القائمة الرئيسية

الصفحات

أخبار الرياضة

رواية ظننتك قلبي الفصل الاول والثاني والثالث والرابع والخامس بقلم الكاتبه رشا روميه قوت القلوب حصريه وجديده على مدونة أفكارنا

 رواية ظننتك قلبي الفصل الاول والثاني والثالث والرابع والخامس بقلم الكاتبه رشا روميه قوت القلوب حصريه وجديده على مدونة أفكارنا 



رواية ظننتك قلبي الفصل الاول والثاني والثالث والرابع والخامس بقلم الكاتبه رشا روميه قوت القلوب حصريه وجديده على مدونة أفكارنا 


باغتته بجذبه من مقدمة قميصه الصوفي الباهت بقبضتها وهى تزمجر بوجهه بشراسة لم يرها من قبل بأعتى الرجال ، زجرته بمقلتيها العسليتان بنظرة أرجفت ساقيه المتخبطتان بتخوف لتتسع حدقتاه بفزع شاعرًا بأن الهواء من حوله فرغ تمامًا ليبحث عن ذرة منه تحيي رئتيه اللاتى توقفت عن عملهما إثر خوفه الذى إكتسى روحه .

هل يمكن لفتاة أن تدب كل هذا الهلع بنفس رجل من مجرد نظرة عين .


بخشونة صاحت من بين أسنانها المتراصة البيضاء بصوت مخالف عن ذلك الصفاء المحيط بهم ، يكاد يجزم بأنه قد سمع للتو صوت إصطكاك أسنانها فوق بعضها البعض ولهيب ناري قذف بوجهه مع كلماتها حين هتفت به بغضب هادر كما لو قتل أحد أحبائها للتو ...

_ فيه إيه على الصبح ؟


إرتجف بين يديها كفرخ دجاج مرتعش ليزدرد ريقه الجاف بخشونة قبل أن يجيبها بنبرة متلعثمة تقطعت لها حروف كلماته التى تبخرت بالهواء ...

_ كنت جاي أسألك يا هانم لو محتااااا ... لو محتاجه حاجة ممـ من السوق .


شدت من جذبها لمقدمة قميصه تحدجه بنظرتها السامة قبل أن تطلق سراحه من بين قبضتها تدفعه نحو الحائط بقوة لا تليق بفتاة مطلقًا وهى تحقره برد متهكم ...

_ هانم ...!!!! غور من هنا ...


لم تعطه الفرصة حتى لأى إيضاح بل صفقت الباب بقوة بوجهه لتدرك أن هذا ما هو إلا حارس العقار الجديد ..


وقف متيبسًا للحظات قبل أن يدرك أنه حصل على حريته من قِبَّل يديها ليركض الدرج هابطًا نحو الأسفل بخطوات متعثرة قبل أن تلحقه تلك (المتوحشة) مدركًا أنه أخطأ حين أقدم على عرض خدماته لقاطني تلك البناية ...


غمغمت (المتوحشة) وهى تعود لداخل شقتها تلعن هذا السفيه الذى طرق بابها بهذه الساعة المبكرة من الصباح بسخط ...

_ ربنا ياخدك يا بعيد قلقت منامي إلهي يقل راحتك .


أطلقت زفيرًا قويًا تعيد به إتزانها النفسي الذى أفسده هذا الغبي ، ظلت ملامحها معقودة بقوة كما لو أن صدرها لا يتسع لهذا البراح من حولها ، وما الجديد فتلك القتامة و ضيق النفس هى حياتها ...


إنها "عهد مسعود" فتاة ثلاثينية حديثة العهد بعقدها الرابع فاليوم يصادف يوم ميلادها ، وها هي تخطو خطوة جديدة تجاه مسمى ( عانس) ألا يكفيها تلك الألقاب والمسميات التى تطلق عليها لتزداد بلقب جديد ..!!


برغم كل تلك الألقاب التى تعرفها والتى لا تعرفها عنها هى لا تكترث لكل ما يقال عنها ، ربما هي ليست فتاة عادية كغيرها ، وربما ليست محدودة الجمال بل هى حقًا جميلة تتمتع بملامح هادئة ذات أعين عسلية براقة ، لكنها ترفض ذلك بشكل مطلق ، ترفض أن ينظر إليها كفتاة جميلة فقط ، بل أنها ترفض أن تُعامل كـ فتاة من الأساس فهي خشنة التعامل تمامًا كالرجال .


تعتمد إسلوبها الخشن وترفض كل ما يعاملها بنعومة ، ترفض أن يدللها أحدهم أو يقضي عنها أمر أو حاجة ، تمامًا كهذا الحارس الجديد للعقار الذى لا يعرفها ولا يعرف طبعها ...


كيف يجرؤ على دق بابها بهذا الوقت ألا يعلم من هي "عهد مسعود" ...


❈-❈-❈


التظاهر بالقسوة ما هو إلا إدعاء مشاعر ليست متأصلة ، فقط ليظهر عكس ما يبدى على المرء ، لكن الخوف من أن يتحول هذا الإدعاء لحقيقة وتصل القسوة لأوردة القلوب فتتحجر ...

(ترى هل أنتِ حقًا من أى فئة ؟ !!)


بهدوء قاتل وأعين ساخطة تطلعت "عهد" بشاشة هاتفها قبل أن تغمض جفناها بغيظ من صاحبة تلك المكالمة لتجيبها بإسلوبها الجاف كتراشق الحجارة الذى تطلقه من فمها كلما تحدثت ..

_ خير يا "وعد" بتتكلمي ليه على الصبح ، هي نقصاكِ إنتِ كمان ؟


رغم أن نبرة صوتها لم تكن بخشونة حديثها إلا أن مجيبتها على الطرف الآخر كانت على النقيض تمامًا ، كان صوتها عذب رقيق للغاية ، به شجن يلمس أوتار القلوب كسيمفونية عزف منفرد حزينة لكن تستوطن النفس ...

_ صباح الخير يا "عهد" .


أجابتها كما لو أنها لم تستمع لكلماتها الجافة منذ وهلة ، ثم إستطردت بحنو ..

_ وحشتيني قلت أصبح عليكِ قبل ما تروحي الشغل ، وإنتِ مبتحبيش تتكلمي في التليفون وإنتِ في الشغل .

رواية بقلم قوت القلوب رشا روميه

هبت گعاصفة عاتية بكل رياحها تطيح بكل حنو نطقت به "وعد" لتعنفها بقوة علي إتصالها ، تلومها بشدة علي طريقتها اللينة ...

_ بلا وحشتيني بلا زفت علي دماغك ، بطلي سهوكتك دى ، طول ما إنتِ شغالة فى الحنين ده عمري ما عايزة أكلمك أو أعرفك ، إنتِ أختي إنتِ ؟؟! 


سألتها مستنكرة كيف لها أن تكون متناقضة معها بكل شئ ثم إستطردت تستكمل توبيخها ..

_ لو كنتِ أختي بجد كنتِ عرفتي تردي علي كل بني آدم جه عليكِ وقلل منك وبهدلك ، حنيتك دى متنفعش مع الأشكال إللى إنتِ معشراهم دول ، إمشي يا "وعد" عصبتيني ، ومن غير سلام ...


لم تمهلها حتى أدنى فرصة للحديث لتغلق المكالمة عند هذا الحد فقد ثارت نفسها للغاية بسماع صوتها ..


لم تكتفي بإغلاق المكالمة لتغمغم بسخط أثناء إتجاهها للمرحاض لتتوضئ ...

_ بنت طرية ، خايبة ، حنينه زيادة عن اللزوم ، مخليه الكل يستعبطها ، لا وجاية عايزة تصالحني ، وربنا ما أنا مكلماها إلا لما ترجع عن إللي عملته ده و إللى يحصل يحصل ...


فور أن دلفت لداخل المرحاض صفقت بابِه بقوة رغم أنها تعيش وحيدة للغاية ولا يشعر بعصبيتها وثورتها غيرها ..


❈-❈-❈


ترقرقت دمعة حزينة مسحتها "وعد" بطرف إصبعها قبل أن ينتبه لها أحد ، تشدقت بعيناها العسليتان التى تميل للون الأخضر والتى تشبعت بحمرة تستعطفها ألا تذرف دموع أكثر من ذلك فلم تعد تتحمل الحزن ، فهي بطبعها كائن لطيف حنون للغاية بعكس أختها الكبري "عهد" ، تتمتع بوجه مستدير صغير وشفتين رقيقتين ، بل كل ملامحها تبعث الرقة واللطافة تشبه والدتها الراحله (عايدة) إلى حد كبير ..


تهدج صدرها بإرتجاف تحاول السيطرة على دموعها التى لا تستطيع السيطرة عليها إذا بدأت بالبكاء ، ذلك طبعها المرهف الذى يدعوها لترقرق الدموع بكل الأحوال سواء كانت سعيدة فَرِحة أو حزينة تَعِسة ، تترقرق دموعها لأتفه الأسباب لكنها لم تكن يومًا ذات طبع نكد بل مرهفة الحس ...


هذا الطبع الذى لم يتوافق مع زوجها "عاطف" الذى لا يسمح للعواطف بالإنسياق بدربها ...


لم تغضب من "عهد" بل هي توافقها تمامًا لكن ما بيدها حيلة ...


تطلعت نحو إبنها الصغير "زين" ذو الثلاث سنوات بتحسر ، فهو عوضها الوحيد بتلك الزيجة ولن تستطيع فعل شئ سوى الصبر والتحمل عوضًا عن حمل لقب من تلك الألقاب الكريهة التى لن تتحملها خاصة لقب (مطلقة) ...


❈-❈-❈


ببهو تلك البناية التى تقطن بها "عهد" وصل الحارس بوجه قلق فمازالت مقابلته مع تلك (المتوحشة) تؤثِر به ، تطلعت نحوه إحدى الفتيات المراهقات التى وقفت ببهو البناية تعدل من خصلات شعرها بالمرآة العريضة ثم تحدثت بنبرة ساخرة ..

_ إلحق يا "ميزو" شكل البواب الجديد عدى على دراكولا إللى ساكنه فوق ..!!


مال أخيها ذو الرأس النحيل والشعر الكثيف المنتفخ فوق رأسه كـ بالون المنطاد يطالع الحارس بنظرات ضاحكة قبل أن يعقب ساخرًا ..

_ أه صحيح ... 


ثم أعلى من صوته بتساؤل ضاحك ..

_ مالك يا عم .. إنتَ كنت فى العاشر ولا إيه ...؟! 


أومأ الحارس رأسه بالإيجاب دون حديث ليستكمل "ميزو" بذات الطريقة ...

_ هو فيه حد عاقل يروح للمجنونة دى برجليه على الصبح ... إحمد ربنا إنها مأكلتكش ...


إتسعت عينا الحارس وقد بهت تمامًا يريد إستيضاح الأمر ...

_ هي تطلع مين دي ..؟!! دي يا دوب بسألها عايزة حاجة من السوق طبقت فى زمارة رقبتي كانت حتجيب أجلى ..


مطت الفتاة شفتيها وهي تستكمل تطلعها بالمرآة قائله ..

_ سيبك منها ... محدش فى العمارة كلها بيتكلم معاها ... لو خايف على نفسك خليك بعيد ... عم (صبري) إللى قبلك عمره ما راح لها ولا كلمها ..


أومئ الحارس رأسه بقوة فهو بالفعل سيفعل ذلك ولن يقحم نفسه مرة أخرى ليدلف لغرفته قابعًا بها لحين إحتياج أحدهم له ..


كانت جرأة هذا الشاب لا تتعدى الكلمات التى تفوه بها لينظر بإرتباك تجاه المصعد يحث أخته على التحرك ..

_ يلا يا "سارة" أحسن تنزل ... مش بيقول لك صحاها أهو ... 


مالت بأنفها بتقزز قبل أن تجيبه بلا مبالاة ...

_ أصبر بقى .. متخفش ... دى ماشيه زى الساعة لا بتقدم ولا بتأخر مش حتنزل إلا في معادها متخافش ...


❈-❈-❈


بينما كانت "عهد" حديث الساعة بهذا الصباح إلا أنها حاولت إستعادة هدوئها گحبات رمل في مهب الريح ، شقتها الواقعة بالدور العاشر بهذه البناية حديثة الطراز كانت تخلو تمامًا من كل مظاهر البهجة ، كل محتوياتها تضج قتامة وضيق نفس ، برغم نظافتها وترتيبها بشكل مبالغ فيه إلا أن ألوانه الممزوجة بين البني الداكن والأسود يتخللهم بعض اللون النبيذى المحتقن تبث في النفس الضيق والكآبة ..


هذا السكون التام يشعرك للوهلة الأولي أن الشقة خاوية تمامًا ، دلفت "عهد" لغرفتها بعد قضائها لصلواتها أولاً لتبدل ملابسها كروتين يومي إعتادت عليه ..


أغمضت عيناها بعدم تحمل لسماعها لرنين هاتفها المزعج مرة أخرى ظنًا منها أنها أختها "وعد" تعيد الإتصال بها ...


تحفزت "عهد" للغاية وهي تستدير بإنفعال حاملة هاتفها للرد لكنها وجدتها خالتها "زكيه" لتردف بإستنكار ...

_ هم مالهم كلهم بيكلموني على الصبح كدة ليه ... الله ...


بنفس مشحونة بدون داعي أجابت "عهد" ...

_ صباح الخير يا خالتي ... فيه حاجة ؟!!


صوتها الحنون الذى تعتبره "عهد" آخر ما تبقى لها من حياة اللين كان بمثابة طوق أمان لحياتها الرتيبة من وقت لآخر لتتذكر أن لها شخص ما يهتم لها ...

_ صباح الخير يا "عهد" ... عاملة إيه ... أنا بس بطمن عليكِ ...


لم تطل محادثتها مع خالتها لكثير من الوقت حتى لا تتأخر على موعد عملها ، لم تخلو المكالمة من محاولة "زكيه" لمرة أخرى من تلك المرات العديدة بإقناع "عهد" بترك مسكنها و وحدتها والمجئ للعيش معها هي وبناتها ، لكن كالعادة وجدت ذاك الحائط الفولاذي الرافض من قبل "عهد" ...

فهي عنيدة متشبثه لا يمكن تغيير رأيها بسهولة ..

رواية بقلم قوت القلوب رشا روميه

❈-❈-❈


بذلك الحى القديم من تلك الأحياء الشعبية التى يتضافر سكانها بقوة حتى تكاد تشعر بأنهم أسرة واحدة كبيرة ، ورغم تهالك هذا البيت العتيق الطراز المتصدع إلا أنه مازال بيتًا شامخًا بوسط الحى ، يترصد بقية قاطني هذا الحى الشعبي لأصحاب هذا البيت ، ليس لسيطهم الذائع ولا لغناهم الفاحش فهم أبعد ما يكون من هذه الصفات ، بل لأنهم عائلة كبيرة يقطن أفرادها بكل شقة أسرة منهم ، لهذا سمى بـ (بيت النجار) ..


ذلك البيت الذى يتهكم عليه البعض گ( باب النجار ) بمقولة ( بيت النجار مخلع) فكل ما به متصدع حتى نفوسهم ، وهذا أمر لا يدعو للإختلاف فمن وطأت قدمه هذا البيت لابد وأن يطاله هذا التصدع بشكل حتمى ...


بغرفة المعيشة كانت "زكيه" تلك المرأة الخمسينية النحيلة التى مازال يظهر جمال تقاسيمها رغم كبرها فكم كانت كريحانة يانعة فى شبابها تمامًا كما كانت أختها الراحله ، زفرت "زكيه" بقلة حيلة وهى تضع هاتفها جانبًا قبل أن تخرج كلماتها تحدث نفسها بضيق ..

_ وأخرتها معاكِ يا بنت "عايدة" ، بس لو تبطلي عنادك ده ..!!!!


بخطوات خفيفة تقدمت فتاة عشرينية متوسطة الطول تميل إلى القصر ذات ملامح هادئة ووجه مستدير لها من العيون السوداء الواسعة ذات الأهداب الكثيفة ما يظهر وجهها الطفولي الساحر ، أقبلت ترتدى إحدى المنامات القطنية المزركشة التى بهتت ألوانها من كثرة الإستخدام ، كانت تحمل نعومة لا تتناسب وهذا البيت المتصدع ولا تلك النفوس المهترئة ..


غُرتها السوداء التى غطت جبهتها الصغيرة أعطتها سحر من نوع برئ خاصة وقد عقصت شعرها الأسود كضفيرة على جانب كتفها لاقت بها بشدة ...


تقدمت نحو والدتها التى أخذت توبخ نفسها وحظها التعس متسائلة ..

_ مالك يا ماما ، زعلانة ليه تانى ؟!


رفعت "زكيه" رأسها تطالع إبنتها الحسناء بتحسر فهي لا تدرى أتتحسر على حالها أم حال بنات أختها أم حال إبنتيها لتتنهد بإستسلام قبل أن تجيبها بنبرة خانعة ضعيفة ...

_ مفيش يا "نغم" ، مش عارفة ألاقيها منين ولا منين ؟! 


ربتت "نغم" برفق على كتف والدتها وإكتفت بكلمات بسيطة للغاية ردًا على والدتها فهذا الحال تمر بتفاصيله كل يوم ...

_ خلاص يا ماما كفاية إللى إنتِ فيه .... متزوديهاش عليكِ بـ "عهد" بنت خالتي كمان ، هي مش صغيرة وأكيد عارفة مصلحتها ..


وضعت قبضتها تحت وجنتها لتجيب إبنتها بتساؤل ..

_ يعني هو ينفع تفضل عايشة لوحدها بطولها كدة ، ما هو بعد ما أمها ماتت و "وعد" إتجوزت وهي عايشة لوحدها ، ياما إتحايلت عليها تيجي تقعد معانا هنا وهي مش راضية ، دماغها ناشفه أوى ، بس حعمل إيه ، أغصبها يعني ؟!!


بتلك النقطة تمامًا وصلت "زكيه" لما تريد "نغم" إيضاحه لها لتردف بتأكيد ..

_ بالضبط يا ماما ، هي مش صغيرة ، ومش حنغصبها ، هي مش عايزة تسيب شقتهم هناك ، وإن جيتي للحق ، هي معاها حق ، حتيجي تعيش فى الوكسة إللى إحنا فيها دى ، ده إحنا مش قادرين نعيش هنا ، حنجيبها هي كمان تعيش معانا ..


تنهدت "زكيه" بضيق ثم أردفت بإيمائه ..

ـ عندك حق يا "نغم" ، ده إحنا اللى فينا مش عند حد ...

رواية بقلم قوت القلوب رشا روميه

إنتبهت "زكيه" لغياب إبنتها الكبري "شجن" لتهتف بقلق ..

ـ الله ، أمال أختك "شجن" فين ؟... مشفتهاش من بدرى؟ ..


إبتسمت "نغم" بخفة وهى تجيبها ببعض السخرية ..

ـ نسيتي ولا إيه يا ماما ، مش هي قايله لك إنها حتنزل بدرى تشوف شغل فى أى مستشفى ولا عيادة ...


تذكرت "زكيه" ذلك بالفعل لتتنفس براحة بعد لحظات من كتم الأنفاس .

ـ أه صح ، هي قالت لى إمبارح وأنا إللى نسيت ..


ضيقت "زكيه" عيناها وهى تتمعن بطلة إبنتها الجميلة التى لها من جمال روحها ما يسر النفس أكثر من جمال وجهها البرئ ثم سألتها ببعض التمنى ...

ـ وإنتِ مش عايزة تشتغلى زيها ؟!


رفعت "نغم" حاجبيها وأهدلتهما بضيق نفس أخفته خلف تلك الإبتسامة الزائفة ...

ـ من ناحية عايزة أشتغل ، أنا نِفسى ، بس إزاى ؟! هو بعد إللى حصل فى الحارة ده حد حيرضى يشغلني !!!! منها لله بقى ..


إجابة إبنتها جعلتها تردف بإنفعال وقلة حيلة ..

ـ أشوف فيها يوم زى ما هى كاسرة فرحة بناتي وتاعبه قلوبهم ...


أمسكت "نغم" بكف والدتها تحثها على النهوض ..

ـ طب يلا نشوف ورانا إيه ، مش حنقعد طول اليوم نجيب فى سيرة إللى متتسماش دى ..

_ يلا بينا ...


❈-❈-❈


(بيت النجار) لم يضم شقة "زكيه" وبناتها فحسب ، فهي تقطن بشقة بالدور الثاني فقط ، تقع أمامها شقة يطلق فيها الريح صافرته ، فهي شقة خاوية مغلقة منذ سنوات طويلة ..


لم تكن تلك الشقة هي المشكلة برغم ما حدث من خلاف عليها منذ أمد بعيد ، لكن الكارثة الكبرى كانت بالشقة التى تقع بالطابق الذى أسفلها مباشرة ، أو بالأدق الدور الأول العلوي كاملاً والذى يقطن به أخو زوجها وعم بناتها "فخري" وزوجته وأولاده ...


نال التصدع من شقة "زكيه" كلوحة سريالية لفنان مغمور تتلاقى به ألوان الجدران مع تلك الترميمات الأسمنتية المؤذية للعين ، لكن "زكيه" تقبلت كل ذلك برضا بالأمر الواقع ...


لكن شقة "فخري النجار" أخو زوجها كانت مدعاة للفخر بما يظهر عليها من الثراء بوسط الحي ، برغم ذوقها المتدني السوقي للغاية إلا أنه مازال ينم عن الثراء بعكس تلك الأسرة الفقيرة بالشقة العلوية ...


ضربت تلك المرأة السمراء التى تخطت الخمسون ببضعة سنوات فخذيها بقوة لتصدر تلك الأساور الذهبية السميكة صوتًا رنانًا لتضج عيناها ببريق يحمل كُره وبغض زاد بإنفعال شديد حين هتفت بصوتها الخشن الذى يشبه أصوات الرجال ..

ـ مش فاضل إلا الخدامين كمان يعدلوا علينا ..!!!!


إنها "صباح الجزار " زوجة "فخري النجار" إمرأة متسلطة قاسية الملامح سمينة الجسد الممتلئ بثنيات مترهلة وبالحلي أيضًا ، رغم محاولاتها العديدة لتظهر بأنها صاحبة ذوق رفيع وعائلة محترمة يخشاها الجميع ويتمنوا قربها ، هكذا تحاول الظهور لكن بقرارة نفسها هي تدرك أنها ليست كذلك ولا حتى تقربه ..


ارتداؤها لكل هذا الكم من الأساور الذهبية والحلي المعلق برقبتها لتثبت أنها من صاحبات الثروات والمستوي المرتفع ، تتفاخر دائمًا بحسبها ونسبها فوالدها "مفتاح الجزار" ذائع الصيت صاحب محلات الجزارة لبيع اللحوم بحيهم والأحياء المجاورة ...


إمرأة كل مقوماتها أنها تملك المال لا أكثر ولا أقل ، لكن هذا المال إبتاع لها بقية المقومات التى تريدها بحياتها إلا شئ واحد ، حب زوجها "فخري" لها ...


هذا الزوج الذى إستطاعت بمساعدة والدها ونقوده شرائه منذ زمن بعيد للزواج منها وتحقيق حلمها بالوصول إليه فهو عشقها الأوحد ونقطة ضعفها الوحيدة ..


فقد تعدى عشقها له درجة الوله والتملك ، إنساق "فخري" خلف أطماع الشباب بالوصول للثروة والمال بزواجه من (بنت الجزار) ليعيش بحياة رغدة ويحقق طموحاته وأحلامه ، لكن ما أدركه بعد أن إنساق بتلك الهاوية أن المال ليس بكل شئ لكنه علم ذلك بعد فوات الأوان ...


أعدلت "صباح" من جلبابها الأسود المطعم بزركشة ذهبية مبالغ بها لتصدر أساورها ضجيج محبب لنفسها مزعج للبقية ، مصمصت شفتيها الغليظتين واللاتي زاد من غلاظتهم لون أحمر الشفاه فاقع اللون ثم نادت بصوتها الخشن ..

ـ بت يا "راويه" ، إنتِ يا بت ، إنتِ فين جتك نصيبه ...


وكما يقول المثل الشعبي ( إقلب القدر على فمها ...) والذى إنطبق تمامًا على "راويه" إبنتها الكبري والوحيدة التى تشبهها إلى حد كبير كما لو كانت صورة بالمرآة لكنها نسخة مصغرة عنها ...


بجلباب مزركش وأساور ذهبية وجسد ممتلئ تقدمت "راويه" تجاه والدتها والتى تسمع نادائها جيدًا إلا أنها لم تهتم بالإجابة ...


سارت لبضع خطوات بطيئة بدلال شديد ثم جلست بالمقعد الذهبي بالصالون الأحمر الزاهي مردفه بإمتعاض ...

ـ خير ، عايزة إيه؟! 


جلست "صباح" فوق الأريكة تستريح بجلستها أولاً قبل أن توضح بتقزز ..

ـ بت عمك المخفيه ، رايحة تاني تدور على شغل ، شفتي بقى قلة القيمة كل شوية !!!


صمتت "راويه" لبعض الوقت بوجه ممتعض حين أخذت "صباح" تحثها على الإنفعال وشحن النفس ...

ـ ما تردي يا بت ، حنسكت لهم وهم طالعين داخلين يقلوا من قيمة عيلة (النجار) ، ويوقفوا حالنا ..


تهدج صدر "راويه" بإنفعال فقد إستطاعت والدتها إشعال الحقد بقلبها بتلميحها المتكرر عن عنوستها والتى هي بالتأكيد سببها حُسن بنات عمها وسُمعتهم السيئة أيضًا ...

ـ هم مش ناويين يجيبوها لبر ، وأخرتها معاهم بنات "زكيه"..


بنظرات ماكرة فقد وصلت "صباح" لمبتغاها أعدلت جزعها بأريحية تستكمل شحذ نفس "راويه" للقيام بما تفكر به ...

ـ أبوكِ عمره ما حيسمع لي بعد آخر مشكلة ، المرة دى بقى إنتِ إللى حتكلميه ، ما هو إللى بيعملوه ده حييجي على دماغنا أول ناس ..


أومأت "راويه" بقوة وهى تردف بغيظ ..

ـ مااااشى ..


❈-❈-❈


بوقت قياسي لم يستدعي التلكع سحبت "عهد" علاقة ملابسها من الخزانة بدون تفكير أو إختيار ، فلم الحيرة فكل ملابسها متشابهة فهى لا ترتدى سوى الحُلل السوداء گتلك التى يرتديها الرجال بلا إختلاف مطلقًا ، لا تعتمد ما هو ملفت للنظر فهى ليست بحاجة لأن تكون ملفته أو محط أنظار أحدهم ...


بدقائق قليلة كانت قد إنتهت من إرتداء تلك الحُلة السوداء بمظهر رسمي للغاية ، رفعت رأسها بنظرة خاوية گ حياتها تمامًا فهي كالإناء الفارغ يصدر أصوات رنانة بالرغم من الفراغ المتوغل بداخلة ، فما يظهر منه غير ما يبطنه تمامًا ...


عينان تائهتان بدنيا صاخبة ووجه صامت بدون روح أو حياة ، فعليها بدء اليوم وإنتظار نهايته ككل يوم ...


وقفت أمام المرآة ترفع خصلات شعرها الأسود ک ليل حزين يغطى رأسها المستدير تلملمه بقسوة إلى الخلف حتى إلتصق برأسها ، فشعرها الحالك يتمتع بنعومة حريرية ومع جذبه للخلف ظهر ک لون يغطى رأسها بدون حياة ک نظرات عيونها العسلية تمامًا .


كانت تلك الدقائق هي فقط ما إحتاجته لتتجهز لمغادرتها لكن ينقصها شئ ما ، نعم إنها تلك النظرة القاسية الكارهه لتسقط فوق عينيها وتصبح على أتم الإستعداد للتوجه للعمل فلا معني للإبتسامة بحياتها التى تشبه القطار الذى لا يعرف الحياد عن طريق سلك به .


❈-❈-❈


بحي راقي هادئ بصورة طالما إعتاد عليها سكانها ، لم يكن ذاك البيت أو بمعنى أدق تلك البناية الراقية بيت يخص عائلة بعينها لكن هناك عائلة ما إعتبرته كذلك ، إنها عائلة (دويدار) ..


إتخذ المستشار المتقاعد "خالد دويدار" من تلك البناية بيتًا خاصًا بعائلته رغم وجود سُكان آخرين يشاركونهم البناية ..


فلهذا المستشار قوى الشخصية ثلاثة أبناء إبتاع لكل منهم شقة بخلاف شقته أيضًا ليصبح هو وأبنائه يطلقان على هذه البناية ( بيت عائلة دويدار) ...


قطن "خالد دويدار " بالدور الثاني بينما إتخذ الثلاث طوابق التالية له شقة لكل من أبنائه فالطابق يحتوي على شقة واحدة فقط ..


بعادة صباحية ونشاط إعتاد عليه المستشار "خالد دويدار" لسنوات طويلة برغم إنتهاء مسيرته بالعمل ک مستشار بالقضاء العالى وتخطى عمر الستون عامًا ليصبح التقاعد حتميًا الآن ، وهذا ما لم يعتاد عليه رجل بسطوته وسلطته التى دامت لسنوات مضت ، بدأ "خالد" يومه بتفقد أحوال قاطني هذا البيت ..


دق صوت جرس الباب لتتقدم الدكتورة "منار الهواري" زوجة المستشار ( إمرأة خمسينية أنيقة ذات وجه نحيل وشعر قصير للغاية بلونه الفضي الطبيعي لعمرها تعمل كطبيبة باطنية ماهرة ) قامت "منار" بفتح الباب وهي تطالع ساعة يدها أولاً ...

ـ صباح الخير يا "بشير" ، جبت كل إللى قلت لك عليه ؟؟!


هكذا سألت "بشير" حارس العقار الذى طلبت منه جلب لها بعض الأغراض الضرورية التى تحتاجها ، أجابها "بشير" بحماس فهو يدرك تمامًا المقابل السخي الذى سيحصل عليه الآن ...

ـ كله تمام يا ست الداكتورة ، جبت لك الفاكهة والخضار وكله ..


أخرجت "منار" من محفظتها الطويلة مبلغ مالي زاغت له عينا "بشير" بسعادة فكم كانت تلك السيدة كريمة سخية طوال الوقت ، مدت "منار" يدها بالنقود مع بسمة شكر قائله ..

ـ شكرًا يا "بشير" خد دول هات حاجة حلوة لولادك ..


برغم إنتظاره لهذا المقابل إلا أنه أردف بإمتنان ...

ـ خيرك سابق والله ..


ـ شكرًا يا "بشير" تعبتك معايا .. (قالتها بلطف حين أصرت على إعطائه المال الذى وضعه بجيب بنطاله مستديرًا نحو المصعد لتغلق "منار" الباب) ..


حملت الأكياس متوجهة نحو المطبخ حين تابعها "خالد" مدققًا بكافة التفاصيل ..

ـ مش كتير شوية الحاجات دى يا "منار" ..؟؟!


وضعت "منار" الأكياس على الحافة الرخامية بالمطبخ وهي توضح بدون تذمر فقد إعتادت على طبعه المُلم بكل التفاصيل الذى إعتاد عليه ...

ـ عشان العزومة بتاعة بعد بكرة إنت نسيت ؟!! 


ألقت نظرة خفيفة بداخل الأكياس وهي تسأل زوجها ...

ـ أحضر لك الفطار قبل ما أروح المستشفي ، أصل "أم مجدي" واخدة أجازة كام يوم تزور بنتها فى بلدهم ومش جاية النهاردة ...


حياة التقاعد تلك لم يعتاد عليها بعد ليصبح التذمر والضيق سمة له بالآونة الأخيرة ..

ـ إعملي لي فنجان قهوة وخلاص ..


ثم إنتبه بملامح مقتضبه وهو يشير تجاه خارج المطبخ .

ـ وهو "رؤوف" مش رايح الشغل ولا إيه ، هو كل يوم يتأخر كدة !!!!


زمت "منار" شفتيها بإستنكار ليوم راحة وحيد يتخذه ولدها بين الحين والآخر ...

ـ يوم أجازة يا "خالد" مش حيحصل حاجة ، إمبارح كان عندهم طلبية دوا إتأخر أوي عقبال ما إستلموها ..


غمغم "خالد" بسخط وهو يخرج من المطبخ بإنفعال ...

ـ عيل ضعيف ، مش جامد زى أبوة وإخواته كدة ، خليكِ إنتِ يا أختي دلعي فيه كمان وكمان ..


ضحكت "منار" على طريقة زوجها الذى إنشغل بحياة الجميع بتدقيقه الزائد عن الحد لتلتف نحو الموقد تصنع كوبًا من القهوة لزوجها فهو يحب إرتشاف القهوة بكوب زجاجي وليس بفنجان ...


كان ذلك آخر مهامها بالمنزل قبل مغادرتها بإناقة فهي رغم تخطيها لعامها الخامس والخمسون إلا أنها تحرص دومًا على أناقتها والحفاظ على مظهرها برقي فهي مديرة بأحد المستشفيات الخاصة ولها عيادة ک طبيبة باطنية متمرسة ماهرة للغاية ، لكنها مع ذلك تفكر جديًا بمشاركة زوجها تقاعدة والتخلى مؤقتًا عن عملها بالعيادة ويكفيها عملها بالمستشفي لبعض الوقت لهذا قررت طرح عيادتها للبيع او للإيجار ..


❈-❈-❈


سحابة سوداء تتطاير كالريح لا تخشي ما يعترضها بطريقها بل هي تتخذ طريقها ومن يخشي على نفسه فعليه أن يتجنبها ...


تحركت "عهد" نحو المصعد بخطوات قوية ثابته للغاية ، قتامة نظراتها وحُلتها السوداء حتى حذائها لم يختلف سواده عن بقيه ملبسها ، شعرها المصفف بعناية معقوص بقوة جعلها مخيفه تبث الرهبة بالنفوس ، فيا لها من فتاة تسبب زعزعة بالنفس لمجرد رؤيتها .


وهذا ما فعلته بالفعل حين فُتح باب المصعد لتخرج منه بخطواتها القوية السريعة متجهة صوب بهو البناية .


إلتصق "ميزو" وأخته "سارة" بالجدار وقد إتسعتا عيناهما بفزع لحظة رؤيتهم لـ "عهد" وهم يتابعون خطواتها ومرورها أمامهم ترمقهم بتلك النظرة النارية بتقزز من رعونتهم جعلت حناجرهم تتحجر بخوف وإرتباك .


لحظات من حبس الأنفاس حتى مرت من أمامهم وغادرت البناية عقبها زفير قوى من "ميزو" وهو يلوم أخته على تأخيرها لهم حتى تقابلا مع (المتوحشة) .

ـ شوفتي ، لو كنا مشينا بدري مكناش شوفناها ، غاوية تعطلينا يا "سارة" !!!


رغم إضطراب قلبها المتخوف من تلك الفتاة إلا أنها إبتلعت ريقها محاولة الظهور ببعض الثبات غير عابئة بلوم أخيها لتردف بإشمئزاز ...

ـ أعوذ بالله ، مش عارفة البنى آدمه دى مستحملة نفسها إزاى !!!!!


إستدارت "سارة" تجاه أخيها تقلد والدتها تمامًا بنميمتها مع إحدى جاراتهم عن "عهد" .

ـ أنا سمعت ماما وهى بتتكلم مع طنط "سهى" جارتنا وبيقولوا إن "عهد" دى ااااا .... (أنهت جملتها بحركة أصابعها بشكل دائري إلى جانب أذنها دلالة على وصفها بالجنون)


أثار وصف "سارة" إندهاش "ميزو" معقبًا .

ـ بجد .. مجنونة ..!!!!


طرفت "سارة" بعينيها لمعلوماتها الخطيرة مستطردة إيضاح حالة "عهد" .

ـ ماما بتقول إنها عندها مرض نفسي بيخليها تتخيل حاجات مبتحصلش ، بتعمل قصة في دماغها وتعيش فيها وتصدقها وممكن تعمل للناس حاجات تأذيهم ، حتى لو الناس إللى بتعمل معاهم كدة لا شافوها ولا عرفوها قبل كدة ..


ليومئ "ميزو" بتفهم لتلك الحالة التى قد قرأ عنها بمادة علم النفس التى يدرسها قائلاً بشرود ..

ـ ااااه ، دى عاملة زى بناخده فى علم النفس ، دى حالة إسمها ..ااا ... ذُهان ، إللى هو بيجيب هلاوس وتخيلات ده ..


ـ ايوووه بالضبط كدة ..


بتخوف من أن تؤذيهم يومًا قال "ميزو" .

ـ خلينا بعيد عنها أحسن مش ناقصة إلا المجانين كمان ... يلا حنتأخر على الدرس ..

(الثاني)

فـ لتَكُفِي أيتها الحياة عن تقييد حريتي ووضعي بخانة المهزومة ، فلن أنساق خلف أوهام إرضائِك على حساب نفسي ، فقد أخذت عهدًا ألا أهتم أو ألتفت إلى الوراء ، لن يشغلني رأى الحاقدين بي ، يكفيني أننى أتنفس بحرية .


سواء إعتقد البعض بأنها مريضة نفسية أو لا ، لم تهتم "عهد" يومًا بما يقال عنها من خلف ظهرها ، فلو كان خصمها قويًا لواجهها وجهًا لوجه ، ودون ذلك فهذا أمر لا يستحق حقًا حتى عناء التفكير به ..


إستقلت إحدى سيارات الأجرة متجهة نحو مقر عملها لبداية يوم عمل جديد ، فهذا بالفعل ما تكترث له أن تحقق ذاتها و تُعلى من شأنها وقيمتها بعملها الجاد ..


توقفت السيارة أمام هذا الصرح الضخم لتدلف نحو الداخل بخطواتها الصارمة التى تجبر الجميع على التعامل معها کَ فرد قوى مثلها مثل زملائها من الذكور فهي لا تقل عنهم جدية وصرامة وأيضًا قوة ..


لم تتجه اليوم لمكتبها مباشرة بل إتخذت الرواق الطويل نحو مكتب مديرها الذى طلب برؤيتها فور وصولها لتطرق الباب بعدة طرقات قبل أن تستمع لصوت السيد "نظمى" يسمح لها بالدخول ..

_ إدخل ...


ولجت إلى الداخل برسمية للغاية ملقية تحية الصباح بهدوء ...

_ صباح الخير يا فندم ..(لم تكثر بالحديث أو تتطرق لسبب إستدعائها فور وصولها بل إنتظرت أن يبدأ "نظمى" بتوجيه الحديث إليها) .


أغلق "نظمى" أحد الملفات التى كان يطالعها رافعًا من رأسه يحدق بـ"عهد" للحظات قبل أن يستطرد حديثه كما لو كان يراجع قراره الذى إتخذه منذ قليل متأكدًا من أهليتها للقيام بذلك ، ثم بصوت رخيم رد تحيتها قائلاً .

_ صباح الخير ، إقعدي يا "عهد" ... 


إتخذت مقعدها المقابل له وهي تستمع بإنصات شديد عن سبب هذا اللقاء المبكر فيما إستطرد "نظمى" مستكملًا ..

_ شوفي يا "عهد" ، طبعًا إنتِ من أكفأ الناس عندي هنا ، عشان كدة وقع إختياري عليكِ إن إنتِ إللي حتسافري ..


لم تكن "عهد" تعلم بعد عن كافة تفاصيل هذا العمل لكنها لم تُبدى أى رد فعل سواء بالقبول أو بالرفض الذى هو ليس من شيمها من الأساس ، لكنها إستمعت لتوضيح "نظمى" للأمر حين لوح لها بملف أزرق قائلًا ..

_ ده الملف فيه كل التفاصيل إللى إنتِ حتحتاجيها ..


- أكيد يا فندم .. 

مدت كفها تلتقط الملف المقدم لها دون أى إعتراض ، وهذا ما ظنه "نظمى" بها فهي لا ترفض أى عمل يوكل إليها مهما كان درجة صعوبته ...


- أنا عارف إنك مش حتخذليني فى إللي مطلوب منك ... الأمر بسيط جدًا وموضح لك كل حاجة فى الملف .... فيه أى إستفسار تحبي تسأليني عنه ...؟؟؟


- لأ تمام ...


- كويس أوى .... الملف معاكِ إدرسيه كويس وإنتِ عارفاني مش بحب الأخطاء ...


أجابته بإيمائة خفيفة دون أن تلقى حتى ولو نظرة خاطفة عن تلك المهمة الموكلة إليها بل كانت بقرارة نفسها تعلم قدرتها على إنجاز أى عمل مهما تطلب الأمر ...

_ تمام .. 


أعاد "نظمى" جزعه للخلف وقد إرتسم على ثغرة الغليظ بسمة متكلفة ماكرة للغاية مدركًا أن "عهد" صاحبة المهام الصعبة فهو يقحمها كل مرة بعمل أقسى مما قبله ليردف بتوضيح أقرب الغموض منه للإيضاح ...

_ السفر بكره لسويسرا ، وأحب أأكد عليكِ تاني ... أنا مبحبش الأخطاء ..

رواية بقلم قوت القلوب رشا روميه

كلمة مقتضبة موجزة كانت هي نهاية لقائها بـ"نظمى" قبل مغادرتها لمكتبِه ..

- أكيد ..


إتجهت مباشرة نحو مكتبها لتطلع على فحوى هذا الملف لتقرأ ما به من مهمة وكلت إليها حين وجدت أن الأمر ما هو إلا رحلة جيولوجية للجنوب السويسري لرسم خريطة لأحد المحميات الطبيعية كخبيرة جيولوجية برفقة مجموعة متدربة ، لم يكن بالأمر الصعب عليها أدائه لكن ما أرّقها بالفعل هو تلك الأجواء الباردة بتلك البقعة ذات درجة الحرارة المنخفضة للغاية بهذا الوقت من العام ، زاد على ذلك أن تلك الرحلة تقع فوق أحد أودية الجبال ..


ربما لم تستحسن سفرها بهذا البرد القارس لكنها ليس لديها رفاهية الرفض .


فهي كما تقسو على الجميع تقسو أيضًا على نفسها ، وبشكل مبالغ فيه ، لا تعطي لنفسها ولو فرصة للتفكير بل دائمًا ما تقحم نفسها بكافة الأعمال دون حساب لما تشاء أو تأبى القيام به ، كما لو أن نفسها شخص آخر تجبره نحو قرارات عقلها المتحجرة وعليها الإنصياع لنفسها دون أن تسمح بأى تدخل عاطفي من جانب لين مظلم بداخلها ..


بعد أن إتطلعت على كامل تفاصيل الملف وطبيعة المهمة التى عليها القيام بها غادرت مكتبها لتتجه صوب شقتها البائسة لتحضير حقيبة سفرها فعليها السفر بالغد ..


لم تدرى أن بتلك الأثناء كانت هناك عيون تتربص بها تنتظر مغادرتها ليدلف إلى مكتب "نظمى" بخطوات قلقة ..


إنه "طه" شاب ثلاثيني طويل القامة نحيل الوجه ، ذو أنف حاد وذقن مدببة ، تتحلى عيناه البنيتان بفراسة وذكاء رغم ظهوره بعكس ذلك إلا أنه شديد الدهاء ، ماهر بعمله للغاية حتى أنه يفوق "عهد" بقدراته وذكائه المتقد ..


دلف "طه" إلى مكتب "نظمى" كما لو كان يستكمل حديثًا قد قطع للتو ..

_ وافقت ..؟!!


رمقه "نظمى" بحدة بنظرة تحمل معنى لا تتدخل فيما لا يعنيك وأن هذا الأمر يخصه وحده بتكليفها بهذا العمل ، ليردف بكلمات مقتضبة ..

_ أيوة يا "طه" قلت لها ...( ثم تحولت نبرته لحدة لاذعة )... عندك إعتراض ..!!! 


تحول تجهم "طه" لإبتسامة مزيفة وهو يردف بنبرة يخفى بها الضيق الذى حل بنفسه ..

_ لأ طبعًا يا ريس ، هو فيه بعد كلامك كلام ، أنا ..اا .. بس إفتكرتك غيرت رأيك أو ممكن تكون هي رفضت المهمة والسفر ...


إحساس داخلي لا يخيب بداخله بأن "نظمى" تضايق من مراجعته لقراره بخصوص "عهد" لتتحول طريقة "طه" إلى التملق ليخرج من هذا المأزق ..

_ دى "عهد" دى أنسب واحدة للمهمة دى ، وحدانيه وتقدر تسافر فورًا ، إختيار موفق يا ريس ...


أومئ "نظمى" بلا إكتراث قبل أن يطلب من "طه" مغادرة المكتب فهو لا يحب أن يُعدل أحد على قرار إتخذه ..

_ إتفضل إنت يا "طه" على مكتبك ..


خرج "طه" مغمغمًا بسخط لتكليف "عهد" بتلك المهمة فكم كان يود لو يفسد هذا الأمر برمته ...


❈-❈-❈


بيت عائلة دويدار ...

رغم أن مازال الوقت مبكرًا إلا أن الظهيرة قد أوشكت للغاية ، وخاصة و أن هذا وقت يختلف تمامًا عن موعده الصباحي ، فهو شاب ملتزم للغاية بحكم عمله كرجل قانون ..


إنه (عيسى دويدار) الإبن البكر للمستشار "خالد دويدار" والذى يقطن بذات البناية مع والديه لكن بشقة منفصلة بالدور العلوي ..


رفع سترة حُلته السوداء مستكملاً أناقته بها إستعدادًا لبداية يوم عمل متأخر فاليوم لا عمل لديه بالمحكمة ، بل سيتجه مباشرة نحو مكتبه الخاص ...


"عيسى" شاب خلوق قوي الشخصية بشكل ملحوظ ، جاد الطباع كأبيه "خالد" ، متوسط الطول والبنية ، يتمتع بوجه محدب وعينان بنيتان وفم دقيق ووسامة هادئة ، وبرغم جديته المعتادة إلا أن له إبتسامة ساحرة لا تظهر إلا لإستثناء واحد فقط ..


رغم أن كل ما بحياته يسير وفق جدول زمني محدد وأفكار واضحة صفات توارثها من أبيه الملتزم الذى أنشأهم بحزم وجديه بحكم طبعه الجاد ، إلا أن إستثناء حياته وقع بقطعة الشيكولاتة خاصته ، زوجته "غدير" النائمة بعشوائية لا تتناسب مطلقًا مع حياته الدقيقة المرتبة ..


فوضويتها هي أجمل ما بها ، إنها استثنائية خارجة عن المألوف ، هي الشئ المختلف الذى أكسب حياته الرتيبة معنى لكلمة (حياة) ، فـ "غدير" عشق يروي أيامه الجافة مغدقًا حياته الذابلة ...


إلتف بجذعه نحوها يتطلع بأعين مبتسمة تجاه تلك الفوضوية التى تغط بنوم عميق للغاية كالغارقة وسط الوسائد ، حتى وجهها مغطى بأكمله بخصلات شعرها المموج .


دنا منها بروح مُحبة ليزيح بعض الخصلات عن وجهها الناعس مقبلاً وجنتها دون أن تشعر به ليبدأ من هذا الوداع بداية يوم عمل جديد ، إستقام حاملًا حقيبته الجلدية متجهًا لمكتب المحاماة خاصته ...


❈-❈-❈


شقة المستشار خالد دويدار ...

تصفح "خالد" أحد كتبه من مكتبته الخاصة يحاول به قضاء هذا الوقت بسأم بعد مغادرة "منار" منذ قليل ..


هو لا يتذمر لعملها الذى كان دومًا محفزًا لها به ، لكن إقامته الكاملة بالمنزل أصبحت تزيد من ضيقته بعد تقاعدة الغير معتاد عليه ...


خطوات بطيئة تحركت نحوه ليدرك أن ولده الأصغر "رؤوف" قد إستيقظ أخيرًا ، أغلق كتابه لينظر من فوق نظارته الخاصة بالقراءة تجاه هذا الناعس الذى لا يشبهه إطلاقًا لا بملامحه اللطيفة ولا بصفاته الحانية ...

_ إنت صحيت ... إيه النوم ده كله يا "رؤوف" ، ما تبطل كسل بقى يا إبنى ده مش باقي على الظهر إلا ربع ساعة ...


تملل "رؤوف" بنعاس وقد إتسعت بسمته اللطيفة لتتوهج ملامحة لشاب عشريني ذو وجه مستدير وشعر مموج بخصلات عشوائية تدل على حياته الغير جدية كبقية رجال عائلته ..


فقد تميز "رؤوف" بإختلافه عن الجميع ، شاب محب للحياة والناس ، حنون تلقائي إجتماعي بشكل لا يوصف ، إقباله على الحياة كانت دومًا محط خلاف بينه وبين والده الجاد الحازم طيلة الوقت ..


مع إتساع إبتسامته أجاب والده بلين وهدوء يثيران سخط "خالد" بشكل كبير ..

_ أنا أجازة النهارده يا حبيبي ، أنام لى شوية ، حبة راحة يا "خالود" ...


ضرب خالد كفيه ببعضهما البعض متعجبًا من طريقة إبنه المستفزة لينهره بإسلوبه المتكرر ...

_ يا إبنى إنشف شوية ، إيه "خالود" دى ، بلعب معاك فى الشارع أنا ..!!!!


بإبتسامة صافية وقُبلة حنونة أجابه "رؤوف" ..

_ وهو أنا أطول يبقى عندى صاحب قمر كدة يا سيادة المستشار ...


إرتسمت بسمة خفيفة فوق ثغر "خالد" فهو رغم رفضه لحياة اللين التى إتخذها "رؤوف" إلا أنه يستمتع بتعبير ولده له عن حبه بهذا الشكل ليزجه بخفة ..

_ بس يا بكاش ... إنت تعمل الحبة دول على أمك ولا خطيبتك ، مش أنا ...


_ وماله يا باشا ، إنت و هم ، هو أنا ليا غيركم ..


إستدار "رؤوف" عائدًا تجاه غرفته لتبديل ملابسة حين إستوقفه والده قائلًا ...

_ إبقى كلم "نيرة" ، إتصلت بيك من شوية لقت تليفونك مقفول ، كلمتنى ، وعاوزاك تكلمها ..


تذكر "رؤوف" موعده معها بالمساء مغمغمًا بنبرة منخفضة ...

_ أوف ... ده أنا نسيت إننا حنقابل النهارده .. (ثم أعلى من صوته مجيبًا والده) ... تمام يا بابا .. حكلمها ...


دلف إلى غرفته موبخًا إحداهن ...

_ ما هو لولا البنت السخيفة إللى طول الليل ترن دى مكنتش قفلت التليفون ، ربنا يستر من زعل "نيرة" أنا مش قد عصبيتها ، بس أعمل إيه فى قلبي الحنين ...

رواية بقلم قوت القلوب رشا روميه

عيبه الوحيد كلامه المعسول مع الجميع ، خاصة الفتيات اللاتى يتهافتن عليه لطريقته الناعمة الحنونة معهم ، لكن قلبه يبقي مع واحدة فقط ، خطيبته "نيرة" ...


❈-❈-❈


أوقات صامته للغاية ، يكاد ينسى بها كيف هو صوت الكلمات ، تلك هي حياتها صامتة باهتة قاتمة ..


مع حلول المساء إنتهت "عهد" من تجهيز حقيبة سفرها ووضعت بها ملابس شتوية ثقيلة للغاية ، فهي تكره البرودة ، لكنها مضطرة لتلك السفرة فهذه مهمة عمل لا يمكنها رفضها ..


كاد اليوم على الإنتهاء وحان خلع قناعها الشرس فلم يتبقى سواها والجدران من حولها ، تنهدت بغصة فمن داخلها هشة للغاية بغير ما تدعى ، أخذت تفكر بأن تتصل بأختها أو خالتها تخبرهم بسفرها لكنها فى النهاية تراجعت وجلست بهدوء تطالع عقارب الساعة وهى تتلاحق ببطء شديد فى إنتظار مرور الوقت ...


مدت أصابعها الطويلة تجاه الهاتف لتخرج رقم "وعد" والتى لم تخاطبها بنفسها منذ قرارها الأخير الذى تراه "عهد" منتهى الجنون ، أرادت عقابها لتتراجع عن تلك الهاوية التى ستلقى نفسها لها بمحض إرادتها ...


ظلت تنظر للرقم بتردد هل تتصل بها وتودعها أم تبقى على موقفها منها ، بكل مرة تمد إصبعها تتراجع باللحظات الأخيرة ...

_ لأ .. مش حكلمك ، طول ما إنتِ غبية كدة ، مش حكلمك يا "وعد" ..


هي تحبها للغاية وتشفق على حياتها التى لا تستحقها ، تتمني أن تثور وترفض هذا الخنوع ، فـ"وعد" طيبة القلب لا تستحق أن تعيش بهذه التعاسة ..


تظن أن بقسوتها على أختها ستتحرك وتأخذ موقفًا يبدل حياتها وتستعيد حياتها من جديد ..


مطت شفتيها بتعاسة وهي تلقي نظرها بضيق نحو شاشة هاتفها قبل أن تطفئه متخذة قرارها بعدم الإتصال بها ..


لتكتفي بإنتظار مرور الساعات حتى يحل الصباح لتلحق بطائرتها ...


❈-❈-❈


بيت وعد ...

ذلك المسمي بيت العائلة أيضًا ، لكن هذا البيت يضم عائلة واحدة بالفعل ، إنها عائلة زوجها "عاطف الأسمر" ، الإبن الأكبر للحاج "محفوظ الأسمر" صاحب (تجارة الأسمر لبيع كاوتش السيارات ) ، رجل سوقي غير متعلم لكنه ذو سيط واسع وثراء كبير ..


تزوجت "وعد" من إبنه البكر "عاطف" الذى لاحقها كثيرًا أثناء دراستها بالجامعة لتعلقه المتيم بها ، فهي جميلة رقيقة للغاية ، إستطاعت التمكن من قلبه بقوة ليسقط هائمًا بعشقها برؤيتها فقط حين تمر أمام تجارتهم لبيع الكاوتش بطريقها للجامعة ..


قبلت "وعد" زواجها منه رغبة منها بالشعور بهذا الحب والإهتمام الذى كان يغدقها به ، فهي كانت بحاجة ماسة لهذا الإحساس الذى تفتقره بحياتها مع أختها الوحيدة "عهد" خاصة وهم فتاتان وحيدتان منذ وفاة والدتهما منذ بضعة سنوات بعد صراع من المرض ...


حياتهم خاوية قاتمة لا عطف ولا حنان ولا رعاية فيها ، ظنت أن بزواجها من "عاطف" سوف تلتحق كفرد بأسرة كبيرة تعوض حرمانها من فقدانها لأسرتها منذ سنوات طوال ..


لكن سرعان ما تحول عشق "عاطف" الحنون لحب للسيطرة والتملك ، فقد حصل على مبتغاه بزواجه منها ووجودها كواقع ملازمًا له بحياته ..


زاد الأمر سوءًا عائلته التى تعيش معهم بنفس البيت لما يحاولون فرض سيطرتهم عليها بشكل أنهك قواها الضعيفة ، فهي ليست صلده ک "عهد" بل هي ضعيفة مرهفة للغاية ...


نظرت نحو تيشرت بالخزانة أسود اللون لتهيم به متذكرة هذا اليوم منذ بضعة أشهر ..


(فلاش باك) ..


﴿ مشطت "وعد" شعر ولدها الأشعث بفوضاوية كوالده بعد أن أنهي إغتساله للتو ، كان يرتدي تيشرت وردي طبع عليه رسمة واضحة لأحد الشخصيات الكرتونية لفيلم خاص بالسيارت التى يحبها "زين" وبنطال قصير من اللون الأزرق القاتم ...


إلتفت الصغير نحو والدته يحيطها بذراعيها الصغيران ويطبع قُبلة فوق خدها بلطافة لتنغمس "وعد" بأحضان هذا الحنون ذو الأربعة أعوام فهو الشئ الوحيد الذى يجعلها تتشبث بتلك الحياة وتتغاضى عن كل ما بها لأجلها .

فتحت "وعد" عيناها تنظر نحو "زين" قائله ..

_ يلا بقي ننام ، عشان مامي تنبسط منك ..


مجرد كلمة قالتها بمداعبة لإبنها ببساطة لكن لاقت سخرية قاسية من "عاطف" الذى جلس يطالع التلفاز منذ فترة لا بأس بها بعد عودته من المتجر الخاص بوالده ..

_ مامي !!!! ... بلاش عوج وكلمي الواد عدل ..


إلتفت "وعد" تجاه "عاطف" مؤنبة نفسها من داخلها فأين كان عقلها حين أختارت هذا السوقى أبًا لإبنها ، تنهدت ببطء ثم بررت كلماتها ..

_كلمة يا "عاطف" ، كلمة بدلع بيها الولد ، عادى يعنى ..


إعتدل "عاطف" لتظهر ملامحة تجاه وجهها بوضوح لشاب ثلاثيني خمري البشرة وعينان بلون العسل ، له وجه مفلطح وسيم ، يتمتع بشفاه عريضة تناسبت مع وجهه الرجولى ، ذو شعر أشعث بلون بنى تتناثر خصلاته بشكل جذاب مع ملامحه الشرقية ، له إبتسامة مميزة للغاية حين يضحك تظهر له أسنانه العريضة وحركة لا إرادية للسانه وهو يثنيه للأعلى حين تنتابه لحظة من لحظات السعادة ...


لم يكن قبيح الوجه مغثى للنفس ، بل كان على درجة وافرة من الوسامة والحُسن ، ربما هذا ما جعله يعطي نفسه قيمة كبيرة تفوق حدها مما زاده غروره بما يملكه ، خاصة مع إمتلاكه لمال والده ليصبح مطمع للكثير من الفتيات أيضًا ...


لكنه يفتقر للذوق وحسن الخلق خاصة معها ، فقد تبدلت طِباعه بشكل مقلق بعد زواجه من "وعد" وزاد لديه حب التملك والسيطرة فقد كانت ک نجمة عالية تمنى أن يطولها ..


نجمة متلألئة بالسماء الوصول لها حلم من أحلام الكثير ، قبض عليها بكفه القاسي ليفتتها لرماد تناثره الرياح لتبقى صخرة لا قيمة لها ..


هكذا هي معه ، مجرد صخرة لا تشعر ولا تثور على وضع خاطئ ، فمنذ متى تخبئ النجوم بين الوحل وتُطالَب ببريق للحياة ..


عقد "عاطف" حاجباه الغليظان بسخط وسأم مما تفعله "وعد" ليردف بإستنكار ...

_ طريقتك مع الواد متنفعش ، لازم يبقى جدع كدة زي أبوه وعمه ، إنتِ ولا بتفهمي فى التربية من أساسُه ..


إتسعت خضراوتيها بإستنكار قائله ..

_ أنا يا "عاطف" ، ده أنا حتى خريجة تربية ، ولا نسيت كنت عجباك إزاى ، وكنت بتحبنى إزاى ..؟؟!!!


_ عشان مغفل .. (قالها بتقزز ثم إستكمل محقرًا من ذوقها السيئ بإختيار ملابس إبنهما ) .. وبعدين إيه اللي إنتِ ملبساه للولد ده ؟؟! بمبي ... !!! فيه ولد يلبس بمبي ...؟؟ 


- على فكرة لون حلو ولايق على وشه جدًا ...


- ولا حلو ولا نيله ... دى ألوان بنات ... ده ولد .. ولد .. ولا إنتِ مبتفهميش فى الأذواق ...؟؟! 


نشوة إعترته من تحقيرها ثم أكمل متباهيًا بأخته يحط من شأن "وعد" كما طالبوه جميعًا حتى لا تتعالى بظنها أعلى منه قدرًا وذوقًا فهو بالنهاية لم يستكمل دراسته وتعتبر هي أعلى منه بالمستوى التعليمي والفكري ...

_ ده أنا لو أعرف إنك كدة ، عمرى ، عمرى ما كنت فكرت أتجوزك ، أنا كان نفسى فى بت جدعة زى "عتاب" أختى ...


نهض متجهًا نحو خزانة الملابس الخاصة بـ "زين" مخرجًا تيشرت باللون الأسود القاتم ثم ألقاه بوجه "وعد" ببرود ...

- خدى خليه يلبس ده .. أشيك وأحلى وقلعيه هدوم البنات دى ، ولا أقولك إديها لبنت "عتاب" أهى تنفعها ...


ألا يكفيه مقارنتها بـ"عتاب" بل يزيدها ببروده والتحقير منها ومن ذوقها ، إرتجف قلبها بإنفعال لتكتفى بذلك ردًا على تقليله من شأنها ، فهى لا تستطيع الرد وأخذ حقها منه ، لتجد دموعها إجابه له ..

رواية بقلم قوت القلوب رشا روميه

دموع كانت كفيلة بزيادة إنفعال "عاطف" قائلاً بسخط وهو يغادر الشقة ..

_ وليَّه نكد .. ليل ونهار عياط .. عياط ... أنا نازل عند الجماعة تحت ... دى عيشة تقصف العمر ...


خرج من باب الشقة ومن داخلة يشعر بالتأنيب ففى كل مرة يحط من شأنها يصيب قلبه الضيق ، فهو لم ينسى أنه يعشقها بكل ذرة بكيانه ، لكنه لا يود أن تشعره بالدونية كما أخبروه أهله بعد زواجهم ..


مر بشقة والديه بالدور السفلي ، تلك شقتهم الكبيرة التى تحتوى على غرف بكلا الجانبين يتوسطها بهو كبير فالطابق كاملًا مؤثث لوالديه ، وجد "عاطف" والديه وأخته "عتاب" يتناولون طعام العشاء ليشاركهم طعامهم حين سألته "عتاب" بمكر ..

_ إيه ... شكلك واخد لك شبشب ونازل ...


"عتاب الأسمر" الأخت الكبري لـ"عاطف" و "محب" إمرأة على مشارف الأربعين من عمرها ذات جسد متوسط الطول والوزن أيضًا رغم عشقها للطعام إلا أنها تحب أن تظهر بأنسب صورة ...


ذات وجه محدب وعينان سوداوتين وأنف مدبب وفم صغير ، مطلقة ولها ثلاثة فتيات تعيش مؤخرًا بعد إنفصالها ببيت والديها تهيمن بقوة على أى فرصة تُظهِر أنها صاحبة القوة والرأى الصائب ...


ثار "عاطف" بصدر متهدج فهو لا يحبذ أن يظهر بصورة تقلل منه خاصة وهو محط إهتمام الجميع ...

_"عتاااااب" ... لمى نفسك ... أنا "عاطف الأسمر" برضه ...


ضغطت والدتها "قسمت" بأسنانها فوق شفتيها تمنعها من التمادى فيبدو أنه متضايق للغاية وهو المدلل لديها ..


"قسمت الجويلي" إمراة طويلة نحيلة لا تهتم سوى بأبنائها ومصلحتهم خاصة مدللها "عاطف" حتى لو على حساب أى شئ أو شخص آخر ...


مالت "عتاب" بفمها قليلاً متسائله ..

_ أمال فين "محب" إتأخر ليه كدة ؟؟! ..


أجاب والدهم "محفوظ الأسمر" بخشونة وجمود كطبعه كرب أسرة متملك هو الآمر الناهي بها وله الكلمة الأولى والأخيرة ، حتى أبنائه ينصاعون له ولأوامره وأعماله فالكل يعمل لدى "محفوظ الأسمر" والكل يعيش تحت كنفه ببيت العائلة ...

_ "محب" راح يستلم دفعة الكاوتش ومش جاى إلا بكره ..


أعلنت "قسمت" البدء فى تناول الطعام قبل أن يبرد ، لكن لا تعلم أن المتوهج هو القلوب وليس الطعام ...

- يلا كلوا ... مش حنستنى حد ... ( كانت تقصد بالطبع "وعد" التى تأخرت عن موعد الطعام وعليها تحمل جوعها بشقتها فلا طعام إلا ببيت العائلة) ..


تذكرت "وعد" كلمات قوية تستطيع بها أن ترد على ما حط به "عاطف" من شأنها حلت بشفاهها وعقلها ، لكن بعد فوات الأوان ، فقد ألقى بكلماته اللازعة وتركها ، وها هي الآن بعد مرور ما يقرب من الساعة تبادر لذهنها كلمات تصلح لرد كرامتها .


فمن "عتاب" التى يقارنها بها ، فأخته سيئة الطباع غليظة المعشر ، تكره كل من حولها ، حتى أنها تكره نفسها ، تود رؤية الجميع بلا وفاق ، فلن يسعد الجميع وتبقى هي وحيدة تعيسة بينهم ، كرهت "وعد" منذ أن خطت قدمها لبيتهم وحقدت على عشق "عاطف" لها وتدليله إياها ، لتعلن عليها الحرب منذ أول ليلة لها بهذا البيت ...


أيقارنها بـ"عتاب" التى أصبحت مثالاً بين الجميع بالخباثة والمكر ، فحتى الثعبان بمكره إلا أن له جلد ناعم يخدع به عدوه ، لكنها كالقنفذ لا نعومة من الخارج أو الداخل ..


تنهدت "وعد" بضيق لتنهى ليلتها باكية تحتضن إبنها الوحيد وسبب بقائها فى هذا الشقاء ... ﴾


عادت لواقعها وهي تدفع بالتيشرت الأسود بعيدًا عنها فيكفيها ذكري سيئة بسببه ..


❈-❈-❈


بهذا المساء إستسلم البعض لقَدَرِه وقبع ممنيًا نفسه بعجلة الإنتظار والتحمل ، برضوخ نفس ضعيفة للغاية حتى لو إدعت تلك النفوس عكس ذلك ..


لكن ببيت النجار كانت هناك ألسنة تشحذ أنصالها لتنال غايتها حين تجمع ثلاثتهم لتناول الطعام بشقة "فخري النجار" ، حاوطت "راوية" و "صباح" مقعد "فخري" من الجانبين إستعدادًا لتناول طعام العشاء فهذا وقتهم المحدد بذلك كل مساء فور عودة "فخري" من محل العطارة خاصته ..

وجبة عشاء أسطورية تتفنن بها "صباح" لتحضير تلك المأدبة لإرضاء زوجها الذى لم يشعرها بسعادته لوجودها ، تتمنى بداخلها أن يعود كالسابق سعيدًا بزواجهم ، الذى أصبح باهتًا للغاية لا يكترث لها ولا لوجودها ، تشعر أنه يتوسط حياتهم من أجل أبنائه لا أكثر .


بحديث مقتضب ذو كلمات شحيحة للغاية بدأ "فخري" تناول طعامه ، فيما أخذت "صباح" ترمق إبنتها السمراء بأن تخبر والدها بما فعلته بنت عمها اليوم ..


ترددت "راوية" لبعض الوقت هل تخبر والدها بما فعلته "شجن" أم تنتظر قليلاً خوفًا من رد فعله فهو لا يريد إقحام نفسه بمشاكل مع "زكيه" أرملة أخيه ..


تجهزت أخيرًا لإطلاق لسانها وتحفيز والدها على إبنة عمها كما تطالبها والدتها حين طرق الباب بعدة طرقات متتالية لتزم "راوية" شفتيها بضيق فهي تعلم من بالباب بهذا الوقت ، فمن سيكون غيرهم ...


دفعت بمعلقتها بقوة وهي تنهض متمتمة بسخط تسب من داخلها طارق الباب ..

_ عالم مفاجيع مبيفوتوش وجبة ... هم مفيش غيرهم ...


فتحت "راوية" الباب متيقنة بأن هذا ما هو إلا أخيها "فريد" وزوجته المتعالية "حنين" وأبنائهم بالتأكيد ..


_ سلامو عليكووو ... 

كانت تحية "فريد" الذى دلف مباشرة نحو الداخل متجهًا لطاولة الطعام ، تلته تلك الماكرة بإبتسامتها المستفزة وهى تنحى "راوية" عن طريقها كما لو كانت هي صاحبة البيت و "راوية" ضيفة عندها ..


تهدج صدر "راوية" بغيظ من تلك الحرباء المتلونه تود لو ترشقها بخناجر وليس بكلمات لتردف بتذمر ...

_ ولما إنتوا ناويين تطلعوا تتعشوا مش كنتِ تيجي من بدرى تجهزى معانا الأكل يا "حنين" ..!!!!


بطريقة مستفزة إستطاعت بها "حنين" التعامل مع تلك العائلة بحنكة ليصبح لها الكلمة العليا ..

_ والله يا "رورو" أخوكِ أهو يشهد عليا ، إنى كنت تعبانه طول النهار ونايمة فى السرير ومكناش ناويين نطلع خالص ، بس لما بقيت كويسة ، قلت لازمن نعدى عليكم نطمن عليكم ...


بدقائق بسيطة كان جميعهم يتخذ مقعده حول الطاولة حين أجابتها "راوية" بتهكم ..

_ لا والحق يتقال إنتِ صاحبة واجب ..


_ أمال إيه يا حبيبتى ...


جلست "راويه" تكتم غيظها حين إستكملت "حنين" فرض وجودها كفرد هام بالعائلة ...

_ إزيك يا حمايا ... إزيك يا حماتى ..؟؟؟


بنهاية جملتها كانوا جميعًا يلتهمون الطعام بشراهة لتمصمص "صباح" شفتيها مغمغمة بسخط ..

_ عالم جعانة ...!!!


رمقت "صباح" إبنتها لإستكمال ما كانت ستقوله ، فيجب إخبار "فخرى" بما تفعله بنت "زكية" ، لتومئ لها "راويه" مستطردة ...

_ شفت يا بابا إللى عملته "شجن" بت عمى ..


إنتبه "فخرى" لذكر إسم "شجن" ليرفع رأسه المستغرق بتناول الطعام متسائلاً ..

_ خير ..!!


_راحت تدور على شغل برضه ، بقى إحنا وش كدة ...؟؟!


قبل أن يتفوه والدها بكلمة هتف "فريد" بإنفعال وغضب محتد لتطاول هاتان الفتاتان على كل ما يأمرانهما به لتهتز وجنتاه السمينتان اللاتى يشبهن وجنتى والدته السمراء ...

_ إيه إيه ... إيه إيه .... ليه ؟؟! ملهمش كبير ولا إيه ...؟!!! طب وربنا لطالع لهم وموريهم الصح يبقى إزاى ..


أوقفته لكزه قوية من "حنين" بألا يتدخل بهذا الأمر ، فهي لا تريد أن يتعامل "فريد" مع تلك الفتيات الحسناوات والتى كان يتمنى الزواج بإحداهن فى السابق لولا رفض والدته ..


تلك اللكزه جعلته يتراجع على الفور تخوفًا من إغضاب "حنين" ليعود لمقعده قائلاً بصوت مهزوم ..

_ وأنا مالى ، يتحرقوا كلهم ...


ألجمهم كلمات والدهم القليلة كأمر واجب النفاذ بأمر لا يتدخل إلا به فقط وبقية الأمور بيد "صباح" ..

_ سيبوهم فى حالهم ، هم أحرار ...


تهدجت أنفاس "صباح" بغضب تنهره عن تراخيه بقوة ...

_ بقى بت مفعوصة زى دى هى وأختها حيحطوا راس عيلة النجار فى الطين وهم ماشيين على حل شعرهم ويقولوا بيشتغلوا ، وإنت برضة حتسكت لهم يا حاج ؟!!!! 


_ أنا قلتها كلمة وخلاص خلصت ، سيبوهم فى حالهم ...


قالها بحزم لينهض تاركًا طعامه فلم يعد يحتمل تلك المرأة ومشاكلها التى لا تنتهى ، مما جعل "صباح" تنفعل بقوة ...


إمتعض وجه الجميع لطلب والدهم بترك بنات عمهم دون حساب خاصة "صباح" التى إستشاطت غضبًا فمازال "فخرى" يكِنُ لأرملة أخيه بعض المشاعر رغم رفضها للزواج منه بعد وفاة أخيه لتبقى أمًا عزباء متفرغة لرعاية بناتها وبقيت "صباح" تكِنُ لها الضغينة لتفضيل "فخرى" تلك الفقيرة عليها ...


❈-❈-❈


بالمساء تسكن الأجساد لكن من أين تأتى القلوب بالسكون والراحة .


بتلك الشرفة البسيطة ذات الجدران المتهالكة وقفت "زكيه" تنتظر عودة "شجن" ورافقتها أيضًا "نغم" .


بأعين قلقة للغاية تشدقت "زكيه" لرؤية إبنتها عندما تقترب من بداية الحارة ، حين هتفت "نغم" بصوت خفيض ..

_ أهى يا ماما ، "شجن" جت أهى ..


مجرد رؤيتها بعثت بنفسها الراحة لتبتلع ريقها أولًا وهى تنظر نحو الشرفة بالدور السفلى بأعين قلقة قائله ..

_ روحى إفتحى لها أحسن حد يحس بيها ..


بعجالة دلفت "نغم" نحو الداخل تتسلل كما لو كانوا لصوصًا يسرقون وليس أصحاب هذا البيت ...


أحلامنا بالحرية مقيدة بأغلال نظرات المجتمع ، فأين متسع للتنفس بحياة سُلب منها الهواء ، فلقد ألقيت أحلامنا ببئر يوسف وما عدنا نلحق بالقافلة ..


هرعت "نغم" لإستقبال "شجن" التى بدورها صعدت درجات السلم بهدوء حَذِر حتى لا تشعر بها زوجة عمها وإبنتها ...


مهمة خاصة عليها العبور بها وليس لصعود درجات السلم ، تهلل وجه "نغم" بوصول أختها لبر الأمان كإنتصار مزيف بحياة مقفرة ..


دلفت تلك الحسناء والتى كان نصيبها كإختها وأمها من الدنيا ، فثلاثتهم كل ما يملكونه حُسنهم و أخلاقهم العالية ..

رواية بقلم قوت القلوب رشا روميه

برغم وصولها لشقتهم بأمان إلا أنها تشعر بكل مرة بحنق على تلك الحياة التى يعيشونها ، حياة باهتة يختبئون بالجدران خشية أى مواجهة ..


وقفت "شجن" لبرهة تتطلع نحو والدتها بعيناها المعاتبتان وهي تضم شفتيها ذات اللون القرمزى الطبيعي ليتجلى وجهها المستدير و وجنتيها الممتلئتان المحاطة بشعرها القصير المميز بملامح تشبه أختها "نغم" أيضًا ...


كانت تود "زكيه" لو تكتفي "شجن" بنظراتها فقط ، لكن إرتجف قلبها حين بدأت إبنتها بمعاتبتها ، فـ"شجن" تتمتع بطبع متمرد بخلاف "نغم" المستكينة طوال الوقت ...


هتفت "شجن" برفض تام لحياتهم الذليلة بهذا البيت ، لا تتمرد على فقرهم لكن تتمرد على هذا الخنوع ورضاهم بحياة ليست من حقهم ...

_ هو ربنا مش حيتوب علينا من عيشة الحرامية دى ، كل يوم تقفوا تستنوا فى البلكونة عشان تفتحوا لى الباب أحسن الست "صباح" تاخد بالها ...


شاركت عيون "شجن" المعاتبه نظرات "نغم" المتحفزة لإجابة والدتها ، فهي تجبرهم على تلك الحياة منذ وفاة زوجها ، لتتحلى نظرات الخزى والرضوخ نظرات والدتهم قائله بنبرة مهتزه ..

_ مش بإيدى يا بنات ... حنروح فين بس ... يعنى نسيب بيت أبوكم ونترمي فى الشارع ؟!!!!!! 


لحقتها "شجن" تحاول التأثير على "زكيه" ..

_ أنا حشتغل وأجيب حق إيجار شقة ... و"نغم" كمان ممكن تشتغل فى المكتبة إللى جنب المستوصف ... ونسيب البيت ده وربنا يتوب علينا من أصحابه ...


_ ده مش حل يا بنتى ، حنروح فى الرجلين وحق أبوكم يروح ، وبعدين كل ده كلام مش مضمون ، مهما كان ده بيتكم وحقكم ...


شاركت "نغم" الضغط على والدتها ربما ترضى هذه المرة ...

_ ويرضى مين إللى بيتعمل فينا كل شوية ده ، لحد إمتى حنفضل مستحملين ...؟!!!


تنهدت "زكيه" بقلة حيلة فقد تحملت الأسى لأجلهن لسنوات لحفظ حقهن ولن تتنازل عنه بهذه السهولة ، سنوات من الرضوخ لتتحول لإنسانه سلبية تخشى من المجهول وترضى بالأمر الواقع ...

_ خلاص بقى يا بنات مش كل يوم نفتح السيرة دى ، يلا نتعشا وتحكى لنا عملتي إيه يا "شجن" في موضوع الشغل ...


حاوطت "زكيه بناتها بحنان لتحتضنهم وتنسيهم بقلبها العطوف قسوة الأيام الجارحة ...


❈-❈-❈


بإحدى الكافيهات الفخمة للغاية ، جلس "رؤوف دويدار" برفقة خطيبته الحسناء "نيرة" ، تلك الفتاة العشرينية النحيلة ذات الوجه المدبب والأعين الحادة ، جريئة بمشاعرها وتصرفاتها ، غيورة إلى حد بعيد مما جعلها كموقد نار تلتهب شعلته من مجرد شك بسيط ..


خاصة مع إرتباطها بشاب هوائي ک "رؤوف" ، شاب معسول الحديث يميل للتودد إلى جميع الفتيات لتتهافتن عليه بصورة تثير حنق "نيرة" الذى أصبح شغلها الشاغل هو البحث والتدقيق من خلف "رؤوف" ..


كانت جلستهم يغلبها محاولة "رؤوف" لإرضاء "نيرة" أو بمعنى أدق إقناعها أنه لم يكن برفقة سواها بالأمس وأن الأمر لم يتعدى عودته من العمل والخلود للنوم ...

_ خلاص بقى يا روح قلبي ، ده أنا حلفت لك إنى والله كنت نايم ..


رمقته بنظرة حادة تكذبه تمامًا ثم أردفت بإنفعال ..

_ ومكلمتنيش ليه ؟!! ، مش كنا متفقين تكلمنى لما تروح من الشركة ؟؟!!! 


سحب "رؤوف" زهرة من تلك المزهرية الصغيرة الموضوعة أمامهم فوق الطاولة ليجيبها بحالمية وهو يقدمها إليها إعتذارًا ورجاء لمسامحته ...

_ خلاص بقى .. المرة الجاية حبقى أتصور الأول قبل ما أنام ...


رغم أنها تعلم أنه لا يجد مبررًا مقنعًا إلا أنها أنهت تلك الحالة من شدة الأعصاب بقبول الزهرة وقد إرتسمت بسمة ضعيفة فوق ثغرها قائله ...

_ ماشي ، قولى بقى حنروح نختار العفش إمتى ، الفرح خلاص بعد أربع شهور ...


_ زى ما حياتي تؤمر ، وأنا من إيدك دى ، لإيدك دى ...


شعورها بفرض سيطرتها عليه جعلها تشعر بالرضا مستكملة قضاء سهرتهم سويًا قبل أن يقوم بإيصالها للمنزل ويتجه هو بدوره نحو بيتهم ( بيت المستشار دويدار) 


❈-❈-❈


بيت المستشار خالد دويدار ...

بإرهاق شديد عادت الدكتورة "منار" إلى البيت بعد إنهاك طويل بالعمل بعيادتها الخاصة بعدما إنتهت من عملها بالمستشفي ليصبح اليوم مرهقًا للغاية لا يتناسب مع عمرها والإرهاق الذى تشعر به .


ليلوح وبقوة قرار عرض عيادتها للبيع أو الإيجار والإكتفاء بتلك المسيرة الطبية الزخمة ومشاركة زوجها فترة تقاعدة للإستمتاع سويًا ...


توجست "منار" من أن يكون زوجها قد مل من الإنتظار لغيابها الطويل مما سيثير حنقه وعصبيته لتدلف بتوتر تهيئ نفسها لما ستلاقيه من توبيخ وعصبيه ...


لكنها حين دلفت للداخل إتسعت عيناها بإندهاش وهى تستمع لتلك الضحكة الرنانة التى تصدح بأرجاء البيت كافة لتردف بتفاجئ ...

_ إنتِ !!!! 


(الثالث)

منذ متى والسكون يعنى الراحة والهدوء ، فهناك سكون مقلق مخيف يمكن أن تبدل به الأحوال بلحظة ...


بعد عودة "منار" من عيادتها إستمعت لصوت أنثوى مرح للغاية برفقة زوجها ، هذا الزوج الذى توجست من غضبه لإنتظاره الطويل ، لكن تلك القهقهات هي تدركها جيدًا لتندهش "منار" بتفاجئ قائله ...

_ إنتِ ...!!! 


إلتفتت "غدير" تجاه والدة زوجها "عيسى" حينما سمعت صوتها عند عودتها ...


تلاقت عيونهما المبتسمة فوجود "غدير" أزاح عن كاهلها توبيخ "خالد" الليلة ...


نهضت "غدير" بإنتفاضة وحماس فهي شابة تتمتع بحيوية ورشاقة كالفراشات تحلق بأجنحتها بين القلوب ، تسرقها بضحكاتها الخلابة ومرحها الذى لا حدود له ..


فتاة جميلة ذات إبتسامة واسعة وأسنان بارزة قليلًا أكسبتها إبتسامة فريدة للغاية ، تتمتع بشعر كستنائي يميل للحمرة مموج بشكل يناسبها تمامًا ..


هتفت بسعادة فور رؤيتها لوالدة زوجها ...

_ "منوووورة" ... حمد الله على السلامة يا دكتورتنا .. كل ده تأخير ... إيه مفيش وراكِ "دورا" (تقصد نفسها) تأكليها وتشربيها وتدلعيها ولا إيه !!! ..


_ أحلى "دورا" فى الدنيا (قالتها "منار" وهى تدنو من "غدير" لتهمس بأذنها بنبرة خفيضة للغاية) ... كويس إنك جيتي قعدتي مع عمك "خالد" كان حيفتح لي محضر الجلسة ...


تعالت ضحكة "غدير" المقهقهة ذات الشهقات المتقطعة تهتز لها كتفيها بقوة تبث السعادة وترسم الإبتسامة بمجرد رؤيتها تضحك فقط ، فكل ذرة بداخلها تضحك معها بضحكاتها التى لا تنقطع ...

رواية بقلم قوت القلوب رشا روميه

أردفت "غدير" وهى توسع مقلتيها عن آخرهما تعقب بمزاح ...

_ دى عملية إنتحارية ... لازم آخد العمولة بتاعتي ..


مدت "منار" كفها لتعبث بأصابعها بخصلات شعر "غدير" المموج تظهر إعجابها بروحها المرحة التى تدب بهم الحياة ، تمامًا كما تفعل بـ"عيسى" ، ضمتها "منار" بمحبة أم فكم تمنت أن يرزقها الله بفتاة لكن يشاء أن يرزقها بثلاثة ذكور ، لتجد بـ "غدير" تلك الفتاة التى طالما تمنت وجودها بحياتها ، كما عوضت "منار" زوجة إبنها بأم ثانية بعدما فقدت والدتها ، لم تكن علاقة "غدير" بـ "منار" تقف عند حد أم زوجها بل حقيقة إعتبرتها أمها ، تمامًا گبقية تلك العائلة التى إتخذتها عائلة لها فهي فتاة يتيمة الأبوين لا تملك سوى أخت واحدة هي كل عائلتها ..


تابع "خالد" لقائهم بإبتسامة إمتنان لوجود فتاة گ "غدير" بحياتهم الرتيبة ، فقد ملكت بقلبها النقي وبسمتها التى لا تفارق وجهها قلوب العائلة بأكملها ..


"غدير" هي إسم على مسمى ، فقد أصبحت شريان الحياة لهم جميعًا دون إستثناء ..


حملت "منار" حقيبتها وهي تأشر لـ "غدير" قبل أن تتجه لغرفتها قائله ..

_ حروح بقى أغير هدومي وأرجع نتعشا سوا ...


شهقة قوية تبعتها نظرة إندهاشية من عيونها الواسعة برد فعل مبالغ فيه إعتادوه منها رغم أن الأمر لا يستحق هذا الإندهاش ، تبعته قائله بنبرتها القوية ...

_ لاااااااااااا ... أبدًا ولا ممكن بُدًا ، أنا حستنى "عيسى" أكله .... ااا ... قصدى أكل معاه ... بالهنا والشفا على قلوبكم من غيري ..


كانت تلك طريقتها مودعة حماها وحماتها قبل أن تغادر لتصعد لشقتها فقد أتمت مهمتها بمرافقة والد زوجها حتى لا يشعر بالملل حتى عودة "منار" ..


إستدارت "غدير" وهي تسحب الباب لتطل برأسها فقط قبل مغادرتها تلقى قُبلة بالهواء ثم أردفت بروحها العذبة ...

_ تصبحوا على خير يا قطاقيط ، متعملوش شقاوة ... هاااا ..


كما لو كان وداعها لهم بتلك الليلة تاركة أثر ضحكة يدخرونها لبعض الوقت بعد تركهم ، لتستمع لصوت ضحكاتهم أثناء إغلاقها للباب صاعدة نحو شقتها لإنتظار عودة "عيسى" من مكتب المحاماة خاصته ..


❈-❈-❈


البعض يرضى بالهدوء فقط لأنه قد أُنهك بزخم الحياة ، وبعضهم يرضى بالهدوء گأمر واقع لا بديل له ، لكن هناك هدوء مخيف ، هدوء الترقب المحطم للأعصاب ، إنه الهدوء الذى يسبق العاصفة ...


إنقضت ليلة گغيرها من سائر الليالي ، وما الجديد بتلك الحياة البائسة الساكنة التى تعيش بها "عهد" ، فرغم إنتظارها لحلول الصباح إلا أن الصباح كان أملًا بحد ذاته ، فهى لا تتوق لشئ آخر ..


قبل موعد الطائرة بوقت كافٍ كانت "عهد" على أتم الإستعداد للتوجه للمطار لإستقلال طائرتها برفقة بقية البعثة الجيولوجية التى سترافقها ..


مجموعة جديدة كليًا عليها ، لكن ذلك لا يمثل لها أى نوع من الضغط أو التوتر ، فهي قادرة على التعامل مع أى عدد كان بفرض سيطرتها وقوة شخصيتها على المجموعة ..


دلفت لداخل المطار لتقوم بإجراءات السفر المعتادة لكنها لم تبالي بتلك العيون التى ترمقها من وقت لآخر بعدم تقبُل لمظهرها الجاد وملابسها الرجالية ونظراتها الحادة ..


لقد إعتادت على تلك الوجوه الرافضة لهيئتها حتى أنها أصبحت تتعمد تشدق رأسها للأعلى كما لو كانت تعيش بعالم بمفردها ، أنهت الإجراءات وجلست بإنتظار موعد الصعود للطائرة ..


لم تكن بمفردها تنتظر بصالة الإنتظار لكنها لم تندمج وسط تلك الأحاديث الثرثارة من حولها قبيل الصعود للطائرة ، تجاذب الجميع من حولها بموضوعات شتى لم تلفت إنتباه "عهد" بل شعرت بالنفور من هذا الإندماج الغريب ، فكيف لهم بهذا التواصل ولم يقضى على تعرفهم ببعضهم البعض ما يقل عن الساعة ..


رغم إلتزامها الصمت إلا أنها كانت تتطلع بمعظمهم من وقت لآخر بنفور من تفاهتهم فما الداعي لكل تلك الثرثرة التى لا تفيد ، فما يفعلونه ما هو إلا فكر سطحى ضحل للغاية ..


أُعلن بالتوجه لصعود الطائرة لتنهض بإستعداد خشن كحياتها لتحمل حقيبة ظهرها السوداء متخذه خطواتها الجدية نحو باب الخروج ..


أغمضت عيناها بسخط وهي تتأكد من الرقم المدون بتذكرة سفرها للتأكد أن هذا المقعد حقيقة هو ما يخصها لتغمغم بسخط فلم يكن ينقصها سوى أن تقضى رحلتها إلى جوار إثنان من المحبين فعلى ما يبدو أنهم زوجين حديثى العهد ...

- شكلها رحلة ما بعلم بيها إلا ربنا ... باينه من أولها ..


دفعت بحقيبتها بالمخزن العلوى لتلقى بجسدها فوق مقعدها تتمنى أن تتحلى بالهدوء فلا داعى لأن تجعل هذا الأمر يثير العاصفة بداخلها ...


كتمثال شمعي خال من الحياة جلست مرغمة وقد تجسدت ملامح الإمتعاض والتقزز على ملامحها المكفهره فقد بدأت مرحلة الغزل بين هذان مغثيى النفس إلى جوارها فهي لا تتحمل مشاعر غرامهم الفياضة تلك ..


لجأت لتصرف واحد ، تصنع النوم ليمر الوقت حتى تحط الطائرة بسلام ، متحاملة تلك الساعات التى ستقضيها إلى جوارهم بهدوء نفس مرغمة على ذلك لتغمض عيناها مسندة رأسها للخلف بهدوء قاتل ..


❈-❈-❈


بيت عائلة النجار ...

ساعة صباحية كانت تتوقع بها "شجن" أن والدتها وأختها يغطان بنوم عميق حين تفاجئت بأختها "نغم" تجلس فوق فراشها متسائلة ..

_ "شجن" ..بقولك إيه ... ما تسأليلى على شغل معاكِ ... أى حاجة أطلع بيها بره البيت ده ... أنا إتخنقت أوى ...


خلعت "شجن" إسدالها بعد إتمام صلاة الضحى تزم شفتيها بإستياء من حال أختها أيضًا لتجلس إلى جوارها قائله ..

_ عارفه والله إللى إنتِ فيه ... بس مش عارفه المستوصف فيه شغل إيه يناسبك ... إنتِ خريجة آداب وقسم مكتبات كمان .. يعنى مش عارفه حينفع ولا لأ ..!!


أكملت "نغم" بترجى حتى لا تُصرف أختها النظر عن البحث ..

_أى حاجة والله .. المهم أطلع ... عارفه ممكن فى الإستقبال أو فى أى حاجة ...


أومأت "شجن" رأسها بخفة قائلة ..

_ فيه مكتبة كتب جنب المستوصف وأنا راجعة النهاردة حسأل لك لأني تقريبًا شوفت إعلان عايزين حد يشتغل ..


_ يا ريت يا "شجن" ، نفسي أطلع بره بيت النجار إللي حيجيب أجلنا ده .. 


برغم أنها ليست مادة للسخرية فهي تقصد ذلك حرفيًا إلا أن "شجن" إبتسمت لحديث أختها ...


إنتهت من تبديل ملابسها وحملت حقيبتها المعتادة لتستعد للمغادرة ، ذلك الأمر الذى يعتبر بمثابة عبور الحدود بين إحدى الدولتين ...

رواية بقلم قوت القلوب رشا روميه

سحبت باب الشقة من خلفها لتهبط الدرج بخطواتها الهادئة المعتادة رغم توجسها من ساكني تلك الشقة بالدور السابق ..


بلمحة من عينيها دفعت بالهواء الساكن برئتيها حين لاحظت أن باب شقة عمها "فخري" مازال مغلقًا لتلتف نحو الممر وقد تبقى درجات طابق واحد فقط وتصل إلى خارج البيت ...


كـ بوق مزعج يخرج أصوات ضجيجة المنفره وصل لأسماعها صوت خشن قابض للنفس تدركه جيدًا ، صوت مستهزئ جعل قلبها يهوى بقدميها فيبدو أن هناك وصلة ستبدأ هي بغنى عنها اليوم ...


رفعت "صباح" من صوتها الخشن تريد أن تُجمع المارة والجيران تتلذذ بتعنيف تلك الفتاة وإثارة ضيقها ..

_ على فين يا صايعه يا فلتانه ، عماله تتسحبي زي الحرامية ... أيوة ... ما إنتِ مالكيش كبير تخافي منه وتعملي له حساب !!!! ما إنتِ لو بتخافي من عمك وولي أمرك ونعمتك مكنتيش ولا إنتِ ولا أمك ولا أختك مشيتوا فى البطااااال ...


كانت تتعمد التطاول وقذفهم بصفات وأفعال ليست بهم ، هي من تشوه صورتهم وسمعتهم على الدوام ، طريقتها السوقية وتطاولها أصبح شيء معتاد بين أهل الحي ، فبمجرد سماع صوت "صباح" يدركون جيدًا أن واحدة من بنات "زكيه" هي المقصودة وربما تقصد "زكيه" بذاتها ...


وقفت "صباح" تتوسط خصرها يكفيها وهي تهتز بسخط تنتظر أى رد فعل من مناوشتها مع "شجن" فهي تستمتع بذلك للغاية ...


أغمضت "شجن" عيناها وهي تضغط بقوة على شفتيها تحاول كظم غيظها من تلك السيدة سليطة اللسان المثيرة للأعصاب والمشاكل ، تذكرت توصية والدتها لها على الدوام بأن تتجنب تلك المرأة والرد عليها لتزيد من صك أسنانها كما لو أنها تصم أذانها عن تطاولها بهذا الصباح ..


تجاهلتها تمامًا لتستكمل خطواتها المغادرة مرة أخرى بعد توقفها كما لو أنها لم تستمع لشئ دون أن تلتفت إليها ، هذا التصرف الذى أثار حنق "صباح" وإشتعل الشرر بعيناها المخططتان بالكحل الأسود فكيف لم تكترث لها ولم تتكلف عناء الرد عليها لتزيد من صوتها الخشن بصراخ لا يحتمل وهي تعاود إتهامها بكذبة جديدة فمن تلك التى تُعامل (الست صباح) بهذا التجاهل واللامبالاة ، صراخ تريد به أن يصل لكل المارة ومن يستمع إليهم من الجيران دون مراعاة لأحد ..

_ إلحقواااا يا نااااس ، البت بتشتمني وتمشي .... بقى أنا .. أتشتم يا تربية **** يا بنت الـ*** ...


ألفاظ يخجل المرء من سماعها تخرج من فم سيدة المفترض أنها تحتسب نفسها من أعلياء القوم ، لكن منذ متي يعلى القوم بأموالهم دون أخلاقهم ...


ذلك السيل من السُباب والألفاظ النابية لم يكن بغريب عن مسامع "شجن" فهي معتادة على ذلك من هذه المرأة ، لكنها بكل مرة ترتجف كما لو أنها أول مرة تتعرض لهذه المناوشة من زوجة عمها ...


توافد المارة بين مستمع ومشاهد وفضولي بدون أى تدخل وهذا ما أرادته "صباح" ، أن تسيئ من سمعتهم بالحي ، مع إستمرار "صباح" بالوصلة الصباحية ضاق ذرع "شجن" من التحمل والصمت لتلتف وقد لمعت عيناها ببريق غاضب مخيف وهي تتحرك بخطوات بطيئة بإتجاه "صباح" فليس كل هدوء مطلوب ، فهناك هدوء ما قبل العاصفة التى تطيح بما تراه أمامها ...


غضب "شجن" وتحركها تجاهها كان أمر غريب لم يحدث من قبل فهي معتادة على إلقاء بكلماتها كالخناجر دون أن تجيب إحداهن ولو بهمسة مما جعل "صباح" تتخوف وتتراجع لبضع خطوات فى توجس من رد فعل غريب عليها ...


قبل أن ترد "شجن" بأى صورة وجدت أمها "زكيه" تحول بينها وبين زوجة عمها تمنعها من أى تصرف غير محسوب لتدفعها برفق بالإتجاه المعاكس قائله ...

_ روحي شغلك يا "شجن" ، روحي شغلك وإمشي من هنا ...


لم تكن نبرة "زكيه" نبرة قوية مدافعة بل كانت متخوفة ضعيفة مهتزة للغاية تنم عن هشاشة موقفها وقوتها ، تطلعت "شجن" بوالدتها بنظرات معاتبة فإلى متى ستكون بهذا الضعف والخنوع ، إلى متى عليهم تقبل تطاول تلك المؤذية دون مواجهتها وإيقافها عند حدها لتهتف بتمرد من تقبل هذا الوضع المقيت ...

_ يا ماما ...!!!! إنتِ مش سامعة بتقول إيه ؟؟؟؟ 


بكفوف حانية دفعتها مرة أخرى للمغادرة تكرر ذات الكلمات بنظرات متوسلة حتى لا تتورط إبنتها مع تلك المتوحشة ...

_ بقولك روحي ، روحي شغلك وإمشي ...


ضغطت "شجن" شفتيها بأسنانها بقوة تكتم غيظها من سلبية أمها وتطاول "صباح" معًا لتستدير بقوة مغادرة البيت بحنق من تلك الحياة التى يعيشونها والتى لا تود "زكيه" الخروج منها مطلقًا ...


مواجهة لم تكن تتمناها "زكيه" مطلقًا لكنها إضطرت إليها ، إستدارت ببطء وهي تلعن حظها لمجابهة "صباح" اليوم لكنها لم تكن لتترك إبنتها بمفردها تصارع تلك المؤذية ..


بمجرد غياب "شجن" عن المشهد إستعادت "صباح" ثقتها وغرورها وقوتها فهي الآن بمواجهة أضعفهم على الإطلاق ..


وقفت "زكيه" بإنحناء مطأطأة الرأس فكم كانت ضعيفة كـ يمامة مكسورة الجناح لا تقوى على الطيران ولا قوة لها بمصارعة الثيران ، إستغلت "صباح" ضعف "زكيه" وسلبيتها لترفع ذراعها السميك ضاربة به الجدار من خلفها لتصدر أساورها الذهبية رنين مفجع بنفس "زكيه" المهترئة لتطلق تلك المرة لسانها اللازع وتفاخرها بما تملكه من قوة تفتقر إليها "زكيه" ..

_ ده لو "فريد" ولا "مأمون" ولادي شموا خبر باللي إنتِ ولا بناتك بتعملوه حيدفنوكم تحت الأرض ، دول رجالة وميرضوش أبدًا بالمشي البطال بتاع بناتك ...

رواية بقلم قوت القلوب رشا روميه

بنفس مهتزة حاولت "زكيه" الدفاع عن بناتها الشرفاء والتى لا تنفك تلك الخبيثة بإطلاق تلك السمعة السيئة عليهن ...

_ ليه كدة .. أنا بناتي زى الفل ، أشرف من الشرف ... ما كفاية بقى يا "صباح" ...


شهقت "صباح" بقوة من ذكرها لإسمها مجردًا من لقب يناسبه كما لو كانت "زكيه" إرتكبت جُرم ما ، لتعيد على مسمعها تفاخرها بأبنائها الذكور وإذلالها بإنجابها للفتيات ...

_ جرى إيه يا إللي ما تتسمي ، هو أنا عدمت رجالتي ولا إيه !!! مفيش حاجة إسمها يا ( أم فريد) بتقوليلي إسمي حاف كدة ... ليه ... هو أنا إللي كانت خلفتي كلها بنات .. 


قالتها لتكيد بها فلولا إنجابها للبنات فقط لكانت تملك إرثها من زوجها الراحل بدلاً من تحكم "فخري" و"صباح" بها فهي حتى الآن ليست مالكة لشقتها بمفردها فهم شركائها بها رغم عدم مطالبة أى منهم بتقسيم الإرث فبعد وفاة زوجها بقي الوضع على ما هو عليه بدلاً من إلقائهم بالشوارع فنصيبهم بالبيت لا يتعدى غرفة به إلا أن "زكيه" تحملت كل تلك الصعوبات والإهانات لأجل حق بناتها ..


سنوات طويلة تعاملت بها كمتسولة هي وبناتها يشحذون حقهم من أخو زوجها لما تلقاه من معاملة سيئة من زوجته "صباح" وإشعارهم بأنهم لا يرتقوا هي وبناتها بالإنتساب لعائلة النجار ..


بدفاع ضعيف عن بناتها إستكملت "زكيه" ..

_ ومالهم البنات ... هو فيه زى خلفة البنات دول أحسن رزق فى الدنيا .. 


ثم حاولت بشجاعة واهية إظهار مساوئ أبناء "صباح" خاصة "فريد" ...

_ مش أحسن من ولاد بيهدلوا أهاليهم معاهم ..


شهقة قوية تبعتها عقصة لحاجبي "صباح" قبل أن تردف بوقاحة ...

_ هم مين دول اللي مبهدلين أهاليهم ... قصدك إيه يا **** إنتِ ... لمي لسانك أحسن أقطعهولك وأفرج عليكِ إللي يسوى و إللي ميسواش ..


فرصة جيدة لتبطش بها فمن سيستطيع أن يخلصها من براثنها القوية ، أسقطت ذراعها ليلوح بالهواء متخذًا طريقه لوجنة "زكيه" الممتلئة التى تشع بالحمرة من تلقاء نفسها فمازال الزمن لم يترك بصماته عليها فهي مازالت تتحلى برونق وجمال يضيق بنفس "صباح" كلما رأتها ...


تركت العنان لذراعها الثقيل سعيدة بإرسال صفعة قوية على وجهها لكن كفها توقف قبل أن يصل لوجه "زكيه" التى أغمضت عيناها لتلقى الصفعة التى لم تصل بعد ...


لتفتح عيناها بعد لحظات بإندهاش لتوقف "صباح" لتتسع عيناها بتشدق ترافق نظرات الغيظ بأعين "صباح" تجاه من أمسك ذراعها بتلك القوة ليردعها عن التلذذ بصفعها ....


❈-❈-❈


بين السحب المتكاثفة بفصل الشتاء والسماء الصافية من فوقها إتخذت الطائرة طريقها بسكون وهدوء لبعض الوقت ...


لم يمنع فصل الشتاء من هبوب بعض الرياح التى تزداد قوة ببعض المناطق عن غيرها مما يسبب بعض التقلبات الجوية المعتادة بالطبع خاصة برحلة طيران ...


فكما تحلق الطائرة بهدوء لبعض الوقت تمر ببعض المطبات الهوائية بوقت آخر ومع وجود ربان محترف لا يؤثر ذلك على الرحلة مطلقًا ...


مع بداية بعض المطبات الهوائية والتى لم ينشغل بها أى من الركاب سوى هذان الزوجان اللزجان بنظر "عهد" ، أخذت تلك العروس المدللة بالصراخ و التاؤه بشكل مبالغ فيه جعل "عهد" تطالعها بحاجب مرفوع وأنف معقوص تحدجها بنظرات متقززه صارمة للغاية وهي تطالب زوجها المغوار الذى يجلس إلى جوارها ...

_ إلحقني يا روحي ، أنا خايفه أوى ..


أنهت عبارتها لتلتصق به برعونة إشمئزت لها "عهد" وهي تلقي برأسها الصغير كعقلها تمامًا فوق كتفه تحتمي به ...


إنتهز هذا الفرخ المرتجف الفرصة لينتعش وينتفض كالثور ليحمي محبوبته كأسد مغوار لن يفلتها مهما حدث ...

_ إمسكِ فيا يا نور عيني .. لا يمكن أسيبك أبدًا .. حتى لو كانت حياتي فداكِ يا روح قلبي من جوه ...


ظلت تردد "عهد" جملة برأسها حتى لا تنفعل على هؤلاء مغثيي النفس قائله ( تماسكي يا "عهد" ، تماسكي ) ثم إلتفت تجاههم بإنفعال فهي لم تستطع تحمل هذا المزعجان لأكثر من ذلك فقد فاض الكيل منهما لتبدأ حديثها بحدة تصارخ بهم ..

_ بس بقي إنت وهي ، إيـــــــه ... كفاية دلع ووجع بطن ..


صراخها كان أشبه بصافرة النجدة لينتبه كل الركاب نحوها خاصة بالطبع من خصتهم بإنفعالها ليطالعانها بإندهاش وقد تناسيا تمامًا أمر المطبات الهوائية ...


أخذوا يتفحصونها بتفرس فمن تلك المتشبهة بالرجال (المسترجلة) كما يقولون التى تتهمهم بالميوعة ، قُلبت نظرات إندهاشهم لإستنكار حين هتف بها الشاب أولا ...

_ مالك إنتِ ومالنا ...؟؟!!!


لحقته عروسته التى تبدل تغنجها ودلالها لخشونة الأسطى عبده الميكانيكي بلحظة وهي تعقص أنفها بتقزز ..

_ جرى إيه يا وليه ... ما تلمي نفسك ... حاشرة نفسك بينا ليه يا وليه يا حشرية إنتِ ...!!!!


إستشاطت "عهد" غضبًا من تطاول تلك القصيرة عليها لتنهض من مقعدها ليظهر طولها المميز لتحدجهما بنظراتها المعتادة القاسية ، تلك النظرات التى أربكتهما للحظات ثم هتفت بحدة منفعلة ...

_ بقولكم إيه ... أنا بقالي ساعتين مستحملة تلزيقكم ودلعكم إللي يوجع البطن ده ... إتنيلوا أسكتوا شوية خلينا نرتاح لحد ما نوصل عالم تخنق ...


لوت الزوجة فمها بإمتعاض وهي تطالع "عهد" من أعلى رأسها لأسفل قدميها بنفور ثم أجابت بإستنكار ...

_ نعم نعم ....!!!!


ثم أومأت بقوة وهي تمصمص شفتيها بطريقة سوقية حين لاحظت عدم وجود محبس للزواج بكلا كفي "عهد" لتردف بإستهزاء ...

_ عرفـــــــتك ، إنتِ غلاوية ... غيرانه ومنكاده مني عشان جوزي بيحبني وبيدلعني ... ( ثم أردفت بإشفاق يحمل تهكم ) ..محرومة يا عيني .. أكيد عانس من الدرجة الأولى ..!!!


كيف قلبت الأمر بلحظة ، لم أقحمت زواجها من عدمة بدلالهما مغثي النفس ، بدأ الجميع يقلب نظراته بين "عهد" وكفيها الخاويان كما لو أن وجود محبس للزواج شيء يزيدها مصداقية ويضعها بمرتبة أعلى ...


قبل أن تطيح "عهد" بتلك المتطاولة أرضًا سمعت تعقيب الزوج الساخر حين وجد الطريق ممهدًا له ...

_ وهو مين اللي يرضى يتجوز (غفير) ...!!!


كلمة أطلقها لتتعالى الضحكات والسخرية من حولها ، أطلق حديثهم الساخر وتهكمهم السليط عليها ثورة الدماء بداخل عروقها لترفع ذراعيها لتضرب من تناله يداها بدون تحديد ...


أوقفها تكاتف الركاب لإبعادها عنهم وقد ملأت أعينهم بنظرات مستنكرة لطريقتها الفظة وحدتها الغير مبررة ...


تدخلت إحدى مضيفات الطيران ببسمة سخيفة لحل الأزمة تطلب منها مرافقتها إلى الخلف ...

_ مفيش داعي يا آنسة ، إتفضلي معايا فيه كراسي فاضيه ورا ، حتقعدي براحتك خالص ، محدش هناك حيزعجك ...


فى الأغلب كانت "عهد" سترفض هذا العرض المشين وتتمسك بمقعدها لكنها حين رأت تعاطف الجميع مع هذان الزوجان وتحديقهم بها كالمذنبة إضطرت لإتباعها والبقاء بهذا المقعد المنزوى بآخر الطائرة حتى نهاية الرحلة والتى قضتها تتطلع من النافذة تتابع السحاب الأبيض ربما يصفي ذلك نفسها المشحونة بدون داعي ..


بعد أن هدأت قليلاً أخذت "عهد" تلوم نفسها على تهورها ورد فعلها المبالغ به ..

_ وأنا مالي ... أنفعل عليهم ليه ...!!! ما هم أحرار ... عرسان جداد وبيدلعوا على بعض ... ولو إنهم قلبوا لي معدتي برومانسيتهم الأوفر دي الله يوجع بطنهم ... بس أنا برضة مكنش المفروض أتدخل ...


هكذا هي حياتها وحدة وحرمان ، لا تتلقي حتى كلمة حانية كتلك التى إستمعت إليها منذ قليل ، فحياتها قاسية قاتمة للغاية تخلو من كل بصيص من نور ، فكيف هو إحساس السعادة فهي لم تذقة من قبل ..


السعادة أمر نسبي تأتى فقط لمن يطلبها وينتظرها ، فكيف تسعد وهي لم تستعد لها ، كيف ستحلو حياتها وقلبها منهك بهذا الشكل ، أغمضت عيناها بإنهاك لتغفو هذه المرة بالفعل حتى وصول الطائرة ...


❈-❈-❈


بيت النجار ...

تلك المشادة الصباحية التى وقعت بين "صباح" و"زكيه" لم تنتهي بعد ، فكلتاهما وقفت متسعة الأعين تطالع بصدمة من قبض بكفه القوى على معصم "صباح" ليمنع كفها العريض من أن يطال وجه "زكيه" ..


طالعت "زكيه" صاحب هذه الفِعلة بإمتنان شديد فقد رحمها من ألم سيلحق بها ومهانة ستطالها بمشاهدة أهل الحي ..


بينما تطلعت "صباح" بأعين متقدة يكاد لهيبها يصل إليه ، لكنه رفع هامته بلا إكتراث لنظرات أمه التى كادت تلتهمه بغضبها وهي تهتف بحنق ...

_ "مأمون" ...!!!!!


إنه "مأمون فخري النجار" ولدها الأوسط ، شاب قمحي وسيم يتمتع بوجه مستدير و أعين سوداء كـ ليل ساهر بهما حزن دفين لكنها حادة قوية له شعر أسود ناعم ذو خصلات عشوائية تتساقط بعضها بدون ترتيب فوق جبهته لتعطيه سحر مميز ، يختلف تمامًا عن ملامح أخته "راوية" و أخيه "فريد" ، بل يشبه والده إلى حد كبير ...


أهدل ذراع والدته الثقيل من يده القوية وهو يطالعها بنظرات حادة أرجفت عظامها ، فبرغم تسلطتها وقوتها إلا أنها لا تخشى سوى "مأمون" ، حتى زوجها وإبنها البكر لا تخشاهم بالمرة إلا هو ...


أكمل "مأمون" تعليمه بخلاف أخته وأخيه ليصبح ذو سلطة منفصلة وذكاء متقد ، شب رافضًا لكل تلك الأوضاع المقلوبة بهذا البيت ليقف بمقابل كل تجاوز يقومون به ، يفكر بشكل مختلف ليصبح دومًا معارضًا لهم على طريقتهم الهمجية بالوصول لغايتهم ...


هتف "مأمون" بوالدته بصوت هادئ رزين كطبعه ليخرج كلماته المستنكرة من بين أسنانه ...

_ إدخلي جوه ، كفاية فضايح ...


تهدج صدرها بقوة فرغم فِعلته التى هزت صورتها أمام تلك الضعيفة إلا أنها لم تقوى على الرفض لتلملم جلبابها المزركش لتدلف إلى الداخل وهي تغمغم بسخط وتدب الأرض بقوة ...


تابعها "مأمون" وهي تبتعد ليزفر ببطء ليعود لهدوئه النفسي المعتاد وهو يطالع زوجة عمه قائلا ..

_ أسف يا مرات عمي ، إمسحيها فيا المرة دي ...


إسلوبه الهادئ .. رُقية وتحضره و رقته أحيانًا كلها أسباب تبعث بنفس "زكيه" أنه ليس إبنًا لـ "صباح" ، فكيف من ترضى بهذا الظلم يكون إبنها بهذه المثالية ، كيف يخرج شاب مستقيم من بئر الخطايا الذى نشأ به ، طأطأت رأسها بإمتنان قائله ...

_ تشكر يا إبني كتر خيرك ... 


_ على إيه بس ، إتفضلي إنتِ إطلعي ...


إنتهت مشكلة اليوم لكن من يدرى ما ستفعله بالغد وغيره فقد إعتادت هي وبناتها على مثل هذه الإفتراءات ...


هي تدرك جيدًا أن "صباح" لن تتركهم بحالهم خاصة بعد وفاة زوجها ومحاولة "فخري" للزواج منها بحُجة تربية بناتها ، فمنذ ذلك الحين والمشاكل لا تنتهي برغم رفضها له حتى لا تقحم نفسها بمشكلة مع "صباح" ...


دلف "مأمون" لشقة والديه بوجه مكفهر ينم عن الغضب لما تفعله أمه بشكل متكرر ...

_ إنتِ مش حتبطلي بقي اللي بتعمليه ده ..؟؟!!!! كل يوم مشاكل وفضايح بين الخلق ...!!!


ضربت صدرها لتصدر أساورها رنينها المعتاد قائله ..

_ يا لهوى ... هو إنت كمان حتقف في صفهم ... مش كفاية عليا أبوك ...!!!!


_ أبويا معاه حق على فكرة ... دى مهما كانت مرات عمي ، ودول بنات عمي ... وسمعتهم من سمعتنا ...


ضيقت حاجبيها بغضب مستنكرة وصفهن بأنهن مثلهم ...

_ هم مين اللي سمعتهم من سمعتنا ... هم فين وإحنا فين ... بقي عايز تقول إن الخدامة دي اللي عمك إتجوزها زيي أنا بنت الجزار على سن ورمح ، ولا زى أختك "راوية" بنت "فخري النجار" ... !!


_ بطلي بقى طريقتك دى اللي مخليه "رواية" تفكر زيك وأهى قاعدة فى البيت محدش معبرها ...


صكت أسنانها بغيظ فهي تدرك أن "راوية" قد كبرت بالعمر ولم يتقدم لخطبتها أحد بسبب حُسن بنات عمها اللاتي يتوافدن الخطاب عليهن كالنمل على العسل ، لهذا لن تتركهم يهنأن بزواج وإبنتها تعنس إلى جوارها ...

رواية بقلم قوت القلوب رشا روميه

قبل أن يتفوه "مأمون" بكلمة أخرى لحقته والدته وهي تولول لتشتت إنتباهه ويصمت عن إلقاء اللوم عليها ...

_ يا ميلة بختك يا "صباح" .. ياللي محدش بينصفك من عيالك يا "صباح" ... اه يا غلبانة ومحدش حاسس بيكِ ...


بحاجب مرتفع ونظرات مندهشة طالعها "مأمون" متعجبًا من أمرها وقلبها للحقائق ، زم شفتيه بضيق ليتسائل منهيًا هذا اللقاء ...

_ أبويا فين ، عديت عليه فى محل العطارة ملقتهوش ، عايز أسافر أجيب البضاعة ومش عايز أتأخر ...


بلحظة أنهت نحيبها وهي تأشر تجاه غرفة النوم ...

_ جوه .. إدخل له يا أخويا ...


قالتها بإمتعاض لكنها لن تتركه دون أن تعكر صفوه كما أفسد متعتها بالتدخل بينها وبين "زكيه" ...

_ كنت عايزة "ريهام" ضروري ... لو كلمتها إبقى قولها ...


لو كانت العيون تتحدث لكانت نظراته تلجمها بسوط من لهيب حين إستدار نحوها ليرمقها بصمت فهي والدته بالنهاية وهو يدرك جيدًا أن ما تفعله هو لتكدير صفوه لا أكثر ...


تركها دالفًا لغرفة والده يلعن حظه بزواجه من "ريهام" التى مازالت بينهم المشاكل والقضايا معلقة بالمحاكم لكن قسوتها كانت بمنعه من رؤيته لأولاده اللذين حرم منهم ومن رؤيتهم بسببها ...


❈-❈-❈


أصوات ضجيج تعلن هبوط الطائرة بمطار ( لوغانو) بسويسرا ، وقفت "عهد" تعدل سترتها السوداء ثم حملت حقيبة ظهرها إستعدادًا لمغادرة المطار ..


طبعها الصعب كان بعيدًا كل البعد عن الإجتماعية لكنها عليها مرافقة تلك البعثة الجيولوجية التى يجب عليها التواجد معها ..


بآلية شديدة تحركت لخارج المطار ومنها إلى الفندق مباشرة عبر تلك السيارة التى كانت بإنتظارهم ...


لم تلتفت بأى من الإتجاهين بل كانت تنتظر بترقب وصولهم إلى الفندق بينما تابع بقية البعثة تلك الأجواء الباردة والسحب المتكاثفة والجبال الساحرة التى جذبت عيونهم جميعًا من خلال نوافذ السيارة ..


عندما توقفت السيارة لم تنتظر دعوة منهم بل ترجلت بخطواتها السريعة لتدلف إلى الداخل كما لو أنها تدرك المكان تمامًا وليست أول زيارة لها هنا ...


خطواتها الثابتة الواثقة جعلت الجميع يتبعونها بصمت كما لو كانت قائد تلك المجموعة، فطبيعة البشرية هي الإنسياق خلف القائد القوى الذى يثبت حضوره بهيبته وشخصيته دون الحاجة لطلب أو شرح ..


بعملية شديدة لإدراكها للغة الفرنسية والإنجليزية كانت هي من تتعامل مع إدارة الفندق لإنهاء إجراءات التسكين بالغرف وتوزيعهم دون الرجوع إليهم بل قامت بذلك بالأمر المباشر وكان عليهم بالسمع والطاعة ..


ولطبعها الغير ودود بقيت "عهد" بغرفة منفصلة فهي لا تحب التواجد مع الغير ...


مع صعودهم للغرف كاد اليوم على الإنتهاء ليقضي الجميع ليلته بهذا المكان الساحر وسط الطبيعة وجبالها الساحرة حتى حلول الصباح ...


❈-❈-❈


رغم إختلاف المدن والناس من حولها إلا أن "عهد" لا تتغير ولا تتبدل بل تظل كما هي ، بوقتها المحدد المبكر للغاية إستيقظت "عهد" لتبدأ جولة اليوم الأول برفقة البعثة حيث ينساق خلفها بقية الجيولوجين لشخصيتها التى فرضت نفسها عليهم ...


خرجت من الفندق وقد إرتدت العديد من الملابس الثقيلة والتى لم تظهر منها سوى وجهها فقط حين إرتدت سترة شتوية ثقيلة للغاية باللون الأسود أيضًا ووضعت فوق رأسها غطاء صوفي بذات اللون ولفت حول رقبتها وشاح غليظ لم يختلف عن بقية ملبسها ...


وضعت حقيبتها الكبيرة خلف ظهرها بها كافة المعدات والأجهزة التى سوف تحتاجها لتوضح بإقتضاب لبقية البعثة خطة اليوم ...

_ إحنا حنطلع من طريق الغابة عشان نبدأ من هناك .. أى سؤال أو إستفسار حنخليه لوقته ... يلا ... إتفضلوا ..


تحركوا نحو بداية طريق الغابة لتتوقف الحافلة التى يستقلونها ليتحدث سائقها بالإنجليزية ...

_ هذا أقصى ما يمكننى الوصول إليه بالسيارة ، وعليكم الترجل من هنا ...


أجابته "عهد" بإنجليزية طليقة ...

_ حسنًا ، إنتظرنا هنا لحين عودتنا ...


أخرجت جهازها اللوحي تتابع به خريطة الطريق والأحوال الجوية أيضًا لتبدأ متقدمة المجموعة والبقية من خلفها يتبعونها من طريق لآخر ومن ممهد لوعر وهم خلفها دون أى إعتراض أو تساؤل ...


ساعات لم ينال أحدهم دقيقة واحدة للراحة حتى إنهكوا جميعًا لينادى أحدهم بـ"عهد" ملتمسًا بعض الراحة بصوت منهك القوى ...

_ يا أستاذة ... يا باشمهندسة ... ممكن نريح شوية ...؟!!!


إلتفتت بحدة تجاهه وهي ترمقه بنظرات مهينه تتهمه بالضعف لتصيح به بصوتها الناعم الغير ملائم لهيئتها الخشنة والتى حاولت إكسابه بعض الخشونة حتى لا تقل مهابتها ...

_ نريح ...!!! إحنا لحقنا .. إيه الرعونة دى .. !!!!


تحولت ملامح الشاب من الإنهاك للإنفعال ...

_ يا ريت تتكلمي بإسلوب أحسن من كدة ... كلنا تعبانين ... مش ذنبنا إنك مش بتحسي ...!!


كزت "عهد" على أسنانها بغيظ مردفة ..

_ النهاردة لازم نطلع الطريق الشرقي ... ولو ... ( ثم أكملت بتهكم) ريحناا ... حنتعطل ومش حنلحق ...


أشار الشاب نحو بقية المجموعة اللذين خارت قواهم ينحنون يلتقطون أنفاسهم اللاهثه بصعوبة حتى أن بعضهم سقط جاثيًا فوق ركبتيه لينهي حديثه بقرار ساخرًا منها ...

_ الناس تعبت شوفي يا مدام ....


ثورة ألهبت مقلتيها لتحدجانه بغضب لا تدرى هل سببه رعونته وتراخيهم أم تلك الكلمة التى لقبها بها الآن (مدام) لتهتف بحدة منفعلة ...

_ مدااااااام !!!! .... بقولك إيه ... إحنا مش قاعدين على مسطبة بيتكم ... أنا الأستاذة ( عهد مسعود المدبولي) ... فاهم ...


لمحت إرهاق المجموعة لتردف دون النظر إليهم ...

_ راحة نص ساعة عشان نلحق نكمل ...


إرتمى الأغلبية منهم أرضًا بذات اللحظة لتتجه هي بإتجاة شجرة عريضة مبتعدة عنهم لتجلس قليلاً ، شعرت بألم شديد بساقيها فقد تجولت لساعات بين طرق الغابة لتلوم نفسها على إرهاقها وهم معها فعلى ما يبدو أن هذا الشاب محق بالأمر ...


بعد أن إنتهت فترة الراحة التى حددتها وقفت "عهد" تحثهم على إستكمال جولتهم ..

_ يلا نكمل ...


رفع البعض أعينهم تجاه السماء التى إشتد قتامة سحابة وأعلنت الرياح ثورتها أخذت تسرى لها البرودة القاسية تنخز بالعظام ليهمهم الجميع بلا إستثناء ..

_ ما كفاية كدة النهاردة يا أستاذة "عهد" ... الجو قلب ... خلينا نكمل بكرة ...


بضيق بالغ وتشبث شديد أجابتهم ...

_ لأ طبعًا ... إنتوا فاكرين إن إحنا فى مصر ... إحنا فى سويسرا .. الجو كدة وحيفضل كدة ... إيه نقعد فى بيوتنا بقى طالما مش قد الشغل ...!!!!!


هكذا هي جافة صريحة لحد الوقاحة ، لا تلين ولا تُقدّر ، متزمته بشكل قاسي ، عنيدة لأبعد الحدود ، الدبلوماسية لا تعرف لها طريق ، لها من الكلمات اللازعة ما تترك له العنان قبل عقلها لتفسد كل علاقاتها بين الناس ..


برفض قاطع أصر بقية البعثة على عدم الإستمرار والعودة للفندق ..

_ لا مش حنكمل ونرجع الفندق ...


بعصبية شديدة حملت حقيبتها منتفضة بقوة ...

_ إن شا الله عنكم ما كملتم ... أنا حكمل المهمة لوحدي ... غوروا فى داهية ... ناس خرعه .. ده إيه البخت ده ...


ولجت لأحد الطرق الجبلية الوعرة وهي تحمل جهازها اللوحي تستكمل طريقها بعناد بينما عادت بقية المجموعة أدراجها نحو الفندق خاصة بعدما إشتدت الرياح وأظلمت السماء بشكل مخيف وأسقطت الأمطار بغزارة معلنًا هبوب العاصفة ...

(الرابع)

نعم أنا طفلة ، مهما إصطنعت القوة فبداخلي طفلة تفتقر للحنان والأمان ، من يتحمل عنادي وأخطائي ، يا ليتني نضجت كما أظن ، يا ليتني بأحضان أمى ...


برودة قارصة وأمطار رعدية تتجلى بأصواتها التى ترجف القلوب ، أضواء البرق المتلاحقة التى تغزو النفس وتدب الفزع بها ، الجميع يلتزم البيوت يتمتعون بدفئه وأمانه إلا تلك العنيدة التى أصرت على البقاء...


لمن الغلبة الآن ؟؟ ماذا إستفادت من عنادها لتبقى بمفردها بتلك الأجواء تواجه العاصفة وحدها وقد حل المساء ، قوية القلب لكن نقطة ضعفها هي خوفها من ضوء البرق وصوت الرعد الذى كلما ضرب السماء إرتعشت ساقيها بهلع وهى تتلمس مكان جافًا تحتمى به ...

رواية بقلم قوت القلوب رشا روميه

لملمت "عهد" سترتها السميكة بأيدى مرتجفة ففوق الجبال المشهد مختلف ، تشعر بأنها قريبة من أهوال تلك العاصفة بطريقة لم تكن تحسبُ لها الحساب ، لقد ظنت أن الأمر لا يتعدى موجة باردة وبعض الأمطار كما هي معتادة ..


لكن الوضع هنا مختلف ، مفزع لنفسها الهشة التى تقحمها بما لا يناسبها بعنادِها ورأسها اليابس ، ها هي كالعادة وحيدة خائفة لا يدرى عنها أحد ، تمتمت تحدث نفسها ...

_ أعمل إيه دلوقتِ ، أنا مكنتش عارفة إن المطر هنا صعب أوى كدة ، طب أرجع ... لأ طبعًا .. مينفعش أرجع ... وحتى لو كنت عايزة أرجع ... حرجع إزاى ...؟؟؟


خطأ آخر تقترفة بعنادها وتشبثها بالأمور ، لكنها الآن يجب أن تفكر بصورة مختلفة ، لن تبقى تلوم على نفسها كالضعفاء ، عليها البحث عن مكان آمن حتى تستطيع العودة ...


❈-❈-❈


بيت النجار ...

رغم أن المساء قد أوشك بالفعل وأخذت "زكيه" تترقب عودة "شجن" بتوجس حتى لا تلاقى ما لاقته بالصباح إنتظرت "زكيه" بالشرفة ترافقها إبنتها الصغرى "نغم" التى كانت تتطلع بالمارة هنا وهناك تبحث عن وجه واحد فقط بين الوجوه لكنها كالعادة تبحث عن السراب ...


بالشقة السفلية كانت "صباح" تعد لوجبة المساء برفقة إبنتها "راوية" التى تساعدها بتملل تتمنى لو تخلص من تلك الحياة الرتيبة التى تتكرر يومًا بعد يوم ...

_ أنا طالعه البلكونة أشم شوية هوا ...


رمقتها أمها بجانب عينها وهى تزم شفتيها بسخرية ، لا تدرى هل هي تتشمت بها أم تتحسر على حالها ...

_ أقعدي أقعدي ، محدش بيتخطب من وقفة البلكونات ...!!!


كزت "راوية" على أسنانها بغيظ ..

_ وهو كل حاجة فى الدنيا إني أجيب عريس ....  مخنوقة ... عايزة أشم الهوا ... أووف ...!!!


إستدارت تلك الممتلئة تجاه إبنتها الساخطة ..

_ أيوة كل حاجة فى الدنيا إنك تجيبي عريس .. وحفضل أقولهالك يا بنت "صباح" ... لازمن تتجوزي قبل المخفية إللي فوق هي وأختها ... غير كدة حتفضلي مكروهه طول العمر ... هم إللي موقفين حالك ... هم إللي بيطفشوا منك العرسان ...


تشحن النفوس بمجرد كلمات لو ندرك كم لها من أثر يقبع بالنفس وقدرة على تغيير الرؤية بأعيننا ، مجرد كلمات جعلت "راوية" تشعر بالغيظ من بنات عمها دون داعى لتُقْبض ملامحها بعبوس تتمنى الخلاص منهن حتى تجد فرصتها بالحياة ...


أشارت لها "صباح" لمساعدتها ..

_ قطعي البصل ده خلينا نخلص ..


إلتفت "راوية" بحنق تقطع البصل وهي تغمغم بسخط من حظها العثر فحتى الراحة والسكون لا تحصل عليهم بخلاف بقية الفتيات ...

_ هم ينبسطوا ويريحوا وأنا أقطع البصل ، دى عيشة تخنق ..


ثم إنتبهت "راوية" لتهتف محذرة أمها ...

_ طب على الله بعد كل ده ولما نخلص العشا نلاقي الست "حنين" هانم جايه تاكل على الجاهز زي كل يوم ...


مصمصت "صباح" شفتيها فهي رغم عدم تقبلها لزوجة إبنها إلا أنه الوحيد الذى يساعدها بمساعيها وتنفيذ رغباتها بعكس "مأمون" لتهتف مدافعة عن ولدها البكر ...

_ تيجي متجيش مالكيش فيه ... المهم أخوكِ "فريد" يكون مبسوط ..


مالت "راوية" فمها بإمتعاض هامسة بسخط ..

_ طبعًا مبسوط .. طول ما هي واكله عقله وبتدلع عليه حيبقي مبسوط .. بنت (السيد خلف) عارفة تمشيه مظبوط .. لعبتها صح ...


تسائلت أمها بإستنكار لعدم إستيضاح ما تقوله ...

_ بتبرطمي بتقولي إيه يا بت ...؟!!!


عادت "راوية" لتقطيع البصل ...

_ ولا حاجة ، أديني بقطع البصل أهو ...


بالدور الأرضي تلك الشقة التى كانت ملك الجد (محمود النجار) والتى آلت لـ"فريد" بعد وفاة الجد والجدة ، تلك الشقة التى تزوج بها منذ تسع سنوات ...


خلال تلك التسع سنوات لم تتقبل "حنين السيد خلف" إبنة صاحب البقالة هذه الشقة الرطبة عفنة الرائحة ، وحتى مع تجديدها للإبن "فريد" إلا أنها مازالت تتمتع بتلك الرائحة العطبة فهي ضيقة للغاية محدودة التهوية ، هي أساس بيت النجار والتى بُنى عليها بقية هذا البيت العتيق ..


رغم مجاورة شقتهم لشقة أخرى مغلقة بهذا الطابق إلا أنه لم يُسمح لهم سوى بتلك الشقة فقط ليسكنوا بها وبقيت تلك الشقة مغلقة كمثيلتها بالدور الثاني بمقابل شقة "زكيه" ، فكان من المفترض أن يقطن بها "مأمون" الذى فضل أن يستأجر شقة خارج البيت بعد العديد من المشاكل بين زوجة أخيه وبين زوجته ...


خللت "حنين" أظافرها الطويلة والتى تهتم بعنايتها بشكل ملحوظ بخصلات شعرها ترفعه للأعلى بعشوائية قبل أن تتخذ جلستها بالمقعد العربي إلى جوار زوجها "فريد" ، وبطريقتها التى تفتقر لليونة خاصة معه بدأت تُملي عليه ما يجب عليه فِعله بالفترة القادمة فهي تعشق فرض السيطرة والقوة ..


لم يكن "فريد" الرجل ضعيف الشخصية التى ينتظر أن ينساق خلف توجيهات زوجته بل كان شخصية هوائيه ذو تفكير سطحي لا يتمتع بالطموح إطلاقًا يتمنى فقط قضاء اليوم بيومه دون إشغال فِكره بما سيحدث بالمستقبل ..


ترك "فريد" عناء هذا التفكير لزوجته "حنين" والتى لا تنفك من التفكير بكل التفاصيل التى تخص هذا المستقبل الذى لا يكترث له سواء المستقبل القريب أو المستقبل البعيد ..


مد "فريد" يده يحمل كوبًا من الشاي يُقدمه نحو زوجته وهي تقلب أفكارها جيدًا قبل أن تبدأ حديثها الذى ينتظره ...

_ ها ... وصلتي لحاجة ؟!!

نطقها كالطفل الذى ينتظر التعليمات من أمه لإرشاده للتصرف الأمثل ..


إرتشفت "حنين" القليل من مشروبها أولًا قبل أن تجيبه ..

_ فلوس أبوك وأمك دى مينفعش تفضل كدة ... لو "راويه" ولا "مأمون" وصلوا لها مش حنقدر ناخد حاجة !!  أختك دى سهونه قاعدة مكوشة على تفكير أمك وأبوك .. دى يتفات لها بلاد ، وأخوك "مأمون" عامل فيها المتعلم الناصح إللي بيفهم فى كل حاجة وواكل عقل أبوك ..


_صح كلامك ...  مظبوط ... طب والعمل يا "نونه" ..؟!!


زمت "حنين" شفتيها بتقزز قبل أن ترمقه بطرف عينيها لسطحيته وقلة تفكيره قبل أن تستطرد حديثها ..

_ ما أنا عارفة طبعًا إن كلامي مظبوط ..

(ثم إلتفت بكامل جسدها لتصوب وجهها بالكامل تجاه "فريد" تبث سُمها بأفكاره) .. إنت إبنهم الكبير .. يبقي لازم شغل محل العطارة يبقى تحت إيدك إنت ، مش "مأمون" ..!!! إنت لازم تقنع أبوك بكدة ، هو ليه حاطط أخوك إللي أصغر منك على الحِجر وهو إللي ماسك الشغل والتوريد والفلوس والحسابات وإنت حا يالله بترتب لهم المخزن والعمال ويرمي لك الفتافيت فى الآخر ..!!! ده حتى الشقة مرضيش ناخدها ونوسع علينا بدل الكتمة إللي إحنا فيها ما هي مقفولة من ساعة ما مرات أخوك ما حكمت تسكن بره بيت العيلة ...


_ صح يا "نونه" معاكِ حق ... ده إستخسر فينا الشقة وهو إللي ماسك الإستيراد كله وحسابات المحل والتجار ..


وضعت كوبها فوق الصينية وهي تأشر بكفها إعتراضًا على هذا الحال ...

_ بس ، يبقى لازم تروح لأبوك بكره وتقول له الكلام ده كله ، إنت مش صنايعي فى المحل ، إنت إبن صاحب المحل والكبير كمان ...  يعني المفروض تبقى مكانه وتعرف كل صغيرة وكبيرة هناك ...


أومئ بالإيجاب وهو يرفع حاجبيه كمن إلتقط مهمة اليوم والتى عليه تنفيذها ..

_ صح يا "نونه" ... ده إللي لازم يتعمل ، أنا حروح له المحل وأقوله كل الكلام ده ...


❈-❈-❈


شقة المستشار خالد دويدار ..

أخذت الدكتورة "منار" تقلب بجهازها اللوحي تريح قلب هذا المترقب من بعيد منذ أن إتخذت هذا القرار بإنهاء مشوارها الطبي بهذا الإعتزال الذى وجب وقته ..

_ خلاص أهو يا "خالد" الإعلان نزل ، شوف كدة ...


بأعين متفحصة لكل التفاصيل كما إعتاد بعمله تمامًا فحياته المهنية كقاضي ومستشار بمحكمة الإستئناف قبل أن يصدر بحكم يحاسب به قبل صاحبه ، أخذ يتمعن بكل ما كتبته زوجته بهذا الإعلان الذى وضعته بأحد الصفحات الشهيرة المتخصصة بهذا المجال لعرض عيادتها الخاصة للإيجار ..

_ أممم ... أظن كدة تمام ، كدة أحسن ... عشان ترتاحي كمان ..


_ وإنت كمان ترتاح ، وأهو نقعد بقى نتسلي مع بعض ..


كالماء والهواء هما معًا مختلفان بتفاصيلهما لكن لا يمكن الإستغناء عنهما ، يحتاجان دومًا لبعضهم البعض دون أن يدري كل منهما لم يحتاج الآخر ..


بسمة لطيفة إعتلت ثغر "منار" بإيمائة إيجاب بينما قابلتها بسمة رضا من هذا القوي الذى يدرك تمامًا أن سببًا كبيرًا من قرارها هذا هو فقط لإرضائه ..


إنها سُنة الحياة أن يقدم كل منهما دورًا بارزًا في المجتمع من حولهم ثم يتحصلون على الراحة المناسبة وترك الفرصة لحديثي العهد بإستكمال مسيرتهم وإتخاذ أماكنهم لتدور الحياة بأدوارها فمن يبقي على حاله إلى الأبد ...


رغم الصمت الذى يحل على جلستهم إلا أن هناك نوع من الإنسجام لقضاء سهرتهم بمشاهدة فيلم تليفزيوني من نوعهم المفضل بهدوء وسكينه ...


❈-❈-❈


ليل طويل قاسٍ للغاية مر على تلك المرتجفة وسط العاصفة التى إشتدت مع مرور ساعات الليل الأولى خاصة وهي لا تفضل هذا الإحساس البارد الذى يحيط بها فهي دومًا تعشق فصل الصيف وتخشي بقوة من الشتاء وبرودته وأيامه الممطرة بشكل ملحوظ ...

رواية بقلم قوت القلوب رشا روميه

تجنبت "عهد" تلك الأضواء الكاشفه إثر ضربات البرق المخيف بداخل نفسها بالجلوس تحت شجرة كبيرة تتلحف بسترتها المبللة تحاول البحث عبر جهازها اللوحي عن طريق يمكنها سلوكه لكن الظلام حال دون ذلك لتنتظر بزوغ الفجر لتتحرك باحثة عن مخرج ...


حل الفجر البعيد القريب لتستقيم "عهد" تتلفت حولها لتقيم الوضع أولاً قبل إتخاذ قرارها بأى إتجاه ستتحرك ...


تلك الأمطار الغزيرة سببت سيل جارف قطع العديد من الطرق التى كان يجب عليها أن تسلكها فقد كشرت الطبيعة عن أنيابها وعلقت هي بالمنتصف ...


إتخذت الطريق لداخل الغابة تحتمي بالأشجار من تساقط الأمطار برغم وضعها لغطاء الرأس الحاجب للمطر فوق رأسها ..


تهدجت أنفاسها الباردة وهي تضغط بجفنيها لتزيد من قدرتها على الرؤية بشكل أوضح تتأكد مما تراه عيونها ، كم تخشى أن يكون ما تراه هو مجرد سراب واهي بعقلها فقط  ..


بحرص شديد لخطواتها بتلك التربة الزلقة حتى لا تسقط أرضًا تحركت "عهد" نحو الأمام تجاه هذا الكوخ الذى يقف بمنتصف الغابة كما لو أنه ظهر من العدم ..


كوخ خشبي يحمى من الخلف بجبل عالٍ يظهر إليها كملاذ آمن من تلك العاصفة حتى لو كان خاويًا ..


وصلت تجاه الكوخ تحتمي بسقيفته العريضة التى تمتد أمامه وهي تلتف بقوة بملابسها المبللة وإرتجافها الشديد ، لم تهتم بالنظر للكوخ بقدر إهتمامها بالدخول إليه لكن عليها طرق الباب أولاً للتأكد فربما يكون عامرًا بسكانه ...


سكون تام يقطعه صوت المطر بعد إنتظارها لبضعة دقائق بعد دقاتها الخشنة فوق الباب الخشبي للكوخ ، ليفتح الباب بتروي لتسلط "عهد" عيناها تجاه تلك الشقراء النحيلة جميلة الملامح بتفحص شديد ، ككشف هيئة تقوم به لتقييمها لما تملكه من حُسن ووجه رقيق ملائكي الطلة ..


لم تكن سوى فتاة بالعقد الثالث من عُمرها متوسطة الطول بل تميل للقصر شقراء طبيعية ذات أعين ملونه وفم وردي جذاب ، إنها حقًا أنثي كم يجب أن تكون ، زادت أنوثتها بإقتران هيئتها بنبرة صوت عذبة للغاية وهي تناظرها بتساؤل بالألمانية التى لم تستطع "عهد" إدراك مقصدها فهي لا تتحدث الألمانية لتجيبها "عهد" بالإنجليزية ...

_ عفوًا ، لا أتحدث تلك اللغة ...


لتعيد الشقراء تساؤلها بالإنجليزية ..

- هل يمكنني مساعدتك ...؟!؟


فاهت "عهد" بها للحظات فكم هي ناعمة رقيقة لا تشبهها بالمرة ، نفضت تلك الأفكار عن رأسها لتنتبه لما هو أهم فعليها قضاء مصلحتها التى أتت من أجلها ، رسمت بسمة باهته غير معتادة على محياها فيجب أن تظهر بمظهر ودود لطيف لتحظى بغايتها بالبقاء معها ،  ثم أكسبت تلك البسمة بنظرات مترجية مصطنعة لتبعث الإطمئنان لها ..

_ لقد علقت بالغابة فبعد هبوب العاصفة قطع السيل الطرق ولم أستطع العودة للمدينة فهل يمكنني البقاء هنا حتي تنتهي العاصفة ....؟!!


مدت الشقراء رأسها لخارج الباب تناظر السماء الملبدة بالغيوم والأمطار الغزيرة ، والتى يبدو أنها تدرك للتو أن هناك عاصفة ما وسوء حال للطقس ..


مالت "عهد" بفمها بسخرية من من رد فعلها المتسم بالغباء قائله بداخلها ..

_( مفيش حلاوة كاملة ، أهي طلعت غبية ) 


عادت لبسمتها المتكلفة لثغرها مرة أخرى حين هتفت الفتاة قائلة ..

_ اوووه ، حقًا إن العاصفة شديدة للغاية ...


غمغمت "عهد" بسخط رغم إبتسامتها الثابتة فوق شفتيها ...

_( وحياة أمك ، أمال أنا بقول إيه !!!) 


عقصت الشقراء أنفها بدون فهم لما قالته "عهد" ثم أشارت نحو الداخل تدعوها للتقدم ..

_ تفضلي ، مرحبًا بكِ ..


أومأت "عهد" بخفة وهي تدلف نحو الداخل قبل أن تغلق الشقراء باب الكوخ من خلفها ...


وقفت "عهد" تستقيم بجزعها للأعلى تلتمس الدفء فالكوخ دافئ للغاية فعلى ما يبدو أن أصحابه يستخدمون التدفئة بأرجائه كافة ، شعور ممتع بعد إرتجاف كاد يصل لداخل عظامها ، بلحظة تبدلت فكرتها التى كانت تحملها بمخيلتها عن الأكواخ ، فقد ظنت أن الأكواخ ما هي إلا شقة بسيطة من الخشب أو ما شابه يلقون به بعض الأثاث البالي لقضاء أيام قلائل به كنوع من التغيير لروتين حياة إعتادوا عليه قبل عودتهم لحياة المدينة الصاخبة ..


لكن هذا الكوخ كان مميز للغاية ، بل إنه مبهر مصمم بطريقة هندسية جميلة يتمتع بذوق رفيع إستثنائي أيضًا ، كان كتحفة فنية بكل تفاصيله حتى هذا السلم الداخلي المصنوع من طبقات متتالية من جذوع الأشجار ذو حافة ديكورية مصممة بعناية ...


كوخ ثري جميل حقًا ، معزول بتدفئة بشكل لافت للنظر يجعل من يقطن به لا يشعر ببرودة الطقس من خارجه ، بل إن الحياة بأكملها بداخله معزولة تمامًا عن خارجه ...


إلتمست "عهد" العذر لتلك (الغبية) كما أطلقت عليها بعدم إدراكها لما يحدث بالخارج وهبوب تلك العاصفة القوية فهي تعيش بعالم منفصل تمامًا ...


قطع تأملاتها صوت الشقراء الناعم من جانبها لتنتبه "عهد" إليها ...

_ أنا "كاتينا" ، مرحبًا بكِ ...


أعادت "عهد" تلك البسمة المتكلفة خاصتها وهي تجيبها بتقبل ..

_ "عهد" ، إسمي "عهد" ...


_مرحبًا ، "أهد" ...


رفعت "عهد" جانب أنفها بإستنكار لطريقة نطق إسمها بتلك الطريقة المتغنجة التى لا تعتاد عليها لتعيد التوضيح بالعربية ساخرة ...

_ "أهد" !!!! إسمي "عهد" يا أختي مش "أهد" جَتِك هَدْه ...


رمشت الفتاة بأهدابها القصيرة بدون فهم لمقصدها خاصة وهي تتحدث تلك اللغة التى لا تعرفها محاولة إدراك ما تتفوه به حين أشارت إليها "عهد" ألا تكترث لها ...

_ لا عليكِ ، لا عليكِ ..


أومأت "كاتينا" بخفة وهي تدعوها للجلوس والإستمتاع بالتدفئة ...

_ إجلسي ، تفضلي "أهد" ...


غمغمت "عهد" بتذمر بنبرة منخفضة للغاية ..

_ يا دي "أهد" إللي مش حنخلص منها ، شكلها حتبقي مرار ...


جلست "عهد" فوق أريكة جلدية حمراء اللون مميزة للغاية ومريحة أيضًا بذات الوقت ...


❈-❈-❈


يموج الصباح بإشراقة شمس دافئة بفصل الشتاء أيضًا بهذه المدينة ليبدأ يوم جديد خاصة لتلك الأسرة الصغيرة التى بدأت حياتها منذ عدة شهور لا أكثر ببيت المستشار "خالد دويدار" ، خاصة بالشقة العلوية للإبن البكر "عيسى" وزوجته المتوهجة "غدير" صاحبة أجمل ضحكة بهذا البيت ...


إرتدي "عيسى" حُلته السوداء المنمقة وهو يتطلع بإنعكاس صورته بالمرآة لكن الفارق اليوم هو إستيقاظ "غدير" بنشاط وحيوية على غير العادة فهي محبة للنوم وإستغراقها به ...


وقفت من خلفه تهتف به وهي تضحك بضحكتها المعهودة التى تتميز بها يهتز لها جسدها اللين بشقاوة لتجبر مشاهدها على الإبتسام أيضًا رغمًا عنه ، تلك المتوهجة التى دبت الحياة بداخل "عيسى" ليقع أسيرها دون مقاومة ..

_ مينفعش تمشي سادة كدة ...!!!


إستدار تجاهها وهو يقضب حاجباه دون فهم برغم ضمه لشفتيه بقوة حتى لا تنفرج بتلك الإبتسامة التى كادت تنقلب لضحكة قوية من مظهرها السعيد وفمها المفتوح بإبتسامة تنبع من كل جوارحها وليست من شفتيها فقط ليعقب بتساؤل ...

_ هو إيه إللي سادة ؟؟!!! ده وصف يا "غدير" ؟!! 


نطقها ببعض السخرية برغم محبته لطريقتها العفوية المرحة بشكل غير معقول ، توسعت حدقتيها عن آخرهما وهي تفغر فاها قائله ..

_ لابس لي بدلة سوداء ، وقميص إسود ، وكرفته سوداء ، وشنطة سوداء ، وشراب إسود ، وجزمة سوداء ، إييييه .. قلم حبر رايح المحكمة !!! مالك سادة كدة ؟!! لازم تحط تاتش حلو كدة ، عايز لبيسة للقلم ..


أنهت عبارتها لتتعالى ضحكتها هي أولًا بقهقهة قبل حتى أن يضحك "عيسى" الذى بدوره أُجبر على مشاركتها ضحكتها ، فلا شك إنها قادرة على خلق تلك الضحكة على وجهه ليردف ببسمة منفرجة ..

_ والمفروض أحط لبيسة شكلها إيه يا ست الفنانة ؟!!


لم يتوقف مزاحها عند هذا الحد بل أطلقت كلماتها الساخرة قبل أن تنفجر قهقهتها الصاخبة وهي تخرج راكضة إلى خارج الغرفة ...

_ حط طحينة .......


ركضت كطفلة سعيدة نحو الخارج فهي تدرك أنها بذلك تثير روح الإنتقام المازحة لديه متوقعة أن يلحقها مستنكرًا لكنه لا يقوى على الإنفعال والغضب وهي تسخر منه بطريقتها المبهجة وروحها الشقية الخفيفة ...

_ إنتِ بتقولي إيه ...!!! تعالي هنا .....


رغم مراوغتها له إلا أنها فاشلة تمامًا بالهرب لتقع بين براثن يديه التى أمسكت بها دون عناء ، إنتقام لابُد منه إلا أنه فور أن قبض عليها بين يديه وإستكانت حركتها أمامه كالعصفور الذى وقع بالشباك وبدأت أنفاسها اللاهثة بالهدوء بعض الشئ تبدلت تلك الروح الطفولية وتجلت الأنثى الشقية بعيناها الواسعتان ..


تلك النظرات الولهة من عيناها التى أطلقت سهامها بقلبه المنتفض ، قلبه الخائن الذى أصبح ملك لها ، تقلبه بين يديها كما تشاء ، هو من ظن أن قلبه ملكه وحده يتحكم به حتى أطلت تلك الشقية بحياته لتقلبها رأسًا على عقب ...


لحظة من إلتقاط الأنفاس كانت نتيجة لدفعته الخفيفة من يداه التى تحيط بها تجاه صدره لتستكين بداخله مغمضة عيناها لوهلة قبل أن يقبّل رأسها هامسًا بعشق متيم ..

_ بحبك يا شعنونة ، كفاية بقى حتأخر على المحكمة ، خدي بالك من نفسك ، ومن بابا وماما ...


رفعت رأسها للأعلى ليظهر فرق طولهم الواضح تنظر نحوه بعيون تمتلئ بتلك العاطفة التى سلبت قلبه تلك القصيرة ثم همست بهدوء ..

_ في عنيا يا "سيسو"(عيسى) ... حطمن عليهم الأول قبل ما أروح عن "مودة" أختي ..


_ تمام ... خدى بالك من نفسك وإركبي تاكسي بلاش زحمة ومواصلات .. لولا ظروف "مودة" مكنتش رضيت تروحي لها كل يوم والتاني كدة ...


- معلش يا "سيسو" ... ما إنت عارف إنها عايشه لوحدها .. 


- أنا المهم عندى إنتِ .. خدى بالك من نفسك ومتتأخريش عشان بخاف عليكِ ...


رمشت بعيناها الباسمتان لتومئ بالإيجاب وكيف ترفض حنان وإهتمام قلب قلبها "عيسى" ..

- حاضر يا روحي ... مش حتأخر عشانك .. متقلقش عليا ...


بمحبة قبل جبهتها مغمضًا عيناه براحة وإستكانة مودعًا إياها فلو ترك العنان لنفسه لن يتركها ولن يغادر ولن يعمل مطلقًا سيبقى فقط أسير تلك الـ"غدير" ...


أثار بأصابعه خصلات شعرها المموج الثاثرة وهو يتحرك بخطوات متعجلة نحو الخارج حتى لا يتأخر عن موعده ، لكن تلك الإبتسامة التى رسمتها "غدير" فوق ثغره لم تتلاشى بسهولة فهي أحلى بداية لهذا الصباح ، لكنه حاول بقدر المستطاع العودة لشخصيته الجادة الهادئة المقتضبة التى يتصف بها فمجال عمله لا يصح به المزاح ...


❈-❈-❈


سويسرا .. الكوخ ...

شعور الدفء ممتع ومريح بشكل تعشقه "عهد" ، بعد إرهاق ليلة طويلة شعرت بالراحة أخيرًا خاصة فوق تلك الأريكة المريحة ، وإحتسائها لهذا المشروب من الكاكاو الساخن الذى أحضرته لها "كاتينا" منذ قليل بعد أن مرت عدة ساعات على تواجدها هنا ...


فتحت عيناها المغمضتان بإستمتاع لهذا الهدوء على صوت "كاتينا" وهي تعلي من صوتها الناعم مناديةً بإسم غريب فيبدو أنها ليست بمفردها بهذا الكوخ ...

_ "ماوصي" ..."ماوصي" ... لدينا زائر ...


قوست "عهد" شفتيها للأسفل بإمتعاض متعجبه من هذا الإسم فهل تقصد به إنسان من بنى آدم ، أم إنه ربما إسم كلبُها كما يحدث بالأفلام ، لتنتظر بترقب ما هو هذا الـ"ماوصي" ...


سمعت بعد قليل وقع خطوات بأعلى درجات السلم لترفع "عهد" عيناها بذات الإتجاه بفضول لمعرفة شكل هذا الكائن الذى قامت "كاتينا" بندائه ...


بخطوات رزينة تقدم شاب طويل القامة ذو هيئة رياضية يتمتع بعيون ظاهرة حادة ذات لون أسود قاتم لها بريق واضح متقد الذكاء والغموض أيضًا ، شاب جاد متجهم يتحرك بصوبهم دون أى إهتمام بوجود غريبة معهم ، لم يكن أبيض البشرة كـ "كاتينا" بل كان يتحلى ببعض السمرة الجذابة لاقت بكثرة مع حِدة عيناه التى توحي بالذكاء والشراسة بذات الوقت ..


دون التفوه بكلمة شعرت "عهد" بأن هذا الـ"ماوصي" يتمتع بشخصية صلبة قوية لم تعهدها بأحد من قبل فهيئته توحي بذلك ..


وجهه المستطيل ولحيته الخفيفة النابته والمحددة بشكل أكسبه جاذبية تطيح بالقلوب كان لهما وقع خاص بتحديد طبع هذا الشاب بفراستها بقراءة الوجوه وتحديد الشخصيات ، لكن أكثر ما لفت نظرها هو نظرته الحادة والجادة أيضًا ..


بعد أن توقف أعلى الدرجات لبعض اللحظات طالع "عهد" بنظرة إستنكار واضحة لوجود فتاة غريبة بينهم ، تلك النظرات المتفحصة المتعجبة لوجودها ، لم يكن وجهه المرحب كـ "كاتينا" لكنه لم يكن الرافضً أيضًا ...


لحظات من الصمت قضاها ثلاثتهم بترقب لهبوط "ماوصي" درجات السلم بهدوء وثقل سبب بنفس "عهد" بعض الإرتباك والقلق رغم صمته حتى الآن ..


شعور لم تختبره من قبل ، لم تشعر بأن هناك من هو يؤثر بها بأى شكل من الأشكال ، لم يسبب حضور أى شخص لها بالإضطراب من قبل ، بل إنها لم تهتم يومًا بوجود أحدٍ قُربها على الإطلاق ، بل إنها تشعر بالنفور إلى قربهم ...


نفور كادت تجزم بأن بها شئ خاطئ لهذا النفور المستمر حتى كادت تصدق أنها باردة المشاعر قاسية القلب "متوحشة" مثلما يطلق عليها الجميع ، لا تنجذب مطلقًا للجنس الآخر ، فماذا حدث لها اليوم لتشعر بأنها مضطربة ضعيفة ضئيلة للغاية بحضور حاد العينان هذا ...


حبست أنفاسها للحظات لتعود مرغمة نفسها على الثبات النفسي الذى تتحلى به فمن يكون هذا ليبعثر ثباتها القوى ، إنه مجرد "ماوصي" رجل أجنبي ربما زوج تلك الفتاة أو أخيها أو صديقها ، لا تدري بعد ؟!!


لم يُسقط عيناه المتفحصة لتلك الكتلة السوداء التى تجلس فوق أريكته المحببة بإستغراب وهو يدنو منهم بخطوات ثابتة حتى توقف إلى جانب "كاتينا" متحدثًا إليها بصوت أجش ذو بحة رائعة أطاحت بثباتها الواهي ودب الإضطراب بداخلها مرة أخرى فنبرة صوته قوية مميزة للغاية ...

_ صباح الخير عزيزتي ، ماذا حدث ..؟!!


لم يوجه لها أى حديث مطلقًا بل أشاح عيناه عنها محدثًا الشقراء كما كما لو كانت فراغ أمامه فبعد تحديقه تجاهها لفترة تحدث مع "كاتينا" دون تكلف لعناء إنتباهه بوجودها .


رفعت "عهد" عيناها بإندهاش فهل جميع قاطني هذا الكوخ مغيبين إلى هذا الحد ، فهو أيضًا لا يدرك شئ عن هبوب العاصفة ويظن أنه مازال بالصباح بالرغم من أن الساعة تخطت الثالثة ..


أجابته "كاتينا" وهي تلتف بكتفيها بدلال فاهت له "عهد" بنفسها ما بال هذا الرجل ..

_ صباح الخير عزيزي ، لقد هبت عاصفة ، وستبقى تلك الفتاة معنا لبعض الوقت ، أرأيت ما حدث ، لقد قطعت الطرق بسبب غزارة الأمطار ...


إستدار "ماوصي" تجاه "عهد" وقد علت ملامح الرفض والغضب على ملامحه مستنكرًا بقائها بأى صورة ليهتف بحدة وبدون لباقة ليُسمع "عهد" رفضه الصريح الذى أثار حنقها بعجرفته ..

_ بالطبع لا ... كيف تسمحين لأى غريب بالبقاء معنا يا "كاتينا" ؟!!


بنظرات لطيفة بريئة للغاية تطلعت "كاتينا" بـ"عهد" أولاً ثم نظرت تجاه "ماوصي" تترجاه بوداعه ..

_ ألا ترى كيف هي مسكينة تشعر بالبرد من شدة المطر ...!!!! 


مال "ماوصي" بأذن "كاتينا" يهمس بصوت لم يظن أنه يصل لمسامع "عهد" ..

_ ألا يمكن أن تكون سارقة أو قاتلة متسلسلة ..  ألم أقص عليكِ العديد من تلك الحوادث التى أسمع عنها ...!!!!


لوت "عهد" فمها بإمتعاض وهي تعقب بسخرية على أفكاره بالعربية ظنًا منها أن لا أحد منهم يفهمها ...

_ ولازمته إيه قطع الأرزاق ده ، ما تنجزوا بقى ...!!!


إستدار "ماوصي" برأسه تجاهها بصدمة وهو يطالعها بأعين متسعه حتى كادت مقلتيه تحرقانه من شدة إندهاشه لتظهر لمعة بريق عيناه الحادة التى أربكتها دون النطق بكلمة واحدة ليفاجئها بصدمته وهو يسألها بالعربية ..

_ إنتِ مصرية ...؟!!!!!!!

رواية بقلم قوت القلوب رشا روميه

صدمة جعلتها تشهق بقوة فلم تظن لوهلة أنه يفهم اللغة العربية ويدرك أنها مصرية ..

_ إنت مصري ...؟!! 


إعتدل "ماوصي" وهو يحدق بها بشكل متفحص يحاول إدراك بفطنته ماهية تلك الفتاة التى تقف قبالة متفكرًا لوهلة ثم أردف بسخرية وعدم تقبل ...

_ أهلًا ... وسهلًا ...!!!!


رفض مستهجن أثار نفورها لتناظره بإمتعاض لتستعيد شخصيتها الرافضة أيضًا لتجيبه ساخرة ..

_ ولما إنت مصري عامل فيها أجنبي ليه ... ولاااا هم إللي بيقعدوا هنا لازم يبقوا أجانب بس ؟!


طريقتها اللاذعة أثارت نقطة لم تثيرها غيرها من قبل ، لم تتحدث بتلك العدائية أليس من المفترض أن تكون ودودة لطيفة لطلبها البقاء معهم ، تطلع مرة أخرى لهيئتها الرجالية وملابسها الثقيلة السوداء التى بالكاد تظهر إستدارة وجهها فقط ثم زم فمه بلا مبالاة بينما أخفى الفضول الذى إعتراه تجاه تلك الغريبة ليردف بتعالي دون إهتمام كما لو كانت تشحذ منه ..

_ لا عادى ، أقعدي ...


قالها كمن يحسن إليها بفتات الخبز لترفع حاجبها الأيمن عاقدة أنفها بضيق من طريقته التى يبدو أنها لن تريحها بفترة بقائها هنا ..


نظر نحو رد فعلها بجانب عيناه وهو يميل ليحمل كوب من الكاكاو كمن لا يكترث بها ليسألها دون النظر نحوها مباشرة ..

_ وإسمك إيه بقى ؟!!!


رغم أنها ليست مضطرة لإجابته أو لتكون ودودة إلا أنها وجدتها من قلة الذوق عدم إجابتها لسؤاله لتردف برسمية ...

_ "عهد" ... "عهد مسعود" ...


رفع من قامته الطويلة وهو ينظر مباشرة بعسليتاها كمن يخترقها بنظراته النافذه وهو يكمل تعارفه بها قائلاً بصوته الأجش ...

_ " معتصم دويدار " ...


فور نطقه بإسمه رفعت أنفها بتقزز وهي تردف بإستهجان وتهكم ...

_ "معتصم" !!!!!!!  ... أمال إيه "ماوصي" ده ..؟!!


أراح ذراعه الطويل فوق كتف "كاتينا" يجيبها ببعض الغرور باللغة الإنجليزية حتى تتفهم "كاتينا" حديثه ...

_ عزيزتي "كاتينا" تحب مناداتي بـ"ماوصي" ، لكن إسمي هو "معتصم" ... ألديك إعتراض ..؟!!


قالها بنديه كما لو أنها تتصارع معه وليست ضيفه بالكوخ الخاص به ، لا يدرى لم أثارت تلك الفتاة بداخله هذا الشعور ، أخرجت من داخله تحدى لطريقتها الخشنة اللاذعة ...


إبتسمت "كاتينا" بنعومة لتفهمها بم يتحدثون بعد أن وقفت لبعض الوقت لا تدرك ما تحدثوا به بالعربية منذ قليل ...


زوجان آخران سيسببان لها التقزز بدلالهم المغثي للنفس لتشمئز متمتمة بصوت ملحوظ نوعًا ...

_ وربنا إفتكرتها بتنادي على الكلب بتاعها من ساعة ما قالت ..( حاولت تقليد دلال "كاتينا" بصوتها الرفيع ) ..."ماوصي" ...


أهدل "معتصم" يده عن كتف "كاتينا" بعصبية من سخريتها منه فكم هي صاحبة ردود لاذعة وقحة لا تتناسب ووضعها كضيفة ببيتهم للحظة هتف بها بحدة جعلتها تخشاه بقوة فله هيبة لا تدري من أين إكتسبها ...

_ إحترمي نفسك وصوني لسانك ، ده إيه الدبش إللي بتنطقيه ده ..!!!  متنسيش إن إنتِ في بيتي ...!!!!


لملمت شفاهها بإضطراب فقد أخطأت حقًا بتطاولها المبالغ فيه خاصة وهي ضيفة ببيته لتومئ بخفة وتفهم دون أن تنطق بكلمة ، إنه الوحيد الذى إستطاع لجم كباح كلماتها المتراشقة كالحجارة لكن نظراتها الشرسة نحوه لها رأى آخر ، نظرات قابلها بأقوى وأعنف منها فلم تتواجد بعد من تهزمه وتقدر عليه ...


صراع نظرات حادة وتحدى بينهم ، نظرات صامته لم يشوبها سوى "كاتينا" التى شعرت بهذا الصدام الذى لا سبب له ،و لوقف تلك الحِدة الغير مبررة بين كلاهما تدخلت "كاتينا" قائله ..

_ إتبعيني يا "آهد" لتبدلي تلك الملابس المبتلة بأخرى جافة ...


سارت "كاتينا" أولاً ثم لحقتها "عهد" للدور العلوي لتبدل ملابسها وهي تؤنب نفسها بهذا الذى شغل فضولها بطريقته المميزة التي لم يصل إليها غيره من قبل لكنه متعجرف حاد فكيف يجرؤ على مجابهتها وكبح كلماتها اللاذعة بقوته الشرسة التى رأتها منه منذ قليل ...


❈-❈-❈


شقة المستشار خالد دويدار ...

بذلك العمر فإن المحبة تعني السكون ، أن يرافق روحان بعضهما البعض حتى ولو لم يتخلل جلستهم أحاديث عديدة مشوقة كالسابق ...


كأصابع اليد الواحدة يحفظون بعضهم البعض كظهر اليد لا يكل ولا يمل كلاهما من بعضهما البعض ، زوجان شابا على المحبة والهدوء ، جلست "منار" تتابع أحد البرامج التليفزيونية بتملل بينما أخذ "خالد" يقرأ أحد كتبه فى هدوء ...


قطع هذا الصمت دقات مبتهجة بباب شقتهم سرعان ما رَسمت بسمة على ثغريهما فهم يدركان تمامًا صاحبة تلك الدقات الشقية ...


نهضت "منار" لفتح الباب فمساعدتها السيدة "أم مجدي" لم تأتي اليوم أيضًا ...


بقفزة خفيفة طلت "غدير" بإبتسامتها ذات الأسنان المميزة وقد إنفرجت شفتاها عن آخرهما بروح مرحة ...

_ مساء الحلويات على عيون الحلوين ...


_ مساء الخير يا "دورا" ، تعالي إدخلي ...


هزت كتفها بشقاوة وهي تتخطى "منار" مؤكدة ..

_ طبعًا داخله ، فين سيادة المستشار ، مش سامعه له صوت ...


قالتها وهي تدلف تجاه غرفة المعيشة حيث يجلس "خالد" وهو يتطلع خلف نظارته الطبية لتلك الكتلة من الحيوية التى أهلت عليهم للتو يرحب بها ...

_ إزيك يا "غدير" ؟!! تعالي أنا هنا ...


جلست "غدير" تطالع إسم الكتاب وهى تمط شفتيها تتصنع الغباء ...

_ والله يا عمو إنت تاعب نفسك بكتب القانون دي ...  مفيش مرة قصة ولا رواية ولا حتى مجلة ... مبعرفش أقرا الكتب المكلكعة دى خالص !!


نحى "خالد" كتابه جانبًا وهو يشرح بتلذذ فؤائد كتب القانون خاصته وهو ما أرادت "غدير" الوصول إليه فمتعه هذا الرجل كانت تكمن بعمله الذى يفتقر إليه بالوقت الحالي ...

_ كتب القانون دى متعة فى حد ذاتها ... بتفتح آفاق فى العقل مش مجرد كلمات مكتوبه ولا حفظ مرسل وخلاص ...


تركته "غدير" يصف ويستمتع بتلك اللحظة بالحديث عما يستهويه وقد غرس به لسنوات عمله الطويلة قبل أن تقطع "منار" حديث "خالد" بسؤالها العفوي ...

_ إنتِ جايه لنا مخصوص ولا رايحة مشوار .. ؟!!


وسعت "غدير" مقلتيها وهى تتشدق بحاجبيها بشقاوة ...

_ رايحه أتغدى مع "مودة" أختى ... بقالي كتير مروحتش ..


إرتسمت بسمة لطيفة على ثغر "منار" ما بين مستحسنة ومشفقة بنفس الوقت ، فكم تشفق على حال أختها اليتيمة التى تعيش بمفردها بعد زواج "غدير" لتجدها فرصة جيدة بدعوتها هي أيضًا ليوم الغد ..

_ طب كويس أوى ... أهو برضة تأكدي عليها إنها لازم بكرة تيجي تتغدى معانا فى عزومة الجمعة دى ...


تلك المرة إبتسمت "غدير" بهدوء إمتنانًا لتلك السيدة التى إحتلت بقلبها مكانة كبيرة خلفته أمها بفراغ بعد رحيلها لتردف بهدوء ...

_ إن شاء الله حاضر ... حأكد عليها ...


نهضت بعجالة حتى تلحق بأختها والعودة قبل موعد عودة "عيسى" ..

_ أنا يلا بيا بقى يا دوب ألحق الغلبانة دى وأرجع قبل ما "عيسى" يرجع من المكتب ... 


قبلتهم بقُبلة بالهواء وهى تأشر بكفها ملوحة تودعهم ...

_ سلام يا قطاقيط ...  بلاش شقاوة لحد ما أرجع ... ماشي ...


كريح خفيفة بنسيم عابر تركتهم "غدير" كما أتت تمامًا سريعة ولطيفة ...


تعلقت بها عينا "منار" وهى تردف بإرتياح وبتمنى أيضًا ...

_ جميلة "غدير" ...  ربنا يرزق "معتصم" هو كمان ببنت الحلال إللي زيها وزي "نيرة" خطيبة "رؤوف" وأطمن عليه هو كمان ...


بضحكة متهكمة قصيرة أجابها زوجها ..

_ إبنك "معتصم" ولا بتعجبه أى واحدة فى الدنيا ... محدش مالي عينه ... معندوش غير دماغه وشغله وبس ..


جلست "منار" وهي تزم شفتيها بإيمائه موافقة حديث زوجها ...

_ صدقت والله ...  أنا غلبت أدور له على عروسة تدخل دماغه ومفيش ولا واحدة عجباه .. حنقول إيه ... دماغه ناشفه زي أبوة ...


رفع "خالد" حاجبه مستنكرًا ببعض المزاح ...

_ وماله أبوة بس .. حتقلبي عليا ليه ...!!!


إبتسمت "منار" معقبة ..

_ مبيعجبكش أي حاجة ..


_ بس لما إخترت .. إخترت صح ...ولا تنكري .. ؟!!


قالها بنوع من الغزل المتوارى لتشعر "منار" بالسعادة والفخر بكلماته ..

_ فى دي عندك حق ...


❈-❈-❈


سويسرا ، الكوخ ..

لم تنبهر عيون "عهد" بالغرف كثيرًا فقد إعتادت على جمال التصميم لهذا الكوخ ، وقفت بداخل غرفة صغيرة تتطلع بإزدراء لتلك القطع الخلابة من الملابس ذات الألوان الزاهية التى تضعها "كاتينا" أمامها لتختار ما يناسبها بينهم ..


أغلب تلك الملابس كانت قصيرة ناعمة بشكل لا يتوافق معها على الإطلاق ، أخذت تتطلع بإشمئزاز دون الإقتناع بإحداهم لكن عليها الإختيار بدلاً من ملابسها المبللة ..


بعد فترة من التمعن سحبت "عهد" كنزة صوفية رمادية واسعة وبنطال من الجينز الأسود كـ لون وسطي لما إعتادت عليه ..


مظهر تلك القطع على "عهد" وطولها الممشوق إختلف تمامًا عن هيئته على "كاتينا" القصيرة لكنها كانت تشعر بالضيق لمجرد تبدل ذوق ملبسها ، فهل يمكن أن يعتاد المرء أمر يظنه لن يؤثر به ليصبح هو المسيطر عليه بتلك الصورة ..


كانت لو أنها فتاة أخرى غير التى إعتادت عليها حتى ملامحها باللون الرمادي شعرت بأنها مختلفة ...


خلعت غطاء رأسها لتترك شعرها يتنفس لبعض الوقت قبل أن تلملمه للأعلى مرة أخرى لكن بعشوائية قليلاً فهي لم تجد ما تمشط به شعرها ...


ألقت نظرة طفيفة على جهازها اللوحي عبر شبكة الإنترنت التى ضعفت للغاية بفعل العاصفة حتى أنها بالكاد ألقت نظرة خاطفة على برامجها المخصصة حين عادت "كاتينا" تدعوها برقتها ..

_ هيا لتنضمي لنا لنتناول وجبة ساخنة سويًا ، لابد أنكِ جائعة ...


كم هي لطيفة بشكل مبالغ به شئ لم تعتاده "عهد" بحياتها القاسية ، رغم صعوبة الأمر رسمت "عهد" إبتسامة على ثغرها بشكل مزيف فهي حادة جافة دائمًا ..


تبعتها "عهد" للأسفل لتقع عيناها على هذا الغامض بلقائهم الثاني والذى بدوره رفع حادتيه تجاهها متبينًا ملامحها الجميلة التى كانت تخفيها خلف ملابسها الكثيرة السوداء منذ قليل ...


نظرات ثابتة إخترقت صدرها أولاً ليصاب قلبها بإرتجاف لم تعهده من قبل ، إضطراب غير طبيعي بحضور هذا الـ"معتصم" يجعلها متوتره بشكل ضايقها بدرجة كبيرة ...

رواية بقلم قوت القلوب رشا روميه

أعدل من وضع رأسه وهو مازال مثبتًا عيناه البراقتان نحوها وهي تتقدم نحوه بشموخ وقوة أثارت إنتباهه بشكل ملحوظ ....


(الخامس)

قلوب متشابهة تنقسم من قالب واحد ، لا تحمل ضغينة ولا خبث ، فقط قلوب نقية ..


لكن لكل قلب قسمة وحظ فهل كل نقى شقى ، يعاني بأوجاع لا يعلمها إلا هو ونصفه الآخر .

ليس بالضرورة أن يكون النصف الثاني غريب بل ربما هو شق القمر بنصفيه ...


حي قديم عتيق للغاية لا يشبه تلك المدينة الحديثة الأبنية ، بل كان له ما يميزه ويكسبه طابع فريد للغاية ، طابع حميم قريب للقلب ..

يدرك سكان الحي بعضهم البعض بشكل متقارب كبقية العائلة ، يعلمون أفراحهم وأوجاعهم ، يتشاطرون قسمتهم بكلا وجهى الحياة دون كلل أو سأم ...


ربما هذا ما طمئن قلب قطعة الشيكولاتة الفريدة "غدير" على أختها الصغرى "مودة" بالبقاء بشقة والديهما بهذا الحي بمفردها بعد زواجها منذ بضعة أشهر ، كذلك ففى البيت المجاور يقطن خالها "منير" وزوجته وأولاده والذى يسأل بصفة دورية على "مودة" كما كان يفعل من قبل فهاتان الفتاتان أصبحتا من مسؤوليته بعد وفاة أخته ومن قبلها زوجها ...

رواية بقلم قوت القلوب رشا روميه

فتاتان يتيمتان لا يملكان من حطام الدنيا سوى بعضهما البعض وشقة والديهما بعد رحيلهما ، كتب للكبرى "غدير" الزواج من هذا المحامي البارع "عيسى" إبن المستشار المعروف "خالد دويدار" لتستقر حياتها وسط عائلة راقية محبة ، بينما بقيت "مودة" تستكمل دراستها الجامعية بكلية الزراعة بسنتها النهائية لكنها فى النهاية وحيدة طوال الوقت تعمل بمتجر لبيع مستحضرات التجميل بالصباح ، لكنها تنتظر زيارة أختها نصف القمر خاصتها من وقت لآخر بتلهف وشوق ...


صعدت "غدير" بخطواتها المتعجلة الدرج للحاق بأختها "مودة" والتى تأخرت عنها كثيرًا اليوم ...


بخفة ورشاقة حتى بطرقات أظافرها عبر الزجاج المعشق لباب الشقة بعد دقها لجرس الباب تحث "مودة" على فتح الباب بطريقتها المبهجة ...


كانت "مودة" أسرع إستجابة لدقات أختها المميزة لتقفز فرحة تفتح الباب بهتاف شيق وروح مرحة كمن شقت لنصفين هي أيضًا ...

_ "دورااااا" ... وحشتيني ...


أحاطتها "غدير" بذراعيها تحتضنها بمحبة وهي تطبق فوق ظهرها بقوة تتمايل يمينًا ويسارًا إشتياقًا لها كمن غابت عنها لسنوات لتنقشع شفتيها منفرجة بإبتسامة عريضة أظهرت أسنانها العريضة الغير منتظمة ببسمة جذابة مميزة للغاية ...

_ "مودتي" وحشاني يا بطتي ...


_ يا سلاااام ، وبتقولي شعر كمان ...


_ طبعًا يا بنتي ، ده أنا عليا جمل ...


رقيقة ناعمة بيضاء تتمتع بملامح وعذوبة كالأطفال ، كل ما بها دقيق ومنمق مريح للعين والنفس هي تلك العذبة "مودة" ، ذات شعر ناعم أسود اللون وعيون تماثلها بها بريق ينم عن الشقاوة وخفة الظل تمامًا كأختها الكبرى ، ملامح مختلفة قليلًا عن "غدير" إلا أن من يراهم يدرك بذات اللحظة أنهما أختين نصفان لقمر واحد ، حتى أصواتهما تتشابة لحد كبير كما تتطابق ضحكتهما المقهقهة التى تهتز لها جسدهم بالكامل بحيوية ولطافة ...


رفعت "مودة" حاجبيها متصنعة الإستياء وهي تمط شفتيها بطريقة طفولية تكور بها شفتيها كحبات الكريز الزاهية ...

_ إيه التأخير ده كله ، ده بكره قرب ييجي !!!


_ وهو أنا أقدر برضة ، ما إنتِ عارفه عقبال ما صحيت وعديت على طنط "منار" وعمو "خالد" ...


حركت "مودة" كتفيها تراقصهما بتفهم وهي تتشبث بكامل جسدها بذراع أختها قائله ...

_ مش مهم ، هي غرامة وحتدفعيها ...


_ اوك ..( ثم همست "غدير" بتهكم ) .. هي الغرامة دى فيها طبيخ ؟!!


إستقامت "مودة" وهي تعدد بأصابعها البيضاء القصيرة دون توقف ...

_ دى فيها طبيخ وحلويات وعصير وهدوم و ...


أسرعت "غدير" تكتم فم أختها بكفها تمنعها عن الإسترسال لأكثر من ذلك ..

_ خلاص خلاص ، إنتِ فاكره إيه لقيتيني فى الشارع .. إتجرى قدامى على المطبخ لما نشوف الورطة دى ...


تقدمت "مودة" بخطوة أولا ثم إستدارت نصف إستدارة تجاه أختها قائله ..

_ مش حتنازل عن صينية مكرونة بالبشاميل ، فاهمة ..


تصنعت "غدير" الضيق من طريقة أختها تهربًا من صنع الطعام فهي رغم حداثة زواجها إلا أن كلاهما لا تجيدان الطبخ بالمرة فهما لم تتعلمانه بشكل جيد وتتهرب كل منهما عن صنعه بشتى الطرق ...


فهمتها أختها على الفور لتهتف بكشفها لطريقتها المتهربة ...

_ ااااه ، إنتِ حتعملي لي زعلانة وحركات ملهاش لازمة بقى ، قومي يا ماما على المطبخ ، عايزة مكروووووونه ...


_ لالاللاااااا ، أنا مرضاش بالمعاملة المهينه دى أبدًا ، أنا مروحه ...


_ إيه إيه ، إيه إيه ( ثم أشارت "مودة" تجاه المطبخ ) ... قدامي على المطبخ إعمليلي المكرونة الأول وبعدين روحي ..


غمغمت "غدير" بسخط مازح بصوت مسموع ...

_ عَلَقة ، خفاااش ، مش حتسيبيني إلا بالطبل البلدي أنا عارفة ..


رفعت "مودة" حاجباها بإستنكار ...

_ بقى كدة .. طييب ..


زجتها "مودة" من ظهرها لتركض "غدير" تجاه المطبخ بسرعة ثم لحقتها "مود" لتستكملا يومهما يصنعان الطعام ويتناولانه سويًا ويقضيان الوقت حتى المساء ...


❈-❈-❈


شركة بيكو للأدوية ...

أشار "رؤوف" بإصبعه السبابة يصمت رفيقه عن الحديث حين ضغط بوضع الهاتف فوق أذنه لسماعه صوت بداية المحادثة حين إتصل للتو بخطيبته "نيرة" التى وصله صوتها الرنان المستاء كالعادة ...

_ ألو ، إنتَ لسه فاكر ترن عليا يا "رؤوف"..؟؟؟ ده أنا بقالي ساعتين من ساعة ما قلت لك كلمني !!!!


بحلاوة حديثه العذب الذى يسرق به القلوب أجابها وهو ينهض خارجًا من مكتبه ...

_ يا روح قلبي حقك عليا ، أنا بس إنشغلت فى إستلام طلبية دواء مرتجع طلعت روحي ، بس برضة أنا غلطان ، حد يبقى فى حياته قمر الليالي ويدور على إللي يشغله عنه ، سامحيني يا روحي ...


بتراجع عن حدتها ككل مرة يستطيع أن يمتص غضبها أجابته "نيره" ...

_ طيب ، كلتني بكلمتين زى كل مرة ( ثم أردفت محذره ) .. بس ده مش معناه إنك ضحكت عليا ، أنا معدياها بمزاجي خد بالك ...


_ طبعًا يا عيوني إنتِ ، هو أنا أقدر ، بقولك إيه عشان بس ورايا شغل كتير ويمكن معرفش أكلمك بقية اليوم ...


بعصبية إعتاد عليها أجابته ..

_ يعني إيه بقى ؟؟! مش حتعرف تقابلني النهاردة كمان نروح نشوف معرض الموبيليا ؟!!


_ غصب عني ، نخليها يوم السبت ، تمام ...


_ طب بكره طيب ، ليه نستنى ليوم السبت ، هو إنت وراك إيه بكره أهم مننا ؟!!!


أجابها مذكرًا إياها بما أوصته به والدته قبل مغادرته اليوم ...

_ بلاش بكرة ولا إنتِ نسيتي عزومة بابا وماما ، أنا بكلمك عشان أأكد عليكِ إنك حتتغدي معانا بكرة ، إنتِ عارفة ماما بتحضر لعزومة يوم الجمعة دى بقالها إسبوعين ...

رواية بقلم قوت القلوب رشا روميه

زمت "نيره" شفتيها بتقبل قبل أن تهدأ حدة حديثها قائله ...

_ خلاص طيب ، عشان طنط "منار" وعمو "خالد" مش أكتر ، إنما إنت لأ ...


_ وأهون عليكِ برضه ، ده أنا "أوفة" حبيب "نيرو" ...


_ طيب ، سماح المرة دى ، وعمومًا كدة كدة حشوفك بكرة ونتفاهم ...


بحديثه المعسول رغم إتقانه له إلا أنه مازال مصطنعًا ...

_ نتفاهم إيه بس ، ده أنا تحت أمرك من غير ما تطلبي يا قلب قلبي ..


_ طيب ، باى ..


_ سلام يا قلبي ...


أنهى مكالمته ليعود لداخل مكتبه ناظرًا نحو تلك العُلب التى وضعت فوق مكتبه منذ قليل ...

_ بلاش يا "حمدى" مش عاوز شيل الأكل ده ، أنا بخاف من الأكل إللي معرفهوش ؟!!


أجابه رفيقه الذى جلس طويلاً بإنتظاره لتناول الطعام برفقته بوقتهم المستقطع خلال اليوم ...

_ يا دكتورنا متخافش ، نظيفة جدًا ، هى دى أول مرة أجربهم !!! ده الفطاير والبيتزا عندهم رقم واحد ، متقلقش ...


- معلش يا حبيبي سامحني المرة دى ، أنا معايا الأكل بتاعي ، بألف هنا على قلبك إنت ..


- طيب إللي تشوفه ، أنا بس قلت تجربه ده حلو جدا ونظيف والله ..


- المرة الجاية يا حبيب قلبي.


تفهم صديقه رفضه لتناول الطعام فهو موسوس للغاية من تناول الطعام خارج المنزل ليتناول طعامه برفقة "رؤوف" الذى أخرج طعامه الخاص به من حقيبته قبل إستئناف عملهم الطويل بنشاط وقوة ، فهو رغم شعوره بالجوع إلا أنه يتخوف دائمًا من مصادر الطعام مجهولة المصدر كما علمته والدته منذ صغره ...

❈-❈-❈


مكتب طه قدري ...

أخذ يطرق بأصابعه السمراء فوق سطح المكتب وهو يفكر بسبب يجعله يذهب لـ"نظمى" رئيسه بالعمل لمعرفة ما جديد "عهد" بعد سفرها ..


لكنه لم يجد فكرة مناسبة لذلك ليبقى محدثًا نفسه بضيق ..

_ وأخرتها حفضل قاعد مش عارف أى حاجة كدة ، لازم ألاقى صِرفة أعرف بيها كل التفاصيل ، ما هو أنا مش أطرش فى الزفة ...


ليضم شفتيه بقوة طالبًا أحد مساعديه لإستكشاف الأمر دون أن يظهر تدخله فيما لا يعنيه ...

_ ألو ، مساء الخير يا "سامح" ، بقولك إيه ، ما تشوف لي آخر تطورات "عهد" إيه من غير ما حد يحس ....


رغم توجسه من رد فعل "نظمى" إلا أنه يجب أن يعرف كل شئ وبدون تأخير ...


❈-❈-❈


عطارة النجار ...

محل تجاري كبير ذائع الصيت عُلقت أعلاه لافتة كبري كتب عليها إسم "عطارة النجار" تلك الحَسنة الوحيدة التى تلقاها "فخري" من زيجته بإبنة "الجزار" فقد أغدقت عليه بمالها ليكون صاحب هذا المتجر الذى أدره بالمال والغنى ، لكن هذا المتجر أصبح الملاذ والمهرب الوحيد ليبقى بعيدًا عن مسببته ...


حياة رتيبة لا يملك بها أى مصدر للسعادة يدفع بها ثمنًا لحلمه الطامع ببعض المال بقية عمره ليبقى هو والندم حليفان ..


أخذ "فخري" يتابع بعيناه زائرى المحل من هنا وهناك يتعامل معهم العاملون تحت إمرته هو وولده "مأمون" الذى غاب اليوم لسفره لإستلام بعض شحنات العطارة التى قد إستوردها من الهند ...


بينما تقدم "فريد" تجاه والده وهو يتلفت بمقلتيه لهذا وذاك كمن يحسب بداخله المكسب وراء تلك الزبائن بنفس جشعة ، لحق بوالده الذى جلس خلف المكتب دون إندهاش لرؤيته فهو يلحق به بكل مكان ليس حبًا به بل طمعًا بما يملك ..


ضحكة ساخرة أخفاها "فخري" وهو يرى صورة مصغرة من "صباح" بهذا الولد الذى يختلف عن "مأمون" كليًا وهذا ما جعله يُبعده عنه ويترك له بعض الأعمال الفرعية حتى لا يرى شبح خيالها الذى يهرب منه بالبيت بالمحل أيضًا ...

_ إزيك يا حاج ... ده إيه العظمة دى ..


قالها "فريد" ببسمة عريض وترحيب حار ...

_ أهلا يا "فريد" ... 


جلس "فريد" بالمقعد المقابل لوالده ليبدأ بما قد حفظه عن ظهر قلب وقد لقنته به زوجته "حنين" هذا الصباح ليبدأ بملامة معاتبة ..

_ أنا واخد على خاطري منك يا حاج ...


_ خير يا "فريد" ليه بس ؟؟! ... ( قالها "فخري" منتظرًا ما يخبئه إبنه فى جعبته فهو أدرك بفراسة ما قد أتى به اليوم ) .


_ بقى يا حاج أبقى إبنك الكبير وسايب كل الحِمل على "مأمون" بس ، وأنا رحت فين ؟؟!!! ، مش المفروض ترمي حمولك عليا ... ( ثم إستطرد بإشفاق على والده بصورة ماكرة يتصنع المحبة) .. ده لحم كتافي من خيرك يا حاج ونفسي أشيل الحِمل عنك ...


ود "فخري" لو يخرج ضحكته الساخرة من سذاجة ولده الذى يستخف بذكائه وقدرته على الظن بأنه سيخدعه بكلماته الملقنة من زوجته الخبيثة ...

_ ومين اللي قال إنك مش شايل عني .. ( قالها "فخري" يجاريه بحديثه مُعظمًا من دوره بالعمل معه ) ... ده شغل المخازن هو أصل الشغل ولولا إني معتمد عليك كان زمان الناس أكلوني يا إبني ، وخد بالك ده هو ده الأصل عشان كدة أنا حطيتك هناك ...


بطريقة والده المرواغة التى إكتسبها من عمله بالسوق أثبط محاولته بالتمكن من المحل وترك المخزن ليفسد بذكائه الأمر كافة ...

_ زي ما تشوف يا حاج ، أنا بس كان نفسي اريحك وأريح "مأمون" وأشيل الحمل التقيل عن كتافك ...


_ عارف يا إبني هو أنا ليا غيركم ..


حديث مشتت وضيق إستحوذ على ملامح "فريد" فقد توقف عقله عن إيجاد طريقة أخرى لإقناع والده ليلازم الصمت فقد إنتهت الوصلة التى حفظها من زوجته "حنين" برفض والده ..


لم يجد سوى الإحباط مرافقًا له فإضطر "فريد" على العودة للمخازن وعليه التفكير بأمر آخر يجعله يتولى زمام تجارة المحل بدلاً من "مأمون" الذى سيطر على كل ما يخص تجارتهم ومالهم فى الفترة الأخيرة ...


❈-❈-❈


المستوصف ..

أى حياة حتى لو كانت مُثقلةٌ مُتعِبة هي بالتأكيد أفضل من حياتها ببيت النجار ، خلعت "شجن" معطف الممرضات الخاص بها معلنة نهاية يوم عمل مرهق بهذا المستوصف الصغير الذى وجدت به فرصة سيئة للعمل بمجهود كبير وراتب ضئيل لكنه يظل أفضل من بقائها ببيت العائلة دون عمل ...


سترضى بهذا القليل حتى تصل يومًا لغايتها ، هكذا منت نفسها وهي تستعد للمغادرة فقد أنهت عملها ليومها الأول ...


حملت حقيبتها لتعود للبيت سائرة على الأقدام فقد إختارت هذا المستوصف القريب حتى لا تضطر لدفع نصف راتبها الضئيل كأجرة للركوب لعمل بعيد ...


ألقت نظرة متعمقة بتلك المكتبة التى مازالت تفتح أبوابها للعامة قائلة لنفسها ..

_ شكلِك ليكِ نصيب يا بت يا "نغم" أسألك على شغل ، المكتبة لسه فاتحة أهي ...


تقدمت "شجن" لتصعد الدرج البسيط الذى يتقدم المكتبة لتدلف نحو الداخل تبحث عن أحدهم لتسأله ...


وقف شاب هادئ الملامح ذو وجه محدب ممتلئ الوجنتين ذو لحية خفيفة نابته أظهرت لون عيناه العسليتان وشعره القصير مزيج مريح للعين برغم صمته وإنشغاله بترتيب بعض الكتب دون الإنتباه لـ"شجن" التى دلفت للتو ...


رغم ما تشعر به "شجن" من ضخامة إلى جوار أختها "نغم" إلا أن كلتاهما ضئيلتا الحجم إلى جانب هذا الشاب العريض الكتفين طويل القامة نوعًا بالنسبة لـ"شجن" التى وقفت خلف تلك الطاولة المستطيلة الطويلة تنتظر أن ينتبه لها هذا الشاب ...


تحمحمت قليلاً قبل أن تبدأ حديثها ...

_ إحم ، السلام عليكم ...


رفع الشاب عيناه تجاه تلك الزائرة التى حدق إليها لبعض الوقت مضيقًا عيناه كمن تذكر شيئًا أو يحاول التعرف على تلك الدخيلة التى إقتحمت هدوء المكان للتو ..


رفع هامته وهو يرسم بسمة خفيفة جافة ..

_ وعليكم السلام ، تحت أمرك ...


_ لو سمحت كنت عايزة أسأل لو محتاجين حد يشتغل معاكم هنا فى المكتبة ، أنا أختى خريجة أداب مكتبات وبتدور على شغل ...


قالتها كلها بعبارة واحدة فلا طاقة لها بالسؤال والحديث بعد يوم مُنهِك لتنتظر إجابة هذا المتشدق بعيناه تفاجئًا لوهلة وهو يتفكر قليلاً ثم أردف بهدوء رافقها بسمة شفتاه الجانبية ...

_ خريجة مكتبات ، طب تمام ، خليها تيجى يوم السبت نشوف ، ممكن يكون فيه شغل مناسب ، بلاش بكرة عشان إحنا بنقفل الجمعة ...


تفاجئت "شجن" بتلك السهولة لتتمتم بصوت خفيض للغاية ...

_ شكلها متسهلة يا بت يا "نغم" ... ( لتعلى من صوتها بإمتنان) .. عمومًا شكرًا ، حخليها تيجي السبت ، أقولها تيجي لمين بقى ؟!!


قالتها لتحاول معرفة هوية هذا الشخص الذى وافق على عمل لأختها ليجيبها مُعرفًا بنفسه بذات الرزانة والهدوء ...

_ "بحر" ... إسمى "بحر" صاحب المكتبة ...


بإيمائة خفيفة وهى تقلب بمقلتيها بداخل المكتبة الكبيرة التى تحتوى على العديد من الكتب تخفى إندهاشها لإمتلاك هذا الشاب للمكتبة كاملة فقد ظنت أنه مجرد عامل بها فعمره لم يتجاوز الثلاثون بعد لتردف بالنهاية ...

_ تشرفنا ، السبت الصبح إن شاء الله حتكون أختى "نغم النجار" عند حضرتك ... سلامو عليكوا ...


_ وعليكم السلام ...


أنهت جولتها القصيرة بسؤالها عن العمل لتعود للبيت فقد لاح النوم والإرهاق بها وحان وقت الراحة بعودتها ...


❈-❈-❈


ماذا لو إختفت المتضادات وأصبح الإنسجام وفاق ، لكن كيف يتجاذب قطبي المغناطيس فمن شأنهما أن يتنافرا ...


لكل طرف قوة وغرور طغت بإكتساح على بقية صفاتهم ليبقى فقط المغالاه فى القوة وإثبات الأحقية والصمود ...


هبطت "عهد" درجات السلم الخشبي للكوخ لاحقة بالشقراء "كاتينا" وهي تتطلع بتمعن بهذا الوجه الذى يتفحصها بدوره دون إثناء لمقلتاه البراقتان عنها ...


بها شئ من الغموض والقوة ما أثار هذا الذى لا يحركه ساكنًا ، رغم إستيضاح ملامحها الناعمة التى أخفتها من قبل خلف ملابسها السوداء وطريقتها الجافة ولسانها اللاذع إلا أن بعيناها العسليتان لمعة إخترقت شئ بداخله لا يدرى ما هو بعد ...


لم يكن "معتصم" يسترق النظر بل كان يحدق بقوة يحاول إكتشاف تلك الغريبة التى إقتحمت حياته وخلوته مع صديقته دون سابق إنذار ...


شعرها أسود كـ ليل لم يخاله القمر بشرتها ناعمة رغم صلابة تعبيراتها أنفها دقيق ذات وجنتان عريضتان مثيرتان للغاية ، تقدمت نحوه بهدوء لم تنحي هي نظرها كذلك عنه لتتحول نظرات الإستكشاف بين كلاهما لحرب ضارية كأشد المتنافسين دون بدء لأى تحدي أو مسابقة ...


فقط نفوسهم جعلتهم ينظر كلاهما للآخر بندية كمن بُدأ الحرب بينهم للتو وعلى كل منهم إثبات قوته وشراسته للآخر ...


حرب نظرات لم تعلم "كاتينا" عنها شيئًا وهي تتقدم "عهد" قبل أن تجلس بالمقعد الجلدي أولاً ثم تطلب من "عهد" الجلوس ...

_ تفضلي "آهد" ...


بحركة فمها الممتعضة تمتمت "عهد" أثناء جلوسها ..

_ هده لما تهدك يا بعيده ...


رفع "معتصم" حاجبه مستنكرًا لذاعة لسانها التى لا تكف عنها مطلقًا ...

_ هو إنتِ لسانك ده إيه ، مبرد ...!!!


عقصت أنفها بتقزز غير مبالية بنقده لكلماتها قبل أن تجيبه بنوع من الشراسة ...

_ حد كلمك ؟! أنا بكلم "كاتينا" ...


_ ده على أساس هي فاهمة إنتِ بتقولي إيه ...؟!!


قالها متهكمًا لا يرضى بأن يتقبل طريقتها المستفزة لتتحول "عهد" بإبتسامة صفراء تجاه "كاتينا" قائله ...

_ سعيدة للغاية بوجودي معك "كاتينا"...

( ثم إلتفت نحو "معتصم" ساخرة ) ... ها حلو كدة يا ..."ماوصي" ..( قالتها بإستهزاء من الأسم الذى تطلقه عليه "كاتينا" ) ...


شخصية متفرده تستفزه بوجودها وكلماتها التى لا تتناسب مع نبرة صوتها العذبة ، كيف يكون المرء نقيض نفسه ، كيف لها أن تكون ناعمة وجافة ، رقيقة ووقحة ، كيف هناك فتاة إستثنائية مثلها بالكون ...


زفر بتملل وهو ينحي عيناه عنها ليرتاح صدره المضطرب من وجودها المستفز ليقطع صوت "كاتينا" الناعم تلك الأجواء المشحونة بين كلاهما بسؤالها لـ"عهد" ...

_ كيف أتيتِ إلى هنا "آهد" ...؟!!


بتذمر من نطق إسمها بتلك الطريقة ...

_ يا دي "آهد" "آهد" مش حنخلص ...


أعاد "معتصم" جزعه للخلف وهو يضع ساقه الطويلة فوق مثيلتها ثم لمس بسبابته ذقنه النابتة بطريقة خلابة للغاية كادت تفوه بها "عهد" لوسامته الخشنة ذات التعمق الرجولي الفريد ثم أطلق سخريته منها لتتناسى ما تراه من وسامته ليحل الغيظ مكانها ...

_ معلش أعذريها ، أصلها بنت وبتدلع ، هم أصل البنات كدة طريقتهم ناعمة ...


بالعادة لا تتأثر بتلك الأراء والإنتقادات التى توجه لها وسخرية البعض من خشونتها وجفائها ، لكن لسخريته الآن مذاق مختلف ، سخرية أثارت ضيقها وحنقها بصورة قوية ، لتجعلها تدافع عن نفسها وأنها أيضًا أنثى كمثيلاتها ويمكنها أن تكون بتلك النعومة لتستطرد حديثها ببعض اللين ...

_ لقد كنت برفقة البعثة الجيولوجية لدراسة طبيعة المنطقة هنا ..( لكن سرعان ما عادت لخشونتها بإضطراب فمن هذا الذى سيخرج الأنثى من داخلها ، فلا أحد يستحق ذلك ) ... لكن الطقس فرق بيننا ولم أستطع الوصول إليهم ، هذا كل شيء ...


أومأت "كاتينا" بتفهم لتستكمل حديثها مع "عهد" أثناء تحضير الأطباق لتناول الطعام ...

_ هل أنتِ خبيرة بالتربة وهكذا ...؟!!


أسئلة سطحيه جاوبتها "عهد" بإقتضاب مستكملة مجرى الحديث برفقة مستضيفتها لا أكثر بينما إلتزم "معتصم" الصمت بدون تدخل مما أثار بعض الإرتباك لدى "عهد" على صمته منذ بداية حديثها مع "كاتينا" متسائلة من داخلها على سبب تراجعه عن هجومه وإلتزامه الصمت بهذه الصورة ..


هل قامت بشئ ضايقة ليتجنبها ، أم هذا طبعه ؟؟! لتسارع بنهر نفسها عن الإنسياق خلف نظرة إعجاب أو إنتظار تعلق ولو بالهجوم منه ( فيه إيه يا "عهد" ، يطلع مين يعني إللي تهتمي إنه يكلمك ولا ينتبه لك !!! فوقي لنفسك ..) 


قالتها رغم إستراقها للنظر إليه من وقت لآخر تتأكد بأنه يستمع وينصت لحديثها مع "كاتينا" ، بينما إنشغل هو بتناول طعامه الذى وضعته "كاتينا" أمامه متصنعًا عدم الإهتمام ..


إرتجافات عكسية بداخل نفس واحدة ، لحظة تريد ما ترفض ولحظة ترفض ما تريد ، متناقضة مترددة ، بل مشتته ..


إختبار قوى وضعت به لم تكن أبدًا تتجهز له ، لقد إعتادت على حياتها القاحلة التى لا يُجذب بها إنتباهها لأى شئ لم فجأة أصبحت مهتمة بأن تسترق هذا الإهتمام ، وممن ؟!! من هذا الرافض لوجودها والذى يراها متوحشة متطفلة بينهم ...


دقائق بين تفكير ورفض وتردد و ملامة لنفسها قطع سبيل هذا التشتت سؤال واحد تراود لذهنها ، لماذا هما هنا سويًا ؟!! وماذا يقرب لتلك الشقراء ليسكنا هنا بمفردهما ؟!!


حاولت التحلي بنفس الثبات وهي تسأل "كاتينا" لإستنباط مدى قربهما من بعضهما البعض ...

_ آسفة حقًا على إزعاجكم ، فأنتِ وزوجك بالطبع لم تريدا مشاركة وقتكما مع غريبة هنا ؟!!

رواية بقلم قوت القلوب رشا روميه

قالتها تتطلع لإجابة تريح فضولها الذى أثير بدون داعي لمعرفة وجه صلتهم ببعض البعض كما لو كانت تناست كل ما بحياتها وأصبح هو إهتمامها رغم أنها لم تعرفه سوى منذ بضعة ساعات ...

رواية بقلم قوت القلوب رشا روميه

قبل أن تجيب "كاتينا" أطلقت أولاً ضحكتها الرقيقة التى إشمئزت منها "عهد" لكنها أخفت ذلك خلف إبتسامتها المزيفة ، ثم أجابتها وهي تنظر تجاه "معتصم" المدعي الإنشغال بوله ...

_ إننا لسنا زوجين ، نحن صديقان فقط ، جئنا برحلة وإستأجرنا هذا الكوخ لقضاء عطلتنا ، للتقرب أكثر من بعضنا البعض ، ثم سنعود بعدها للمدينة ، أليس كذلك يا عزيزي ؟!!


بدورها إلتفت "عهد" تتأكد مما تقول تلك المقززة بالنسبة إليها ، تشدقت بإهتمام أخفته على الفور قبل أن يلاحظه "معتصم" الذى مال ثغره ببسمة خفيه سرعان ما أخفاها فقد عادت الكُرة إلى ملعبه مرة أخرى لإستفزاز تلك الوقحة ...


رغم أن تلك ليست طريقة تعامله مع "كاتينا" إلا أنه رفع مقلتيه اللامعتان بوله تجاه الشقراء التى كانت تطالعه بنظرات متيمة تكاد تتقافز القلوب من حولها ، ليجاريها أيضًا بإستفزاز لمشاعر تلك المترقبة كما لو كانت هي المقصودة من حديثه وليس صديقته ...


بسمة أشرقت عن جاذبية تطيح بقلوبهن لتظهر وسامته بشكل طاغي زادها بنبرة حانية من صوته الشجي أطاحت ما تبقى من تماسك بقلب "عهد" حديث الرجفة الذى لم يعتاد على التعامل بالمشاعر والأحاسيس ...

_ نعم حبيبتي ، نحن بعطلة جميلة معًا لم يفسدها علينا سوى ... زائرة العاصفة ...


نالتها نظرة بنهاية حديثه يترقب بها ردة فعلها حين تهدج صدرها بإنفعال وهي تكز على أسنانها بغيظ ساحبة طبقها لتناول هذا الطعام الذى قد حضرته "كاتينا" لتفرغ به إضطرابها وإستفزازه لها ...


إبتسم "معتصم" بخفة وهو يطالع ضيقها الذى لاح بقوة على قسماتها ، ليسند جذعه للخلف بغرور مستمتعًا بتلذذ بضربته الجديدة فيبدو أن تلك العُطلة ستكون ممتعة للغاية منذ الآن فصاعدًا ...


لم تنتبه "كاتينا" لكل تلك الضربات التى يسددها كل منهما للآخر وإكتفت بتناول الطعام والتفكير بعطلتها مع "معتصم" بمنتهى السطحية ...


إنقلبت ملامح "عهد" بإمتعاض وهى تلوك الطعام بفمها فمذاقه سيئ للغاية لتغمغم بصوت يكاد يُسمع ..

_ عالم ملزقة وأكلكوا وحش ، إيه القرف اللي بتاكلوه ده ، ناقصة قرفكم هي ، جاتكوا وجع البطن ...


إعتقدت أن كلاهما لم ينتبه لما تتمتم به ما بين لقمة و الأخرى بينما بالكاد إستطاع "معتصم" إجبار نفسه على عدم إطلاق ضحكته على نفورها وإمتعاضها من مذاق الطعام الذى يدرك مدى سوئه ، فـ"كاتينا" ليست طباخة ماهرة وهو لا يدري شئ عن الطعام وإعداده ليتحمل مُكرهًا تناول هذا الطعام ...


لكنه مع ذلك إستمتع للغاية بتلك الوجبة وهو يشاهد ملامح الإمتعاض بوجه "عهد" التى سرعان ما توقفت عن تناول الطعام مدعية الإنتهاء منه ...

_ شكرًا ( قالتها على مضض رغم تقوس شفتيها بإستياء من هذا الطعم الغير مستساغ ، ثم أردفت) ... سأذهب للنوم ...


بدون إنتظار أو حتى تحية للمساء فيكفيهم ما صبرت له طوال هذا اليوم بتحمل البقاء لطيفة قدر الإمكان صعدت نحو الغرفة العلوية تاركة "معتصم" و "كاتينا" يقضيان سهرتهما التى مازالت لم تبدأ بعد ...


لم تلاحظ تلك العيون التى تابعتها حتى إختفت أعلى السلم ليترك بسمته بأريحية على محياه دون سبب واضح لكنها بالتأكيد لها يد بذلك ...


❈-❈-❈


بذات المساء وقد غطى ستار الليل الأسود لتبدأ ليلة شتوية جديدة ، ليلة مازالت بأولها خاصة لتلك المعتادة للسهر ...


إرتشفت "غدير" رشفة بإستمتاع من كوب الشاي بالنعناع كما تحب وهي تغمض عيناها تميل برأسها الصغير لتتمايل معه خصل شعرها الكستنائي المموج ...

_ يا سلام عليكِ يا بت يا "دورا" ، ده أنا عليا كوباية شاي ولا أجدعها قهوجي ...


لحقتها "مودة" بإرتشافها من كوبها تشاركها نفس الإستمتاع بنفس راضية قنوعة كأختها تمامًا فكلتاهما لا تتمنى أكثر مما هما به مجرد وجودهم سويًا يكفي ...

_ والله في دى عندك حق ، كوباية الشاي بتاعتك عظمة ...


_ أمال يعني خالو "منير" مجاش النهاردة يطمن عليكِ ؟!!


سؤال عفوي من "غدير" لاحظت له تكدير صفو ملامح "مودة" الناعمة لتجيبها أختها برفع كتفيها للأعلى ثم أهدلتهما وهى تقلب شفتيها ببعض الضيق ...

_ ولا أعرف ، بس إيه الجديد يعني !!! 


_ ليه ؟!! هو مش المفروض بيعدي عليكِ كل يوم زى ما كان بيعدي علينا زمان قبل ما أتجوز ؟!!


لم تشأ "مودة" أن تسبب ضيق لـ"غدير" وتخبرها أنه قد يمر عليها الأسبوع كاملاً دون أن يدري أحد عنها شيئًا وأن خالهما "منير" لا يمر بها كما كان بالسابق ، لتكتفي بإختلاق أعذار دون الإقتناع بها حتى لا تسبب قلق "غدير" عليها ...

_ أصله مشغول شوية فى الشغل وساعات بيسافر ، لكن وهو هنا بيعدي عليا على طول ...


ببعض الطمأنينة أومأت "غدير" برأسها لتغير مجرى حديثها وهي تحرك حاجبيها لأعلى وأسفل بشقاوة ...

_ طب سيبك من خالك وعياله ومراته دلوقت ، أنا إفتكرت إنى أقولك حاجة مهمة ، حذري فزري هي إيه ؟!!


_ إيه ؟!!


قالتها "مودة" بقلة صبر ، لتقتضب "غدير" بطرافة معقبة ...

_ ما تفكري وتشغلي الرز بلبن اللي جوه دماغك ده ...


فلطحت "مودة" شفتيها وهى تعيد جذعها للخلف ممدة ساقيها القصيرتان بتعجرف مازح ...

_ مش عايزة أتعب أفكارى ، قولي على طول ...


_ بايخه ... طيب أمري لله ، إنتِ بكره معزومة عن الداكتوووورة حماتي ، هي أصرت تيجي عزومة الجمعة بتاعة العيلة ...


تهدج صدر "مودة" بقوة لتعتدل بسعادة تجلت بشكل ملحوظ على ملامحها البريئة ...

_ قولي والله ، أنا معزومة عند حماتك ، وحقضي اليوم معاكم هناك ...


أشفقت "غدير" على حال أختها ووحدتها ، ألهذه الدرجة تشعر بالوحدة حتى تسعد بدعوة لتناول الطعام برفقة أهل زوجها ...

_ اه يا بطتي ، حتقضي معانا اليوم كله ...


زمت "مودة" فمها الصغير بسعادة ليتراقص قلبها فرحًا لتلك الزيارة التى لم تكن متوقعة إطلاقًا ، لترتشف بقية كوبها تخفي به إضطرابها وتوترها بسبب تلك الدعوة ، بينما إستعدت "غدير" للمغادرة فعليها العودة قبل عودة "عيسى" من مكتب المحاماة خاصته ...


❈-❈-❈


مكتب عيسى للمحاماة ...

بعد نهاية يوم عمل بدأ منذ الصباح الباكر بالمحكمة يتابع "عيسى" عمله بمكتبه الخاص حتى المساء بروتين يومي إعتاد عليه منذ سنوات ..


أوشك اليوم على الإنتهاء وهو يستكمل الإطلاع على أوراق إحدى القضايا التى وكل حديثًا للترافع عن صاحبها بتركيز شديد وجدية تامة ...


هكذا هو "عيسى" شاب مستقيم جاد يتمتع بقوة وحزم جعل جميع من يتعاملوا معه يكنون له كل توقير و إحترام رغم صغر سنه بمجال المحاماة والترافع بالمحاكم ...


بذكائه وقدرته الفائقة على إيجاد الثغرات بالقضايا إستطاع إظهار إسمه الخاص وذاع صيته بحقل المحكمة بعيدًا عن صيت والده أو أحد من أخوته فقط أعلى إسم (عيسى دويدار) ...


بدون إنتباه سوى لما يقرأه فقط جلس بهدوء شديد خلف مكتبه يدون بعض النقاط بأحد الأوراق الخاصة بالملاحظات ، لم ينتبه لتلك العيون المترقبة خارج المكتب تنتظر أى لفته منه ...


جلست "سندس" المساعدة بمكتب "عيسى" بهيام تستنشق عطره الذى دغدغ أنفها بوله تسارعت له ضربات قلبها لو ألقى إليها بكلمة لوقعت صريعة هذا الـ"عيسى" دون مبالغة لتستند بكفها فوق وجهها المستطيل الممتلئ لتظهر ملامحها بوجه مستطيل وأنف مستدير وعينان واسعتان باللون البني الداكن وشفتان عريضان للغاية ...


تشدقت بآذانها تنتظر فقط دعوة منه إليها لأى مناقشة تسعدها بتواجدها إلى قربه ، هل يمكن أن يميل القلب من طرف واحد ، أم أنه يميل إليها أيضًا دون إظهار ذلك ، لكن كل هذا لا يهم فيكفيها عذوبة هذا الإحساس الذى يجعل قلبها ينبض و يشعر بالحياة ...


-أستاذة سندس ... 


صدح صوته الشجى ينادى بإسمها ليتراقص له قلبها طربًا حين خرجت حروف إسمها من بين شفتيه لتهيم به تذوب عشقًا بهذا الرجل الذى لا مثيل له قائلة لنفسها ...

_ ما بلاش أستاذة دى ... (ثم أجابته تلبى ندائه على الفور) .. أيوة يا أستاذ "عيسى" ...


وقفت تتلمس تنورتها وكنزتها أولاً تطمئن على مظهرها قبل الولوج إليه تبعتها بترتيب لخصلات شعرها البنية بأطراف أصابعها قائلة بهمس ...

_( جيالك يا روحي) ..


تقدمت نحو داخل مكتب "عيسى" لتطرق الباب أولاً لكن خاب ظنها حين أجابها دون أن يرفع نظره تجاهها ..

_ إتفضلي يا أستاذة ...


زمت شفتيها بإستياء فقد ضاع تأنقها اليوم سدى فهو لم ينظر حتى الآن إليها فقد إختارت اليوم تلك الملابس الضيقة التى تبرز جسدها المكتنز ربما تلفت نظرة ولو لمرة واحدة لكن كل ذلك يضيع كدخان فى مهب الريح ككل مرة ...


لكن ذلك لن يثنيها عن المحاولة مرة تلو المرة فهي أحق به من تلك الـ"غدير" ، حتى لو تقاسمته معها فهي لن ترفض ذلك مطلقًا ، فقط يأشر لها بالموافقة وستسارع هى بمشاركتها إياه ...


حاولت الترقق من نبرة صوتها قائلة ...

_ أمرك يا أستاذ "عيسى" ..


_ عايزك تحضرى لى العريضة دى قبل ما أمشي عشان أراجعها ، ويا ريت ميكونش فيها أخطاء زى إللي فاتت ...


قالها دون رفع نظرة نحوها لتحاول جذبة بذات النبرة الناعمة ...

_ أكيد حاضر ...


ثم مالت بجذعها للأمام قليلاً قائلة ...

_ تؤمر بحاجة تانية ...؟!


شعر بالميوعة بتصرفاتها ليرفع وجهه المتجهم تجاهها يرمقها بنظرة لاذعة محدجًا إياها بقوة قبل أن يردف بحدة ..

_ يا ريت نتعدل شوية ...


طريقته الحادة جعلتها تضطرب لتعتدل بوقفتها وهي تؤمئ بالإيجاب ...

_ تمام ... بعد إذنك ..


كلمات مقتضبة ونظرات لاذعة هي ما تتلقاها منه لكنها تعشقها وتطلب منها المزيد فهي رغم ذلك يخصها بها وحدها فقد تملكها هذا الحاد حتى بجموده ...


❈-❈-❈


أخبار سعيدة ستنهى بها الليلة بعدما تزف لأختها خبر تحصلها على عمل لها بالمكتبة لتدلف إلى داخل الحي متخذه خطواتها الفرحة تجاه بيت النجار فـ"شجن" سعيدة للغاية بهذا الخبر الذى ستزفه لأختها وأمها فربما يكون ذلك حافز لإنتقالهم من هذا البيت قريبًا ويتخلصوا من زوجه عمها وأبنائها ...


بزاوية مظلمة للغاية وقفت "روايه" تحدق بعيناها السوداوتين اللامعتين بتلك القادمة تجاه البيت دون الإنتباه لها ، تطالع بعيون حاقدة تلك البسمة على وجه إبنته عمها التى يبدو أنها تشعر بالسعادة بعكسها هى التى لا تتلقى سوى الضيق فقط ...


لو كانت لنظراتها أيدي لكانت تمتد الآن لعنق إبنة عمها تشفي غيظها منها ومن أختها وأمها بعد ...


لم تترك عينا "راوية" متابعتها لـ"شجن" حتى دلفت للتو لداخل البيت لترفع عيناها للأعلى وقد زاغت بتشتت لأفكارها التى لا يعلمها سواها ..

يتبع 


تعليقات