رواية الثلاثة يحبونها للكاتبة شاهندة الفصل الثالث والرابع والخامس



 رواية الثلاثة يحبونها للكاتبة شاهندة

 الفصل الثالث والرابع والخامس


دلفت رحمة إلى تلك الحجرة التي ما تخيلت يوما أن تدخلها إلا كزوجة ليحيي، لتدلف إليها اليوم كغريبة تماما، لا تمت إليه بصلة ولا حتى صلة القرابة التي جمعتهما منذ البداية، فلم يعد يعدها كإبنة عمه ولم تعد تعتبره كذلك أيضا،.


ما إن وقعت عيناها على وجه أختها الشاحب حتى أسرعت إليها تجلس بجوارها على السرير ثم تضمها بشوق دون أن تنطق بكلمة، لتضمها راوية بدورها تنعم بدفئها الذي حرمت منه لسنوات، هذا الدفئ الذي لطالما أحاطتها به رحمة، وجعلتها تشعر بأنها هي الأخت الصغرى والتي تحتاج إلى الرعاية والحنان وليس العكس،.


لقد عادت رحمة وعاد معها هذا الشعور الذي جلب الدموع إلى عينينها على الفور إشتياقا، لترتعش بين أحضان أختها الصغرى التي أحست بدموعها لتبتعد عنها تضم وجه راوية بين يديها قائلة في جزع:

وجعتك؟

رفعت راوية يديها تربت على يدي رحمة الرابضتين على وجنتيها قائلة بإبتسامة حزينة:

وجعى كان في بعدك عنى يارحمة، ودلوقتى وجعى راح لما شفتك من تانى.


أدمعت عينا رحمة وهي تتأمل ملامح أختها الشاحبة التي غيرها المرض كثيرا فبدت أكبر من سنوات عمرها الثلاثين، لتقول بصوت متهدج من المشاعر:

أنا كمان يا راوية كنت حاسة بروحى ضايعة منى ولقيتها بس في حضنك.

قالت راوية بلهفة:

بجد يارحمة، يعنى مش زعلانة منى؟

عقدت رحمة حاجبيها في حيرة قائلة:

وهزعل منك ليه بس ياراوية؟

قالت راوية بحزن:

عشان موقفتش جنبك وقت اللى حصل، لما، لما...

أخفضت رحمة يديها بجوارها وهي تقول:.


الكلام ده كان من زمان يا رواية، وخلاص مبقتش تفرق كتير، صحيح إنتى أختى وكان لازم تعرفى إنى مش ممكن أعمل كدة، بس إنتى اكيد إتخدعتى زيهم وأنا خلاص مش زعلانة، كل واحد بياخد نصيبه، وانا أخدت نصيبى وراضية بيه.

أطرقت راوية برأسها في حزن قائلة:

بس أنا متخدعتش، أنا كنت عارفة الحقيقة.

إتسعت عينا رحمة دهشة وهي تقول:

كنتى عارفة؟

رفعت راوية وجهها تواجه عينا أختها الحائرتين وهي تقول مدمعة العينان:.


أيوة كنت عارفة إنك مظلومة وإنك مكنتيش مع هشام ليلتها زي ما حاول يبين لينا كلنا، كنت عارفة إن كل اللى حصل ده كانت تمثيلية عشان يتجوزك غصب عنك.

عقدت رحمة حاجبيها قائلة:

وعرفتى منين يا راوية؟

صمتت راوية ليزداد إنعقاد حاجبي رحمة وهي تقول:

طب ليه متكلمتيش ساعتها؟

نزلت دموع راوية في تلك اللحظة قائلة في حزن:

هحكيلك يا رحمة، هحكيلك كل حاجة، أنا سكت كتير بس خلاص مبقاش ينفع أسكت أكتر من كدة.


لتتحدث راوية ومع كلماتها كانت رحمة تذبح مجددا، من الصدمة.


جلس يحيى في هذا الركن المظلم من الحجرة، يحاول ان يهدئ أعصابه، يشعر أنه على حافة الإنهيار ألما، ما هذا الذي يحدث له؟الغضب منها يشعله والشوق إليها يحرقه، تبا، ما الذي أقحمها في حياته مجددا؟


مرض زوجته، نعم، لولاه ما رآها قط مجددا، فهذا كان قراره منذ تلك الليلة التي فقد فيها إيمانه بالعشق، وفقد فيها روحه التي غابت بغيابها، فالخيانة ضربته في مقتل ليتمنى لو لم يعشقها يوما، لا يستطيع نسيان هذه الليلة أبدا، فإلى جانب إكتشافه لخيانتها له في هذا اليوم، فقد تزوجت فيها أخاه أيضا، ليشعر بكيانه يتمزق حرفيا، ورغم إدراكه انها أصبحت لأخاه من قبلها إلا أن رؤيتها وأخاه يعقد عليها ثم يأخذها بعيدا أدمت قلبه ثم أماتت مشاعره للأبد فظن أنه لم يعد يعشقها وأنه بات فقط يكرهها حتى بدأت تغزو أحلامه، توقظ فيه كل المشاعر، وتثير فيه جنون الإشتياق، لتتجسد أمامه منذ لحظات ليدرك أنها تقبع تحت جلده، يسرى عشقها في شرايينه مسرى الدم، يعلم أنها اخت زوجته، و خائنة، ومع ذلك يخفق قلبه فقط لمرآها، وقد زادتها تلك السنوات جمالا وجاذبية وقوة، لتستيقظ مشاعره الكامنة داخل أعماقه حين لمسها، وكأن ماضيه معها كأن لم يكن، وقيوده التي يفرضها حاضره عليهما كأنها سراب ولا وجود لها من الأساس، زفر بقوة وهو ينظر إلى السماء، تصرخ أعماقه بصرخة هزت وجدانه(ياإلهى ماذا أفعل؟)..


ليفيق من صراعه على دلوف أخيه إلى المكتب وإنارته ضوء الحجرة ليجد يحيى قابعا في هذا الركن البعيد تبدو ملامحه المكفهرة دليلا واضحا على مقابلته لرحمة، ليقترب منه بقلق قائلا في تقرير:

ضايقتك، صح.

هز يحيى رأسه نفيا قائلا بهدوء:

ملحقتش، وبتمنى متفضلش كتير عشان تحاول، ياريت تشوف أختها وتمشى علطول، مجرد وجودها في البيت خانقنى.

ظهرت الحيرة على ملامح مراد وهو يتأمل يحيى قبل أن يقول:.


إنت ليه بتكرهها بالشكل ده يايحيى؟

قال يحيى بصرامة:

يعنى مش عارف يامراد ليه بكرهها؟

جلس مراد على الكرسي المجاور ليحيي قائلا:.


لأ مش عارف، صحيح هي غلطت زمان غلطة كبيرة في حق نفسها وفى حقنا، وصحيح إن إحنا شاكين إن ممكن تكون السبب في موت أخونا لإنها كانت معاه وقت الحادثة، وصاحبه صلاح قال إنهم إتخانقوا مع بعض في الحفلة قبل ما تركب العربية معاه عشان يروحوا، بس برده إحنا مش متأكدين من الكلام ده، غير إن علاقتكم ببعض كانت حلوة أوي قبل جوازها من هشام، إنت كنت أقرب واحد ليها، وكان واضح للكل إنها بتعتبرك زي أخوها.


إبتسم يحيى بسخرية مريرة يردد كلمات أخيه داخل نفسه بمرارة، تعتبره مثل أخاها، كم كان مراد ساذجا، لايدرى أنها كانت توهمه بأنه عشقها الأول، وهو صدقها لأنها كانت بدورها عشقه الأول والأخير، وأنه في ليلة إكتشافهم لها مع أخيه هشام في حجرة نومه، كان قد وعدها قبلها مباشرة بأنه سيخبر جده في اليوم التالى برغبته في الزواج منها وتحقيق حلم لطالما تمنى ان يناله، ولكن ماحدث ليلتها دمر كل ما حلم به طوال عمره، لتتزوج أخاه ويرحلا بعيدا عن المنزل ثم يوافق هو على الزواج من أختها عندما عرض عليه الجد ذلك الأمر، ربما نكاية بها، أو هو فقدان الأمل في أن يقع مجددا بالحب، او ربما هو فقدانه الإيمان بالحب ذاته، حقا كم تظلمنا الحياة وتسخر منا، تحركنا كالدمى في يديها ولا نستطيع أن نفعل شيئا سوى ان نخضع لها، ونسايرها.


افاق من أفكاره على صوت أخيه يقول في حيرة:

يحيى، روحت فين؟

زفر يحيى وهو يستند برأسه إلى الكرسي خلفه يغمض عينيه قائلا:

روحت لنفس المكان بس في زمن غير الزمن، زمن كنت فيه واحد تانى مبقتش دلوقتى عارفه ولا قادر أميزه جوايا.

ليفتح عينيه ويعتدل قائلا في حزم:

المهم دلوقتى، أنا عايزك تفهم بشرى متعملش مشاكل معاها وتعدى اليومين اللى رحمة قاعدة فيهم هنا على خير، مفهوم يامراد؟، أنا فية اللى مكفينى ومش ناقص جنانها.


ربت مراد على ساق اخيه مطمئنا وقد رأى حقا ذلك الإرهاق البادي على أخيه قائلا:

متقلقش يا يحيى أنا هنبه عليها بنفسى وأوعدك متعملش مشاكل، وزي ما إنت قلت هما يومين وهتمشى، بس هي راحت فين؟

عقد يحيى حاجبيه قائلا:

تقصد مين؟

قال مراد:

بشرى، رجعت البيت ملقيتهاش.

قال يحيى بنظرة ذات مغزى:

وإنت بتسألنى أنا عن مراتك يامراد؟

شعر مراد بالتأنيب المختفى داخل طيات كلمات أخيه ليقول بإرتباك:.


أصل هي كلمتنى والفون كان مقفول، ولما فتحته وكلمتها، تليفونها كان خارج التغطية فقلت يمكن قالتلك حاجة.

قال يحيى بملامح جامدة:

لأ مقالتليش، ومشوفتهاش النهاردة خالص، إنت عارف إنى كنت مشغول برجوع رحمة.

أومأ مراد برأسه متفهما وهو يقول:

ورحمة فين دلوقت؟

تنهد يحيى قائلا:

عند راوية.

قال مراد:

بقالها كتير؟

قال يحيى:

تقريبا ساعة.

اومأ مراد برأسه ثم نهض قائلا:

شكلهم هيطولوا، طيب، أنا هروح أوضتى آخد شاور وأرجعلكم تانى.


أومأ يحيى برأسه، ليذهب مراد بإتجاه الباب ليتوقف عند سماع أخيه يقول بحزم:

ياريت يامراد تخف من سهرك برة شوية وتاخد بالك من مراتك وبيتك.


إلتفت إليه مراد ينظر إلى ملامح أخيه الجامدة ليدرك أنه يلمح إلى شئ ما، كاد أن يستوضح عن مقصده بذلك التنبيه ولكنه الآن مرهق، ويحتاج لأخذ حماما سريعا يزيل به كل ماعلق بأفكاره المتعبة أكثر من جسده المنهك، وليؤجل هذا الحديث إلى وقت لاحق، ليغادر يتابعه يحيى بعينيه يقول بصوت خافت:

لولا عارف طبيعة بشرى، مكنتش عذرتك أبدا في اللى بتعمله يامراد.


ليتنهد في حزن ثم يشرد مجددا في عذابه الخاص، يتألم كالعادة، وحده تماما.


نهضت رحمة قائلة بصدمة:

إنتى إزاي تعملى كدة، إزاي هنت عليكى بالشكل ده ياراوية؟ده أنا أختك من لحمك ومن دمك.

إنهمرت دموع راوية على وجنتيها وهي تقول بإنهيار:.


مش عارفة يا رحمة إزاي طاوعتهم وعملت اللى عملته، يمكن عشان حسيت بحبه ليكى ويمكن عشان كنت أنانية وفضلت مشاعرى على مشاعرك، أو يمكن عشان شيطانى قاللى إن ده حل كويس لينا كلنا، مش عارفة، صدقينى مش عارفة، بس كل اللى شايفاه دلوقتى هو إحساسى من يومها، كنت عارفة إنى غلط وإنى أذنبت في حقك، والإحساس بالذنب مكنش بينيمنى، كنت متأكدة إنى مجرمة وأستاهل العقاب، بس العقاب قاسى أوي يارحمة، مرض بياكل في جسمى وبيموتنى بالبطئ، بيبعدنى عن كل اللى إتمنيته وعملت عشانه كل ده، أنا آسفة يارحمة، وعارفة إن أسفى مش كفاية بس كان نفسى أعترفلك وأطلب منك السماح، أنا خلاص مبقاش أدامى كتير وخايفة أموت وأنا شايلة ذنبك جوايا.


شعرت رحمة بالشفقة على أختها وإنفطر قلبها وهي تشعر بأن كل ماحدث لها يهون أمام ذلك الموت الذي يهدد أختها المسكينة ويحرمها من زوج ضحت من أجله بأقرب الناس إليها و طفل لن تعيش لتراه يكبر أمامها يوما بعد يوم، لتسرع بنفض مشاعرها الغاضبة بعيدا، وإحلال السماح في قلبها محل الغضب، لتجلس مجددا في السرير آخذة أختها في حضنها لتفرغ راوية دموعها على صدر رحمة، تشعر بالخزي من أختها صاحبة القلب الطيب والتي سامحتها رغم ذنبها الكبير، لتقول بألم:.


أنا آسفة يارحمة، والله آسفة وندمانة، ندمانة بجد عن كل اللى عملته زمان، ربنا يسامحهم بقى، هما اللى فضلوا يزنوا على دماغى، والزن على الودان أمر من السحر.

ربتت رحمة على شعرها قائلة بحنان:

خلاص ياراوية إهدى وإنسى كل اللى حصل، متتعبيش نفسك، اللى فات مات وإحنا ولاد النهاردة.

قالت راوية بحزن من وسط دموعها:.


إزاي بس أنسى إنك إتعذبتى السنين اللى فاتت دى كلها من تحت راسى، إزاي بس أنسى إنى فرقت بينك وبينه عشان يكون لية أنا، عشان أنانية وفكرت في نفسى وبس؟

قالت رحمة بحزن وعيونها تترقرق بالدموع:.


الذنب مش ذنبك لوحدك، هما مشتركين معاكى في اللى حصل، هم الأبالسة الحقيقيين، اللى فضلوا وراكى لغاية ما سلمتينى ليهم، وهو كمان مذنب زيهم، صدقهم، صدق إنى خنته وخنت وعودنا، صدق إنى كنت بغشه وبخونه مع أخوه، صدق إنى وحشة زي أمى ووقف يتفرج علية وأنا بتجوز هشام ياراوية.

خرجت راوية من محيط ذراعيها قائلة:.


لأ يارحمة متظلميهوش، التمثيلية كانت محبوكة أوي، وأي واحد غيره لو شاف اللى إحنا شفناه كان هيصدق، وهيتصدم في حبيبته زي ما هو إتصدم، بس أنا لوحدى اللى عارفة أد إيه هو إتعذب من اللى حصل، وأد إيه إتعذب في بعدك.

زفرت رحمة قائلة:

مبقاش يفيد الكلام ده دلوقتى ياراوية، كل واحد فينا خد نصيبه، حكايتنا إنتهت من زمان ومبقاش ينفع الندم ع اللى راح، ولا ينفع كمان نعيد اللى فات.

قالت راوية بسرعة:.


لأ ينفع، ينفع يارحمة، انا عايزاكى بس تسامحينى ياحبيبتى، لأنى غلط في حقك بس، وانا الله هعوضك عن غلطى ده وهرجع كل حاجة لأصلها.

عقدت رحمة حاجبيها وهي تقول بحيرة:

قصدك إيه ياراوية؟

قالت راوية بأمل:

قصدى تتجوزى يحيى يارحمة؟

نهضت رحمة تقول بصدمة:

إنتى بتقولى إيه؟إنتى اكيد إتجننتى، أتجوزه إزاي وهو جوزك؟

قالت راوية بحزن:

أنا خلاص يارحمة، أوانى قرب ويحيي بعد شوية هيرجع حر، وساعتها تتجوزيه وكل حاجة تتصلح.


تمزق قلب رحمة من كلمات أختها اليائسة لتعود وتجلس إلى جوارها تمسك يدها قائلة:

متقوليش كدة، دى مجرد أزمة في حياتك، إنتى كويسة، وهتقاومى مرضك وهتبقى بخير عشان خاطر جوزك وإبنك هاشم، وأنا هفضل جنبك لغاية ماتعدى الأزمة دى.

اغروقت عينا راوية بالدموع وهي تقول بنبرات متهدجة:.


متضحكيش على نفسك، إنتى عارفة كويس إنى بموت وإن كلها أيام وأروح عند اللى خالقنى، أنا مش خايفة من الموت، بس عايزة أروح لربنا وإنتى مسامحانى، عايزة أروحله وأنا مطمنة عليكى وعلى يحيى وهاشم، عايزة أكون متأكدة إنى صلحت غلطتى وإن يحيى وإبنى في حضنك إنتى وبس يارحمة.

قالت رحمة بعيون أغروقت بالدموع:

مش هينفع ياراوية، والله ما هينفع، قلتلك أنا ويحيي إنتهينا من زمان، ومش هينفع نرجع تانى لبعض.


قالت راوية في تصميم:

لأ، هينفع، دى وصيتى الأخيرة ليكى وليه.

إتسعت عينا رحمة قائلة:

إنتى قلتى ليحيي الكلام اللى انتى قلتهولى ده؟

هزت راوية رأسها نفيا قائلة:

لأ مقلتلوش، بس كنت مستنياكى ترجعى وتوافقى عشان أقوله.

نهضت رحمة قائلة في حزم:

إوعى تقوليله اي كلمة من اللى إنتى قولتيهالى دلوقتى، لإنى مستحيل هوافق، سامعانى؟

قالت راوية بخيبة أمل:

يبقى هتضطرينى أقوله عن اللى عملته زمان يا رحمة.

إتسعت عينا رحمة قائلة:.


إنتى إتجننتى ياراوية؟، هيكرهك وهيمحيكى من حياة إبنه، مش هيجيب سيرتك حتى أدامه، إنتى متعرفيش يحيى ولا نسيتيه؟

قالت راوية بسخرية مريرة:

أنساه إزاي وأنا عايشة معاه السنين اللى فاتت دى كلها؟إذا كان إنتى واللى كانت روحه فيكى، محى إسمك من حياتنا كلها السنين اللى فاتت دى بسبب اللى حصل، ولولا انه عارف إنى بموت مكنش رجعك هنا من تانى، أمال أنا هيعمل فية إيه، بس لو مقبلتيش فأنا مضطرة أحكيله.


قالت رحمة بقلب تمزق من كلماتها:

ياراوية إفهمينى بس، اللى إنتى طالباه منى فوق طاقتى، مش هقدر أعمله.

قالت راوية في تعب:

بصى يارحمة، ياتوعدينى إنك تتجوزى يحيى بعد ما أموت وتكونى أم لهاشم إبنى وتحافظى على سرى عشان خاطره، وعشان أفضل جوة حياته ويحيي ميمحنيش منها، يا هقوم بنفسى دلوقتى أكشف السر ده ليحيي ويحصل اللى يحصل.

قالت رحمة في ألم:

إنتى بتطلبى منى المستحيل، إزاي بس أوعدك بوعد زي ده؟


قالت راوية بحزم وهي تنهض من سريرها:

يبقى إنتى مخلتيش أدامى حل تانى، وإفتكرى يارحمة إن إنتى اللى إخترتى.

لتبتعد بإتجاه الباب بضعف، تتابعها رحمة المتمزقة حيرة وألما ولكن ما لبثت ان إتسعت عينيها بصدمة حين سقطت راوية فجأة أرضا أمامها لتصرخ رحمة بإسمها في لوعة.

رواية الثلاثة يحبونها للكاتبة شاهندة الفصل الخامس


جلست رحمة على سريرها تضم ركبتيها إلى صدرها بيديها، وتسيل دموعها على وجنتيها كدماء سالت من جروح عميقة بروحها، مؤلمة حقا ومزهقة لأنفاسها، لا تدرى كيف وافقت على طلب أختها، كيف ستستطيع تلبية رغبتها الأخيرة، كيف ستصبح لهذا الرجل الذي ما تمنت يوما غيره والتي أيضا أدركت منذ زمن بعيد أنها لن تستطيع أن تكون له، كيف؟


نهضت من مكانها تدرك أنها لن تستطيع الحصول على الراحة هنا في تلك الحجرة لتخرج منها باحثة عن الراحة في مكان آخر، مكان لم تكن تحلم بالتواجد فيه ولكن ها هي متجهة إليه، وبكل حزم.


دلفت بشرى إلى حجرتها بعد أن وجدت المنزل ساكنا على غير عادته في مثل هذا الوقت، إنتابتها الحيرة تتساءل عن مكان وجود الجميع، وكيف كان لقاء زوجها برحمة، ورحمة براوية، وإلى متى تنوى رحمة المكوث هنا أم أنها تنوى المكوث طويلا؟أسئلة وأفكار عديدة راودتها، ولكنها كانت مرهقة للغاية فتركت أفكارها جانبا، ربما في الصباح تعرف إجابات تلك الأسئلة فكل ماتحتاجه الآن هو حمام دافئ وساعات طويلة من النوم كي تستعيد نشاطها مجددا، وتنجلى أفكارها، لتدبر لتلك الرحمة مصيبة تليق بها،.


أضاءت نور الحجرة، لتنتفض وهي تجد مراد جالسا في هذا الركن البعيد، ينظر إليها بملامح جامدة، لتبتلع ريقها وهي تقترب منه قائلة:

خضتنى يامراد، إيه اللى مقعدك في الضلمة كدة؟

لم يجيبها مراد وإنما سألها بدوره قائلا:

كنتى فين يابشرى؟

قالت بشرى بإرتباك:

هكون فين يعنى، كنت، كنت عند صفاء، أنا والشلة، حفلة بنات كدة ع السريع، خلصتها وجيت.

قال مراد ببرود:

ومقلتليش ليه؟

إقتربت بشرى منه قائلة:

إتصلت بيك وتليفونك كان مغلق.


نهض مراد قائلا بحدة:

يبقى متخرجيش، المفروض إنى لازم أعرف مراتى خارجة فين قبل ما تخرج من البيت وياأوافق ياموافقش، مفهوم؟

إتسعت عينا بشرى قائلة بإستنكار:

إيه الكلام اللى انت بتقوله ده يا مراد؟، ومن إمتى الكلام ده، ها؟من أول جوازنا وأنا بخرج ومبقولكش وانت مبتعترضش ومبتهتمش أصلا.

اقترب منها مراد قائلا في برود:.


من النهاردة ياستى ههتم وهعترض. من النهاردة ممنوع تخرجى من غير إذنى، كان منظرى وحش أوي أدام يحيى وأنا مش عارف مراتى فين؟

رفعت بشرى حاجبها الأيسر وهي تقول بسخرية:

يحيى، قلتلى، بقى الموضوع فيه أخوك الكبير ومنظرك أدامه وأنا اللى قلت جوزى فجأة بقى مهتم بية وعايز يعرف بروح فين وبعمل إيه.


أحس مراد لثوانى بالإرتباك، فبالفعل سؤاله عن مكان وجودها ما جاء سوى من تنبيه أخيه عليه، وشعوره انه مقصر في حياته الزوجية أما في الحقيقة فهو لا يهتم ببشرى أبدا ولا يود أن يعرف شيئا عنها، فهي بالنسبة إليه مجرد زوجة أجبر عليها ولم تستطع أن تكسب قلبه بسبب عنجهيتها وتصرفاتها البغيضة، ليفقد أي إهتمام بها كإمرأة رغم جمالها الرائع والذي يحسده عليه الجميع، فلم يشعر معها بتسارع دقات قلبه مثل هذا الذي حدث معه منذ قليل عندما ضم رحمة إلى صدره، ولم يشعر معها بالراحة كما يشعر مع، شروق.


لا يدرى لما اقتحمت صورة شروق مخيلته الآن، لينفض تلك الصورة وهو ينتبه إلى كلمات بشرى التالية وهي تقول:

متحاولش تتعب نفسك، وتدور على كلام تبرر بيه موقفك، وبصراحة انا تعبانة ومش حمل مجادلة معاك وعايزة آخد شاور وأنام، بعد إذنك.


تجاوزته ليمسك ذراعها يعيدها إلى مكانها أمامه، كاد أن تقع فإستندت إلى صدره مغمضة العينين تخشى السقوط ليدعمها بيديه، فتحت عينيها بقوة وهي تشتم رائحة نسائية تعرفها جيدا وتكرهها في آن واحد، فهي تذكرها بصاحبتها التي تكرهها بدورها، وبشدة، تبا إنها تقليدية للغاية تلك الرحمة، حتى عطرها مازالت تحتفظ به، ولم تغيره، ولكن ما الذي أتى به على ملابس زوجها؟، لتنتفض مبتعدة عنه وهي تقول بحدة:.


إيه الريحة دى؟فهمنى جتلك منين؟

عقد مراد حاجبيه قائلا بحيرة:

ريحة إيه؟

قالت بشرى بحدة وهي تشير بإصبعها إلى صدر مراد قائلة:

ريحة البرفيوم الحريمى دى.

أحس مراد بالإرتباك لثوانى وهو يدرك أنها رائحة رحمة العالقة به، ليتمالك نفسه قائلا:

راوية أغمى عليها ورحمة من قلقها كان هيغمى عليها هي كمان...

قاطعته قائلة بحدة:

وإنت طبعا الشهم الهمام اللى لحقتها قبل ما تقع وسندتها، صح؟

قال مراد بحدة:.


بالظبط، زي ما عملت معاكى دلوقتى، فيها إيه دى كمان؟

إزدادت نبراتها حدة وهي تقول:

بس أنا مراتك.

قال مراد بغضب:

وهي كمان مرات أخويا.

قالت بشرى بسخرية:

كانت مرات أخوك، كانت،

تجمدت ملامح مراد وهو يقول:.


رحمة هتفضل دايما مرات أخويا، فبلاش مشاعرك الغريبة واللى مش مفهومة بالنسبة لى من ناحيتها وناحية راوية اللى بتموت ومع ذلك مشفتش منك شفقة ولا عطف او حنية عليها، ياريت تصفى قلبك قبل فوات الأوان، ياريت تبعدى من جواه كل مشاعر الغل والكره اللى بحسهم ماليينه قبل ما تخسرى كل حاجة يابشرى، لإنى بجد زهقت ومليت من تصرفاتك.

ليتركها ويغادر الحجرة صافقا الباب خلفه لتقول بشرى بغل:.


مش ممكن قلبى يصفى من ناحيتهم ولايمكن انسى إنى بكرههم، الاتنين أخدوا منى حلم حياتى وحب عمرى، واحدة حبها والتانية إتجوزها، وأنا ورغم انى من دمه زيهم، عمره ما شافنى ولا حس بية، ومش ههدى ولا يرتاحلى بال غير لما أخلص منهم الإتنين.

ليظهر في عيونها كل التصميم وهي تدلف إلى الحمام، لتستسلم للمياه وتريح أعصابها فالغد يوم طويل وعليها الإستعداد له، تماما.


دلف يحيى إلى حجرته ليجد راوية مازالت تنتظره رغم تأخر الوقت، نظر إليها نظرة طويلة معاتبة قبل ان يتجه إلى الحمام ليوقفه صوتها الضعيف وهي تنادى بإسمه، التفت إليها لتشير إليه بالإقتراب، ليقترب منها رغما عنه فملامحها الشاحبة بشدة وحالتها الصحية، تملأ قلبه بالشفقة و ترغمه على الإنصياع لرغباتها، جلس بجوارها على السرير دون أن يتحدث، فقط ينظر إليها لتمد يدها وتمسك يده بحنو، لم يبعدها، لتقول هي بصوت هادئ ولكن يحيى إستشعر حزنها الدفين به:.


أنا عارفة إنك زعلان منى عشان طلبت من رحمة ومنك حاجة زي دى من غير ماأرجعلك في الأول وآخد رأيك، بس مكنش ينفع أقولك على رغبتى دى قبل ما آخد موافقتها.

قال يحيى بعتاب:

وموافقتى يا راوية ملهاش أي إعتبار عندك، ولا رأيي تحصيل حاصل بالنسبة لك؟

إلتمعت عينا راوية بالدموع وهي تقول:

تفتكر إن مكانتك عندى قليلة أوي كدة عشان أستخف برأيك؟، كل الموضوع إن أنا حاسة بيك وعارفة اللى في قلبك يايحيى.


أطرق يحيى برأسه قائلا بحزن:

إنتى متعرفيش حاجة.

مدت يدها ترفع ذقنه لتواجهها عيناه وتقول هي بتقرير:

أنا عارفة إنك بتحبها.

إتسعت عينا يحيى في صدمة لتستطرد قائلة:.


بتحبها من زمان، وأنا كنت عارفة، ولغاية النهاردة مقدرتش تحب غيرها، بسمعك بتنادى إسمها في أحلامك، لإنك مش قادر تكون معاها في الحقيقة، إتجوزت هي أخوك وإتجوزت إنت أختها، بس القدر أهو بيديلكم فرصة تانية وكأن قصتكم مش مكتوب لها تنتهى بالفراق، وكأن مصيركم إنكم تكونوا لبعض مهما حاولوا يفرقوكم.

إنتفض يحيى واقفا وهو يقول:

إنتى بتقولى إيه بس، قصة إيه ومصير مين؟إنتى جرى لمخك حاجة؟

إبتسمت راوية بحزن:.


الموت لما بيكون قريب منك بيخليك تشوف كل حاجة صح وبتحاول تصحح حاجات كتير غلط في حياتك وحياة اللى حواليك واللى يهموك، وانا عمرى ماكنت صح أد النهاردة، متحاولش تنكر حبك، اللى بيبان جوة عيونك، في قاعهم اللى حاولت تخبى حبك فيه، وبيظهر فيهم بس لما بتسمع إسمها، وعشان كدة محيته من حياتنا كلنا، عشان بيفكرك بيها، بيفكرك بحبك الأول والأخير.


نظر إليها يترك مشاعره لأول مرة تظهر على وجهه دون أن يواريها كعادته مع الجميع، ليجلس مجددا وهو يقول بألم:

هي السبب، هي اللى إتخلت عنى ياراوية وخانتنى، و مع مين، مع أخويا، محت إسمها من قلبى قبل ماأمحيها من حياتنا كلها، ياريت تقفلى على الموضوع ده لأنه بيوجع أوي، الموضوع ده منتهى بالنسبة لى، وبعدين مش انتى مراتى برده، إزاي بس تطلبى منى أعمل حاجة زي دى؟

قالت راوية بحزن:.


لإنى هموت قريب أوي بطلبها منك، لإنى مش هكون موجودة في حياتك وحياة إبننا بطلبها منك، بطلبها وقلبى بينزف بس لازم أكون واقعية وأطلبها منك، لإنى لو مطلبتهاش، وإنت لو موعدتنيش، مش هتعملها يايحيى.

نهض يحيى يقول بعصبية:

ايوة مش هعملها، لإنى مستحيل هقدر أسامحها، وبعيد عن إنك مراتى وتبقى اختها فالجواز منها أصلا شئ مستحيل افكر فيه لإنها إنتهت بالنسبة لى، فجوازى منها مستحيل هيحصل وده قرارى النهائى ياراوية.


نظرت إليه راوية متفحصة ملامحه وهي تقول:

وإن قلتلك إنها هتكون لغيرك من تانى يا يحيى.

لم يستطع يحيى إخفاء صدمته التي ظهرت على وجهه رغما عنه وهو يقول:

تقصدى إيه بكلامك ده يارواية؟

تأكدت راوية في قرارة نفسها أنه مازال يعشق رحمة ولكنه كبرياؤه الأحمق ما يجعله ينكر مشاعره لتقول بهدوء:.


توفيق إبن خالتى في زيارته الأخيرة لية قاللى إنه قابلها في دبي وإنه لسة بيحبها وعايز يتجوزها وفعلا طلبها للجواز، وأنها طلبت منه يديلها فرصة تفكر، وبتهيألى لو رفضت إنك تتجوزها هتوافق عليه يايحيى.

قال يحيى بتوتر غاضب:

هي قالتلك إنها هتتجوزه؟

قالت راوية بهدوء:.


قلتلك قالتله هتفكر، بس طبعا لما أقنعتها تتجوزك، بقى الموضوع ده بالنسبة لها منتهى، لكن لو رفضت فتوفيق مستعجل ومش بعيد يقنعها ويتجوزها في أسرع وقت، توفيق عريس كويس وميترفضش، القرار بقى في إيدك يايحيى، والوقت بيفوت بسرعة.

تمالك يحيى نفسه الممزقة في تلك اللحظة غضبا وألما وغيرة، ليقول ببرود صقيعي:

وقرارى لسة زي ما هو ياراوية، جوازى من رحمة مستحيل، تتجوز اللى تتجوزه، صدقينى مبقتش تفرق كتير.


ليغادر الحجرة مسرعا وكأن شياطين الأرض تطارده، تدحض خطواته الغاضبة برودة لهجته وكلماته، لتقول راوية بألم:

مهما حاولنا ننكر مشاعرنا مش هنقدر، في الآخر هنستسلم ليها وساعتها هنعمل أي حاجة، أي حاجة عشان نحميها من الأذى.

لتغمض عينيها تشعر بالإرهاق الذي أنهك جسدها وروحها، بشدة.


دلف يحيى إلى حجرة ولده يبغى أن يريح قلبه المتعب برؤياه، ربما وجد صغيره مستيقظا لينسى أفكاره التي تحرقه وهو يداعبه، ذلك الملاك الصغير الذي يعشقه والذي يجعله ايضا يحتمل تلك الحياة وآلامها، ليتوقف في مكانه متجمدا وهو يراها أمامه نائمة على هذا الكرسي الهزاز بجوار السرير، تضم طفله بين ذراعيها، وينام هو على صدرها بأمان، لا يدرى لماذا شعر بقلبه الآن يذوب في صدره، ولما إزدادت حرارة جسده وإشتعل كيانه بالكامل، هل لأن هذا المشهد لطالما راود أحلامه منذ أن شب على حبها ودق قلبه من أجلها، أم لإنها الآن تبدو كصورة مجسدة لجمال ملائكي برئ يخلب الألباب، أو ربما لأنها هي فقط رحمة وهذا الذي بين يديها هو طفله الصغير هاشم، وكليهما قطعة من روحه مهما رفض مشاعره وأنكرها، أغمض عينيه عن تلك الصورة الخلابة ليفتحهما مجددا تصارعه أفكاره من جديد، ترى هل سيأسر رحمة رجل آخر بالرباط المقدس، هل ستكون أما في يوم من الأيام لطفل رجل آخر يتأملها وهي نائمة يضم حضنها صغيره كما يتأملها هو الآن؟، أشعلته الغيرة، وأحرقه غضب شديد سري بعروقه وهو يتخيلها ملكا لغيره، مجددا،.


يشعر بأنه لن يتحمل ذلك تلك المرة، ورغم أنها تستحق الموت لما فعلته به بالماضى، لكن لابد وأن يعترف أنها لازالت تمتلك قلبه، ذلك القلب الخائن العاشق لها حتى الموت، يدرك وبكل ضعف أنه لن يستطيع أن يتركها لغيره، فإما هو أو الموت، ولا خيار آخر أمامها.


تراجع إلى الخلف بحذر، لينظر إليهما نظرة اخيرة قبل أن يغلق الباب متجها إلى حجرته، ليجد راوية مازالت مستيقظة رغم تأخر الوقت، تتطلع إليه في حزن، ليأخذ ملابسه متجها إلى الحمام في صمت ولكن يده توقفت على مقبض الباب للحظة وهو يستدير بجانب وجهه إليها قائلا بجمود:

أنا موافق ياراوية.

ثم دلف إلى الحمام وأغلقه خلفه، لتتسع عينا راوية لا تصدق أذنها، ثم مالبثت أن زفرت براحة قبل أن تنظر إلى السماء قائلة:

الحمد لله.


لتغلق عينيها وتستسلم لنوم عميق، ترتسم على شفتيها لأول مرة منذ سنوات، إبتسامة إرتياح.

إرسال تعليق

أحدث أقدم