القائمة الرئيسية

الصفحات

الأخبار[LastPost]

ندوب_الهوى الفصل_الثاني والتالت بقلم ندا_حسن


ندوب_الهوى

الفصل_الثاني والتالت 

بقلم ندا_حسن

الفصل الثاني 

"الغيرة ليست تقيد حرية، بل هي أكبر دليل على الحُب" 


اتكأ "جاد" على السور بكفيه وانحنى بجذعه قليلًا، نظر إلى الأسفل ليراه يقف والهاتف على أذنه منتظرها أمام الباب، رفع حاجبه الأيمن وهو ينظر باستنكار لما يحدث في هذا الوقت، نظر إليها بنصف عين وقد كان يريد أن يرى تعابير وجهها إلى ماذا تشير..


أغلقت الهاتف وأنزلته من على أذنها تنظر إليه بتوتر فقد وضعت نفسها بموقف سخيف أمامه، ماذا سيقول الآن بعد أن رأى هذا المشهد ولم تكاد تنهي النقاش معه؟..


أردف بجدية شديدة خرجت منه بنبرة رجولية متسائلًا:


-ايه جابه هنا الواد ده؟


ابتلعت ما بجوفها وهي توزع نظراتها في جميع الاتجاهات تضغط على يدها بشدة لتخفف من حدة توترها الذي كان يزداد:


-نسيت كُتب في العربية وهو جيبهالي 


تنفس بعمق وتقدم منها وهو يشير بيده إلى الخلف قاصدًا ذلك الأبلة الذي ينتظر في الأسفل:


-وهو مكانش يعرف يديهم لأخته ولا هو في ايه؟..


دققت النظر بعينيه باستغراب مضيقة ما بين حاجبيها محاولة أن تفهم ما الذي يقصده بذلك السؤال الغير مريح بالنسبة إليها، تحدثت متسائلة بحدة:


-يعني ايه في ايه؟.. تقصد ايه بسؤالك ده؟


أبعد نظره عنها شاعرًا أنه قد تمادى في حديثه وذلك السؤال الذي يشير إلى شيء واحد، ذهب تاركًا إياها خلفه وتحدث وهو يتجه إلى الباب ليذهب إلى الأسفل:


-خليكي هنا هجبلك الكُتب منه ماينفعش تقابليه دلوقتي الناس رايحه وجاية في الشارع 


جلست على المقعد بعد أن تركها وذهب تفكر في هذا الوضع الذي وضعت نفسها به، لماذا جعلته يقوم بتوصيلها من الأساس هي لا تفعل ذلك أبدًا، والآن أتى إلى المنزل أمام الحارة بأكملها.. 


لو لم يكن "جاد" يحضر ذلك الموقف ماذا كانت ستفعل؟. كان من المستحيل أن تخرج له وشقيقها في المنزل فهو يقف على حافة الانتظار ليجعلها تفعل ما يريده ويلقي بها في وادي به ذئب واحد يقتلها في غمضة عين..


-اتفضلي


رأت الكُتب على الطاولة أمامها بعد أن ألقاها "جاد" أمامها بقوة، رفعت عينيها تنظر إليه بخجل وقد أرادت التحدث بعد أن وقفت على قدميها..


لكنه لم يمهلها الفرصة، وجدته يتحدث بضيق وهو يشير إلى الأشياء الذي توجد على الطاولة تخصها قائلًا تلك الكلمات التي قالتها سابقًا وكأنه يرد الصفعة إليها:


-يلا خدي حاجتك وانزلي.. مايصحش حد يشوفنا كده 


نظرت إليه بحدة وقد احترق قلبها من هذه الكلمات التي قالها بجدية شديدة ليس بسخرية أو مزاح، أخفضت نظرها عنه، ثم وقفت وأخذت أغراضها بحدة ثم ذهبت من أمامه لتهبط إلى الأسفل دون أن تنظر إليه مرة أخرى..


فعل هو الآخر مثلها، نظر إلى السماء وأخذ نفسًا عميقًا ثم ذهب خلفها ليهبط إلى منزله.


                            ❈-❈-❈


ولج إلى داخل شقتهم ومن ثم إلى غرفته، أزال عنه حذائه وصعد ممددًا على الفراش، وضع يديه الاثنين أسفل رأسه ونظر إلى سقف الغرفة شاردًا في حوار دار بينه وبين والده وقد كان قبله تغمر الفرحة قلبه معتقدًا أن ما يريده سيحدث ولكن ألن يقولوا تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن؟..


"قبل شهرين"


"ذهب جاد من الورشة في منتصف النهار وترك العاملين بها، متوجهًا إلى أحد محلات الذهب الخاصة بوالده وعمه، كان يعلم أن والده متواجد به الآن..


بعد أن فكر كثيرًا وجد أن عليه التحدث مع والده لكي يأخذ إذنه ورضاه على ما يريد فعله ولم يكن يتوقع ما حدث أبدًا..


سار بثبات وقوة في الحارة وقلبه يبشره بالخير والسعادة ووجهه مبتسمًا لكل من يقابله، حتى "مُسعد"!.. ابتسم لـ "مُسعد" الذي لا يطيقه أبدًا ويعلم أنه أيضًا لا يحبه..


ولج إلى محل والده ملقيًا السلام على العاملين به ومن ثم توجه إلى مكتب والده في الداخل، ألقى عليه السلام ثم جلس على المقعد أمامه مبتسمًا بهدوء..


تحدث والده "رشوان" متسائلًا وهو يشبك يديه على المكتب أمامه مبتسمًا:


-ايه يا عم جاد سر القعدة الغريبة دي 


أخفض "جاد" نظره مبتسمًا ثم نظر إلى والده بثبات وهدوء وتحدث قائلًا بنبرة رجولية:


-ولا سر ولا حاجه يا حج 


أردف والده مرة أخرى بخبث وفي داخله استنتج ما الذي يريده:


-لأ فيه سر، طلما البشمهندس جاد قالي أنه عايز يتكلم معايا في حاجه مهمة يبقى فيه سر 


استدار لينظر إلى والده عن قرب وبوضوح وأردف قائلًا بنبرة هادئة:


-يعني زي ما تقول كده إني فكرت في الموضوع اللي بتزن عليا بيه 


وقف والده على قدميه بعد أن استمع إلى كلماته والتي كان يعلمها جيدًا، ظهرت الفرحة عليه بوضوح وذهب ليجلس أمامه على المقعد، وضع يده على فخذه قائلًا بابتسامة عريضة:


-يا ألف نهار أبيض يا عم جاد، ندور على العروسة بقى 


-لأ مهو أنا عندي العروسة


ضحك والده بصوتٍ مسموع وتحدث قائلًا بمكر غامزًا له:


-قول كده بقى.. أنت فكرت في الجواز علشان عندك العروسة مش علشان أنا بزن عليك، مين بقى العروسة؟. حد نعرفه؟


ابتسم "جاد" قائلًا بجدية وهو يدقق النظر بعيني والده:


-عز المعرفة 


وجد والده مضيقًا ما بين حاجبيه مطالبًا بإجابة ليعرف من هي فهتف قائلًا:


-هدير بنت سامي الهابط الله يرحمه 


وقف والده على قدميه في نفس الثانية التي استمع فيها إلى اسم "هدير" ابنة الرجل الذي كان يعمل لديه هو وشقيقه، استغرب "جاد" من تصرف والده الغير متوقع ودق قلبه بعنف ولكن لم يدم هذا الحال طويلًا حيث أنه هتف قائلًا بجدية وحزم:


-لأ.. هجبلك ست ستها لكن البنت دي لأ


وقف "جاد" هو الآخر خلف والده بعد أن أعطاه ظهره متحدثًا بذهول واندهاش من رفض والده الذي لا يوجد له أي أساس:


-ليه يا حج مالها هدير.. أخلاق وأدب وعارفة ربنا والحارة كلها تشهدلها بكده وبعد موت أبوهم أنتَ اللي كملت تربيتهم، ولا أنتَ تعرف حاجه أنا معرفهاش؟ 


أردف والده مُجيبًا إياه بضيق وانزعاج قائلًا:


-الحق يتقال البنت محترمة والكل يشهدلها وأختها كمان... هو بس أخوهم اللي حاله مايل


ذهب "جاد" ليقف أمام والده يريد مواجهته ليعلم منه لما ذلك الرفض، وقف أمامه متسائلًا بجدية وملامح وجهه معقدة:


-اومال ايه يا حج؟.. رافض ليه 


نظر إليه والده بحدة شديدة متحدثًا بحزم وجدية:


-علشان دي متنفعش جاد الله رشوان أبو الدهب، جاد ابني جاي بعد تسع سنين وبقى مهندس قد الدنيا وألف واحدة تتمناه أروح اجوزه واحدة أنا بعطف عليها علشان أبوها كان شغال عندي، كان صبي.. اجوزه واحدة اتمرمطت في المحلات بين الرجالة وهي بتشتغل 


أجابه "جاد" بحدة هو الآخر وقد ازعجه حديثه عنها والذي لا يعني له أي شيء وليس له أي أساس غير أنه يزيده شرفًا لتكون زوجته:


-جاد الله رشوان أبو الدهب اختار دي يا حج مش عايز الألف واحدة اللي بتقول عليهم، وبعدين هي أي ذنبها أن أبوها مات وسابهم على الحديدة مهي كانت بتشتغل علشان محدش يمد أيده ويديهم وأنتَ عارف أنها كانت بترفض تاخد منك أي حاجه وأنتَ كنت بتدي الحسنة لأمها من وراها، يعني بنت شريفة ومعاها كرامتها وهي دي اللي أنا عايزاها 


نظر إليه والده بغضب وعصبية ولأول مرة يستمع إلى صوت ابنه هكذا يتحدث معه بهذه الحدة والعصبية، فازداد غضبة ورفضه لها، أنه لا يريد هذه لابنه بل يريد أخرى يكن لها حسبها ونسبها ويتشرف بأن يجعلها أم لاحفاده، تحدث قائلًا بجدية ونبرة لا تحتمل النقاش:


-وأنا قولت اللي عندي يا جاد الله.. عايز تتجوز اختار أي واحدة إلا دي، وأنا عارف إنك مش هتعصى أمري لأن ده ابني اللي ربيته"


عاد جاد إلى واقعه مرة أخرى وأبعد نظرة عن سقف الغرفة ثم جلس على الفراش ومسح على وجهه بكف يده، وقف على قدميه وفتح باب الغرفة ليذهب إلى المرحاض...


خرج بعد دقائق منه بعد أن توضأ، دلف غرفته مرة أخرى وأخذ سجادة الصلاة من على المقعد الذي بالغرفة، وضعها على الأرضية باتجاه القبلة ثم وقف ليصلي إلى الله متقربًا منه داعيًا في صلاته بأن يرزقه الله تلك الزوجة التي اختارها قلبه...


جلس على سجادة الصلاة بعد أن أنهى صلاته رافعًا يديه إلى الأعلى يدعي ربه بصوتٍ خافض مُنهك:


-اللهم أنك تعلم ما في خاطري فحققه لي إن كان خير وأنتَ تعلم وأنا لا أعلم، اللهم أجعل قلبي يخفق بحبها دائمًا وأجعلها لي في الدنيا والآخرة


شعر أن عينيه تُدمع وحدها عندما تذكرها، وأتى على خاطرة كم من مرة استمع أن هناك من تقدم لخطبتها، وضع يده على وجهه متحملًا على نفسه مانعًا عينيه من ذرف الدموع، وتحدث بنبرة خافتة داعيًا من داخل قلبه:


-اللهم أجعلها من نصيبي عاجلًا غير أجلًا، اللهم أجعل قلب والدي يرق ناحيتي فلا استطيع تركها ولا استطيع عصيانه، اللهم إني اتيتك عبدًا مذلولًا فلا تردني إلا مجبورًا، اللهم تقبل مني دعائي..


مسح على وجهه بيديه الاثنين ثم وقف ورفع سجادة الصلاة من على الأرضية واضعًا إياها على المقعد مرة أخرى متوجهًا إلى فراشة ليتمدد عليه متمنيًا أن تتحقق دعواته التي يدعوها في كل صلاة..


                            ❈-❈-❈


بعد أن دلفت "هدير" إلى شقتهم ولجت إلى غرفتها أغلقت نافذتها وأزالت عنها حجابها وعباءتها المنزلية الفضفاضة ثم ولجت إلى المرحاض وخرجت منه بعد أن أعادت الوضوء، ذهبت إلى غرفتها مرة أخرى، وارتدت إسدال الصلاة بحجابه، وضعت سجادة الصلاة على الأرضية لتصلي نوافل متقربه بها من الله..


أنهت صلاتها وجلست القرفصاء على سجادة الصلاة تُختم مسبحة على يدها عدة مرات متتالية..


رفعت وجهها إلى الأعلى وأمامه يديها متحدثة وعينيها تريد أن تأتي بما في داخلها:


-يارب، يارب أنتَ اللي عالم بحالي وغني عن سؤالي، يارب ريح قلبي أن كان حبه هيفضل يعذبني... يارب انزع حبه من قلبي أن كنت هبقى من نصيب غيره..


خرجت دموعها بعد تلك الكلمات التي تحدثت بها عن كونها ستكون لغيره من الرجال، هتفت وهي تنتحب ببكاء شديد قائلة:


-يارب مش عايزة غيره جاد الله رشوان أبو الدهب، يارب اكتبني من نصيبه واكتبه من نصيبي... أنا شيفاه من فترة مهتم بيا وشاغله تفكيره وعلى طول حاسه إنه مركز معايا يارب لو اللي في بالي صحيح اديني إشارة عرفني بيها أنه بيحبني..


أزالت دمعاتها بكف يدها وعادت مرة أخرى تدعي قائلة بابتسامة زينت شفتيها ومازالت الدموع تخرج من مقلتيها: 


-يارب أنت الغفور الرحيم وأنا عارفه أنك مش هتوجع قلبي وعارفه أن كل شيء بـ أوان، بقالي سنتين بحبه وأنا ساكته وبصاله من بعيد، يارب يحس بوجودي ويريدني ليه زوجة صالحة.. 


-كلامي مش مترتب ولا عارفة أقول ايه بس كل اللي عايزاه إني أكون من نصيبه، ويكون نصيبي الحلو في الدنيا دي، جاد الله أبو الدهب.


                            ❈-❈-❈


"اليوم التالي"


-بقالة فترة متغير يا رحمة، أنتِ مش فهماني... مش ده جاد اللي أعرفه يعني لما كان بيشوفني كان آخره يسألني اخباري ولو محتاجة حاجه.. دلوقتي بيكلمني بجد.. ومهتم بيا فعلًا، تفتكري أنا بتخيل ولا هو ممكن بيفكر فيا؟.


أنهت كلماتها المقتضبة هذه بسؤال تريد إجابة واضحة عليه لتعلم ما القادم بينها وبينه وما الذي ستفعله


نظرت "رحمة" صديقتها من نافذة الغرفة وقد وجدت أن "جاد" حقًا ينظر إليها من الحين إلى الآخر، هي تعلم أنه رجل متعلم ومهذب لن يفعل شيء في الخفاء وبالأخص لو كان بينه وبين فتاة وإن شعر أنه يريدها سيتقدم لخطبتها في الحال..


عادت بنظرها إلى "هدير"، أردفت بجدية وهدوء قائلة:


-جاد الله معروف في الحارة كلها يا هدير، دا راجل دوغري وأنا من رأي أنه لو حس بحاجه من ناحيتك هيجي يتقدملك طوالي لأنه مش بتاع شمال 


أنها تعلم هذا الحديث جيدًا ولا تريد أن يكرره أحد فليس هناك أحد يعلمه أكثر منها ولكن مع ذلك استنكرت حديثها ولم تصل إليها الفكرة التي تريدها:


-يعني ايه؟


ابتسمت "رحمة" ابتسامة بشوشة هادئة وتحدث قائلة بعد أن وضعت يدها على فخذ صديقتها تحاول أن تطمئن قلبها وتنصحها بالخير:


-يعني نستنى يا هدير، استني شوية كده ونشوف مايته ايه عايزك بجد ولا مجرد أنه بيكلمك زي أي حد بس اوعي تقوليله حاجه ولا تتقربي منه 


اتسعت عينيها بذهول ودهشة مستغربة من حديث صديقتها وهي تعلم من هي جيدًا، أردفت بجدية وحزم تنفي حديثها:


-لأ طبعًا أنا عارفه حدودي كويس وعارفه ربنا وبحاول على قد ما أقدر ما اغضبش ربنا مني بسبب حبي وتفكيري فيه، أنا بطلبه بالحلال ولو غير كده يبقى لأ وألف لأ 


ابتسمت "رحمة" مرة أخرى باتساع وهي تنظر لها فخورة بتفكير صديقتها ومع حبها له المخفي داخلها إلا أنها تحاول إلا تغضب الله بتفكيرها به وتحاول التقرب منه بأي طريقة كانت لتنال رضاه عليها..


وقفت "رحمة" على قدميها بعد أن أخذت حقيبتها من على الأريكة جوارها لتقف "هدير" معها فهتفت قائلة:


-يلا بقى أشوفك بكرة أنا لازم أمشي علشان متأخرش على الشغل 


-ماشي يا حبيبتي تعالي اوصلك 


خرجت "هدير" وخلفها "رحمة" التي عندما ولجت إلى خارج الغرفة رأت "جمال" شقيق "هدير" يدلف إلى المنزل، رفع نظرة إلى وجهها الأبيض المستدير، عينيها السوداء وشفتيها الوردية، حجابها الأسود الذي يجعلها تبدو جميلة، لم يحرك عينيه من عليها متقدمًا منهم..


نظرت هي سريعًا إلى الأرضية عندما وجدته أطال النظر بوجهها متناسيًا غض البصر كما أمره الله، وسريعًا ودعت صديقتها وخرجت من المنزل تاركه إياه بنظر في أثرها بهيام..


تقدمت منه شقيقته بعد أغلقت الباب خلفها، نظرت إليه بهدوء وقد كانت تود أن تراه من أفضل الناس ولكنه أختار طريق عليه غضب الله وبعض من الصالحين في هذه الحياة، تحدثت بجدية قائلة وهي تضع يدها على كتفه:


-لو عايزها بجد اتغير علشانها، حبك لوحده مش كفاية، اتغير وساعد نفسك قبل أي حد وروحلها وهي مش هتمانع.. الواحدة الأصيلة مش عايزة في الراجل غير قلب يكون بيحبها وأمان تحس بيه وسند ترمي حمولها عليه


نظر إليها نظرة لم تفهم ما هي، لم تفهم إن كانت حزن لحاله أو فرح بكلماتها، لم تفهم إلى الآن ماذا يريد شقيقها من هذه الحياة..


                           ❈-❈-❈


خرجت من المنزل منذ نصف ساعة، تسير في السوق بين بائع خضار وبائع فاكهة لتأتي بما يلزم البيت هذا الأسبوع، مرتدية عباءة سوداء اللون أنيقة وعصرية، بها نقوش ذهبية على مقدمة صدرها ومعصم يدها، فضفاضة قليلًا، مرتدية حجاب ذهبي اللون ولم تضع على وجهها أي من مستحضرات التجميل فقد كانت جميلة دومًا من دونها..


سارت أمام محل "مسعد الشباط" الخاص بالهواتف المحمولة والحاسوب وغير ذلك من الالكترونيات، ومن سوء حظها أنه كان يجلس خارج المحل ليمتع نظره بمن تمر من هنا وهناك، كان رجل لا يعرف طريق الله، لا يغض بصره عن امرأة بل لو كانت محتشمة يعريها هو..


وقف سريعًا عندما وجدها آتية من أمامه ليذهب خلفها وهي تسير قائلًا بنبرة لعوب لم تتحملها يومًا ونظرته نحوها مفهوم ماهي:


-برنسس الحارة في منطقتنا... دا يا ألف أهلًا وسهلًا، هاتي عنك اوصلك


أقترب من يدها حاملة الاكياس ليأخذها منها ولكنها لم تجعله يلمسها، وقفت أمامه وصاحت قائلة بجفاء واشمئزاز واضح:


-مشكرين لافضالك شيلاك للكبيرة


أتجه ليقف أمامه مباشرةً لينظر إليها من الأسفل إلى الأعلى متحدثًا بنبرة خبيثة مقززة فهمتها على الفور:


-آه لو ننول الرضا وناخد الكبيرة اللي في دماغي.. هناكل الشهد سوا يا برنسس 


أنهى كلماته ناظرًا إلى شفتيها بهيام، وقد شعرت بـ اشمئزاز وكأنها تريد التقيؤ وهي تراه ينظر إليها هكذا، ولكنها أجابته تصيح بحدة وعصبية وتود لو تجعله يقف عند حده:


-لأ يا مسعد أقف عوج واتكلم عدل، مش أنا اللي يتبصلها كده ولا تقدر تفكر فيا بدماغك الزبالة دي 


ينتظر موافقتها منذ الكثير وهي لا تريد، ماذا تعتقد نفسها هذه، ابتسم بداخله مُجيبًا على نفسه بأنها أجمل فتاة في الحارة ويالا حظه لو تزوجها، ضيق ما بين حاجبيه بحنق قائلًا بحدة:


-دماغي الزبالة طلباكي بالحلال وأنتِ اللي مستكبرة علينا وباصه لفوق أوي يا بنت الهابط واللي أنتِ بصاله مش معبرك 


ابتلعت ما وقف بحلقها أثر كلماته، هل يعلم عن ماذا يتحدث؟.. أم أنه يلقي حديث هكذا فقط ليضايقها؟.. تساءلت بضيق وعينيها تتحرك عليه:


-تقصد ايه يا مسعد 


ابتسم بسخرية ناظرًا إليها بمكر متحدثًا بنبرة خافتة:


-ولا أقصد ولا ماقصدش، اللي عايزك تعرفيه أنك مش هتلاقي واحد عايزك زيي في الحارة ولا شاريكي زيي يا بنت الهابط، وخليكي عارفه إن الشباط بينول اللي هو عايزه مهما كان.. والدور عليكي 


ابتسمت إليه هي الأخرى بسخرية مُجيبة عليه وهي رافعة رأسها للأعلى:


-وبنت الهابط بتقولك لو آخر واحد في الدنيا مش هطول مني شعره يا... يا شباط بيه


وزع نظره عليها وعلى ملامح وجهها الشهية والمحبوبة إليه والذي يتشوق للمسها والتقرب منها إلى الحد الذي يريده، أردف بخبث ومكر مرة أخرى:


-بكرة تشوفي شعرك كله رايح فين يا برنسس الحارة


رفعت حاجبها الأيمن ولوت شفتيها بحركة شعبية اعتادت عليها في هذه المواقف وأجابته بطريقة فظة ساخرة قوية بنفس الوقت:


-لو ليك هولع فيه قبل ما تطوله ولا تغمضلي عين


ضحك بقوة في منتصف الطريق وعاد بظهره للخلف وهو ينظر إليها ثم هتف بصوتٍ خافت وهو يقترب منها مرة أخرى:


-عليا الحرام لاناكل الشهد يا برنسس


اشمئزت من طريقته الوقحة والمقززة وقد شعرت بنفور شديد منه وأجابته بقوة وحدة وهي تعلم كلماتها إلى أين تذهب:


-الكلام ده تقوله لـ التلت نساوين اللي في بيتك يا شباط مش لهدير بنت الهابط يا.... يا بتاع الحته بميه 


نظرت إليه بتشفي بعد رميها لآخر كلماتها عليه، ثم بصقت على الأرضية جوارها بتقزز وسارت عائدة إلى المنزل مبتعدة عنه ولكن تفكيرها بحديثه لا يزال يعمل، هل يعلم بأمر حبها لـ "جاد" أم ماذا؟. هل أعطاه شقيقها كلمة محددة في زواجها منه ليتحدث بهذه الثقة أم أنه يثق بقدراته أكثر لذلك تحدث بهذا الشكل؟.


                            ❈-❈-❈


كانت تجلس على مائدة الطعام مستديرة الشكل التي توضع على الأرضية والجميع ملتف حولها معها..


نظرت إلى شقيقها "جمال" بشك وهي تضع الملعقة الحاملة الأرز بفمها وكلمات "مسعد" تتردد داخل أذنها وكم كان واثقًا من حديثه..


تعلم أنها إذا استسلمت له سيفعل بها ما يحلو له كما يفعل بثلاث نساء متزوج منهن، وكيف لها أن تفكر بالزواج من رجل متزوج غيرها..


التفكير في هذا الأمر وفي "مسعد" شخصيًا يجعلها تشعر بـ الاشمئزاز حقًا، بينما لو كانت تفكر بـ "جاد" يختلف الأمر كليًا وتذهر وجنتيها بالحمرة وتزين شفتيها الابتسامة.. 


استغفرت الله داخلها من هذه الأفكار السخيفة التي بداخل عقلها ثم وقفت على قدميها متوجهة إلى المرحاض فتحدثت والدتها قائلة بحنان:


-ما تكملي أكلك يا هدير أنتِ رايحه فين


ابتسمت لها بهدوء وأجابتها قائلة:


-شبعت الحمدلله يا ماما هتوضا وأصلي العصر 


ثم فجأة استمعوا إلى أصوات صاخبة لجمع في الخارج واستغرب الجميع من هذه الأصوات الذي أتت فجأة هكذا من العدم، وقفت "مريم" سريعًا أخذه حجابها من على الأريكة بالصالة وتقدمت إلى غرفة "هدير" وفتحت النافذة لتلقي نظرة على الذي يحدث في الخارج..


أتت تركض في المنزل عائدة إليهم لتقول بهلع وقلق كبير قد ظهر على ملامحها:


-ده جاد أبو الدهب بيتخانق مع مسعد الشباط 


صرخت "هدير" مستنكرة ما استمعت إليه وهي تعلم بطش "مسعد" وحيلة هو ورجالة وتعلم احترام "جاد" وأتباعه للقيم والأخلاق:

-ايه؟..

وقف شقيقهم وذهب إلى خارج المنزل سريعًا ليرى ما الذي يحدث بينما هي دلفت إلى غرفة شقيقتها "مريم" لتأتي بحجاب سريعًا تضعة على رأسها لأن نافذة غرفتها مفتوحة ويرى كل من هم بالخارج الغرفة وما بداخلها..


                        #ندوب_الهوى

#الفصل_الثالث

#ندا_حسن


         "قبع الحزن داخل قلبه بعد التخلي عنها!

           ولكن بقى اليقين يحالفه أنها لن تكن

                               لغيره"


تجمهر الجميع أمام ورشة "جاد" ليشاهدوا الذي يحدث بينه وبين "مسعد الشباط" وما سبب هذا الشجار الذي أخلف بعده أصوات عالية استمع إليها الشارع بأكمله وفي هذه المواقف الجميع يقوده فضوله ليكن على دراية تامة بما يحدث من حوله حتى وإن كان لا يخصه..


تحدث جاد بعصبية وصوتٍ عالٍ استمع إليه الواقفين جميعًا ومن بينهم "هدير" وشقيقتها التي وقفت معها في نافذة غرفتها وقد حاول وبشدة أن يحافظ على هدوءه لكن "مسعد" لا يساعده على ذلك:


-اقطم الكلام يا مسعد وامشي من هنا احسنلك 


صاح "مسعد" مُجيبًا عليه بنفس نبرة الصوت العالية يبادلها إياه أمام الجميع قائلًا وهو يشير بيده إليه بهمجية:


-مالك يسطا جاد الموضوع لا يخصك ولا ليك فيه أنا جاي للحج رشوان.. أنتَ مالك محموق كده ليه؟..


تقدم منه "جاد" ولكن أعاق طريقة شاب يعمل عنده بالورشة يُدعى "عبده" حتى لا تتطور الأمور أكثر من هكذا واقفًا أمامه يحيد بينهم، أردف قائلًا بهمجية هو الآخر وقد برزت عروق عنقه من فرط العصبية:


-والحج قالك عيب على سنك روح شوف واحدة من طينة نسوانك ايه ماسمعتش كلامه ولا أنتَ أطرش


ابتسم "مسعد" بسخرية وقد أخرج المكنون داخل قلب "جاد" بطلبه للزواج من "هدير، جعله كالثور الهائج الذي يحاولون سجنه بين القضبان الحديدية، وقلبه اشتعل بلهيب لم يشعر به سابقًا، ذهابه إلى "رشوان أبو الدهب" اعتبارًا أنه الوصي عليهم وفي رتبة والدهم وكان له غاية أخرى مع طلبة الزواج منها وهو أن يتأكد من مشاعر "جاد" ناحيتها وقد علم ما يريد..


ازدادت ابتسامته اتساعًا وهو ينظر إليه بشماته وتحدث قائلًا بمكر غامزًا له والجميع ينظر إليهم:


-لأ سمعت بس أنا مستغرب من رد فعلك.. ولا تكونش عينك من برنسس الحارة قول متتكسفش هي تستاهل بردو 


دفع "جاد" "عبده" من أمامه بحده فترنح إلى الخلف وتقدم بخطوة واحدة إلى "مسعد" بعد أن غلت الدماء بعروقه وكادت أن تنفجر، وتضخم صدره وهو يتنفس بسرعة وغضب كبير لا يصل إليه بهذه السهولة، في لمح البصر كان "جاد" لكم "مسعد" بوجهه أسفل عينه لكمة قوية بقبضة يده جعلته يترنح هو الآخر إلى الخلف متفاجئ من فعلته التي جعلته يشعر بالألم الحاد..


تقدم والد "جاد" منه وقد تركه يفعل ما يريد إلى الآن ليخرج ما في صدره على "مسعد" بعد الحديث الذي قاله لهم في الداخل عن زواجه من "هدير" ولقد تحدث معه باللين رافضًا أكثر من مرة لأنه يعلم أنها لن توافق أبدًا على أمر كهذا وهو الذي وضعوه بمثابة والدها يرفض لها هذه الزيجة رفض تام..


تحدث قائلًا بجدية شديدة وهو ينظر إلى جميع الذين يشاهدون ما يحدث بصمت ولا يريدون غير معرفة ما حدث وهو لا يريد أن يعلم أحد بأي شيء يخص فتاة كـ ابنته:


-يلا كل واحد يروح على شغله سوء تفاهم وهنحله مع بعض


صرخ بهم عندما وجدهم كما هم فبدأ واحد تلو الآخر يرحل إلى أن رحل الجميع فنظر إلى "عبده" قائلًا:


-استنى أنتَ يا عبده 


نظر "مسعد" إلى جاد بكره وحقد داخله يشتعل تجاهه كل لحظة وأخرى، أتى ليتحدث ولكن قاطعة "رشوان" قائلًا بنبرة جادة صارمة:


-امشي من هنا يا مسعد احسنلك زي ما جاد قالك.. أنتَ طلبت مني وأنا رفضت وانفض المولد مالوش لزوم الشويه اللي كنت عايز تعملهم في الحارة وتخوض في عرض الناس 


نظر إليه بسخرية وضيق مستهزء بحديثه ومن ثم نظر إلى "جاد" ورفع يده أمام وجهه مشيرًا إليه بإصبعه السبابة:


-هنتقابل يا بتاع الميكانيكا والخورده... وعايزك تعرف إن الشباط بياخد اللي هو عايزة حتى لو بعد ميت سنة، متنساش


تركه وأدار ظهره إليه فتحدث "جاد" هاتفًا خلفه بغضب وصوتٍ عالٍ:


-لو اتقابلنا أنا اللي هاخد منك يا شباط.. هاخد روحك 


ذهب "مسعد" وكان الجميع قد رحل ما عدا "رشوان" و "عبده" و "جاد" بينهم بارزة عروقه وعينيه يخرج منها لهيب ناري تراه بنظرتك إليه، أتى "رشوان" بنظرة إلى منزلهم ليرى "جمال" يقف كما هو وكأنه يود أن يفهم ما الذي يحدث وهناك على وجهه علامات استفهام كثيرة مطالبة بالتوضيح..


وقد كان هكذا حقًا، يريد تفسير لما حدث الآن أمام الجميع، فقد طلب منه "مسعد" الزواج بشقيقته وهو أخبرها بذلك ورفضت فقال له أنه يريد وقتًا ليجعلها ترضخ له ومن الواضح أنه ذهب إلى "رشوان أبو الدهب" وقد رفض طلبه!..


استدار "جمال" وولج إلى المنزل مرة أخرى بعد أن قال لوالدته أن تدلف هي الآخرى حيث أنها كانت تقف معه، أدار "جاد" وجهه للناحية الأخرى ليراها تقف في نافذة غرفتها البسيطة وحدها، بعد أن دلفت شقيقتها، يبدو على ملامحها اللهفة والخوف، وربما التفكير، نظرتها إليه شاردة، هل فهمت أن الحديث عليها؟..


رأى "جمال" وهو يأخذها إلى الداخل غالقًا النافذة بحدة وعنف..


وجد "سمير" يأتي من نهاية الشارع سريعًا بلهفة، وقف أمامهم متسائلًا:


-في ايه يا جاد؟، كنت بتتخانق مع مسعد؟


أجابه عمه بهدوء يروي له ما حدث منذ قليل من "مسعد" وجاد" أمام الجميع.. 


دلف "جاد" إلى الورشة ومن خلفه والده وابن عمه و "عبده" جلس على أقرب مقعد منحني على نفسه ينظر إلى الأرضية وقد كان داخله نيران ثائرة وبراكين تود لو تدق عليها دقة واحدة لتنفجر في وجه الجميع، لقد كان قلبه مقهورًا من رفض والده والآن ازداد قهرًا بسبب طلب "مسعد" الزواج منها...


لن يصمت.. لن يصمت بعد الآن، في المساء سيتحدث مع والده وسيحسم الأمر على ما هو يريد، يعلم أن الله لن يكسر خاطره وقلبه، يعلم أنه سيقف معه وستكون من نصيبه بطريقة ما.. هذا ما يعلمه جيدًا..


                                ❈-❈-❈


"في المساء"


كان "جاد" في الورشة منذ الصباح إلى الآن، لم يستطع أن يعمل بأي شيء، عقله مشغول بها وبما يحدث وما سيحدث، ولديه كم كبير من العمل ولكن كلما وضع تركيزه بالعمل ليعمل يعود مرة أخرى إليها ويفشل بما يفعل، فترك كل شيء إلى العمال معه بالورشة تحت إدارة "عبده" الأقدم بينهم والأكبر سنًا، ثمانية وعشرون عام والأقرب إليه أيضًا..


-طارق.. حمادة لموا العدة يلا 


بعد أن قال هذه الكلمات ألقى برأسه بين يديه على مكتبه وهو يفكر ولم يتوقف عن فعل هذا الشيء، استمع إلى صوت "حمادة" يتقدم منه قائلًا بجدية:


-لسه في شغل يسطا جاد ولسه كمان معاد قفل الورشة مجاش 


رفع رأسه ينظر إليه بهدوء فتحدث مرة أخرى قائلًا بعدما ابتسم بسخرية: 


-تعرف يا حمادة أنك بتخاف على الشغل أكتر مني.. بأمانة والله 


ابتسم "حمادة" بهدوء وقد فرح لمدحه هكذا وفرح بعلمه أنه يخاف على عمله، وأردف قائلًا بجدية وهو يبتسم:


-اومال يسطا جاد الشغل ده فاتح بيوتنا لازم نخاف عليه 


عاد برأسه إلى الخلف مستندًا إلى ظهر المقعد، ثم هتف بجدية وإرهاق قد ظهر عليه بعدما أنهى حديثه مع "مسعد":


-طب يا عم الحلو... اعتبرها إجازة مني ليكم يلا لموا  العدة 


امتثل لأوامره وذهب من أمامه وبدأ العمل مع "طارق" كما قال، تقدم "عبده" من المكتب الذي يجلس عليه "جاد"، سحب مقعد وذهب به إلى جواره جالسًا عليه عكسيًا..


تحدث قائلًا بخفوت إلى "جاد" وهو ينظر إليه بخجل:


-تسمحلي أقولك حاجه يا كبير 


أومأ إليه برأسه وهو يعلم ما الذي يريد قوله ولو أراد أن يقوله هو لفعل ولكن مع ذلك سمح له ليتحدث ويجعله يشعر بالراحة:


-صراحة كده اللي عملته مع مسعد غلط كان المفروض تمسك أعصابك شوية والحج كان خلص الليلة.. دلوقتي الحارة كلها مالهاش سيرة غير مين البت اللي الاسطى جاد حارق نفسه عليها والأغلبية عارفين برنسس الحارة اللي على لسان مسعد


لم يكن أبلة ليكون لا يعرف ما الذي سيتحدث به!.. أجابه "جاد" مستنكرًا حديثه متحدثًا بانفعال ونبرة حادة وهو يستدير ليقابله:


-يعني ايه حارق نفسه؟.. هي ولا غيرها كنت هعمل كده ده في فرق بينهم يجي خمستاشر سنة لو مكانش ستاشر ومتجوز تلاتة لو وقفت وسطيهم هتطلع ميته 


تحدث "عبده" مُجيبًا إياه بعقلانية وهدوء:


-يا كبير أنا فاهم بس كان ممكن تسيب الليلة في أيد الحج وهو لا يمكن أنه يوافق وأنتَ شوفت بنفسك... وعلى فكرة بقى باللي أنتَ عملته ده نولت مسعد اللي في باله هو عايز يعمل شوشرة حواليها وأنتَ وأنا عارفين ليه 


أردف "جاد" سريعًا بعصبية وحنق من كلماته عنها وهو لا يود أن يستمع إلى أي شيء يخصها:


-لا عاش ولا كان اللي يشوشر عليها ولا يجي ناحيتها دا أنا كنت اشقه نصين ومسعد أنا ليا تصرف تاني معاه سبهولي 


أخفض "عبده" نظره إلى الأرض وكان لا يود التحدث بهذه النقطة ولكن هو من أوصله إلى هنا، رفع نظرة قائلًا بجدية:


-متتحركش ورا عواطفك ناحيتها يسطا جاد.. حكم عقلك 


ضيق ما بين حاجبيه سائلًا إياه بصوتٍ خافت وهو يدقق النظر إليه بعد أن استغرب حديثه:


-تقصد ايه؟


هتف الآخر قائلًا بابتسامة بسيطة وعقلانية في حديثه:


-يسطا جاد أنا واخد بالي من زمان أنك ميال ليها وعارف إنك راجل دوغري وعارف ربنا واللي بتعمله كله بالحلال ولو واحدة تانية مكنتش هتعمل كل ده مع مسعد أنتَ كنت هتسيب الحج رشوان يحل الموضوع... علشان كده خلي بالك من تصرفاتك، أنتَ عارف الحارة كل اللي فيها عايزين خبر يقعدوا عليه ولو عملت اللي في دماغك هتجيب عليها غبار وهي نضيفه


وقف "عبده" على قدميه بعدما ربت على فخذ "جاد" كأنه يمده بالدعم وتوجه ليساعد "طارق" و "حمادة" بينما ترك "جاد" يفكر في حديثه والذي رآه معقولًا وصحيح..


أنه لم يفكر بحديث الناس عنها عندما يفور غضبه هكذا، لم يفكر بماذا سيقول الجميع في هذه الحارة المعروفة بأن أهلها لا يصمتوا عن شيء يحدث وهي فتاة وسمعتها أول شيء يهمها ويهمه هو الآخر..


                              ❈-❈-❈


فتح "جاد" باب شقتهم بمفتاحه الخاص وولج إلى الداخل مغلقًا الباب خلفه وقد كان يود وبشدة أن يدلف إلى غرفته لا مكان آخر ولكن ليس كل ما نريده يحدث، وحتى وإن كان من أتفه الأشياء..


استمع إلى صوت والده يهتف بإسمه من صالة المنزل ليتقدم إليه بعد أن زفر بهدوء شديد، دلف إلى الصالة ووجد والده ووالدته "فهيمة" يجلسون سويًا ويبدو أنهم كانوا في انتظاره..


والدته سيدة طيبة القلب بأصل طيب كـ والدة "هدير" تمام، وجهها طويل نسبيًا، وملامحها تشبه ملامح ولدها وبشرتها خمرية اللون..


ألقى عليهم سلام الله متقدمًا إلى الداخل وجلس على الأريكة بعد أن أجاب عليه والده ووالدته السلام..


تحدث والده بعد أن نظر إليه بجدية قائلًا دون مقدمات كثيرة وقد كان مقرر أن ما سيقوله هو الذي سيحدث:


-من فترة أنتَ جيتلي وطلبت تتجوز حصل؟


أومأ إليه برأسه مستغربًا من سؤاله الذي يعرف أجابته جيدًا:


-حصل يا حج


ألقى عليه والده سؤالًا آخر وهو يتقدم بجسده للأمام:


-يعني أنتَ فكرت في الجواز؟.


حك جاد مقدمة لحيته بعد أن ضيق عينه محاولًا فهم ما يريد أن يصل إليه والده، أجابه بهدوء بعد أن نظر إلى والدته باستغربت:


-فكرت آه


ابتسم والده ابتسامة غريبة وكأنه انتصر عليه في شيء ما، عاد إلى الخلف بجسده يستند إلى ظهر الأريكة وتحدث قائلًا بنبرة جدية:


-أنتَ فكرت في الجواز وجبتلي واحدة أنا رفضتها وأنا عارف إنك مش هتعصى كلامي وقفلنا الموضوع من وقتها ومش هنفتحه تاني 


لم يغلق مواضيع هو فقط ينتظر قليلًا ليجعل قلبه يلين عليه، هو لم يتخلى عنها ولن يتخلى عنها، يريدها أن تكن زوجته الصالحة وليس هناك شيء يعيق ذلك سوى سبب والده الذي لا يعنيه..


أبصر والده بدقة ولم يتحدث بعد، يريد أن يعرف ما النهاية لذلك الأمر وتلك المقدمة، وجده يتحدث مرة أخرى مردفًا بحزم:


-ودلوقتي أنا عايز أفرح بيك... شاور على أي واحدة وأنا اخطبهالك.. ولا خلي أمك اللي تختار ولا أقولك بنت عمك مروان البرنس من كبار الناس في المنطقة.. مفيهاش غلطة أدب وجمال وأخلاق 


لم يتحدث "جاد" وبقى صامتًا يوزع نظره بين والده ووالدته، منتظرًا أن يرى إن كان هناك شيء آخر يود إضافته على هذا الحديث الذي لن يفعل به مؤكد..


هتف والده مستغربًا صمته الذي بقى حتى بعد إنتهاء حديثه:


-مقولتش رأيك يعني 


سأله "جاد" مضيقًا ما بين حاجبيه وهو يعلم أنه لن يفعل ما يريده واضعًا يده على فخذه وهو جالس منحني بجانبه:


-ولو قولت رأي هتعمل بيه؟.


-اسمعه 


وقف "جاد" على قدميه أمامهم واستدار يعطي ظهره إليهم هاتفًا بجدية وحزم:


-أنا لما جيت أخد موافقتك كان عقلي وقلبي رايدين واحدة أنتَ رفضتها ولحد الأن رايدها 


وقف والده هو الآخر على قدميه ينظر إليه من الخلف قائلًا: 


-يعني ايه يا بشمهندس جاد الله


استدار "جاد" ينظر إليه بعد أن نظر إلى والدته التي تضع كف يدها على وجنتها وتستمع إلى نقاشهم دون حديث ويظهر على وجهها الحزن لأجل ولدها، أردف قائلًا:


-يعني مش موافق يا حج إلا لو أنتَ وافقت على اللي أنا عايزها


صاح والده بحدة وضيق شديد من رفضه لحديثه لأول مرة وقد كان مقرر داخله أنه سيفعل ما يريد:


-لأ يا جاد كلامي هيمشي ومش هتتجوز البنت دي طول ما أنا عايش 


زفر "جاد" بصوتٍ عالٍ والضيق احتل ملامحه وهو يرى أن رفض والده ليس له أي أساس وليس هناك أي أسباب مقنعة، تحدث قائلًا بصوتٍ عالٍ:


-يوه.. مهو رفضك ده مالوش سبب مقنع كلام في الفاضي 


نظر إليه والده بذهول، أنه أول مرة يرفع صوته هكذا أمام والده ووالدته، أول مرة له أن يزفر هكذا في وجهه، كل هذا لأجل فتاة؟.. هل نسيٰ ما ورد في كتاب الله ليزفر هكذا في وجهه؟:


- قال تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً* وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِى صَغِيراً* رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِن تَكُونُواْ صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلأوَّابِينَ غَفُوراً} 


صمت لبرهة وهو يرى ملامح "جاد" قد تحولت تأثرًا بالآية التي استشهد بها في هذا الموقف، أردف مرة أخرى متسائلًا بحزن:


-بعتصاني يا جاد؟..


أقترب منه "جاد" بخطوات بطيئة متحدثًا بنبرة مترجية قبل أن تكون جادة وهو يشير إليه بيده:


-يا حج أنا مش عايز اعصاك بس أنتَ اللي بتجبرني.. لو أنتَ رافض فكرة جوازي من هدير فأنا رافض الجواز كله 


جلس والده مرة أخرى جوار زوجته وعاد بظهره إلى الخلف، نظر إلى ولده بجدية وهو يود أن يراه أفضل البشر ويعتقد أن ما يفعله هو الصحيح، هتف بحدة وقسوة قائلًا:


-لو رفضت يا جاد الله لا أنتَ ابني ولا أعرفك 


أبصر "جاد" والده بذهول ودهشة مستغربًا ما يقوله، هل يصل الأمر إلى هنا؟.. هل يتخلى عنه والده فقط لأنه يريد الزواج من فتاة ليست مثل ما يريدها والده وعلى الرغم من أنها كبرت أمام عيناه..


نظر إلى والدته التي إلى الآن لم تتحدث بحرف واحد، ربما أخذت التعليمات من والده قبل أن يصعد، نظر "جاد" إلى الأرضية وهو مُنهزم، أمامه خياران الأول أن يعصى أمر والده ولا يتزوج سوى من "هدير" ويكسب غضبه عليه وعدم رضاه عنه والثاني أن يتخلى عن "هدير" ويكسب رضا والده عليه إلى الأبد وهذا ما يريده الله من عبادة أن يكون الوالدين راضيين عنا..


تحدث وهو ينظر إلى الأرضية بحزن بلغ أعماق قلبه جاعله الأمواج تثور داخله:


-اللي أنتَ عايزة اعمله يا حج 


وذهب من أمامهم إلى الخارج، متقدمًا ناحية غرفته وهناك جروح داخله خلقت الآن بعد ذلك الرفض القاطع، ستترك ندوب خلفها لن تمحى إلى الأبد، وهناك صورة بذاكرته لحب طاهر شريف لم يكتب له أن يخلق ويذهب للنور ولكن.. لن يكف عن الدعاء.


                                  ❈-❈-❈


لا يدري كيف فعلها!.. كيف تخلى عنها بهذه السهولة واليوم كان يصيح في الجميع لأجلها!..، لماذا ترك الأمور بين يدي والده ليفعل ما يريد؟.. لما تحدث معه من الأساس، ولكن هو لم يكن يعلم أنه سيرفض بهذه الطريقة..


كيف تخلى عنها هكذا!.. كيف تركها!.. ولكن هل كان يترك والده؟.. الأمران أصعب عليه من الصعب نفسه ولكن والده لا يستطيع التخلي عنه، لا يستطيع أن يراه وهو غاضب عليه، لقد ضغط عليه من ناحية يعلم جيدًا أنها ستأتي بنتيجة مُرضية له..


يحبها، منذ أربع أعوام وهو غارق في العسل الصافي داخل عينيها، وكلما فُتن به وبجمالها الهادئ استغفر ربه وعاد مرة أخرى ينهي نفسه عن نظرتها ليرضى عليه ربه ويجعلها له بحلاله ليس غيره..


يجب رؤيتها يوميًا في ملابسها الواسعة الفضفاضة، يدوب برؤية وجهها الأبيض الذي يزينه النمش الخفيف..


كيف له أن يتخلى عنها وقد زرع الله حبها بقلبه!، وبعد الأن وهو يعلم أنه سيتزوج غيرها!.. لا محال هل يستطيع نسيانها؟..


كيف لا محال وهناك رب يدبر كل شيء لنا ولو كنا نراه شرًا!..


ابتسم براحة متمتمًا بين نفسه بهدوء وسكينة:


-بسم الله الرحمن الرحيم، “وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُون“.


وكأن ذلك البركان الثائر داخل قلبه هدأ تمامًا بقول تلك الآية الكريمة، وكأن أفكاره وتشتُت عقله وقف نهائيًا بعد أن تحدث بهذه الكلمات الشافية لروحه..


رفع يده أمام وجهه متحدثًا بيقين وجدية تامة وكأنه متأكدًا مما يحدث:


-أنا عارف إنك مش هتسيبني لوحدي ومش هتكسر قلبي.. أنا مهما روحت وجيت ومهما كبرت أنا في حبي ليها طفل، عارف إنك مش هتصعبها عليا أكتر من كده حتى بعد اللي قاله أبويا الحج..


صمت لبرهة ثم تحدث مرة أخرى قائلًا بلهفة وجميع حواسه تناجي ربه بتلبية دعائه:


-اللهم إن كانت كُتبت من نصيبي فأجعل قلبي يزداد خفقًا لها ولحبها وإن كانت من نصيب رجل آخر فاللهم لا اعتراض على أمرك ولكن لا تترك قلبي مفجوعًا وأزل حبها منه وكأنه لم يوجد 


أخفض يده بعد أن استمع صوت هاتفه يعلن عن مكالمة هاتفية، وقف على قدميه ورفع سجادة الصلاة ووضعها على الأريكة، تقدم إلى الكومود بجوار الفراش وأخذ من عليه الهاتف ليراه رقم غير مسجل، بعد أن فتح وضعه على أذنه وتحدث بخشونة:


-ألو، مين؟


-بشمهندس جاد


أتاه الصوت ليدغدغ خلايا أذنه وليستمع إلى أجمل معزوفة قد يستمع إليها والأحب إلى قلبه، مرة أخرى يستغفر بعد تفكيره ورأى أن نفسه تغوية كثيرًا تجاهها، حمحم بصوتٍ رخيم وتحدث قائلًا:


-هدير؟. في حاجه ولا ايه 


-ممكن أشوفك على السطح دلوقتي 


استمع إلى صوتها الخافت وعلم أنها تطلب ذلك على استحياء ولكن لماذا تريد مقابلته؟.. سيرفض لأن ذلك يجب ألا يحدث مرة أخرى، يجب ألا يراها وحدها هذا هو الشيء الصحيح..


-تمام طالع 


أغلق الهاتف ونظر إليه بذهول ودهشة مُستغربًا من الذي تحدث به!.. لقد أنهى نفسه عن ذلك وقال أنه سيرفض كيف تحدث بهذه الكلمات إذًا!.. يحاول بكل الطرق ولكن كل الطرق تؤدي إليها..


زفر بضيق ثم وضع الهاتف بجيب بنطاله وذهب إلى الخارج ليصعد إليها على السطح وليرى ما الذي تريده..


                                 ❈-❈-❈


وقف "جاد" أمامها بعد أن وضع يده بجيب بنطاله تاركًا بينهم مسافة، نظر إليها ومن ثم إلى البعيد متحدثًا بجدية وهو يسألها:


-مش فاهم يعني أنتِ عايزة توصلي لايه 


نظرت هي داخل عينيه تتمعن بها وتراه وهو يتهرب منها بنظراته وكلماته، هتفت مُجيبة إياه بجدية:


-لأ على فكرة فاهم، أنا سؤالي واضح وصريح مسعد كان متقدملي أنا؟..


نظر إليها هذه المرة وداخله يتسائل ما الذي يجعلها تشعر بذلك ربما تكن فتاة غيرها، أردف بصوتٍ أجش متسائلًا:


-طب وليه بتقولي كده ما يمكن واحده تانية 


وضعت يدها أمام صدرها وتحدثت بتهكم وسخرية قائلة:


-علشان مسعد بيقولي أنا بس برنسس الحارة وكمان طلبني قبل كده من جمال وأنا رفضت ده غير إنه كان في الخناقة بيكلمك ويبص ناحيتي 


برزت تفاحة آدم بعنقه وهو يضغط على أسنانه بعنف وتحدث بغضب وعصبية بعد أن استمع حديثها الذي لأول مرة يستمع إليه:


-وأنتِ إزاي تسمحيله يقولك كده وليه مقولتليش 


اندهشت من تغيره المفاجئ وتحدثه بهذه العصبية بعد أن استمع إلى كلماتها وهو الذي كان هادئ منذ قليل، ولكنها لن تسمح له هو الآخر أن يتحدث لها بهذه الطريقة ولو كان هذا يعود بالنفع لها:


-بشمهندس جاد أنا مفيش حد بيقدر يتطاول معايا في الكلام حتى لو كان مين ومسعد بعرف أوقفه عند حده


صمتت قليلًا ورأت الهدوء عاد إليه مرة أخرى بعد حديثها ولكنها استرسلت قائلة:


-وبعدين أقولك ايه وليه أصلًا؟..


معها كامل الحق، لماذا ستخبره!، من يكون هو حتى تخبره ما يحدث معها، حتى أن هذه أول مرة تتحدث معه عبر الهاتف، مهلًا.. نظر إليها قائلًا بجدية وهو يتساءل:


-أنتِ جبتي رقمي منين؟


-من موبايل جمال أخويا... مش هتجاوبني؟..


تنهد بعمق وأغمض عينيه ثم أخرج يديه من جيوب بنطاله واستدار بجسده ينحني على السور مستندًا عليه بيده قائلًا:


-أيوه أنتِ 


في تلك اللحظات كان هناك رجل يقف على سطح منزل في الناحية الأخرى لهم بعيد قليلًا عن مرمى عينهم يأخذ لهم بعض اللقطات التي تظهر بوضوح وربما أكثر قليلًا بعد أن أخذها بزوايا معينة تُرضيه وتُرضي من سيراهم غيره..

يتبع

                                  

تعليقات