتر شخص له مصالح معانا ومن غيره أمور كتير في معاملاتنا الخارجية مش هتمشي.


ضغطت على أسنانها ثم صمتت لبرهة حينما وصلا إلى المكتب، دخله "عثمان" أولًا ثم لحقت ابنته به وما أن أغلقت الباب حتى تكلمت بصوت ساخطٍ:

-والعمل؟!.

عثمان وهو يتجه صوب مكتبه ثم يجلس إليه بثبات مُضيفًا:

-العمل إني أوصي علَّام يربيها شوية وإلا النتيجة مش هترضيه أبدًا.

كان تقف أمام المكتب فتحركت نحو النافذة ثم بدأت تزيح الستار عنها وهي تقول بهدوء:

-من يومها وهي مفتعلة مشاكل وحاجة زهق.

عثمان بحسم:

-لو على حميد الديب، أنا هعرف أتعامل معاه وننهي الحوار دا في أسرع وقت.

سكت لثوانٍ ثم ابتسم وهو يقول مادحًا ونظراته مُصلبة عليها بمحبة:

-الأهم من كُل دا، إني مبسوط من شُغلك يا سكون الفترة دي ولأول مرة أحس إني خلفت سند وضهر بجد!!


مطت "سكون" شفتيه ثم نظرت إليه بعتاب وراحت تتجه صوبه ثم تحتضن ظهره قائلةً بصوت هاديء:

-أنا وأخواتي طول عُمرنا سندك وضهرك يا حبيبي، بس إحنا كبرنا ومن حق كُل واحد فينا يختار حياته ويرسمها حسب شخصيته.

هز رأسه ثم أضاف بلوعة:

-أخواتك خذلوني يا سكون.

أومأت بالسلب ثم عدلت أحرفه بأُخرى مُصاغة بدقة:

-أخواتي روحهم فيك بس كُل واحد مشي في الطريق اللي شايفه لايق عليه.

تنهدت بضيق ثم تهدجت نبرة صوتها بحزن عميق وهي تضيف:

-متنساش إن عُمر مختارش اللي هو فيه، دا مفروض عليه!.


عثمان بضيق يسأل مُستنكرًا:

-وشروق؟؟؟؟

تنهدت "سكون" شوقًا لشقيقتها ثم قالت:

-شروق بتحب يا بابا وإنتَ أكتر واحد علمتنا إننا نتمسك بكُل حاجة بنحبها وعايزينها طول ما فيها فرحتنا وحضرتك نفس الشخص اللي خيرتها بين الشخص اللي بتحبه وبقائها معانا!!!، آسفة يا بابا بس حضرتك أتسرعت وقتها ومكنش قرارك صح.


تنهد بتأييد لكلامها ثم سألها بصوت سادر يود سماع إجابتها المُحببة إلى قلبه:

-وإنتِ يا سكون، طريقك مع مين؟!.

سكون بضحكة خافتة:

-معاك وفي ضهرك يا بابا.

أسرع بالربت على كفها الموضوع كتفه ثم قال بتوصية:

-المهم متأثريش أبدًا في جامعتك وحاولي توازني بين الشغل والجامعة.

استدارت ثم وقفت بجواره فأكمل بثبات:

-ميهمنيش التقدير في حاجة، إحنا محتاجين الشهادة بس.

سكون بثبات تقول مازحةً:

-تمام يا فندم.

•••••••••••••••


هناك في إحدى القُرى بمُحافظة "سوهاج" حيث المباني العتيقة ذات الطراز القديم والأزلي رغم التقدم والازدهار الواضح في المحافظة نفسها إلا أن هذه القرية لا تزال مُتشبثة بقيمها ولكن ثمة بيوت تُعد على أصابع اليد قد فضلت التطور عن البقاء في عصر قديم ومن بينهم بيت (كبير القرية) المسؤول عن كافة شؤونها ومخاطبة المسؤولين عند الأزمات والمُتحدث الرسمي بصوت أهل القرية.


داخل أكبر بناء في القرية وأكثر الأبنية حداثة والذي يليق بكونه بيت مسؤول القرية وداخل غُرفة بعينها، تقف فتاة عشرينية رقيقة الملامح أمام مرآة منضدة الزينة الخاصة بها، كانت تُعاصر مشاعر مُذبذبة كُسر فيها خاطرها وتعمق حزن قلبها اللطيف.

وضعت أصابعها ناحية حلقها المُلتهب بغصة تستحضر كلمات والدة زوجها سليطة اللسان صاحبة التعابير الفظة التي تطيح بأنوثتها وتهشمها إلى أنصاف امرأة رغم توافر كافة المسميات والخِصال الأُنثوية بها؛ ولكن معايير الأنوثة لدى هذه السيدة تنحسر في امرأة ولَّادة في وقت سريع كسباق السيارات تمامًا.

نزلت بأناملها حتى لامست بطنها المُسطحة والمشدودة في حُزن تتذكر غضب هذه السيدة الكبيرة عليها وتحريض ابنها على تطليقها والتخلي عنها في أسرع وقتٍ، كانت ثرثرتها كفيلة أن تصيب ولكن مع رجل لا يكن لزوجته المسكينة مشاعر تُذكر وليس حبيب قلبها (عِمران) الذي ينتفض ويثور أن أحزنها أحد أو لمس كبريائها بسوء ولكنه لا يثور أمام والدته؛ هو فقط يتغاضى عن حديثها السام ويعتبره هواء يتطاير من حوله ويصعُب رؤيته.

كانت تتلقى كلمات غليظة منها فيجمعهم ثم يُلقيهم في سلة المهملات المركونة في نهاية الذاكرة الخاصة بها ثم ينثر عليها كُل ألوان العشق، الاهتمام والدفء في علاقة زوجية ناجحة لا تتشوش مهما حدث.

-شروق!.

انتبهت بفزع وهي تجده يقف خلفها ثم يضع كفه الكبير على كفها القابع على بطنها، تدبرت ابتسامة خفيفة ثم قالت بهيام:

-وحشتني!.

عمران وهو يُقبل وِجنتها مُبديًا انتشائه من رائحة عطرها المُذهب لعقله:

-لازم أوحشك، لأن شروق شمسي يلزمه نهار.

شروق وهي تبتسم ثم تُطأطأ رأسها في خجل:

-إنتَ فعلًا نهاري، وإنتَ مش موجود في البيت بحس بوحدة الليل ووحشته، بستنى نهاري يطلع.

رفع "عمران" كفيه إلى كتفيها ثم أدارها كي تواجهه بشروق وجهها الخلاب في زهو رغم تواضعها، قامت بوضع كفيها على خصريه بينما وضع وِجنتيها الناعمتين بين كفيه ثم قال بثبات مُدققًا النظر في لمعة عينيها التي تنم عن حزن صامت وانطفاء واضح في حماسها فور رؤيته:

-النهار جه بس الشروق مجاش!!.. ممكن أعرف السبب؟؟.


انفرجت شفتيها قليلًا كي تتحدث ولكنهما وجدا الباب يُفتح فجأة ثم دخلت "تماضر" الغرفة دون أن تطرق بابها أو تحترم خصوصيتهما كزوجين، حدق "عمران" فيها مصدومًا فتحدثت بصوت جاف:

-الهانم مراتك بنت الذوات بتعمل أيه في أوضتها والمفروض إن دا وقت تحضير الغدا؟؟؟.

أرخى "عمران" جفونه بعد أن طرح بالصدمة جانبًا ثم تكلم باستنكار من تصرفها:

-أيه اللي حصل دا يا أمي؟!.

تماضر بصوت يرتفع بجبروت:

-دا اللي لازم يحصل طالما مش عايزة تفهم عادات بيتنا، يلا يا هانم على المطبخ أبوكِ الحاج ميعاد رجوعه قرب.


انصاعت "شروق" باستسلام، خطت خطوتين لا ثالثة لهما حينما قبض على ذراعها بقوة جعلتها تقف في مكانها ثم تقدم من والدته قائلًا بلهجة حانقة:

-شكلك مش قادرة تفهمي إن دي مراتي مش واحدة من خدامينك!!!!.

تماضر بصوت حاد:

-يعني أيه مراتك!!.

عمران بحزم:

-مراتي؛ يعني كرامتها من كرامتي يعني تتعامل بالحُسنى وإنها هانم البيت دا وتتشال فوق الراس كمان، عرفتي يعني أيه مراتي يا أمي؟؟؟.

ضحكت "تماضر" بسخرية وهي تضع كفيها فوق بعضهما لحظة استنادها على عصاها ثم أكملت بكلمات غليظة وحادة:

-بتدافع عنها باعتبار إنها جابت لنا الولد؟! سلفتها أحسن منها في أية علشان تحمل وهي لأ مع إنك متجوز إنت وأخوك مع بعض في نفس اليوم!.

انفرجت شفتيه بصدمة كبيرة ثم صاح منفعلًا في دهشة:

-أنا مش قادر أصدقك؟؟ إحنا مكملناش أربع شهور متجوزين! يعني لسه عرسان، أربع شهور يا أمي مش أربع سنين!.

تماضر بإصرار عنيد:

-ولو، راوية مرات أخوك حسان حامل في الشهر التالت وهي متجوزة معاها في نفس اليوم، يا ريتك سمعت كلامي وخدت لك واحدة من البلد كان زمانها حامل من ليلتها.


عمران بصوت حانق يصيح فيها:

-وأنا عايز أستمتع بحياتي مع مراتي يا ستي ومش مستعجل، ممكن محدش يتدخل في حياتي مع مراتي نهائي وممكن بعد كدا تخبطي على الباب وتستني نسمح لك بالدخول!!.


تماضر وهي تستشيط غضبًا ثم ينبج صوتها بصورة كبيرة:

-عال يا ابن توفيق النوبي، قدرت عيلة من عيال البندر تعصيك على أمك.

عمران بتحدٍ وانفعال كبير:

-اللي بتغلطي فيها دي مراتي يعني احترامها واجب وفرض في البيت دا لأني سمعت كلام بين الخدامين معجبنيش وعرفت أن مصدره للأسف "إنتِ".


سكت لبُرهة وهو يوجه لها أصبع سبابته بالاتهام ثم أضاف:

-إنك أمرتيهم ينادوها باسمها من غير ألقاب وفهمتيهم إنها هتساعدهم في المطبخ!!!!.

تماضر بلهجة صارمة:

-وهي متستحقش إلا دا.

أومأ برأسه في ثورة ثم قال وهو يندفع كسيل جارف خطير نحو الباب:

-هنشوف دلوقتي.

خرج من الغرفة ثم وقف على أول الدرج وراح يصيح بصوت جهوري:

-كُل اللي في البيت يتجمعوا حالًا!.

تأجج داخل "تماضر" بلهيب الغيظ فحدجتها بنظرة قوية عدوانية قبل أن تستدير وتتحرك نحو ابنها فتجده يقول بعد أن تجمع كُل من بالبيت:

-مراتي اسمها شروق هانم النوبي مرات عمران بيه، وطول ما اسمي اتحط ورا اسمها كُل واحد في البيت دا هيشيلها فوق رأسه واسمع إن حد داس لها على طرف وأنا أندمه على اليوم اللي إتولد فيه، تمام!!!.


لم ينتظر ردهم فعاد إلى غرفته مرة أخرى ثم أغلق بابها بانفعال جامح ليستدير إليها بصدر يخفق من الغضب نحو تنمر الجميع عليها والسبب أنها لم تحبل بعد أربعة أشهر من زواجها!! ما هذا الهراء!!

أخذ صدره يعلو ويهبط في انفعال ليباعد بين ذراعيه ثم يأمرها بلهجة جادة رغم ما يغمرها من حُب غطاه الانفعال من والدته:

-تعالي!.

هرعت مرتميةً بين ذراعيه فضغط بذراعيه على ظهرها في قوة بعد أن أقسم في نفسه أن يجعلها تحيا داخل هذا البيت برأس مرفوع وكرامة يهاب الجميع المساس بها خشيةً أن تطولهم براثن غضبه الكاسر.

••••••••••••


داخل قصر (عائلة) السروجي المُقام على طراز فاخر وعظيم يحيطه سور عال متين ويقف على بوابته مجموعة أشخاص من أجل تأمينه، تمدد في فراشه الوثير بعد وصلة نوم دامت لقُبيل العصر ولكنها هذه هي حياته الرتيبة التي ملأها الروتين بعد الحادثة المأساوية الأليمة التي تعرض لها، طالع شاشة هاتفه المحمول بشغف ثم قرر كتابة رسالة عبر موقع التواصل الاجتماعي "واتساب" علها تراها بسرعة وتُجيبه:

-صباح الخير، رجعتي من الشغل ولا لسه؟؟


انتظر للحظات ولم يجد ردًا منها فخمن انغماسها في العمل، تنهد "عُمر" بضيق من تكرار أيامه ولياليه التي لم يطرأ عليها جديد منذ ذلك اليوم المشؤوم إلا هي.


 تعرف عليها عن طريق موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك حيث بدأت العلاقة بسلامات سطحية عادية ثم تحولت مع الوقت إلى مشاعر مُرابطة وقوية؛ ربما هذا ما يُسمى بحُب؛ ذلك التعريف الذي لم يتعرف عليه في حياته أو يعيشه على الإطلاق وكيف يحوز به وهو قعيدٌ!!! فجماله وماله لم ينفعانه حتى الآن في الوصول إلى الحُب بل يلقيان في حجره من هؤلاء اللواتي يردن المال دون غيره فيما يُصر هو على نبش كُل مكان يدوسه مقعده بحثًا عن حب حقيقي؛ لا شفقة أو طمع!.


تململ على فراشه قبل أن يصله رسالة منها، كتبت فيها:

-لسه حالًا خارجة، وإنت؟!.

سرح في سؤالها له قبل أن يزفر باختناق يزيد مع كُل كذبة تخرج منه ولكنه تعمد أن يُخفي نسبه وعائلته كي لا تطمع فيه ولكن الكارثة الكُبرى أنه أخفى عنها عجزه عن الحركة راغبًا في أن يختبرها الاختبار الأقوى على الإطلاق (حُب الروحِ أو المظهر؟!).. لقد كان ينوي الالتقاء بها في يوم قريب ثم يخرج أمامها بحالته على أن يترك لها حرية القرار ومن خلال ما سوف تقرره سيتأكد إن كان حُبًا أو مشاعرًا إلكترونية وهمية.

كتب بسرعة:

-لسه مخرجتش بس قولت اتطمن عليكِ.

انتظر لثواني فكتبت له برمز تعبيري حزين:

-لسه بردو مُصمم على رأيك يا عُمر، أنا بس اللي مطلوب مني أبعت لك صوري بس أنا عُمري ما شوفتك؟!!.


زفر بحنق من إصرارها الذي يُزعجه، فكتب:

-اتفقنا منتكلمش في الموضوع دا تاني يا رويدا، أنا مش بطلع حلو في الصور وتليفوني رديء وعادي فيُفضل تشوفيني على الواقع.

أرسلت بسؤال مكون من كلمة واحدة:

-إمتى؟!

كتب باختصار:

-قُريب وقُريب أوي كمان.

في تلك اللحظة، فُتح باب غرفته وأمدت هي عُنقها قليلًا تتفقد حاله ليبتسم بسعادة ثم يقول:

-تعالي يا أمي.

تقدمت "نبيلة" داخل الغرفة بخطوات وئيدة؛ حيث عُرف عنها حُبها للحُلى غريبة الأطوار والتي تتخذ أشكال الحيوانات البرية المتوحشة، اِفتر ثغرها عن ابتسامة خفيفة ثم أردفت بصوت هاديء:

-كُل دا نوم يا عُمر باشا!.

عُمر بنبرة هادئة:

-أصلي سهرت كتير إمبارح، المهم الفطار جهز!.

نبيلة بنبرة ثابتة:

-من بدري.

أومأ "عُمر" بحسم ثم أضاف:

-تمام، يلا بينا يا ست الكل.

اقتربت "نبيلة" منه بهدوء ثم شرعت في معاونته على النهوض والجلوس على مقعده رغم رفضه التام في أن يرى أحدُ ضعفه عدا شقيقته (سكون) التي دائمًا تعتني به بدقة وحُب.

•••••••••••••••


-مالك؟!.

أردف "تليد" يسأل بقلق حينما رأي صديقه يدخل إلى الشقة بوجه مُكفهر عابس، توجه "نوح" نحو الأريكة القابعة في بداية غرفة الاستقبال ثم جلس عليها قائلًا بصوت هاديء:

-ماليش يا عم، مبهدلني معاك من الصُبح مع واحدة منعرفهاش وتقول لي مالك؟؟؟.

ترك "تليد" مقبض الباب ببرود ثم توجه إليه قائلًا بلهجة حازمة:

-إنتَ بس اللي متعرفهاش يا نوح.


رفع "نوح" أحد حاجبيه ثم أضاف بصوت ساخر هزلي:

-تعرفها منين إنتَ، ما أنا مصاحبك من الثانوية العامة وعمري ما شوفتها في حياتك، وأمانة عندك يا نوح.. خلي بالك منها يا نوح.. أطلب مساعدتها يا نوح ناقص أجيب لك رقمها!.


تليد وهو يبتسم ابتسامة عريضة تتناسب مع معالم وجه صديقه المُضحكة ثم يرد ببرود جليدي:

-معايا.

نوح وهو يلتفت إليه ثم يصيح ساخطًا:

-ولم إنتَ معاك رقمها، مغلب نوح وسنين نوح معاك ليه، ما تكلمها إنت وتطمن عليها وتطلب مساعدتها، دا إنتَ صاحب لزج.

لم تتحرك تعابير وجهه الباردة ولم تختفِ ابتسامته الشقية عن وجهه فيما أكمل الأخير بنبرة متذكرة فتابع:

-خُد الكبيرة بقى، لأن البنت اسمها وَميض مش الاسم التاني بتاعك دا…!!! أترش باين!.

حدق "تليد" فيه مذهولًا ثم انفرجت شفتيه بضحكة ساخرة يقول:

-أترش!.. الحنك دا يتسد خالص.. علشان الحنك دا بيرمي قرف!.

ضحك "نوح" بمرح ولكنه تفاجأ من عبارة صديقه التي تلت مزحته:

-اسمها وَميض مش كدا؟؟؟

اتسعت عيناه اتساعًا ثم صاح بصوت عالٍ:

-أيووووووة، هو دا بالظبط، بس لمؤاخذة إنت عرفت منين يا كبير!!.

انتصب "تليد" واقفًا في مكانه ثم تابع بصوت حاسم:

-قولت لك موضوع يطول شرحه، وأنا عندي حلقة دلوقتي يدوب ألحق ألبس.

نوح يوافقه الرأي على مضض:

-تمام يا سيدي، نشوف الحوار دا بعد الحلقة يا شيخنا.


تليد وهو يناوله هاتفًا محمولًا ثم يقول بحزم:

-ولحد الحلقة بقى ما تخلص هتاخد التليفون دا وتتابع الأخبار مع الشاب اللي هيكلمك.

نوح باستفسار وحيرة:

-مين دا؟؟

تليد بإيجاز:

-حطيته على باب المستشفى حماية ليها، يعني مجرد إجراءات روتينية.

تناول الهاتف منه فتحرك "تليد" صوب غرفته كي يتجهز للذهاب بينما كز "نوح" على أسنانه ثم تابع بغيظ:

-يا مثبت العقل والدين يااااارب.


مرَّت لحظات وانتهى "تليد" من ارتداء ملابسه واستعداده التام لتقديم برنامجه الأسبوعي (كمثلِ الأُترُجَّةِ) حيث تميز بين الناس بحُسن الخُلق والقبول مُعلقين أن الشبلَ لا يُمكنه أن يكون سوى أسدٍ في النهاية؛ فقد شبه والده في كُل شيءٍ حتى اتخذ نهجه في دعوة الناس للخير والصلاح وتمكن على سيرة والده الحسنة أن يُختار كواحدٍ من النماذج الخيرة التي من حقها أن تصل كلماته للجميع فتلقى نجاحًا باهرًا وتعاقدت معه قنوات تلفزيونية شهيرة لتقديم برنامجه الديني وصار أشهر داعية إسلامي في وقته.

كانت ملامحه خشنة رجولية ولكنه ما أن يضحك تظهر الناحية اللطيفة من شخصيته القديمة وقد امتلك علامة في جوهرها شيئًا سيئًا بالنسبة له أما الظاهر منها يزيده وسامة حيث يفرغ منتصف حاجبه الأيسر من الشعر فيبدو مقضومًا ومقسمًا إلى نصفين ولكن هذه الندبة قد زادته رجولة وجاذبية.

نظر إلى نفسه في المرآة مرة أخيرة قبل أن يترجل خارج الشقة مع صديقه ثم ركبا السيارة معًا ولم ينسَ "تليد" أن يكسب مُباركة عزيز قلبه قبل أن يبدأ التصوير الذي ينتهي بقبول ونجاح ساحق بفضل هذه الدعوات.

-عِز الناس، واحشني يا بويا!.


وصله صوت متهدج بفعل السن رغم خشونته فقال بضحكة أصابت قلب "تليد":

-إنتَ اللي عِز الناس وزينتهم.

تليد يرد بصوت دافئ:

-ربنا يبارك لي في عمرك يا حاج، فاضل على التصوير نص ساعة، ادعيلي!!.

سليمان بصوت حنون يرد:

-بدعي لك تلاقي القبول في وش كُل اللي تقابله يا ابن الغالية ويجعل دعايا من قسمتك الحلوة ويملى أيامك كُلها نجاح وسعادة طول ما إنتَ بتبرني وبتتقي الله في قولك وفعلك.


تأثر "تليد" بصورة كبيرة فأُصيب قلبه بالارتخاء النفسي الذي أسفر عن رغبته في رؤية والده الآن والارتماء بيت ذراعيه فتابع بصوت متهدج مُشتاق:

-هخلص الحلقة وهاجي لك على طول، إنتَ واحشني ومش قادر أصبر على غياب حضنك ليا وعندي ليك كلام كتير لازم أقوله.

سليمان بهدوء:

-هستناك يا شيخ تليد، في أمان الله يا عِز الناس.


أغلق الهاتف بسعادة غامرة لا يحظى بها إلا في كنف والده، أصبح مُقبلًا على الحياة مُستعدًا لتقديم الحلقة بشخصيته المُتألقة، وصل في غضون عشر دقائق وما أن ترجل من السيارة حتى وجد شابًا يهرول صوبه ثم يقول بنبرة متهللة من السعادة:

-ممكن أتصور مع حضرتك؟؟؟.

أومأ "تليد" بحفاوة شديدة فالتفت الشاب إلى "نوح" ثم طلب منه بأدب:

-بعد إذنك صورنا مع بعض.

أعطاه هاتفه الخاص ففعل "نوح"، أبدى الشاب إعجابه الشديد بتواضع "تليد" ثم شكره وغادر وهو في قمة سعادته، اتجها مسرعين إلى موقع التصوير فلم يتبقَ سوى القليل على بداية الحلقة.

تنهد "تليد" بارتخاء ثم التفت إلى "نوح" قائلًا:

-اطلب لي من الكافتيريا كوباية شاي، قول لهم بتاعة أستاذ تليد.

أومأ "نوح" مُتفهمًا ثم توجه إلى الكافتيريا فأعد العامل كوب الشاي بسرعة كبيرة ثم وضع على سطحه قطع من "الأُترُج" مما جعل "نوح" يُحدق في الكوب ثم يتمتم بحيرة:

-دا كان بيقول أُترُج!!.. هي البنت اسمها أُترُج!!.

-في حاجة يا أستاذ نوح!!!.

رفع "نوح" بصره إليه ثم أومأ سلبًا وقبل أن ينصرف من أمامه قال العامل ببسمة خفيفة:

-سلم لي على أستاذ تليد وقول له كتر خيرك لحد ما أشوفه وأشكره.

قطب "نوح" ما بين عينيه ثم أومأ مُغادرًا وهو لا يفهم من حديثه شيئًا وقد سيطر اسم الفتاة على تفكيره تمامًا، فقد ناداها صديقه باسم لم يكن يجمع معالمه ولكن هذه الثمرة جعلته يصل الخيوط ببعضها، هل الفتاة تُدعى أُترُج ومن هي وَميض؟؟ وما علاقتها باسم برنامجه الشهير!!!!!!

••••••••••••••••

-كدا توجعي قلبي عليكِ يا بنتي، دا إنتِ وحيدتنا وملناش غيرك؟؟؟

أردفت "سهير" بصوت باكٍ مُتحشرجٍ فابتلعت "وَميض" غِصَّة مريرة في حلقها ثم قالت بصوت هاديء:

-أنا حقيقي مش عارفة ليه بيحصل معايا كدا؟؟؟

سكتت هنيهة ثم تنهدت تسأل بحيرة:

-فين بابا؟!

سهير بصوت متقطع:

-عثمان بيه طلبه مُستعجل ومعرفش ييجي معايا وأنا مقدرتش أستنى أكتر من كدا.

أومأت برأسها في هدوء وهي تحاول تخمين السبب الذي جعله يستدعي والدها وهل الأمر مُتعلق بما حدث معها؟!.


استفاقت من شرودها على صوت الممرضة وهي تدخل إلى الغرفة ثم تتفقد درجة حرارتها وبعد أن أنجزت عملها قالت بنبرة هادئة:

-تحبي أشغل لك التليفزيون يسليكِ؟!

التوى شدقها وهي تقول باستسلام:

-ماشي، ولو إني مش عارفة أيه المستشفى اللي فيها تلفزيون دي ومالها مستشفيات الشعب زائد إني هسد الدين اللي عليا إزاي!!.

الممرضة ترد بحسم:

-ما هو الحساب مدفوع.

وَميض بتنهيدة طويلة قبل أن تقول:

-ما أنا عارفة، أقصد هسد ديني للشاب إزاي، أكيد طبعًا إنتوا معاكم نمرة تليفونه في الاستقبال!!!.

الممرضة وهي تهز كتفها بجهل حول الأمر:

-الحقيقة مش عارفة، اتفضلي الريموت.

تناولته منها بفتور ولكنها قررت أن تلتهي به وتتوقف عن التفكير قليلًا، بدأت في تغيير القنوات الواحدة تليها الأخرى وهي تشعر بملل شديدٍ حتى توقفت للحظة أمام هذا البرنامج الديني، حدقت فيه بإمعان وتركيز ثم بدأت ترأرأ بعينيها في تيه لتجد والدتها تقول بقلق:

-إنتِ كويسة يا وميض؟

أومأت بالإيجاب وهي تفرك جبهتها بقوة ثم تمعن النظر في ملامحه قبل أن تقول بتشتت:

-حاسة إني شوفته!!!

سهير وهي تنظر لوجهه ثم تقول بتلعثم:

-هو مين؟؟؟

وَميض وهي تتفرس ملامحه بترقب:

-تليد، المذيع دا.

ارتخت شفتيها في غضون ذلك ثم التفتت إلى والدتها وتابعت بصياح مذهول:

-أنا شوفته.. أنا شوفته تحت المية!!!!!!!!!!!!!!


(رُحماءٌ بينهم)

                                "كمثلِ الأُترُجَّةِ"

[[الفصل الثالث]]

••••••••••••••••

"وميضٌ قلبه خافتٌ، يتسرب رويدًا من حوله؛ إلا أن قوة إصراره تتشبث بقبس نورها الأخير وعنوة سوف تسطع في حياته من جديد".

•••••••••••••••

"قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مثلُ المؤمنِ الذي يقرأ القُرآن كمثلِ الأُترُجَّةِ؛ طعمها طيبٌ وريحها طيبٌ".


تنهد بحنين عند ذكره للنبي وشفيع الأُمة أجمع، هذه الكلمات الافتتاحية التي يبدأ بها كُل حلقة تُعرض من برنامجه، كان يجلس على كرسيه بوقار لطيف وتُسيطر على ملامحه الرجولية الخشنة مجموعة من الخِصال الطيبة؛ كالرصانة التي بها يتربع على قلوب الكثير من محبيه؛ عذوبة ابتسامته التي تشي عن حياة مليئة بالمسؤولية قد عاشها في صِغره؛ كذلك نبرة صوته العذبة النقية التي لا يشوبها ذرة قسوة أو نشاز.


كان "تليـــد" أبي النفس في صغره عزيز المقام في شبابه؛ فلم تخرج من بين شفتيه كلمة نابية أو جارحة ولم يقتحم حيوات الناس إلا للصلاح حتى حيــــاتها؟ لم يقتحمها يومًا على الإطلاق ولم يفكر في فرض ماضيه معها على معايشة حاضرهما سوية؛ يخشى الكثير في حضرتها وهو الذي لا يعرف الخوف طريقًا إلى نفسه المُستقرة الزاهدة؛ ولكنه يخشى أن يكون قد دَق قلبها وهذا الافتراض بمثابة سورٍ كبيرٍ وضخمٍ قد شُيد بغرض فراقهما للنهاية.


تنحنح بخشونة قبل أن يُخبر مُستمعيه عن موضوع الحلقة ثم ثواني وقال:

-حلقة النهاردة عن زينة الحياة الدنيا؛ المال والبنون، يا ترى ربنا مديك حاجة منهم بس ولا عندك الاتنين! وراضي عن حياتك في النهاية! وإزاي تكون حامد لنعم ربنا وإن كانت قليلة؟؟؟؟.

سكت لبُرهة قبل أن يبتسم برزانة ثم يضيف:

-أنا واحد من الناس اللي إتولدت وحيد أبويا وأمي؛ كان نفسي في أخت أو أخ، بس ربنا عوضني بأبويا كان ليا السند والأخ لدرجة إني حسيت بالشبع ناحية المشاعر الأخوية لأن قدر يملى الخانة دي والحمد لله ربنا عوضني بيه وعوضني بحفظ القرآن وإني أكون من حملته.


تنهد تنهيدة ممدودة بعُمقٍ ثم أكمل:

-اللي عايز أقوله إن ربنا وارد جدًا يحرمك حاجة نفسك تواقة ليها لأنه هيجازيك بالأحسن والأفضل منها، يمنحك الله أو يمنعك لأسباب إلهية هو العادل فيها.


بدت كمومياء مُحنطة وهي تحدق في شاشة التلفاز بجميع حواسها أو تبدو نملة ذات قرون استشعار عجيبة تُخبرها بأن ظنونها صحيحة!، حاولت استرجاع ذلك المشهد في غضون ثواني حتى أقسمت في نفسها أن هذا هو ذاك!! لقد كان قريبًا جدًا منها قبل أن يغشى عليها، تنهدت باستنكار ثم غمغمت في حيرة وجنون سيطرا على فكرها المُذبذب؛ ولكنها لا تزال تحدق به وهي تقول في خبيئة نفسها بأنها قد فقدت وعيها وليست ذاكرتها كيلا تقدر على معرفته!!!!.


-لسه بتبحلقي فيه؟؟؟

انتبهت لكلام والدتها الممتعض، استدارت برأسها صوبها وبدت في عالم آخر ولكنها قالت بصوت هاديء غلفه الحيرة:

-إنتِ مش مصدقاني يا أمي؟؟.


رمقتها "سُهير" من طرف عينها ثم أردفت بنفي:

-لا مش مصدقة طبعًا يا وميض.


أخرجت "وَميض" زفيرًا مُتأففًا وهي تتوقع وصم الجميع لها بالجنون إن أخبرتهم بالأمر، "فواحد مثله تمتلىء حياته بالأعمال هل يخرج إلى الشارع بهذه البساطة ويرمي بنفسه في الماء أيضًا من أجل إنقاذها؟ لابد أنها تتخيله!"، سيكون هذا تعقيب الجميع إن فكرت للحظة أن تبوح بما رأته تحت الماء ولكنها الوحيدة المُتأكدة من تواجده في تلك اللحظة وسوف تسعى جاهدة كي يصدقها الناس؛ ولكن هل في تصديقهم لها إجابة واضحة على سؤالها؟!!.


ظهرت اِبتسامتها الساخرة من جانب فمها وراحت تنظُر للشاشة مرة أخرى في اللحظة التي جاءهُ فيها مُكالمة هاتفية من أحد مُعجبيه يقول بنبرة فضولية متحمسة للرد:


-يا شيخنا أنا معنديش سؤال بخصوص موضوع النهاردة، أنا بس عايز أسألك عن حاجبك المقطوم دا؟ آسف إني بتدخل في حاجة متخصنيش ولكن الشباب الأيام دي بقت بتلعب في خلقة ربنا عن قصد تحت مُسمى الموضة وقطمت الحاجب دي واحدة من أشكال الموضة اللي ظاهرة حاليًا.


ابتسم "تليد" بثبات قبل أن يومىء مُتفهمًا لصدق نيته فيرد بإيجاز:

-دي حادثة اتعرضت لها وأنا صغير.


توقف عن الحديث لثواني ثم أضاف بقلب مُلتاعٍ من فرط الحنين لتلك اللحظات التي سبقت هذه العلامة الدائمة في وجهه:

-تقدر تقول إنّي كُنت بجري ورى أحلامي وملحقتهاش.


كانت تُراقب تفاصيل وجهه باهتمام بالغٍ رغبةً في الوصول إلى حدس صحيح مائة بالمائة ولكنها تراخت عن أسبابها الأساسية نحو التطلع فيه وبدأت تقرأ لمعة عينيه المتوارية خلف مظهره الخارجي المتبلد من شدة الثبات؛ إلا أنها لمست وجعًا انتشر في جسده كماسٍ كهربائي سريع لم يُضعف من قوة ضحيته بل مر مرور الكرام في غضون ثانية.


لا تزال محدقةً في تفاصيله فيما تلعثمت "سُهير" وراحت تختلس النظرات إليها في توتر تارة وأخرى تنظر إلى شاشة التلفاز بامتعاض وضيق وما أن دققت النظرَ في عينيه حتى تذكرت ذلك المشهد الذي مرت عليه سنوات كثيرة إلا أنها لا تنسى تفاصيله الصغيرة قبل الكبيرة.


أغمضت عينيها في حنق وهي تنظر من نافذة غرفتها ثم تستدير صوب زوجها وتقول بصوت منفعل حاد:

-بقول لك أيه يا علام، شوف لك حل مع الولد ابن الشيخ سليمان دا!!!.

علام وهو ينتبه لغليان نبرتها المُحتقنة بالغيظ ثم يسأل باهتمام وهو يزيح عنه غطاء الفراش:

-ماله بس؟؟؟

صرخت فيه باستنكار:

-إنتَ مش شايف إنه كُل يوم يقف لنا على بوابة البيت ومش بيمشي غير لمَّا يشوف وَميض!!!.


زفر بحنق قبل أن يقول مُعاتبًا:

-يا ستي سيبيه يشوفها هو يعني هياكلها؟ مش كفاية إنك غيرتي اسمها اللي كان مختاره ليها!!!.


هتفت بسخرية واضحة:

-وإنت يعني رضيت إني أروح أغيره في السجل، مستكتر عليا أناديها باسم عِدل، دي بنتي وأنا من حقي أناديها بالاسم اللي يعجبني.

علام وهو يرميها بنظرة جامدة ثم يقول معترضًا:

-لا مش حقك لأن دا شرط من شروط الشيخ سليمان وبعدين مش كفاية إنه خلانا نعيش مشاعر عُمرنا في حياتنا ما كُنا هنعيشها؟؟؟؟

حدقت فيه "سُهير" دهشةً ثم تهدج صوتها وهي ترد بضيق:

-إنتَ بتعايرني علشان مبخلفش يا علام!!!.


علام وهو يومىء سلبًا ثم يتوجه صوبها سعيًا لإرضائها بكلمة طيبة تمحو أثر كلماته السلبية التي لم يكُن يقصدها على الإطلاق:

-مش دا قصدي يا سُهير، بس مش عايزين نجحد فضل الشيخ سليمان علينا بعد فضل ربنا!.

التوى شدقها ثم قالت بنفاد صبرٍ:

-والعمل مع ابنه؟؟

علام يطلق تنهيدة سريعة ويرد:

-ولا أي حاجة، هيزهق وهيمشي من نفسه، متحطيهوش في دماغك إنتِ بس.


(على الجانب الآخر)

نظر الصغير صوب نافذة غرفتها بعينين متلهفتين لرؤيتها ولكنه تنهد بخيبة أمل حينما رأى ستار الغرفة مازال مُسدلًا حتى الآن، قرر أن يبقى قليلًا علها تظهر أمامه على حين غُرة فيُشبع ناظريه برؤيتها كي يستطيع إكمال يومه الروتيني المُمل فقد باتت قوته الخارقة التي بنظرة واحدة إليها تعينه على كُل سيء يتعرض له.


لم تمر دقيقتان حتى وجد "سُهير" تخرج من باب المنزل الذي يحيط به حديقة صغيرة، كان تمسك بكفها الصغير وقد صففت شعرها على شكل قطتين رقيقتين ثم قادتها إلى أرجوحة بلاستيكية قابعة في جنب قريب من البوابة وفي تلك اللحظة التقت عينه بعين "سُهير" التي نبج صوتها وهي تقول بنبرة ذات مغزى تغيظه وتُعاديه من خلالها:

-وَميض حبيبتي، العبي هنا وأنا هعمل لك السندويتشات وأرجع.

رمقتهُ بنظرة جامدة مُتشفية بينما توارى عن عينيها الحادتين خلف السور وراح يتنهد بوجعٍ بعدما فطن بالرسالة التي أرسلتها له هذه السيدة، أطرق في حزن من تبجحها وإخلالهم بالوعد وقد رأى في ذلك كارثة تتنافى مع كُل الأخلاقيات التي تربى عليها وأولها؛ صون الوعد المقطوع عليه!.


-مامااااااااا؟؟

اتسعت عيناها وهي تلتفت إلى "وَميض" ثم تقول بنبرة خافتة تيقظت لندائها مؤخرًا:

-أيه يا حبيبتي؟

وَميض بنبرة مُتأففة تُكرر جملتها:

-كنت بقول بما إني بقيت كويسة خلينا نمشي!.

تنهدت "سُهير" باستسلام ثم قالت بصوت يغلفهُ الشرود:

-ماشي، نمشي.


تنفست "وَميض" الصعداء وهي تشعر باقتراب حريتها وكأنها تعيش في سجن وليست مُستشفى، استدارت برأسها حتى وقعت عيناها على تلك السُترة فأمسكت بها بتروٍ وهي تنوي معرفة صاحبها المجهول في أقرب وقت!!!.

••••••••••••••

جلس على كرسيه في ساحة الانتظار يترقب نداء الموظفة له سامحةً له بالدخول إلى مكتب "عثمان" الذي دخل إلى اجتماع طارىء مُنذ ساعة ولم ينته منه بعد، تنهد بقلق بلغ مبلغه منه يسأل نفسه حول استدعاء الأخير له في أمر عاجلٍ رغم أنه يلتقي به في القصر كُل يوم ويمكنه وقتها أن يخبره بما يشاء؟؟.. تأفف بصورة متوارية حتى لا يظهر ضيقه أمام الموظفة ثم استدار برأسه صوبها وقال بتوتر:

-متعرفيش عثمان بيه عايزني في أيه؟!.


هزت رأسها بنفي قاطعٍ فارتخت قسمات وجهه بقنوط ثم عاد يسألها متوجسًا:

-طيب متعرفيش الاجتماع دا هيخلص إمتى لأن بنتي في المستشفى ولازم أروح لها!!!.


رمقته بنظرة عابرة قبل أن تركز ببصرها على الأوراق القابعة بين كفيها وترد بإيجاز:

-مش باقي كتير.


أومأ يتصبر بكلماتها، باعد بين ساقيه قليلًا ثم نكس رأسه ناظرًا للأرض بشيء من الحسرة وهو يضع كفيه على رأسه، لم يكن بإمكانه أن يترك كُل شيء خلفه ويهرول إلى ابنته فمنذ أن عمل في منزل "عثمان" وكُل تحركاته تؤَدَى بمقدار وبإشارة منه ولا يمكنه أن يثور أو يحتج وإلا انقطع عيشه وبات مرميًا على أرصفة الشوارع ومعه امرأتين!!


تكلمت موظفة الاستقبال أخيرًا تحثه على التوجه إلى مكتب "عثمان" فأومأ يشكرها في صمت ثم خطى نحو الغرفة خطوات مترددة ثقيلة، وصل إلى عتبة الباب فطرقه بحذر ليأتيه صوتها يأمره بالدخول في الحال.

-مساء الخير يا عثمان بيه، خير إن شاء الله!


أومأ "عثمان" له ثم رد باقتضاب:

-أهلًا يا علَّام ومش خير خالص.


ابتلع ريقه على مهل مصدومًا من هذه الإجابة المُبهمة فيما أشارت "سكون" بذراعها نحو الكرسي ثم تناولت طرف الحديث عن والدها:

-اقعد يا عمو علام!.


شكرها بخفوت ثم جلس حيث أشارت وبقيت نظراته مُسلطة على وجه "عثمان" الغاضب، توتر "علام" وهو يستفسر متوجسًا عن السبب الذي يستتر وراء جملته السابقة:

-في حاجة حصلت مني ضايقتك يا عثمان بيه!!


عثمان بصوت محتقن حاد:

-بنتك وَميض.

اندهش "علام" مع انبساطية واسعة بين حاجبيه وهو يقول بقلق:

-بنتي! مالها وميض؟؟

سكون وهي تجيبه بصوت ثابت بعد أن استدارت تواجه نظراته:

-وَميض عاملة لنا مشاكل مع شركائنا وبتكتب أخبار مغلوطة علشان تسوء سمعتنا بيها، هو دا جزاء المكان اللي رباها وكبرها!.

تندى جبينه عرقًا من الصدمة ثم تابع في حيرة:

-وهتعمل كدا ليه يا سكون هانم؟؟؟ أكيد في حاجة غلط؟؟


عثمان وهو يتنهد بقوة قبل أن يحذره بأسلوب نمق:

-بنتك بتلعب مع ناس كُبار أوي يا علام وعيها وعقلها.


سكون تسحب طرف الحديث إلى ملعبها فتقول بابتسامة باردة:

-أظن إحنا مجبناهاش الشركة هنا وشغلناها في أقرب قسم لشهادتها علشان في الآخر تعكر الجو بينا وبين الشركا وتسبب لنا خساير قبل ما تكون مشاكل.


كانت عيناه تتنقلان بينهما في تيه وحيرة وهو لا يُدرك بعد ما السبب الذي دفع ابنته على أذية مكان أكل عيشها وأناس بمثابة أهل لها؟!!.. ابتلع غِصَّة مريرة في حلقه فأكملت سكوت بثبات:

-هي قدامها خيار واحد حاليًا يا تشتغل في شركتنا بس وتعقل يا تترفد وتختار شغلها التاني وساعتها إحنا مش مسؤولين عن أي مشاكل هتقع فيها وأعتقد وقتها العلاقة بينا متسمحش إننا نحميها حتى!!!.


أومأ مُستحيًا من تصرف ابنته المُخزي وقد عجز عن الرد حتى ولم تخرج منه سوى كلمة واحدة وهو ينهض في مكانه:

-بعد إذنك يا عثمان بيه!.

••••••••••••••

ودعها "عِمران" ذاهبًا إلى عمله بعد أن ردد على مسامعها وصاياه العشر والتي تبدأ بكوني هادئة وتنتهي باستخدامي شراستك عند الضرورة مراعية ألا تكون متوجهة نحو أمه فمهما كان؛ لها منهما كُل التقدير والاحترام وتبقى في النهاية والدته.

جاءها اتصالًا من والدتها عقب خروج زوجها، تحرك قلبها من مكانه أول أن رأت رقم والدتها فردت متعجلة في لهفة حقيقية:

-ماما، وحشتيني!.

أتاها صوت "نبيلة" تقول بشوق مثيل:

-مش أكتر مني يا نور عيني، عاملة أيه في حياتك؟ عِمران كويس معاكِ وكُل اللي في البيت؟!!.


عضت "شروق" على شفتها السفلى في حيرة من أمرها وسؤال واحد يدور في عقلها؛ هل من الصواب نقل صورة سيئة عن عائلة زوجها لوالدتها؟؟ أم تلتزم الصمت وتُكثر المديح والثناء في أسلوبهم الرقيق معها؟ شردت للحظات فتابعت "نبيلة" بصوت متوجس قلقًا:

-اتكلمي يا شروق، في حد بيضايقك؟.

أسرعت تنفي ظنونها وهي تقول بصوت هاديء غلبت عليه سعادة مُصطنعة لإتقان الموقف:

-لا بالعكس، والدة عِمران بتحبني أوي وبتعاملني زيّ بنتها وكمان كُل أهل البيت يتحبوا.

نبيلة وقد أُثلج قلبها بطمأنينة أقاويلها فتابعت تستفسر:

-وعِمران؟؟

شروق بثناء حقيقي انبلج من وسط بستان عشقها المستقر بين أضلعها:

-زوجي وحبيبي اللي بحمد ربنا كُل يوم عليه، عارفة يا أمي؟؟.

التزمت "نبيلة" الصمت تترقب القادم فقالت "شروق" بوداعة تشي بقدر عظيم من السكينة النفسية التي تملأ فؤادها:

-عِمران دعوتك الحلوة ليا اللي كُنت بسمعك تدعي بيها كُل يوم.

سكتت لبُرهة ثم أضافت بهُيام:

-مش ندمانة إني حاربت أفكار بابا السلبية عنه، مش ندمانة إني اختارت أكون معاه.

نبيلة تجيبها بصوت ثابت:

-فات شهور على الكلام دا يا شروق، المهم إنك عملتي اللي عايزاه واتجوزتي عِمران واختارتي تكملي اللي باقي من عُمرك في قرية بعيدة.. بعيدة أوي عن أهلك.


شروق وهي تبتلع غِصَّة أدمت قلبها الحزين على انقطاع التواصل معهم بشكل دائم واختلاس والدتها للمكالمات بينهما في غياب والدها:

-آسفة يا أمي، أنا مكنتش هبعد فعلًا بس شغل عِمران كُله هنا، إزاي هفرض عليه حياة مش بتاعته وألوي دراعه زائد إنه مكنش هيوافق نعيش في القصر زيّ ما شرط بابا عليه، لأن نفسه عزيز ومش قابل الفكرة من الأساس.


نبيلة تتنهد بصبر ثم تردف:

-كل دا انتهي الكلام فيه، المهم إنك كويسة.

شروق بصوت حزين تقول:

-وهبقى كويسة لو بابا رد على اتصالاتي أو بس كلمني، أنا معملتش حاجة لكُل دا، أنا اتجوزت اللي بحبه بالأصول!!

نبيلة بتفهم:

-سيبيه على راحته يا شروق، الزعل دا مسألة وقت وهتنتهي.


اطمأنت عليها وتأكدت أن ابنتها تعيش لحظات سعيدة ثم أغلقت على الفور، تنهدت "شروق" باشتياق لكُل شيءٍ في القصر؛ تشتاق إلى أبيها وهو يختلس النظرات إليها أثناء جلوسها في غرفتها من أجل الاطمئنان عليها، دعاء والدتها لها بالزواج السعيد، صوت شقيقها الصاخب أثناء تلقيها نكتة سمجة من نكاته والتي لا يضحك أحدٌ عند سماعها سواه وكذلك سكون التي حاربت معها من أجل إتمام هذا الزواج وكانت سندًا لها في كُل حين حتى أنها الوحيدة التي تسأل عنها بشكل يومي والتي تُطلعها على كافة أسرارها؛ ولكنها لم تُخبرها بعد عما حدث لها اليوم فلم تتح الفرصة لها كي تتصل بها.

حسمت أمرها بإجراء اتصال بشقيقتها ولكنها وجدت الباب يدق دقات خفيفة فالتفتت إليه بأنظارها ثم قالت متوجسةً:

-مين؟!

أتاها صوت إحدى العاملات بالمنزل تقول بصوت هاديء:

-الحاجة تماضر عايزاكِ في البرندا يا شروق هانم!


زوت ما بين عينيها في حيرة ما أن تلقت الأمر ثم أجابتها بصوت خفيض:

-حاضر، نازلة وراكِ.

غمغمت باستغراب قبل أن تتجه إلى المرآة وترمق هيئتها بنظرة سريعة راضية؛ تتميز "شروق" بالشعر المموج رغم نعومته وشدة لونه الأسود ولكنها ارتدت الحجاب مؤخرًا إرضاءً لزوجها الحبيب وطاعةً له حتى تحول الأمر من تصرف فُرض عليها إلى حب في كافة أوشحة رأسها الرقيقة.


تنهدت بعمقٍ تتهيأ نفسيًا لكافة ألوان الطاقة السلبية والكلمات القاسية التي سوف تلقاها بعد قليل، أدارت مقبض بابها على مضض ثم خرجت منه حيث تجلس الأخير التي ما أن وقفت "شروق" أمامها حتى أردفت بصوت جافٍ:

-النهاردة ميعاد راوية سلفتك عند الدكتور.


ابتسمت "شروق" مجاملة وهي تنظر إلى "راوية" التي تجلس بالتواء بجوار الأخيرة وتضع يدها خلف ظهرها مُتأوهةً بصوت خفيضٍ، ارتدت ببصرها نحو "تماضر" ثم قالت بصوت هاديء:

-ربنا يتمم لها على خير يا ماما ويقومها بالسلامة.

تماضر وهي ترمقها بحدة ثم تقول:

-أنا مبقولكيش الكلام دا علشان تدعي لها، أنا بقول لك علشان تروحي معاها للدكتور.

توتر هدوئها النفسي جراء كلمات الأخيرة التي تتعمد إيذائها بشتى الطُرق؛ فلِمَ عليها الذهاب في وجود زوج "راوية" وكثير من أهل البيت؟ هل لأجل معايرتها كما تقول عنها كُل يومٍ وتغتابها مع العاملين بالمنزل!

انقبض صدرها وسيطرت الغصة على حلقها فزادته مرارة، تنحنحت بهدوء ثم شرعت تقول في خفوت:

-بس أنا مستأذنتش عِمران!.

تماضر بلهجة صارمة:

-بس كبيرة البيت ادتك الإذن!!

شروق مُتشبثةً برأيها:

-بردو لازم أقول له، هطلع ألبس وأنزل على طول.


تحركت من أمامهما على الفور بوجه عابس في حزن، نعم تتمنى للجميع كُل الخير ولكنها لا تتلقى منهم مثقال ذرة من خير؛ فراوية وتماضر لا تختلفان كثيرًا عن بعضهما وهدفهما الوحيد والأوحد هو إذلالها وبث شعور العجز داخلها بكونها لا تقوى على حَمل لقب [أُم].

••••••••••••••••••• 

توسط ساحة المعركة الرياضية التي تُمثل له واجب يومي لا ينقضي يومه إلا بسرقة ساعة على الأقل لتفريغ طاقته السلبية كما أنه مُحب لرياضة كُرة السلة وقد لعب في دوريات محلية وحاز على العديد من الجوائز قبل إصابته، ثبت الكُرة بين كفيه ثم نظر إلى صديقه بتحدٍ وراح يسير بمقعده مُستخدمًا أحد ذراعيه في تحريكه إلى أن وصل أمام الشبكة وبدأ يرمي الكُرة بكُل ما أوتي من قوة حتى أصابت الهدف بجدارة، التفت إلى صديقه ثم قال بزهوٍ مازحٍ:

-كالعادة، مفيش مُقارنة لا في الأداء ولا في النتيجة.


افتر ثغر "حسان" عن اِبتسامة خفيفة ثم مشى صوبه قائلًا باستسلام:

-للأسف دي الحقيقة، بس هييجي يوم وهحطم كُل الأرقام والصورة هتتقلب.

انفرجت شفتيه وهو يقول بسخرية:

-موت يا حمار، بقالك سنتين بتقول نفس البؤين دول ومش بشوف منك غير كلام بس.


ابتسم "حسان" بخفة ثم وضع قبضتيه على ظهر الكرسي وراح يدفعه أمامه وهو يقول بنبرة فضولية:

-بتكلم عِمران وشروق ولا زيّ عمي عثمان!!!.


عبس وجه "عُمر" بضيق تبين في قسمات وجهه، لم يرد على السؤال بل أطرق في سكون إلى أن تحدث "حسان" من جديد مستنتجًا رده:

-طبعًا لا، مبتسألش على أختك ولا صاحبك!!

أضاف "عُمر" بمشاعر مُخزية:

-أختي اختارت تبعد عني عايزني إزاي أسأل عنها وهي اللي بايعة؟؟.

حسان يصيح مُستنكرًا:

-يا بني دي أُختك يعني لحمك ودمك وعِمران صاحب عُمرك، ولا نسيت السنين اللي قضيناها مع بعض إحنا التلاتة، دا مكنش في حد يقدر يوقع بينا أو يصدق إننا في يوم هننسى صداقتنا ببعض.

تنهد "عُمر" بضيق شديدٍ ثم أجابه:

-صداقتنا كانت قبل ما يبعد أختي عني.

حسان يرد مصدومًا من تفكيره ووجهة نظره الغير مُبررة:

-دا على أساس إنك مكنتش تعرف بحبهم من أول يوم، هو مخباش عنك حاجة وكان دُغري من أول دقيقة وإنتَ كُنت مرحب بالموضوع، رأيك اتغير 180 درجة علشان اختارت تعيش معاه بعيد عنكم ويستقلوا بحياتهم!!.


عُمر يصيح مُحتجًا:

-إنتَ عارف كويس أخواتي بالنسبة لي أيه، بعدهم عني بيحسسني إن ضهري متعري خاصةً بعد الحادثة، دا هم رجليا الاتنين يا حسان.

حسان وهو يومىء مُتفهمًا ثم يقول بصوت هادئ:

-عِمران مش بس صاحبنا دا أخونا وعشرة سنين، لازم تتصافوا ونرجع زيّ الأول ومتكسرش بخاطر أختك، هي أكيد مستنية مكالمة منك من شهور!!!.


نكس "عُمر" ذقنه بخزي كبيرٍ مُعترفًا داخل خبايا نفسه أنه قد أخطأ في معاداة صديقه وبقاء الود بينه وبين شقيقته، تنهد بهم ثم قال بصوت خافت:

-ماشي.

ابتسم "حسان" بانتصار ثم توجه بأسئلته في اتجاه آخر:

-المهم، عامل أيه مع رويدا؟

مط شفتيه ثم قال بصوت فاتر:

-مفيش جديد، بنحاول أيامنا كُلها متكونش شبه بعض.

حسان بنبرة ذات مغزى يُصرح:

-بس إنتَ اللي في إيدك تحارب الروتين دا؟؟؟

قطب "عُمر" ما بين عينيه مُستفسرًا في فضول:

-إزاي؟!

توقف "حسان" عن دفع الكرسي ثم استدار لمواجهته وبصوت نصوح أكمل:

-عدا سنة يا عُمر، لازم تتقابلوا، من حقها تعرف حقيقتك بدري علشان تقرر موقعها هيكون فين في حياتك!!


•••••••••••••

قاربت على الوصول إلى المزرعة وهي تحمد الله أن سيارتها المتواضعة لم تقل بأصلها معها وأدت وظيفتها للنهاية ولم تتعطل كعادتها في منتصف الطريق؛ ربما لأنها شعرت بوضع صديقتها الطارئ فيجب عليها الوصول إلى المزرعة في غضون الربع ساعة لإنجاز ولادة مُستعجلة ومُتعسرة لواحدة من الماعز بالمزرعة، وصلت السيارة إلى أول الشارع الطويل الذي يفضي في نهايته إلى المزرعة ثم توقفت راضخةً للزحام المروري في الشارع، تأففت بضيق وحاولت أن تتصرف بحركة بديهية فقررت أن تعود بالسيارة للوراء ثم تنحدر يمينًا وتسلك طريقًا فرعيًا يكون أقل زحامًا من هذا، ضغطت على دواسة البنزين لتتحرك السيارة خطوة أكبر من التي أرادتها فتصطدم بسيارة أخرى.


ضمت شفتيها بذهول كبيرٍ وعينين جاحظتين ولحظات وسمعت صوت صاحب السيارة الثائر في غضب لتتوقع مجيء شرطي المرور إليها في الحال، دق بأصابعه على زجاج السيارة، فابتلعت ريقها على مهل ثم استجابت بفتح النافذة فوجدته يقول بلهجة حادة وعلى صفحة وجهه ملامح مُكفهرة:

-بطاقتك يا آنسة.

تكلمت بحذر تقول:

-صدقني مكنش قصدي أخبطه.

الشرطي بنبرة حانقة يهدر فيها:

-أمال تسمي اللي حصل دا أيه؟.

حاولت الدفاع عن نفسها فقالت بصوت مبحوحٍ:

-هو اللي زنق عليا.

رفع الشرطي أحد حاجبيه ثم تابع بصوت ساخر:

-وكمان مش لابسة كمامة!!.


أغمضت عينيها تخمن كم المحاضر التي ستدون ضدها فقالت بأسف ويأس:

-طاغت مني.

الشرطي يكشر من صعوبة تحصيله على جملتها المُبهمة:

-نعم!!!

أدخل يده في جيبه ثم أخرج ورقة وقلم وعاد ينظر إليها من جديد.

-اسمك أيه يا آنسة؟!

سألها بلهجة حادة، فتوترت وهي ترد مُتلعثمةً:

-مهغة.

زم شفتيه مُستنكرًا ثم صاح:

-اسمك مُهجة؟؟.

أومأت برأسها تنفي إجابته ثم ضمت أصابعها تحثه على استيعاب حروف اسمها الذي سبب لها أزمة عصيبة من يوم ولادتها:

-لأ، مُهغة! بالغاء!!!

تأفف الشرطي بانفعال ثم كز على أسنانه قائلًا بحنق:

-يا ستي إنتِ اسمك أيه دلوقتي، متعصبيناش بقى!!!


تنهدت بفقدان أمل حول إدراكه للاسم فقالت بتذمرٍ:

-حضغتك، أنا اسمي مهغة... مهغة.. الاسم دا مسبب لي أزمة طول حياتي.. أنا بنهاغ منه!!!.

ارتخت شفته السُفلى قاطبًا ما بين حاجبيه ثم استوعب أخيرًا ما تود قوله فتابع بتوجس:

-حضغتك!!! وكمان بتنهاغي!!

سكت لبُرهة يعاصر الصدمة ثم هتف بابتسامة خفيفة:

-إنتِ اسمك مُهرة!!!!!

تنفست الصعداء ثم أومأت تؤكد تخمينه:

-الحمد والشكغ لله، أيوة اسمي.... اسمي اللي إنتَ قولته دا بالظبط.

وفي غضون ذلك، رأت "تليد" يهتف آتيًا من بعيد متوجهًا صوبهما ومعه صديقه:

-خير يا حضرة الظابط؟؟؟

رمقهُ الشرطي بنظرة عابرة وقبل أن يلتفت لها مرة أخرى رجع ينظر إليه في ذهولٍ كبيرٍ ثم يقول بلهجة مُنشرحة:

-أيه دا؟؟ الشيخ تليد!!.

بادلهُ "تليد" ابتسامة خفيفة ثم قال مؤكدًا ظنونه:

-أيوة، أنا الشيخ تليد وآنسة مُهرة شغالة في المزرعة عندنا.


أومأ الشرطي بتفهم ثم أكمل:

-لا يبقى عفونا عنها ولو إنها غلطت غلط كبير، خبطت العربية اللي وراها وكمان مش لابسة كمامة.

مُهرة ترمقهُ بجانب عينيها ثم تكرر مُبررها بحذر:

-ما قولت لك طاغت مني.

تليد وهو يومىء برأسه عدة إيماءات خفيفة ثم يتابع:

-بعتذر لك بالنيابة عنها.

التوى شدقها بغيظ فقالت بصوت مُنفعل:

-بحاول أشغحلك من بدري إني دكتوغة بيطغية في مزاغع الشيخ بس إنت مش مديني فغصة.


تدخل "نوح" في الحديث قائلًا بصوت هاديء رغم ما يتوارى خلف طياته من هزل:

-آسفين يا فندم، زيّ ما قالت لك بالظبط إن الكمامة طاغت منها وإنها دكتوغة بلطجية قصدي بيطغية وعفا الله عما سلف.


ابتسم الشرطي بتوترٍ ثم قال وهو يتودد إلى "تليد":

-إحنا بقى نتصور صورة مع بعض.

تنحنح "تليد" بخشونة ثم وقف بجواره ليلتقط الأخير صورة سريعة ثم يترجل كُلًا منهما إلى سيارته، رمقتهُ "مُهرة" بنظرة حانقة وهي تنطلق بسيارتها حتى وصلت إلى بوابة المزرعة ففُتحت من قبل بوابها في الحال لتدخل السيارتان وراء بعضهما، ركنت "مُهرة" السيارة على جنب ثم ترجلت منها وهي تهرول إلى الغرفة المُخصصة للطوارئ في المزرعة فيما اتجه الشابان إلى المجلس الذي يجلس فيه "سليمان" الذي ما أن رأى ابنه حتى باعد بين ذراعيه ليرتمي الأخير بينهما قائلًا بصوت مشتاق:

-حبيبي يا شيخ، دي الدقايق اللي إنتَ مش فيها ملهاش طعم.

ربت "سليمان" على ظهره ثم قال بحبورٍ:

-ربنا يحلي أيامك وينور دروبك يا بني.

-وأنا يا عمي؟!

افتر ثغر "نوح" عن اِبتسامة عريضة ثم اتجه صوبهما وراح يزيح "تليد" قائلًا بغيظ:

-ما كفاية يا عم الحلو، هو أنا مليش نفس أحضن أنا كمان.


ضحك الشيخ بسعادة غامرة وهو يسحب "نوح" إلى جنباته ثم يضمهما سوية، في هذه اللحظة جاءت "رابعة" تلك السيدة الأربعينية ذي الوجه البشوش تقول بنبرة منشرحة:

-نورتوا المزرعة كلها يا شباب.

التفت الجميع لها فشكرها "تليد" بصوت هادئ:

-تسلمي يا خالة.

نوح وهو يغمز لها بمرحه وشقاوته المُعتادة:

-حبيبتي يا خالة رابعة يا عسل يا أُم الدكتوغة.


ضحك "سليمان" ضحكة مُتحشرجة اختلط بها سعال خفيف وهو ينهره بصوت لين:

-تأدب يا ولد.

رابعة بضحكة لطيفة تقول:

-ماشي يا دكتور نوح ولا إنتَ علشان تخصص بني آدمين بتستعلى على بنتي؟؟؟.

نوح بمزاح لطيف يُجيبها:

-بالعكس، دي روح المُنافسة بين الأطباء، مُنافسة طيبة.


مشت "رابعة" خطوتين ثم جلست بحوار الموقد الحجري وراحت تقول بحماس يظهر حينما يجتمعون كلهم في جلسة روحية كهذه فأردفت بثبات:

-عقبال مُهرة ما تخلص عملية الولادة اللي معاها أكون أنا عملت لكم سندوتشات زبدة بالعسل وشوية شاي على الكانون.


نوح يصيح بصوت سعيد مُمتن:

-والله إنتِ اللي زبدة على عسل يا خالة.


ضحك الكُل في لحظة دفء تحوم حولهم، صدح هاتف "تليد" فقرر أن يتمشى قليلًا كي يتمكن من الرد بأريحية مُبتعدًا عن مزاح صديقه خاصة أن المكالمة واردة من داخل شركة (حمدي زهران) للصناعات الغذائية.


ابتعد "تليد" فيما تنحنح "نوح" بمراوغة ثم قال بحسم:

-هروح الحمام صد رد كدا وأرجع.


سار مُبتعدًا في مكر وحماس كبيرين حتى تسلل إلى الحديقة الخلفية التي يقبع فيها المشتل الخاص بالنباتات والفواكه؛ فالمزرعة تنقسم إلى جزأين؛ مشتل الخضروات والفواكه ومزرعة المواشي، تسحب على أطراف أصابعه حتى وصل إلى النافذة التي تطل على الغُرفة المُخصصة لعلاج مرضاها من الأبقار والماعز، كانت مُكدسةً بمجموعة من العمال بينما تقف هي في المنتصف وفي يدها مِعزى كبيرة حان موعد ولادتها، بدأت "مُهرة" تسحب الصغير من رحم والدته ببُطء وحذر والعرق يتصبب على جبينها من القلق والحيطة وبعد لحظات عصيبة قاسية تمكنت من استخراج الصغير سالمًا وفرح العاملون بالنتيجة ثم شكروها وأخذوا المعزى وصغيرها وغادروا الغرفة، أخذت شهيقًا سريعًا ثم جففت العرق بطرف سترتها قائلاً بخفوت:

-الحمد لله، دقايق صعبة وعدت.

ألقت بجسدها على كرسيها ثم تنهدت براحة قبل أن تنتفض على صوت رجولي يقول بهزل وسخرية:

-لأ شاطرة.

حدقت بتوجس قبل أن تلتفت صوب النافذة ثم تقول بغيظ:

-بتعمل أيه هنا؟؟؟

اِبتسم بثبات ثم رد:

-كُنت بتفرج على دكتوغتنا الشاطرة، وبالمرة أبلغك بخبر حلو أوي.

رفعت أحد حاجبيها ثم سألته بصوت هاديء:

-خبغ أيه؟؟؟؟

تكلم هو بنبرة ذات مغزى:

-تخيلي جبت عربية نوعها أيه؟!.

مطت شفتيها بجهلٍ ثم قالت:

-نوعها أيه؟؟؟؟

تصنع فقدانه الذاكرة حول اسم السيارة فقال بنبرة سادرة:

-اممم، تصدقي نسيت، هي حاجة بحرف الفاء!

رأرأت بعينيها في تخمين ثم قالت:

-فيات!!

أومأ سلبًا فحاولت التخمين مرة أخرى وهي تقول بفضول:

-فغاغي!!!!

انتظر أن تقولها فانفلتت ضحكة صارخة من بين شفتيه ما أن خرجت الحروف من بين شفتيها، فهو لم يأتِ بسيارة جديدة ولم يكن ينسى اسم هذه الماركة ولكنه يحب جمًا أن تنطق كُل الكلمات التي تحتوي على حرف الراء كي يتنمر على حديثها باستمتاع شديدٍ.


كزت على أسنانها بغيظٍ شديدٍ، نزعت سُترة العمل عن جسدها باندفاع ثم خرجت بسرعة جارفة من الغرفة وتوجهت إلى مجلس الشيخ "سليمان" وتبعها هو، وقفت أمام "سليمان" ثم عقدت ذراعيها أمام صدرها وبصوت حانق مُستنكر سألت:

-يا شيخ سليمان، قولي أيه هي عقوبة التنمغ على خلق الله؟!


أومأ "سليمان" باستسلام من اعتقاده بأن نوح كبر وصار رجلًا وقد عقل!!، ابتسم بهدوء رغمًا عنه ثم تابع:

-يابني مالك ومالها بس!!!.

نوح يتصنع الوداعة والبراءة:

-صدقني يا حاج معملتلهاش حاجة، هي اللي أغشة ملحتي.

أشارت "مُهرة" صوبه باستخدام سبابتها ثم قالت بانفعال خفيف:

-شوفت!

التحق "تليد" بهم فورًا بعد أن أنهى حديثه عبر الهاتف فوجد صديقه يجلس بجوار "سليمان" بينما تقف "مُهرة" أمامهما بأسلوب ساخط ومُحتج فتأكد أن صديقه بالتأكيد أثار حنقها واستحق ما سوف تفعله به.

انفرجت شفتي "نوح" بضحكة عريضة قبل أن يقول مُستسلمًا:

-خلاص يا شيخ، أوعدك إني مش هتنمغ عليها تاني بس بشرط!!!.

صاحت بانفعال تقول:

-إنتَ هتتشــ… .

صمتت عن استكمال جملتها عندما وجدت أنها سوف تُضيف كلمة جديدة له في قاموس تنمره عليها، فيما تابع "نوح" بصوت حاد ثابت:

-تقول "مصاحبش الفرافير حتى لو راكبين فراري!".


كانت "رابعة" أول من خرجت ضحكتها في الجلسة، فهي تُحب "نوح" جمًا لشدة تعلقه بصديقه وتعلق صديقه به ولا تشعر بالضيق من مزاحة اللطيف مع ابنتها؛ لأنها تعلم صفاء نيته وسجيته الطيبة بجوار رجولته الشرسة التي عاصرتها في أكثر من موقف حينما تعرض لها مجموعة من الرجال أثناء جلوسها بالمزرعة مبعوثين من قبل "عثمان السروجي" لبث الفوضى في المكان وجعله غير صالحٍ لكسب الرزق للعمال فيتركوا الشيخ سليمان ويطلبوا دعمه وتشغيله لهم فوقفت "رابعة" كالسد المنيع في وجههم ومعها صغيريها اللذين لم تنجبهما؛ تليد ونوح.

تدخل "سليمان" قائلًا بنبرة سلسة:

-أما إنك ولد غير مؤدب صحيح.

مُهرة وهي ترمقه بنظرة عدائية مُتحدية:

-أصلًا مش هيحصل.

نوح وهو يمط شفتيه غير مُباليًا:

-خلاص براحتك.


تنهد "تليد" بأريحية كبيرة لا يجدها إلا وسط هذا التجمع المُريح، أسرع بالتقاط كف والده ثم قال بثبات:

-شركة حمدي لسه مكلميني دلوقتي!.

رمقهُ "سليمان" بدفء ثم تابع مُدركًا للسبب:

-بيكلموك بخصوص الشراكة تاني!!.

أومأ "تليد" إيجابًا فقال "سليمان" بصوت هادئ:

-يا بني حمدي راجل مُحترم وكُل إصداراتنا بتروح لهم والشراكة بينا مش هتكون بنسبة كبيرة أعتقد 20% علشان بس كُل واحد فينا يضمن ولاء الطرف التاني.


أغمض "تليد" عينيه محتارًا قبل أن يتابع:

-بس أنا شغلي واخد كُل وقتي وشراكة يعني دوشة ومشاكل في الشركة وحوار.

سليمان وهو يربت على كفه بمؤازرة لكُل رأي يصطف في صالحه:

-خلاص أطلب إنك تتولى وظيفة بسيطة في الشركة ووقتها مش هتحتاج تبقى موجود هناك كتير.

التفت "تليد" إلى صديقه ثم سأل في حيرة:

-وأيه الدور اللي مش هيحتاج مني تواجد كتير في الشركة؟؟؟

رأرأ "نوح" بعينيه للحظات ثم لمعت في عقله فكرة فقالها بحماس:

-تكون رئيس قسم الـ HR ودورك فيه يكون اختيار الموظفين الجُدد بقسم الدعايا والإعلان ودي دورية بتحصل كُل سنة.


مُهرة تؤيده بدعم:

-صح جدًا وكونك غئيس يعني مش هتشغل بالك بكُل اللي هيقدموا، إنت بس هتعمل مقابلة للعدد اللي هيتصاعد للمقابلة الأخيرة.

رفع "نوح" أحد حاجبيه ثم قال بصوت مراوغ:

-متسرقيش أفكاري يا سيادة الدكتوغة!

مُهرة ترد عليه وهي تنظر بشموخ:

-دكتوغة بيطغية من فضلك.

نوح يتحداها بشموخ مثيل:

-لو إنتِ دكتوغة بيطغية فأنا دكتوغ بشغي يا دولة!!!!!


ضحك "تليد" بتسلية من جنونهما؛ ولكنه بقى محتارًا فحك جبهته بتردد واضحٍ أمام الجميع ولكنه في النهاية استسلم للأمر الواقع فقال بهدوء:

-تمام.

••••••••••••••

-مكنش ينفع يا بنتي.. مكنش ينفع اللي إنتِ عملتيه دا!.

أردف "علام" بصوت مبحوحٍ من فرط الحُزن، تنشقت "وَميض" نفسًا طويلًا ثم ردت بصوت حانق:

-لأ ينفع يا بابا ولو رجع بيا الزمن هعمل كدا تاني وتالت، اللي مش فاهماه إزاي عثمان بيه يعرف الراجل دا؟؟ طيب هو عارف إنه بيهرب حبوب مُخدرة في علب أدوية!!!


استدار "علام" صوبها بعد أن كان مُعربًا عن رفضه النظر إليها لمَّا تعرض له من موقف مُحرج كانت هي السبب فيه؛ ولكنه حدق فيها قائلًا في صدمة:

-حبوب مُخدرة!!!

أومأت "وَميض" إيجابًا ثم أردفت بتشتت:

-مش فاهمة إزاي عثمان بيه عارف كدا وساكت؟!.


علام وهو يتوسم فيه جهله بالأمر فيقول بنبرة يُحسن فيها الظن بالأخير:

-مش يمكن ميعرفش السبب اللي خلاكِ تكتبي كدا في الجورنال!!!

وَميض وهي ترد بضيق شديدٍ:

-سواء يعرف أو ما يعرفش يا بابا فأنا خلاص تعبت من أسلوب التجبي اللي بيتعاملوا بيه معانا ومع أول غلطة يفكرونا بخيرهم اللي مغرقنا، أنا قررت أسيب الشركة!.


لطمت "سُهير" على صدرها ثم أردفت باستهجان لهذه الفكرة السيئة:

-تسيبي الشركة اللي بيطلع لك منها مُرتب حلو!!!

وَميض وهي ترد بتحدٍ وثقة:

-هدور على شغل في شركة تانية ومعايا خبرة أحطها في عين التخين!!!!!


يتبع


بداية الروايه من هنا



 

الروايات الأكثر قراءه 👇👇


🌹🌺🌹🌺🌹🌺🌹🌺🌹🌺🌹🌺🌹🌺


الصفحه الرئيسيه من هنا


🌹🌺🌹🌺🌹🌺🌹🌺🌹🌺🌹🌺🌹🌺


سكريبت يامرسال الهوي


سكريبت كامل


سكريبات كامله


رواية عشق الحور


رواية زهرة الياسمين


رواية زواج بالقوه


رواية الحب في زمن الحرب


روايات حصريه وجديده


رواية جريمه لاتغتفر


روايات حصريه وجديده


رواية تغيرت لأجلها


رواية زواج بالغصب


رواية قاصر وصعيدي


رواية حب ضايع



رواية نسمتي البريئه



رواية زوج ماما ولكن



رواية حكاية ليل



رواية باعني من احببت



رواية دبحت لحماتي القطه



حماتي عاوزه تجاوز



رواية القسوه



قصة صاحب الحيله



قصة عريس الهنا ياسعدي أنا



تزوجت زوجي وليس في الوجود مثله



نوفيلا بكاء في ليلة عرس



رواية عنيده ولكن



نوفيلا فطين وفطنطن



رواية ملكة الجبال



رواية ميراث الدم



رواية عشق الذئب



رواية كنت لي الدواء لقلبي



رواية رحماء بينهم




تعليقات